|
|||
(181)
وقد حكى عن السيد الكبير الشيرازي قده ، بان المقرر قد اشتبه ولم يصل إلى مطلب الشيخ قده ، وكان نظر الشيخ قده في انكار رجوع الشرط إلى الهيئة إلى أن الانشاء غير قابل للتقييد ، وعلى كل حال لا يهمنا تصحيح ما في التقرير بعد وضوح المطلب ، وان الشرط لا يمكن ان يرجع إلى المفهوم الافرادي ، بل الشرط لابد ان يرجع إلى المفهوم التركيبي ومفاد الجملة ، كما هو ظاهر تعريف القضية الشرطية : بأنها ما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى.
وكذلك لا يمكن ارجاع الشرط إلى الهيئة بمعناها الايقاعي ، بحيث يرجع الشرط إلى الانشاء ، لوضوح ان الانشاء غير قابل للاشتراط والتعليق ، ولا يتصف بالاطلاق والاشتراط ، وانما يتصف بالوجود والعدم. وكذلك لا يمكن ارجاع الشرط إلى المنشأ بالهيئة ، لان الاشتراط يتوقف على لحاظ المعنى اسميا استقلاليا ، ولا يعقل ورود الشرط على المعنى الحرفي ، لا لكون المعنى الحرفي جزئيا وان الموضوع له فيه خاص ، حتى يرد عليه ان المعنى الحرفي ليس بجزئي بل الموضوع له فيه عام كالوضع ، بل لان المعنى الحرفي مما لا يمكن ان يلتفت إليه بما انه معنى حرفي ، لفنائه في الغير وكونه مغفولا عنه في موطن وجوده الذي هو موطن الاستعمال ، على ما تقدم بيانه في مبحث الحروف ، فالمنشأ بهذه الهيئة لا يمكن ان يقيد ، لعدم الالتفات إليه ولا يقع النظر الاستقلالي نحوه ، بل هو مغفول عنه عند القاء الهيئة ، فلا يعقل ان يرجع الشرط إلى مفاد الهيئة الذي هو معنى حرفي. وكذا لا يعقل ان يرجع الشرط إلى المحمول المنتسب بعد الانتساب في الزمان لاستلزامه النسخ ، إذ لو فرض تأخر الاشتراط عن وجوب الاكرام مثلا زمانا يلزم النسخ كما لا يخفى. وكذا لا يمكن ان يرجع الشرط إلى المحمول في رتبة الانتساب ، سواء أريد من المحمول المتعلق ، وهو الاكرام الذي يحمل على الفاعل ، أو أريد منه الوجوب ، لأنه على كل تقدير يرجع التقييد إلى المفهوم الافرادي. فلا بد من أن يرجع التقييد إلى المحمول المنتسب بوصف كونه منتسبا ، (1) أي وجوب الاكرام أو 1 ـ مطارح الأنظار ـ الهداية الرابعة من مباحث مقدمة الواجب « إذا ثبت وجوب شيء وشك في كونه (182)
الاكرام الواجب.
وبعبارة أوضح : الشرط لابد ان يرجع إلى ما هو نتيجة الحمل في القضية الخبرية ، أو نتيجة الطلب في القضية الطلبية. ففي مثل كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يكون المشروط هو وجود النهار ، وفي مثل ان جائك زيد فأكرمه ، يكون المشروط هو الاكرام الواجب أو وجوب الاكرام. والظاهر رجوع كل منهما إلى الاخر ، والسر في لزوم رجوع الشرط إلى مفاد الجملة والمتحصل منها ، هو ما عرفت : من كون القضية الشرطية انما هي تعليق جملة بجملة أخرى ، وهذا لا يستقيم الا ان يرجع الشرط إلى مفاد الجملة الخبرية أو الطلبية ، وهو في القضية الخبرية وجود النهار مثلا ، وفي القضية الطلبية وجوب الاكرام أو الاكرام المتلون بالوجوب ، و النتيجة امر واحد. وعلى كل تقدير يحصل المطلوب ، وهو اخذ الشرط مفروض الوجود ، لان أداة الشرط انما خلقت لفرض وجود متلوها ، ويرجع بالآخرة إلى الموضوع ويكون مفاد ( ان استطعت فحج ) مع ( يجب الحج على المستطيع ) أمرا واحدا ، كما عرفت بما لا مزيد عليه. مشروطا أو