|
|||
(151)
الامر ، وجعل هذا هو الأصل في تحقق العبادة ، وتلك الدواعي من باب الداعي للداعي ، ولا تصلح ان تكون هي تمام الداعي ، بل لابد من أن يأتي بالصلاة بداعي امتثال أمرها ويكون داعيه إلى ذلك هو دخول الجنة مثلا ، أو خوف النار ، أو كونه اهلا لذلك. فجعل أهليته للعبادة التي هي أقصى مراتب العبادة في طول داعي امتثال الامر.
وذهب جماعة (1) إلى كفاية قصد جهة الامر في العبادة ، ولا تتوقف على قصد خصوص امتثال الامر ، بل يكفي قصد الملاك والمصلحة التي اقتضت الامر. و ذهب شيخنا الأستاذ مد ظله إلى كفاية فعل العبادة لله ولو مع عدم قصد الامتثال أو الجهة ، بل يكفي كونها لله كما يدل على ذلك بعض الاخبار ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه عند البحث عن نية الصلاة (2) فراجع. وعلى كل حال ، ان اخذ خصوص قصد امتثال الامر في متعلق الامر يستلزم ما ذكرناه من تقدم الشيء على نفسه في مرحلة الانشاء ، والفعلية ، و الامتثال. وان اخذ قصد الجهة في متعلق الامر لا قصد امتثال الامر يلزم الدور ، وذلك لان قصد المصلحة يتوقف على ثبوت المصلحة ولو فيما بعد ، والمفروض انه لا مصلحة بدون قصدها ، إذ قصد المصلحة يكون من أحد القيود المعتبرة ، والصلاة لا تشتمل على المصلحة الا بعد جامعيتها لجميع القيود المعتبرة فيها التي منها قصد المصلحة ، فكما ان الصلاة الفاقدة للفاتحة لايكون فيها مصلحة ، كذلك الصلاة الفاقدة لقصد المصلحة لا تشتمل عليه المصحلة ، فيلزم ح ان تكون المصلحة متوقفة على القصد إليها ، و القصد إليها يتوقف على ثبوتها في نفسها من غير ناحية القصد إليها ، فلو جاءت من ناحية نفس القصد إليها يلزم الدور ، وذلك واضح. فإذا امتنع القصد على هذا الوجه ، امتنع جعل قصد المصحلة قيدا في المتعلق ، لان جعل ما يلزم منه المحال محال. هذا إذا قلنا باعتبار قصد الجهة. 1 ـ ذهب إليه أستاذ الأساطين الشيخ الأنصاري ، وعليه جماعة من محققي تلامذته. 2 ـ راجع المجلد الثاني من تقريرات بحث الأستاذ في مباحث الصلاة للمحقق الآملي قدس سره. ص 27 (152)
وأما إذا لم نعتبر ذلك أيضا ، وقلنا بكفاية القصد إلى كون العبادة لله في مقابل العبادة للسمعة والرياء ، فهو وان لم يستلزم منه محذور الدور وتقدم الشيء على نفسه لامكان الامر بالصلاة التي يأتي بها لله ، بان يؤخذ ذلك في متعلق الامر من دون استلزام محذور الدور ولا تقدم الشيء على نفسه ، الا انه يرد عليه محذور آخر سار في الجميع حتى اخذ قصد الامر والجهة ، مضافا إلى ما يرد عليهما من المحاذير المتقدمة ، وهو ان باب الدواعي لا يمكن ان يتعلق بها إرادة الفاعل ، لأنها واقعة فوق الإرادة ، والإرادة انما تنبعث عنها ، ولا يمكن ان تتعلق الإرادة بها ، لان الإرادة انما تتعلق بما يفعل ، ولا يمكن ان تتعلق بما لايكون من سنخ الفعل كالدواعي.