مطلقا .. » ص 46. وقد تكلم صاحب التقريرات حول هذا المعنى في الهداية الخامسة أيضا راجع ص 48 من المصدر. واعلم أن المذكور في « قوامع الفضول » أيضا رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة واستدل له بنفس الوجهين الذين استدل بهما صاحب التقريرات حكاية عن الشيخ قدس سره. راجع قوامع الفضول ـ المقالة الأولى ـ مبحث مقدمة الواجب الامر الثاني ، ص 141 ـ 140. والمحقق الجليل الحاج ميرزا حبيب اله الرشتي قدس سره نسب هذا الوجه في « بدايع الأفكار » إلى الشيخ قدس سره مترددا ، قال : « وقد يجاب عن هذا الاشكال بما أجبنا به عن الاشكال الأول من رجوع القيد إلى المادة ، وكانه يقول به شيخ مشايخنا الأعظم العلامة الأنصاري طاب ثراه وان معنى قوله : أكرم زيدا ان جائك ، أريد منك الاكرام بعد المجيئ فيكون أصل الاكرام مقيدا لا الوجوب المتعلق به حتى يرد : ان التقييد لا يناسب المبهمات .. » . راجع بدايع الأفكار. المقصد الأول من المقاصد الخمسة. المبحث الثالث من مباحث تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط. ص 314. وهذا ما يستفاد منه عدم تفرد صاحب التقريرات في تقرير هذا المعنى من الشيخ قدس سرهما والله أعلم. (183)
قد ظهر مما قدمناه : الفرق بين المقدمة الوجوبية والمقدمة الوجودية ، حيث إن المقدمة الوجوبية ما كانت واقعة فوق دائرة الطلب ، وتؤخذ مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الطلب ، ولا يمكن وقوعها بعد ذلك تحت دائرة الطلب بحيث يلزم تحصيلها ، للزوم الخلف كما لا يخفى.
وهذا بخلاف المقدمة الوجودية ، فإنها واقعة تحت دائرة الطلب ويلزم تحصيلها. وبعد ذلك نقول : ان القيود والإضافات التي اعتبرت في ناحية المتعلق أو المكلف على اختلافها ، من حيث كونها من مقولة المكان أو الزمان وغير ذلك من ملابسات الفعل حتى الحال ، لا تخلو اما ان تكون اختيارية تتعلق بها إرادة الفاعل ، و اما ان تكون غير اختيارية. فان كانت غير اختيارية فلا محيص من خروجها عن تحت دائرة الطلب ، إذ لا يعقل التكليف بأمر غير اختياري ، فكل طرف إضافة خارج عن تحت الاختيار لابد من خروجه عن تحت الطلب ويكون الطلب متعلقا بالقطعة الاختيارية ، و القطعة الغير الاختيارية لابد من اخذها مفروضة الوجود واقعة فوق دائرة الطلب ، و تكون ح من المقدمات الوجوبية ويكون الواجب مشروطا بالنسبة إليها. وأما إذا كانت الملابسات اختيارية وتتعلق بها إرادة الفاعل فوقوعها تحت دائرة الطلب بمكان من الامكان ، كما أن وقوعها فوق دائرة الطلب أيضا بمكان من الامكان ، فتصلح ان تكون مقدمة وجودية بحيث يتعلق الطلب بها ، وتكون لازمة التحصيل كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وتصلح ان تكون مقدمة وجوبية تؤخذ مفروضة الوجود وتكون غير لازمة التحصيل كالاستطاعة في الحج. هذا بحسب عالم الثبوت. واما في عالم الاثبات فالمتبع هو لسان الدليل وما يستفاد منه بحسب القرائن ومناسبات الحكم والموضوع. فان استفيد منه انه مقدمة وجوبية فهو ، وان استفيد انه مقدمة وجودية كانت لازمة التحصيل. وان لم يمكن استفادة أحد الوجهين من الأدلة ووصلت النوبة إلى الشك ، كان ذلك من الشك بين الواجب المشروط و (184)
المطلق ، وسيأتي ما هو الوظيفة عند الشك في ذلك.
ثم إن القيود ربما يكون لها دخل في أصل مصلحة الوجوب بحيث لا يتم ملاك الامر الا بعد تحقق القيد. وقد تكون لها دخل في مصلحة الواجب ، بمعنى ان فعل الواجب لا يمكن ان يستوفى المصلحة القائمة به الا بعد تحقق القيد الكذائي ، وان لم يكن ذلك القيد له دخل في مصلحة الوجوب. (1) وهذان الوجهان يتطرقان في جميع القيود الاختيارية وغيرها. مثلا الزمان الخاص يمكن ان يكون له دخل في مصلحة الوجوب ، ويمكن ان لايكون له دخل في ذلك بل له دخل في مصلحة الواجب ، و لا ملازمة بين الامرين ، مثلا خراب البيت يقتضى الامر بالبناء ، وهذا الخراب حصل في أول الصبح ، فمصلحة الامر بالبناء قد تمت وتحققت من أول الصبح ، ولكن البناء والتعمير الواجب لا يمكن ان يستوفى المصلحة القائمة به الا بعد الزوال. والحاصل : انه يمكن ان تكون مصلحة الوجوب قد تحققت ، ولكن مصلحة الواجب لم تتحقق الا من بعد مضى زمان ، كما ربما يدعى ذلك في باب الصوم ، حيث يدعى ان المستفاد من الاخبار هو ان مصلحة وجوب الصوم في الغد متحقق من أول الليل ، ولكن المصلحة القائمة بالصوم لا يمكن تحققها الا عند الفجر ، كما ربما يدعى ظهور مثل قوله : إذا زالت الشمس وجب الصلاة والطهور (2) في أن الزوال له دخل في كل من مصلحة الوجوب والواجب. وعلى كل حال ، إذا كان القيد غير اختياري ، فلا بد من أن يؤخذ مفروض الوجود ، ويكون من الشرائط الوجوبية الواقعة فوق دائرة الطلب ، سواء كان ذلك القيد مما له دخل في مصلحة الوجوب أو كان له دخل في مصلحة الواجب ، وسواء كان ذلك القيد من مقولة الزمان أو كان من سائر المقولات ، إذ العبرة في اخذه مفروض الوجود ، هو كونه غير اختياري غير قابل لتعلق الطلب به ، من غير فرق في ذلك 1 ـ كما أنه يمكن ان لايكون للخصوصية الكذائية دخل لا في ملاك الوجوب ولا في ملاك الواجب ، فيكون كل من الوجوب والواجب بالنسبة إليه مطلقا ، كطيران الغراب مثلا ـ منه. 2 ـ الوسائل ، الجزء الأول ، الباب 4 من أبواب الوضوء الحديث 1 ص 261 ولا يخفى ان في الخبر « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (185)
بين الزمان وغيره.
وخالف في ذلك صاحب الفصول (1) وقال : بامكان وقوع الطلب فوق قيد غير اختياري إذا لم يكن ذلك القيد مما له دخل في مصلحة الوجوب وان كان له دخل في مصلحة الواجب ، والتزم بامكان كون الطلب والوجوب حاليا وان كان الواجب استقباليا ، وسمى ذلك بالواجب المعلق ، وجعله مقابل الواجب المشروط والمطلق ، وتبعه في ذلك بعض من تأخر عنه ، وعليه بنى لزوم تحصيل مقدماته قبل حضور وقت الواجب إذا كان لا يمكنه تحصيلها في وقته ، كالغسل قبل الفجر في باب الصوم ، فإنه لما كان الوجوب حاليا قبل حضور وقت الواجب كان ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى مقدماته بمكان من الامكان ، ويرتفع اشكال وجوب المقدمة قبل وقت ذيها. ثم إن صاحب الفصول قد عمم ذلك بالنسبة إلى المقدمة المقدورة ، وقال : بامكان الواجب المطلق فيما إذا كان القيد أمرا اختياريا ، فراجع (2) كلامه في المقام. وعلى كل حال ، قد تبع بعض صاحب الفصول في امكان الواجب المعلق وانه مقابل الواجب المشروط والمط ، الا انه قال : لا ينحصر التفصي عن اشكال وجوب تحصيل المقدمات قبل مجيء وقت الواجب بذلك ، بل يمكن دفع الاشكال أيضا بالتزام كون الوقت أو غيره مما اخذ قيدا للواجب من قبيل الشرط المتأخر ، وحينئذ 1 ـ الفصول ص 81 ـ 80 تمهيد مقال لتوضيح حال. « وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا ، والى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له وليسم معلقا كالحج ، فان وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة و يتوقف فعله على مجيئ وقته وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو ان التوقف هناك للوجوب ، وهنا للفعل .. » 2 ـ نفس المصدر فإنه قدس سره ذكر بعد سطور مما نقلنا عنه في الصدر : « واعلم أنه كما يصح ان يكون وجوب الواجب على تقدير حصول امر غير مقدور ( وقد عرفت بيانه ) كذلك يصح ان يكون وجوبه على تقدير حصول امر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله وذلك كما لو توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة. » (186)
يكون الوجوب فيه أيضا حاليا إذا فرض وجود الشرط في موطنه ، فتجب مقدماته قبل وقته.