والحاصل : ان الداعي انما يكون علة للإرادة ، فلا يعقل ان تكون معلولة للإرادة ، وإذا لم يكن الدواعي متعلقة لإرادة الفاعل فلا يمكن ان يتعلق بها إرادة الآمر عند ارادته للفعل ، لما بيناه مرارا من الملازمة بين إرادة الفاعل وإرادة الآمر ، بمعنى انه كلما يتعلق به إرادة الفاعل يتعلق به إرادة الآمر وكلما لا يتعلق به إرادة الفاعل لا يتعلق به إرادة الآمر ، لان إرادة الآمر انما تكون محركة لإرادة الفاعل ، فلا بد من أن تتعلق إرادة الآمر ، بما يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، والدواعي لا يمكن تعلق إرادة الفاعل بها عند ارادته للفعل ، لأنها واقعة في سلسلة علل الإرادة ، فلا تتعلق بها إرادة الآمر عند ارادته الفعل من العبد. فتحصل من جميع ما ذكر : انه لا يمكن اخذ ما يكون به العبادة عبادة في متعلق الامر مط ، سواء كان المصحح لها خصوص قصد الامر ، أو الأعم منه ومن قصد الجهة ، أو الأعم من ذلك وكفاية اتيانها لله تعالى. فيقع الاشكال ح في كيفية اعتبار ما يكون به العبادة عبادة ، ولهم في التفصي عن هذا الاشكال وجوه : الوجه الأول : ما نسب إلى الميرزا الشيرازي قده. وحاصله : ان العبادية انما هي كيفية في المأمور به وعنوان له ، ويكون قصد الامر ، أو الوجه ، أو غير ذلك ، من المحققات لذلك العنوان ومحصلا له ، من دون ان يكون ذلك متعلقا للامر ، ولا مأخوذا في المأمور به. وبالجملة : العبادة كما (153)
فسرناها في أول العنوان ، هي عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد العبد بها ، فالصلاة المأتى بها بعنوان التعبد واظهارا للعبودية هي المأمور بها ، والامر بها على هذا الوجه بمكان من الامكان ، والمكلف يتمكن من اتيان الصلاة كذلك ، بان يأتي بالصلاة اظهارا للعبودية. وحينئذ فللمكلف ان يأتي بالصلاة على هذا الوجه ، من دون ان يقصد الامر ، ولا الجهة ، ولا غيرهما من الدواعي ، فتقع عبادة. وله ان يأتي بها بداعي الامر أو الجهة ، ويكون ذلك محققا لعنوان العبادة في الصلاة ومحصلا لها ، من دون ان يتعلق امر بتلك الدواعي أصلا ، إذ ليس حصول العبادة منحصرا بتلك الدواعي ، حتى نقول : لابد من تعلق الامر بها ، بل عبادية العبادة انما هي امر آخر وراء تلك الدواعي ، وذلك الامر الآخر عنوان للمأمور به وكيفية له يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، غايته ان بتلك الدواعي أيضا يمكن تحقق العنوان هذا.
ولكن هذا الوجه مما ينبغي القطع بعدمه ، لوضوح ان الملاك في العبادية انما هو فعلها بأحد الدواعي القريبة كما يدل عليه الاخبار ، فلو أتي بالفعل لا بأحد تلك الدواعي تبطل ، كما أنه لو أتى بها بأحد تلك الدواعي تصح ولو فرض محالا عدم حصول ذلك العنوان في المأمور به ، فالعبرة في عبادية العبادة انما هي بتلك الدواعي. الوجه الثاني : هو ان يكون الامر التعبدي بهوية ذاته يقتضى عدم سقوطه الا بقصده ، بحيث يكون هناك خصوصية في ذاته تستدعى ذلك ، من دون ان يؤخذ ذلك في متعلقه ، ويكون الميز بين التعبدي والتوصلي بنفس الهوية وان اشتركا في البعث والطلب ، نعم لابد هناك من كاشف يدل على أن الامر الفلاني تعبدي أو توصلي هذا. ولكن يرد عليه : أولا : عدم انحصار التعبدية بقصد الامر ، بل يكفي سائر الدواعي أيضا. وثانيا : ان هذه دعوى لا شاهد عليها ، إذ نحن لا نتعقل ان يكون هناك خصوصية في ذات الامر تقتضي التعبدية ، بحيث يكون ذات الامر يقتضى قصد نفسه تارة ، وأخرى لا يقتضيه ، حتى يكون الأول تعبديا ، والثاني توصليا ، بل الامر في (154)
التعبدي والتوصلي يكون على نسق واحد ، بمعنى انه لا ميز هناك في الذات.
الوجه الثالث : هو ان تكون التعبدية من كيفيات الامر وخصوصية لاحقة له ، لكن لا لمكان اقتضاء ذاته ذلك حتى يرجع إلى الوجه الثاني ، بل هي لاحقة له من ناحية الغرض ، وليس مرادنا من الغرض في المقام ملاكات الاحكام والمصالح الكامنة في الافعال ، فان تلك المصالح مما لا عبرة بها في باب التكاليف ، بمعنى انها ليست لازمة التحصيل على المكلف ، لان نسبة فعل المكلف إليها نسبة المعدو ليست من المسببات التوليدية ـ كما أوضحنا ذلك فيما تقدم في بحث الصحيح والأعم ـ بل الغرض في المقام يكون بمعنى آخر حاصله : ان يكون غرضه من الامر التعبدية وقصد امتثاله ، لوضوح ان الغرض من الامر يختلف ، فتارة : يكون الغرض منه مجرد تحقق الفعل من المكلف خارجا على أي وجه اتفق ، وأخرى : يكون الغرض منه تعبد المكلف به وقصد امتثاله ، فيلحق الامر لمكان هذا الغرض خصوصية يقتضى التعبدية ويكون طورا للامر وشأنا من شؤونه ، فيرتفع ح محذور اخذ قصد الامر في المتعلق ، بل اعتبار قصد الامر انما هو لمكان اقتضاء الامر ذلك ، حيث إن الغرض منه يكون ذلك. ولعل هذا المعنى من الغرض هو الذي ذكره الشيخ قده في بحث الأقل والأكثر ، وان كان لا يساعد عليه ذيل كلامه عند قوله فان قلت ، فراجع ذلك المقام مع ما علقناه عليه. وعلى كل حال يرد على هذا الوجه : أولا : ما أوردناه على الوجه الثاني من أن ذلك انما يتم على مقالة صاحب الجواهر باعتبار خصوص قصد الامر في العبادة ، ونحن قد أبطلنا ذلك ، وقلنا : بكفاية قصد الجهة أو الأعم من ذك. ثانيا : ان ذلك مما لا يرفع الاشكال ، لوضوح ان الامر هو بنفسه لا يمكن ان يتكفل الغرض منه ويبين المقصود منه ، بل لابد هناك من بيان آخر يدعو إلى الغرض ، ويبين ما هو المقصود من الامر والغرض الداعي إليه. (1) 1 ـ قد عدل شيخنا الأستاذ عن هذا الاشكال ، فراجع ما يأتي في الهامش في هذا المقام ـ منه. (155)
وحيث قد عرفت عدم سلامة هذه الوجوه ، فيقع الكلام ح في الامر الثالث من الأمور التي أردنا تمهيدها.
الامر الثالث : وهو انه لا أصل في المسألة يعين أحد طرفيها ، فلا أصالة التوصلية تجرى في المقام ولا أصالة التعبدية فيما لم يحرز توصليته وتعبديته. اما جريان أصالة التوصلية ، فلا نعقل لها معنى سوى دعوى : ان اطلاق الامر يقتضى التوصلية ، وحيث قد عرفت امتناع التقييد فلا معنى لدعوى اطلاق الامر ، فان امتناع التقييد يستلزم امتناع الاطلاق ، بناء على ما هو الحق : من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم و الملكة ، كما هو طريقة سلطان المحققين ومن تأخر عنه. وعليه يبتنى عدم استلزام التقييد للمجازية. والسر في ذلك : هو ان الاطلاق انما يستفاد ح من مقدمات الحكمة ، وليس نفس اللفظ متكفلا له ، كما هو مقالة من يقول : بان التقابل بينهما تقابل التضاد ، وعليه يبتنى كون التقييد مجازا. و من مقدمات الحكمة عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد البيان ، ومن المعلوم : ان هذه المقدمة انما تصح فيما إذا أمكن بيان القيد حتى يستكشف من عدم بيانه عدم اعتباره ، لا فيما إذا لم يمكن كما فيما نحن فيه ، فان عدم بيان ذلك انما يكون لعدم امكانه لا لعدم اعتباره كما هو واضح. بل لو قلنا : ان التقابل بين الاطلاق والتقييد هو التضاد ـ كما هو مسلك من تقدم على سلطان المحققين ـ كان الامر كذلك ، فان الاطلاق يكون ح عبارة عن الارسال والتساوي في الخصوصيات ، وهذا انما يكون إذا أمكن التقييد بخصوصية خاصة ، والا فلا يمكن الارسال كما هو واضح. وبالجملة : بعد امتناع التقييد بقصد الامر وغير ذلك من الدواعي لا يمكن القول بأصالة التوصلية اعتمادا على الاطلاق ، إذ لا اطلاق في البين يمكن التمسك به. والعجب من الشيخ قده ، فإنه مع تسليمه كون امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق ، ولكن مع ذلك يقول في المقام : ان ظاهر الامر يقتضى التوصلية ، ولم يظهر لنا المراد من الظهور ، إذ لا نعقل للظهور معنى سوى الاطلاق ، والمفروض انه هو (156)
بنفسه قد أنكر الاطلاق ، فراجع عبارة التقرير في هذا المقام ، فإنها ربما لا تخلو عن توهم التناقض (1).