والفرق بين هذا والواجب المعلق الذي قال به صاحب الفصول ، هو ان الشرط في الواجب المعلق انما يكون شرط الواجب ومما يكون له دخل في مصلحته ، من دون ان يكون الوجوب مشروطا به وله دخل في ملاكه. وهذا بخلاف ذلك ، فان الشرط انما يكون شرطا للوجوب وله دخل في ملاكه ، لكن لما اخذ على نحو الشرط المتأخر كان تقدم الوجوب عليه بمكان من الامكان ، للعلم بحصول الشرط في موطنه ، على ما حققه من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي. وعلى كل حال ، كلامنا الان في امكان الواجب المعلق وعدم امكانه ، وانه هل يعقل ان يكون الوجوب حاليا مع توقف الواجب على قيد غير اختياري بحيث يترشح منه الوجوب إلى مقدماته ؟ أو ان ذلك غير معقول ، بل لابد ان يكون الوجوب مشروطا بالنسبة إلى ذلك الامر الغير الاختياري ، ولا محيص من اخذه مفروض الوجود قبل الطلب حتى يكون الطلب متأخرا عنه على ما أوضحناه. وح إذا فرض وجوب مقدماته قبل ذلك ، فلا بد ان يكون ذلك بملاك آخر غير ملاك الوجوب الغيري الذي يترشح من وجوب ذي المقدمة ، إذ لا وجوب له قبل حصول الشرط ، فكيف يترشح الوجوب إلى مقدماته ؟ بل وجوب المقدمات يكون حينئذ لبرهان التفويت على ما سيأتي بيانه. إذا عرفت ذلك فاعلم : ان امتناع الواجب المعلق في الأحكام الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية بمكان من الوضوح ، بحيث لا مجال للتوهم فيه. نعم في القضايا الخارجية يكون للتوهم مجال ، وان كان الحق في ذلك أيضا امتناعه كما سيأتي. اما امتناعه في القضايا الحقيقية ، فلان معنى كون القضية حقيقية ، هو اخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروض وجودها موضوعا للحكم ، فيكون كل حكم مشروطا بوجود الموضوع بما له من القيود ، من غير فرق بين ان يكون الحكم من الموقتات أو غيرها ، غايته ان في الموقتات يكون للموضوع قيد آخر سوى القيود المعتبرة (187)
في موضوعات سائر الأحكام : من العقل والبلوغ والقدرة وغير ذلك ، وهذه القضية انشائها انما يكون أزليا وفعليتها انما تكون بوجود الموضوع خارجا. وحينئذ ينبغي ان يسئل ممن قال بالواجب المعلق ، انه أي خصوصية بالنسبة إلى الوقت حيث قلت بتقدم الوجوب عليه ، ولم تقل بذلك في سائر القيود ؟ فكيف لم تقل بفعلية الوجوب قبل وجود سائر القيود من البلوغ والاستطاعة ، وقلت بها قبل وجود الوقت مع اشتراك الكل في اخذه قيدا للموضوع ؟.
وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعة في الحج والوقت في الصوم ، حيث كان وجوب الحج مشروطا بالاستطاعة بحيث لا وجوب قبلها ، وكان وجوب الصوم غير مشروط بالفجر بحيث يتقدم الوجوب عليه ، فان كان ملاك اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة لمكان قيدية الاستطاعة للموضوع واخذها مفروضة الوجود ، فلا يمكن ان يتقدم الوجوب عليها والا يلزم الخلف ، فالوقت أيضا كذلك بالنسبة إلى الصوم فإنه قد اخذ قيدا للموضوع ، بل الامر في الوقت أوضح ، لأنه لا يمكن الا اخذه مفروض الوجود ، لأنه امر غير اختياري ينشأ من حركة الفلك ولا يمكن ان تتعلق به إرادة الفاعل من وجوه ، وقد عرفت ان كل قيد غير اختياري لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ويقع فوق دائرة الطلب ، ويكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا لا محالة و الا يلزم تكليف العاجز. وهذا بخلاف الاستطاعة ، فإنها من الأمور الاختيارية التي يمكن تحصيلها. وبالجملة : التكليف في القضايا الحقيقية لابد ان يكون مشروطا بالنسبة إلى جميع القيود المعتبرة في الموضوع ، من غير فرق في ذلك بين الزمان وغيره ، مضافا إلى ما في الزمان وأمثاله من الأمور الغير الاختيارية ، من أنه لا بد من اخذه مفروض الوجود ، والا يلزم تكليف العاجز. وح كيف يمكن القول بان التكليف بالنسبة إلى سائر قيود الموضوع يكون مشروطا ؟ وبالنسبة إلى خصوصية الوقت والزمان يكون مط ؟ فإنه مضافا إلى امتناع ان يكون مط بالنسبة إليه ، يسئل عن الخصوصية التي امتاز الوقت بها عن سائر القيود ، فإنه ان كان لمكان تقدم الانشاء عليه فالانشاء متقدم على جميع القيود ، لأنه أزلي ، وان كان لمكان عدم دخله في مصلحة الوجوب (188)
وانما يكون له دخل في مصلحة الواجب ، فهذا مما لا دخل له بالمقام بعد ما فرض انه اخذ قيدا للموضوع وقال : يجب الصوم عند طلوع الفجر ، وقد عرفت : ان قيدية شيء للموضوع انما يكون باعتبار اخذه مفروض الوجود ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يعقل ان يتقدم التكليف عليه ، لان معنى تقدم التكليف عليه هو ان يكون التكليف بالنسبة إليه مط ، كما هو الشأن في سائر القيود التي يتقدم التكليف عليها ، كالطهارة ، والساتر ، وغير ذلك. وهذا كما ترى يستلزم محالا في محال ، لأنه يلزم أولا لزوم تحصيله ، كما هو الشأن في جميع القيود التي تقع تحت دائرة الطلب ، كالطهارة والستر ، والمفروض انه لا يمكن تحصيله ، لأنه غير اختياري للمكلف ، ويلزم أيضا تحصيل الحاصل لاستلزامه تحصيل ما هو مفروض الوجود.
وبالجملة : دعوى امكان الواجب المعلق في القضايا الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية في غاية السقوط والفساد ، بحيث لا ينبغي ان يتوهم. واما دعوى امكانه في القضايا الخارجية فكذلك أيضا ، بل إن برهان الامتناع يطرد في كلا المقامين على نسق واحد ، لوضوح انه لو قال : صل في مسجد الكوفة عند طلوع الفجر ، فقد اخذ طلوع الفجر مفروض الوجود ، ولا يمكن ان لا يأخذه كذلك ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يمكن ان يتقدم التكليف عليه ، والا يلزم ما تقدم من المحال ، فكما ان التكليف يكون مشروطا بمجئ زيد عند قوله : لو جائك زيد فأكرمه ، فكذلك يكون التكليف مشروطا بطلوع الفجر عند قوله : صل في المسجد