وعلى كل حال ، لا موقع لأصالة التوصلية ، كما أنه لا موقع لأصالة التعبدية ، كما ربما يظهر من بعض الكلمات ، نظرا إلى أن الامر انما يكون محركا لإرادة العبد نحو الفعل ، ولا معنى لمحركية الامر سوى كون الحركة عنه ، إذ لولا ذلك لما كان هو المحرك بل كان المحرك هو الداعي الاخر. والحاصل : ان الامر بنفسه يقتضى ان يكون محركا للإرادة نحو الفعل ، فإذا كانت حركة العبد نحو الفعل لمكان الامر كان الامر محركا ، والا لم يكن الامر محركا ، وهذا خلف لما فرض ان الامر هو المحرك ، ولا نعنى بقصد الامتثال سوى كون الحركة عن الامر هذا. ولكن لا يخفى عليك ما فيه. اما أولا : فلان ذلك يقتضى انحصار التعبدية بقصد الامر ، كما هو مقالة صاحب الجواهر ، والحال انه لا ينحصر التعبدية بذلك كما تقدمت الإشارة إليه. 1 ـ ذكر الشيخ قدس سره في التقريرات حسب ما نقل عنه المحقق المقرر : « ويظهر من جماعة أخرى ان الامر ظاهر في التوصلية ولعله الأقرب » . ثم قال بعد سطور : « واحتج بعض موافقينا على التوصلية بان اطلاق الامر قاض بالتوصلية .. » ورده : بان « الاستناد إلى اطلاق الامر في مثل هذا التقييد فاسد ، إذ القيد مما لا يتحقق الا بعد الامر. توضيحه : ان الاطلاق انما ينهض دليلا فيما إذا كان القيد مما يصح ان يكون قيدا له ، كما إذا قيل : أكرم انسانا ، أو أعتق رقبة ، فإنه يصح ان يكون المطلق في المثالين مقيدا بالايمان والكفر والسواد والبياض ونحوها من أنواع القيود التي لا مدخل في الامر فيها ، وأما إذا كان القيد من القيود التي لا يتحقق الا بعد اعتبار الامر في المطلق ، فلا يصح الاستناد إلى اطلاق اللفظ في دفع الشك في مثل التقييد المذكور ، وما نحن فيه من قبيل الثاني .. » . ثم أفاد في آخر البحث : « فالحق الحقيق بالتصديق هو ان ظاهر الامر يقتضى التوصلية ، إذ ليس المستفاد من الامر الا تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل على ما هو مدلول المادة ، وبعد ايجاد المكلف نفس الفعل في الخارج ، فلا مناص من سقوط الطلب لامتناع تحصيل الحاصل » . راجع مطارح الأنظار ـ ص 59 ـ 58 (157)
وثانيا : ان ذلك مغالطة ، لان الامر انما يكون محركا نحو الفعل ، واما كون هذه الحركة عنه وبداعيه فهو امر آخر لا يمكن ان يكون الامر متعرضا له. والحاصل : ان الامر لا يكاد يكون متعرضا لدواعي الحركة وانه عنه أو عن غيره ، فان الامر انما يدعو للفعل ، واما دواعي الفعل فلا يكون الامر متكفلا له فتأمل جيدا. فدعوى أصالة التعبدية من هذه الجهة لا يمكن.
كما أن دعوى أصالة التعبدية ـ من جهة دلالة قوله تعالى : (1) « وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين » الخ ، وقوله صلى الله عليه وآله : (2) انما الأعمال بالنيات ، وغير ذلك من الآيات والاخبار التي استدلوا بها على اعتبار التعبد في الأوامر ـ واضحة الفساد ، لوضوح ان قوله تعالى : وما أمروا ـ انما يكون خطابا للكفار ، كما يدل عليه صدر الآية ، ومعنى الآية : ان الكفار لم يؤمروا بالتوحيد الا ليعبدوا الله ويعرفوه ويكونوا مخلصين له غير مشركين ، وهذا المعنى كما ترى أجنبي عما نحن فيه ، مع أنه لو كان ظاهرا فيما نحن فيه لكان اللازم صرفه عن ذلك ، لاستلزامه تخصيص الأكثر لقلة الواجبات التعبدية بالنسبة إلى الواجبات التوصلية ، فتأمل فإنه لو عم الامر للمستحبات لأمكن منع أكثرية التوصليات بالنسبة إلى التعبديات لو لم يكن الامر بالعكس لكثرة الوظائف التعبدية الاستحبابية. واما قوله (3) صلى الله عليه وآله : انما الأعمال بالنيات ، فهولا دلالة له على المقام ، فان مساقه كمساق قوله : لا عمل الا بالنية ، وليس فيه دلالة على أن كل عمل لابد فيه من نية التقرب ، بل معناه ان العمل المفروض كونه عبادة لا يقع الا بالنية ، أو يكون معناه كمعنى قوله (ص) : (4) لكل امرء ما نوى ، فتأمل جيدا. وعلى كل حال ، لا دلالة في الاخبار والآيات على اعتبار قصد الامتثال في الأوامر. 1 ـ سورة البينة ، الآية 5. 2 ـ راجع الوسائل ، الجزء الأول ، باب 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث 7 ص 34. 3 ـ نفس المصدر ، حديث 1 ص 33. 4 ـ نفس المصدر ، حديث 10 ص 35. (158)
الامر الرابع :