عند طلوع الفجر ، وبرهان الاشتراط في الجميع واحد ، وانه لابد من اخذ القيد مفروض الوجود إذا كان القيد غير اختياري للمكلف ، كمجئ زيد ، وقدوم الحاج ، وطلوع الفجر ، وغير ذلك ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يمكن ان يكون التكليف مط ويتقدم الوجوب عليه. فظهر : ان برهان امتناع الواجب المعلق انما هو لأجل انه لا يمكن ان يكون التكليف مطلقا بالنسبة إلى قيد غير اختياري للمكلف ، بحيث لا يمكن ان تتعلق ارادته به ، بل لابد ان يكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا. وليس برهان امتناع (189)
الواجب المعلق هو امتناع تعلق التكليف بأمر مستقبل كما توهم ، فان ذلك مما لا يدعيه أحد ولا يمكن ادعائه ، وكيف يمكن انكار امكان تعلق التكليف بأمر مستقبل ؟ مع أن الواجبات الشرعية كلها من هذا القبيل ، فلا كلام في ذلك ، وانما الكلام في كون التكليف مط أو مشروطا ، والا فان تعلق الإرادة بأمر مستقبل بمكان من الوضوح ، بحيث لا مجال لانكاره ، بل يستحيل ان لا تتعلق الإرادة من الملتفت بأمر مستقبل إذا كان متعلقا لغرضه ، لوضوح ان الشخص إذا التفت إلى شيء : من اكل ، وشرب ، وصلاة ، وصوم ، فاما ان لايكون ذلك الشيء متعلقا لغرضه ولا تقوم به مصلحة ولا مفسدة ، فلا كلام فيه. وأمان ان يكون ذلك الشيء متعلقا لغرضه ، فاما ان يكون متعلقا لغرضه على كل تقدير وفي جميع الحالات ، واما ان يكون متعلقا لغرضه على تقدير دون تقدير. وعلى الثاني اما ان يكون ذلك التقدير حاصلا عند الالتفات إلى الشيء ، واما ان يكون غير حاصل. وعلى الجميع ، اما ان يكون ذلك أمرا اختياريا له بحيث يمكن ان تتعلق الإرادة به ، واما ان يكون غير اختياري فهذه جملة ما يمكن ان يكون الشخص الملتفت عليه ، ولا يمكن ان يخلو عن أحدها. فان التفت إلى الشيء وكان ذلك الشيء متعلقا لغرضه بقول مط وعلى جميع التقادير ، فلا محيص من أن تنقدح الإرادة الفاعلية والآمرية نحو ذلك الشيء إرادة فعلية غير منوطة بأمر أصلا. وان كان ذلك الشيء متعلقا لغرضه على تقدير دون تقدير ، فان لم يكن ذلك التقدير حاصلا فلا يمكن ان تتعلق ارادته الفعلية به ، بل تتعلق الإرادة به على تقدير حصول ذلك التقدير ، بمعنى انه تحصل له إرادة منوطة بذلك التقدير ، واما فعلية الإرادة بان يستتبع حملة النفس وتصديها المستتبع لحركة العضلات فلا يمكن الا بعد حصول ذلك التقدير ، هذا بالنسبة إلى إرادة الفاعل.
وقس على ذلك إرادة الآمر ، فان الآمر لو التفت إلى أن الشيء الفلاني ذو مصلحة على تقدير خاص من مجيء زيد ، أو طلوع الفجر ، فلابد له من الامر بذلك الشيء مشروطا بحصول ذلك التقدير ، ولا يتوقف عن الامر عند الالتفات إليه ويصبر حتى يحصل التقدير فيأمر في ذلك الحال ، بل يأمر في حال الالتفات قبل حصول التقدير لكن مشروطا بحصول التقدير ، وهذا هو معنى كون انشاء الاحكام أزلية ، و (190)
انه ليست الاحكام من قبيل القضايا الجزئية الخارجية ، بحيث يكون انشاء الحكم بعد حصول الموضوع وتحقق القيود خارجا ، فإنه مضافا إلى امكان دعوى قيام الضرورة على خلافه ، لا يمكن ذلك بعد ما كان الآمر الحكيم ملتفتا أزلا إلى أن الشيء الفلاني ذو مصلحة في موطن وجوده ، فلا بد من الامر بذلك الشيء قبلا ، لكن مشروطا بتحقق موطن وجوده ، ولا يصبر ويسكت فعلا عن الامر إلى أن يتحقق موطن وجوده.
والى هذا كان نظر الشيخ قده فيما افاده بقوله : لان العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه به أولا يتعلق الخ ، (1) فراجع ما في التقرير ، 1 ـ اعلم أن لصاحب التقريرات في المقام تقريبان ذكرهما في دفع ما ذهب إليه صاحب الفصول من التخلص عن العويصة بالالتزام بالواجب المعلق. أحدهما : ما ذكره بناء على ما ذهب إليه الإمامية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، قال : « فالطالب إذا تصور الفعل المطلوب فهو اما ان تكون المصحلة الداعية إلى طلبه موجودة فيه على تقدير وجوده في ذلك الزمان فقط ، أولا يكون كذلك ، بل المصلحة فيه تحصل على تقدير خلافه أيضا ، فعلى الأول فلا بد ان يتعلق الامر بذلك الفعل على الوجه الذي يشتمل على المصلحة كان يكون المأمور به هو الفعل المقيد بحصوله في الزمان الخاص ، وعلى الثاني يجب ان يتعلق الامر بالفعل المطلق بالنسبة إلى خصوصيات الزمان ولا يعقل ان يكون هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون الفعل المطلوب ، فان تقييد الطلب حقيقة مما لا معنى له ، إذ لا اطلاق في الفرد الموجود منه المتعلق بالفعل حتى يصح القول بتقييده بالزمان أو نحوه ، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة وبعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعنى الذي هو المناط في وجوب المقدمة. » . ثانيهما : ما ذكره بناء على عدم الالتزام بالتبعية. قال : « فان العاقل إذا توجه إلى امر والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه بذلك الشيء أولا يتعلق طلبه به ، لا كلام على الثاني. وعلى الأول فاما ان يكون ذلك الامر موردا لامره وطلبه مطلقا على جميع اختلاف طواريه أو على تقدير خاص ، وذلك التقدير الخاص قد يكون شيئا من الأمور الاختيارية كما في قولك : ان دخلت الدار فافعل كذا وقد يكون من أمور التي لا مدخل للمأمور به فيه لعدم ارتباطه بما هو مناط تكليفه كما في الزمان وأمثاله ، لا اشكال فيما إذا كان المطلوب مطلقا. وأما إذا كان مقيدا بتقدير خاص راجع إلى الأفعال الاختيارية فقد عرفت فيما تقدم اختلاف وجوه مصالح الفعل ، إذ قد يكون المصلحة في الفعل على وجه يكون ذلك القيد خارجا عن المكلف به بمعنى ان المصلحة في الفعل المقيد لكن على وجه لايكون ذلك القيد أيضا موردا للتكليف ، هذا على القول بالمصلحة. واما على تقدير عدمها كما هو المفروض (191)
فان نظر الشيخ في هذا التقسيم انما هو إلى ما ذكرنا : من أنه ليس انشاءات الأحكام الشرعية بعد تحقق الموضوع خارجا حتى تكون من قبيل القضايا الخارجية ، بل انما تكون انشاءاتها أزلية حيث إن الآمر يكون ملتفتا إليها أزلا ، وليس غرض الشيخ قده من هذا التقسيم ارجاع القيود إلى المادة حتى ينتج امتناع الواجب المشروط ، أو اثبات الواجب المعلق كما استظهره بعض ، وان كانت عبارة التقرير لا تخلو عن مسامحة وايهام.
وعلى كل تقدير ، ليس مبنى انكار الواجب المعلق هو امتناع التكليف بأمر مستقبل ، بل مبنى الانكار هو ما عرفت : من أن كل قيد غير اختياري لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ، ويقع فوق دائرة الطلب ، ومعه لا يكاد يمكن تقدم الوجوب عليه لأنه يلزم الخلف ، وح لو وجبت مقدماته قبل الوقت ، فلا بد ان يكون ذلك بملاك اخر غير ملاك الوجوب الغيري الذي يترشح من وجوب ذي المقدمة ويستتبع ارادته ارادتها. فان قلت : نحن لا نجد فرقا ، بين ما لو امر المولى بشيء في وقت خاص على نحو اخذ الوقت قيدا ، كما إذا قال : صل في مسجد الكوفة عند طلوع الفجر ، وبين ما لو أطلق امره و لم يقيده بوقت خاص ، ولكن المكلف لا يتمكن من امتثاله الا بعد مضى مقدار من الوقت ، كما لو امر بالصلاة في مسجد الكوفة من غير تقييد ، ولكن المكلف كان في مكان لا يمكنه الصلاة في مسجد الكوفة الا عند طلوع الفجر لاحتياجه إلى السير والمشي الذي لا يصل إليه قبل ذلك ، فإنه كما أن نفس الامر يقتضى وجوب المشي و فالطلب متعلق بالفعل على هذا الوجه فيصير واجبا مشروطا ، وقد يكون المصلحة في الفعل المقيد مطلقا فيصير واجبا مطلقا ، لكن المطلوب شيء خاص يجب تحصيل تلك الخصوصية أيضا ، ومما ذكرنا في المشروط يظهر الاطلاق أيضا بناء على عدم المصلحة لتعلق الطلب بالفعل على الوجه المذكور. وأما إذا لم يكن راجعا إلى الأمور الاختيارية فالمطلوب في الواقع هو الفعل المقيد بذلك التقدير الخاص ولا يعقل فيه فيه الوجهان كما إذا كان فعلا اختياريا كما عرفت ، فرجوع القيد تارة إلى الفعل وأخرى إلى الحكم بحسب القواعد العربية مما لا يجهل بعد اتحاد المناط في هذه المسألة العقلية. » ( مطارح الأنظار ، الهداية الخامسة من مباحث مقدمة الواجب ص 49 ـ 48 ) (192)
السير عند اطلاقه ، ويستتبع وجوب مقدمات الصلاة في المسجد ، وتترشح إرادة المقدمات من نفس إرادة الصلاة في المسجد ، فكذلك في صورة تقييد الامر بالصلاة في المسجد عند طلوع الفجر ، فإنه يجب عليه أيضا المشي والسير لادراك الصلاة في المسجد عند الطلوع ويستتبع وجوب المقدمات وتترشح ارادتها من نفس إرادة الصلاة في المسجد عند الطلوع ، وهذا لايكون الا بتقدم الوجوب على الفجر حتى يقتضى وجوب السير وان كان الواجب استقباليا ، ولا نعنى بالواجب المعلق الا هذا.