وربما يتوهم من بعض كلمات الشيخ ـ على ما في التقرير ـ التشبث (1) بقاعدة ( الاجزاء العقلية ) لأصالة التوصلية وعدم اعتبار قصد الامر ، حيث إن الامر لم يتعلق الا بذات الاجزاء والشرائط ، من دون ان يكون له تعلق بقصد الامتثال و لا غير ذلك من الدواعي ، وح يكون اتيان ما تعلق به الامر مجزيا عقلا ، فيسقط الامر ح ولو مع عدم قصد امتثاله هذا. ولكن هذا الكلام بمكان من الغرابة ، لوضوح ان قاعدة ( الاجزاء العقلي ) انما تكون فيما إذا اتى بتمام ما يعتبر في المأمور به ، وهذا انما يكون بعد تعيين المأمور به ، و من مجرد تعلق الامر بذات الاجزاء والشرائط لا يمكن تعيين المأمور به ، لما عرفت : من أنه لا يمكن ان يتعلق الامر بمثل قصد الامتثال ، ومع ذلك كيف يمكن تعيين المأمور به من نفس تعلق الامر بذات الاجزاء والشرائط ؟ حتى يقال : ان اتيانها يكون مجزيا عقلا. نعم لو كان للامر اطلاق أمكن تعيين المأمور به من نفس الاطلاق حسب ما يقتضيه مقدمات الحكمة ، والمفروض انه ليس للامر اطلاق بالنسبة إلى قصد الامتثال ، لامتناع التقييد به الملازم لامتناع الاطلاق كما تقدم ، فالامر من هذه الجهة يكون مهملا لا اطلاق فيه ولا تقييد ، كما كان بالنسبة إلى العلم والجهل به مهملا لا اطلاق فيه ولا تقييد ، هذا بحسب عالم الجعل والتشريع. 1 ـ نظير قوله : قدس سره « وبعد ايجاد المكلف نفس الفعل في الخارج فلا مناص من سقوط الطلب لامتناع تحصيل الحاصل. » وكذا ما افاده في جواب المحقق الكرباسي القائل بان ظاهر الامر قاض بالتعبدية : « فان أريد بالامتثال مجرد عدم المخالفة والآتيان بالفعل فهو مسلم ، لكنه ليس بمفيد ، وان أريد به الاتيان بالفعل على وجه التقرب ، كان يكون الداعي إلى الفعل نفس الامر فهو ممنوع ، والقول بان العقل قاض بذلك ليس بسديد إذ غاية ما يحكم به العقل هو عدم المخالفة وعدم ترك المأمور به في الخارج فان استند في ذلك إلى أن الاتيان بنفس الفعل في الخارج على تقدير ان يكون الامتثال به مطلوبا للآمر يعد من المخالفة التي يحكم بقبحها العقل على ما عرفت ، نقول : نعم ، ولكن الكلام بعد في اعتبار الامتثال في المأمور به وليس المستفاد من الامر الا مطلوبية الفعل فقط ، فلا مخالفة على تقدير الاتيان به كما لا يخفى ... » ( راجع مطارح الأنظار ص 58 ) (159)
واما بحسب الثبوت والواقع ، فلا بد اما من نتيجة الاطلاق ، واما من نتيجة التقييد. والسر في ذلك : هو انه في الواقع وفي عالم الثبوت ، اما ان يكون ملاك الحكم والجعل محفوظا في كلتا حالتي العلم والجهل وكلتا حالتي قصد الامتثال وعدمه ، واما ان يكون مختصا في أحد الحالين ، فالأول يكون نتيجة الاطلاق ، و الثاني يكون نتيجة التقييد.
وليس مرادنا من الاهمال هو الاهمال بحسب الملاك ، فان ذلك غير معقول ، بل المراد الاهمال في مقام الجعل والتشريع حيث لا يمكن فيه الاطلاق والتقييد كما تقدم. إذا عرفت ذلك كله ، فيقع الكلام في كيفية اعتبار قصد الامتثال على وجه نتيجة التقييد من دون ان يستلزم فيه محذورا ، وكيفية استكشاف نتيجة الاطلاق و عدم اختيار قصد الامتثال. فنقول : اما طريق استكشاف نتيجة الاطلاق فليس هو على حذو طريق استكشاف الاطلاق في سائر المقامات بالنسبة إلى الانقسامات السابقة على الحكم ، فان استكشاف الاطلاق في تلك المقامات انما هو لمكان السكوت في مقام البيان بعد ورود الحكم على المقسم ، كقوله : أعتق رقبة ، التي تكون مقسما للايمان وغيره ، فحيث ورد الحكم على نفس المقسم وسكت عن بيان خصوص أحد القسمين مع أنه كان في مقام البيان ، فلابد ان يكون مراده نفس المقسم ، من دون اعتبار خصوص أحد القسمين وهو معنى الاطلاق. ولكن هذا البيان في المقام لا يجرى ، إذ الحكم لم يرد على المقسم ، لان انقسام الصلاة إلى ما يقصد بها امتثال الامر وما لا يقصد بها ذلك انما يكون بعد الامر بها ، فليست الصلاة مع قطع النظر عن الامر مقسما لهذين القسمين ، حتى يكون السكوت وعدم التعرض لاحد القسمين دليلا على الاطلاق. نعم سكوته عن اعتبار قصد الامتثال في مرتبة تحقق الانقسام يستكشف منه نتيجة الاطلاق ، وبعبارة أخرى : عدم ذكر متمم الجعل ـ على ما سيأتي بيانه ـ في المرتبة القابلة لجعل المتمم (160)
يكون دليلا على نتيجة الاطلاق.
والفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام ، واستكشاف الاطلاق في سائر المقامات ، هو ان من عدم ذكر القيد في سائر المقامات يستكشف ان مراده من الامر هو الاطلاق ، وهذا بخلاف المقام ، فان من عدم ذكر متمم الجعل لا يستكشف ان مراده من الامر هو الاطلاق ، لما عرفت : من أنه لا يمكن ان يكون مراده من الامر هو الاطلاق ، بل من عدم ذكر متمم الجعل يستكشف انه ليس له مراد آخر سوى ما تعلق به الامر. وبعبارة أخرى : من عدم ذكر متمم الجعل في مرتبة وصول النوبة إليه يستكشف ان الملاك لا يختص بصورة قصد الامتثال ، بل يعم الحالين فيحصل نتيجة الاطلاق. واما كيفية اعتبار قصد الامتثال على وجه تحصل نتيجة التقييد ، فقد حكى عن الشيخ قده : الترديد فيه بالنسبة إلى الغرض أو الجعل الثانوي ، بمعنى ان اعتبار قصد الامتثال ، اما ان يكون من ناحية الغرض ، واما ان يكون من ناحية الجعل الثانوي. اما اعتبار قصد الامتثال من ناحية الغرض ، فيمكن ان يقرب بوجهين قد تقدمت الإشارة إليهما. الوجه الأول : هو ان يكون المراد من الغرض ، الغرض من الامر عند ارادته ، بان يكون غرضه من الامر التعبدية وقصد امتثاله ، فيكون امره لان يتعبد به. وقد تقدم فساد هذا الوجه ، وانه مما لا يرجع إلى محصل ، لما فيه : أولا : من أن ذلك يتوقف على خصوص قصد امتثال الامر ونحن لا نقول به. وثانيا : (1) ان مجرد كون غرضه ذلك مما لا اثر له ما لم يلزم به المكلف ويؤمر 1 ـ وقد عدل شيخنا الأستاذ عن هذا الاشكال بعد ذلك ، وقال : انه لو علم أن غرض المولى من الامر التعبد به فنفس ذلك يكفي في الزام العقل به ، لاندراجه تحت الكبرى العقلية من لزوم الإطاعة ، ومن المعلوم : انه لو كان الامر بهذا الغرض كان اطاعته بقصد امتثاله ، فيكون الغرض في عرض الامر ومرتبته ملقى إلى المكلف ، وكما أن الامر الملقى يجب اطاعته كذلك الغرض الملقى يجب اطاعته. هذا وقد تقدم سابقا ان هناك اشكالا آخر (161)
به ويقع تحت دائرة التكليف ، والا فلا يزيد هذا المعنى من الغرض عن الغرض بمعنى المصلحة الذي سيأتي انه مما لا اثر له.
الوجه الثاني : ان يكون مراده من الغرض المصالح التي هي ملاكات الاحكام ، فيكون اعتبار قصد التقرب والامتثال لأجل ان المصلحة الواقعية لا تحصل الا بذلك ، و حينئذ لا يحتاج إلى جعل مولوي لاعتبار قصد الامتثال ، بل نفس المصلحة الواقعية تقتضي قصد الامتثال ، فلو علم أن المصلحة الواقعية لا تحصل الا بقصد الامتثال فهو ، وان شك فسيأتي الكلام فيه. وهذا الوجه أردء من سابقه إذ المصالح الواقعية انما تكون مناطات للأوامر وليست هي لازمة التحصيل ، لعدم كونها من المسببات التوليدية لفعل المكلف ، كما يدل على ذلك عدم تعلق التكليف بها في شيء من المقامات. وقد تقدم منا تفصيل الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الصحيح والأعم فراجع (1). وحينئذ نفس العلم بالمصلحة لا يكفي في الزام المكلف بشيء الا من جهة استكشاف الحكم المولوي لمكان انه يقبح على الحكيم تفويت المصلحة على العباد ، فلو لم يستكشف ذلك كان العلم بالمصلحة مما لا اثر له ، فاثر العلم بالمصلحة ليس الا استكشاف الجعل المولوي لمكان الملازمة. فيرجع الكلام إلى أن الواجب على المكلف هو ما تعلق الجعل به ، لا ما قامت المصلحة به من دون جعل مولوي ومن دون تعلق الامر الشرعي بالفعل الذي قامت المصلحة به. وحينئذ يبقى الكلام في كيفية تعلق الجعل والامر المولوي باعتبار قصد الامتثال على وجه يسلم عن كل محذور. والتحقيق في المقام : انه ينحصر كيفية الاعتبار بمتمم الجعل ولا علاج له سوى ذلك ، فلابد على اعتبار الغرض بهذا الوجه ، وهو ان الامر لا يمكن ان يتكفل بيان الغرض منه ، ولكن هذا الاشكال سهل الجواب ، لأنه يمكن ان يكون غرضه من الامر ذلك غايته انه تحتاج إلى كاشف يكشف عن أن غرضه من الامر كان ذلك ، فتأمل ـ منه. 1 ـ راجع مباحث الصحيح والأعم من هذا الكتاب ص 67 (162)
للمولى الذي لا يحصل غرضه الا بقصد الامتثال من تعدد الامر بعد ما لا يمكن ان يستوفى غرضه بأمر واحد ، فيحتال في الوصول إلى غرضه. وليس هذان الأمران عن ملاك يخص بكل واحد منهما حتى يكون من قبيل الواجب في واجب ، بل هناك ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد. ومن هنا اصطلحنا عليه بمتمم الجعل ، فان معناه هو تتميم الجعل الأولى الذي لم يستوف تمام غرض المولى ، فليس للامرين الا امتثال واحد وعقاب واحد.
وبذلك يندفع ما في بعض الكلمات : من الاشكال على من يقول بتعدد الامر. بما حاصله : ان الامر الأولى ان كان يسقط بمجرد الموافقة ولو مع عدم قصد الامتثال فلا موجب للامر الثاني إذ لايكون له موافقة حينئذ ، وان كان لا يسقط فلا حاجة إليه لاستقلال العقل ح باعتباره الخ ما ذكره في المقام. وحاصل الدفع : ان الاشكال مبنى على تخيل ان تعدد الامر انما يكون عن ملاك يختص بكل واحد ، وقد عرفت : انه ليس المراد من تعدد الامر ذلك بل ليس هناك الا ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد. ثم إن متمم الجعل تارة : ينتج نتيجة الاطلاق ، وأخرى : ينتج نتيجة التقييد. فالأول : كمسألة اشتراك الاحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل ، حيث حكى تواتر الاخبار على الاشتراك. والثاني : كمسألة قصد الامتثال في موارد اعتباره. وتفصيل الكلام في متمم الجعل باقسامه ذكرناه في بعض مباحث الأصول العملية ، وعلى كل حال ، قد عرفت ان التعبدية انما تستفاد من متمم الجعل ، لا من الغرض بكلا معنييه. ثم إن هنا طريقا آخر لاستفادة التعبدية بنى عليه بعض الاعلام ، وهو ان قصد الامتثال انما يعتبره العقل في مقام الإطاعة ، حيث إنه من كيفيات الإطاعة التي هي موكولة إلى نظر العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك هذا. ولكن الانصاف : انه لم نعرف معنى محصلا لهذا الوجه ، فإنه ان أراد ان العقل يعتبر قصد الامتثال من عند نفسه فهو واضح الفساد ، إذ العقل لم يكن مشرعا (163)
يتصرف من قبل نفسه ويحكم بما يريد ، إذ ليس شأن العقل الا الادراك.
وان أراد ان العقل يعتبر ذلك بعد العلم بان ما تعلق الامر به انما شرع لأجل ان يكون من الوظايف التي يتعبد بها العباد ، فهذا ليس معنى اعتبار العقل ذلك من قبل نفسه ، بل العقل ح يستقل بجعل ثانوي للمولى على اعتبار قصد التقرب ، ويكون حكمه في المقام نظير حكمه بوجوب المقدمة ، حيث إنه بعد وجوب ذيها شرعا يستقل العقل بوجوبها أيضا ، بمعنى انه يدرك وجوب ذلك ويكون كاشفا عنه ، لا انه هو يحكم بالوجوب ، فإنه ليس ذلك من شأن العقل. فكذا في المقام ، حيث إنه بعد اطلاع العقل بان وجوب الصلاة مثلا انما هو لأجل ان تكون من الوظايف المتعبد بها ، فلا محالة يدرك ان هناك جعلا مولويا تعلق باعتبار قصد الامتثال ، ويكشف عن ذلك ككشفه عن وجوب المقدمة ، وأين هذا من دعوى كون قصد الامتثال مما يعتبره العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك ؟. وبالجملة : دعوى ان التعبدية من الاحكام العقلية بالمعنى المذكور مما لا يمكن المساعدة عليها ، بل الحق الذي لا محيص عنه ، هو ان التعبدية انما تكون بأمر ثانوي متمم للجعل ، فتأمل في أطراف المقام فإنه من مزال الاقدام. ثم انه ان علم بالتوصلية والتعبدية فهو ، وان شك فيقع الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي : من البراءة ، والاشتغال. فاعلم : انه قد قال بالاشتغال في المقام من لم يقل به عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وربما يبنى ذلك على الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، بجريان البراءة في الأولى دون الثانية. فينبغي أولا تحقيق الحال في ذلك ، وان كنا قد تعرضنا له في مبحث الأقل و الأكثر ، الا انه لا باس بالإشارة إليه في المقام. فنقول : ربما يتوهم الفرق بين المحصلات الشرعية وغيرها بما حاصله : ان المحصل ان كان عقليا أو عاديا لا مجال لاجراء البراءة فيه عند الشك في دخل شيء فيه ، لأنه يعتبر في البراءة ان يكون المجهول مما تناله يد الجعل والرفع الشرعي ، والمفروض ان المحصل العقلي والعادي ليس كذلك ، فلو كان احراق زيد واجبا ، وشك في أن (164)
الالقاء الخاص هل يكون موجبا للاحراق أولا ؟ كان المرجع هو الاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط ، ولا يجرى فيه حديث الرفع لان ما هو المجعول الشرعي غير مجهول وما هو المجهول غير مجعول شرعي.
وهذا بخلاف ما إذا كان المحصل شرعيا ، كالغسلات بالنسبة إلى الطهارة الخبثية ، حيث إنه لما كان محصلية الغسلات للطهارة بجعل شرعي ، فلو شك في اعتبار الغسلة الثانية أو العصر كان موردا للبرائة ويعمه حديث الرفع ، إذ امر وضعه بيد الشارع ، فرفعه أيضا بيده ، هذا. ولكن لا يخفى عليك فساده ، فان المحصلات ليست هي بنفسها من المجعولات الشرعية ، بل لا يمكن تعلق الجعل بها ، إذ السببية غير قابلة للجعل الشرعي ، فإنها عبارة عن الرشح والإفاضة ، وهذا مما لا تناله يد الجعل التشريعي ، كما أوضحناه في محله ، بل المجعول الشرعي هو نفس المسببات وترتبها عند وجود أسبابها ، فالمجعول هو الطهارة عقيب الغسلات لا سببية الغسلات للطهارة ، وكذا المجعول هو وجوب الصلاة عند الدلوك ، لا سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، وح لا يمكن اجراء حديث الرفع عند الشك في دخل شيء في المحصل ، لما عرفت : من أنه يعتبر في المرفوع ان يكون مجعولا شرعيا ، والمجعول المجهول في المقام ، هو ترتب المسبب على الفاقد للمشكوك ، و اجراء حديث الرفع في هذا ينتج ضد المقصود ، إذ يرفع ترتب المسبب على الأقل و ينتج عدم حصول المسبب عقيب السبب الفاقد للخصوصية المشكوكة ، وهذا كما ترى يوجب التضييق وينافي الامتنان ، مع أن الرفع انما يكون للامتنان والتوسعة على العباد. والحاصل : ان الامر في باب المحصلات ومتعلقات التكاليف يختلف ، فان في باب متعلقات التكاليف يكون تعلق التكليف بالأقل معلوما وبالأكثر مشكوكا ، فيعمه حديث الرفع ، لان في رفعه منة وتوسعة. وهذا بخلاف باب المحصلات ، فان ترتب المسبب على الأكثر معلوم وعلى الأقل مشكوك ، فما هو معلوم لا يجرى فيه حديث الرفع ، وما هو مشكوك لا موقع له فيه ، لاستلزام جريانه الضيق على العباد ، مع أنه ينتج عكس المقصود. (165)
هذا إذا لم نقل بجعل السببية. وأما إذا قلنا محالا بجعل السببية فكذلك أيضا ، لان سببية الأكثر الواجد للخصوصية المشكوكة معلومة ، فلا يجرى فيه حديث الرفع ، وسببية الأقل مشكوكة ، ورفعها ينتج عدم جعله سببا ، وهذا يوجب التضييق.
نعم لو قلنا : بجعل الجزئية مضافا إلى جعل السببية أمكن جريان البراءة حينئذ ، لان جزئية الغسلة الثانية مثلا أو شرطية العصر مشكوك ، وفرضنا انها تنالها يد الجعل ، فيعمها حديث الرفع ويوجب رفع جزئيتها للسبب ، فيكون السبب هو الفاقد للعصر أو الغسلة الثانية ، ولكن هذا يستلزم الالتزام بمحال في محال ، محال جعل السببية ، ومحال جعل الجزئية فتأمل. فتحصل : انه لافرق بين المحصل الشرعي والمحصل العقلي ، وانه في الكل لا مجال الا للاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط والامتثال. ثم انه لا فرق في المحصلات ، بين ان تكون مسبباتها من الواجبات الشرعية كالطهارة بالنسبة إلى الغسلات ، أو كان من الملاكات ومناطات الاحكام و المصالح التي تبتنى عليها ، بناء على كونها من المسببات التوليدية وان منعناه سابقا أشد المنع ، ولكن بناء على كونها من المسببات التوليدية يكون حالها بالنسبة إلى الافعال التي تقوم بها حال الطهارة بالنسبة إلى الغسلات التي تحصل بها ، في عدم جريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصولها. مع أنه لو سلم الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، وقلنا بجريان البراءة في المحصلات الشرعية ، لا يمكن القول بها عند الشك في دخل شيء في حصول الملاك ، بناء على كونه من المسببات التوليدية ، وذلك : لان محصلية الصلاة مثلا للملاك ليس بجعل شرعي ، بل هو امر واقعي تكويني ، وليس من قبيل محصلية الغسلات للطهارة حيث تكون بجعل شرعي ، لوضوح ان سببية الصلاة للنهي عن الفحشاء ليس بجعل شرعي ، فيكون حال الصلاة بالنسبة إلى النهى عن الفحشاء كحال الأسباب العقلية بالنسبة إلى مسبباتها وانه لا مجال لجريان البراءة فيها ، وحينئذ ينسد جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين. |
|||
|