والحاصل : انه بعد تمامية مبادئ الإرادة كما هو مفروض الكلام ، حيث إن الكلام فيما إذا لم يكن للزمان دخل في مصلحة الوجوب وكان له دخل في مصلحة الواجب ، فلابد من انقداح الإرادة الآمرية والفاعلية في نفس الآمر والفاعل ، وكون المراد متأخرا أو متوقفا على قيد غير حاصل لا يمنع من انقداح الإرادة الفعلية في النفس ، كما يتضح ذلك بما قدمناه من المثال ، حيث لا نجد فرقا بين ما كان المطلوب نفس الصلاة في المسجد ، أو كان المطلوب الصلاة في المسجد في وقت خاص ، فإنه في كلا المقامين يقتضى الجري نحو المقدمات ، ويوجب السعي و المشي لادراك المطلوب ، وليس ذلك الا لمكان فعلية الإرادة. قلت : ليس الامر كذلك ، فإنه لو كان المطلوب نفس الصلاة في المسجد من غير اعتبار وقت خاص ، فالإرادة الفاعلية أو الآمرية تتعلق بنفس الصلاة لكونها مقدورة ، وان توقف فعلها على سعى ومشى ولكن ذلك لا يخرجها عن كونها مقدورة ولو بالواسطة ، كما هو الشأن في جميع ما يكون مقدورا بالواسطة ، حيث تتعلق الإرادة به نفسه في الحال ، ومن تعلق الإرادة به تتعلق إرادة تبعية بمقدماته ، فلو كانت نفس الصلاة بلا قيد مطلوبا كانت الإرادة لا محالة متعلقة بها ، ويلزمها تعلق الإرادة التبعية بمقدماتها من السعي والمشي. واما لو كانت الصلاة مطلوبة على تقدير خاص من وقت مخصوص ، و المفروض ان ذلك التقدير ليس اختياريا للشخص بحيث يمكنه تحصيله ، فلا يمكن ان (193)
تتعلق الإرادة بها مرسلة ، بل انما تتعلق الإرادة بها على تقدير حصول الوقت ، وكيف يمكن ان تتعلق الإرادة بأمر مقيد بما هو خارج عن القدرة مع عدم حصوله ؟ إذ ليست الإرادة عبارة عن نفس الحب والشوق حتى يقال : يمكن تعلق الحب والشوق بأمر محال التحقق ، فضلا عما يمكن تحققه ولو عن غير اختيار ، فضلا عما هو مقطوع التحقق كالفجر في المثال ، بل المراد من الإرادة هي التي يعبر عنها بالطلب عند من يقول باتحاد الطلب والإرادة ، ومعلوم : ان الطلب عبارة عن حملة النفس وتصديها نحو المطلوب ، وهل يعقل تصدى النفس نحو ما يكون مقيدا بأمر غير اختياري ؟ كلا لا يمكن ذلك ، بل النفس انما تتصدى نحو الامر الاختياري ، وهو ذات الصلاة ، و المفروض ان ذاتها ليست مطلوبة ، بل المطلوب منها هو خصوص المقيدة بكونها عند الطلوع ، وفرضنا انها باعتبار القيد غير اختيارية ، فكيف يمكن ان تتعلق الإرادة الفعلية بها ؟ وما يترائى من المشي والسعي نحو مسجد الكوفة لادراك الصلاة عند طلوع الفجر إذا كانت مطلوبة بهذا الوجه ، فإنما هو لمكان التفويت ، حيث إنه لو لم يسع إلى ذلك يفوت عنه مصلحة الصلاة في المسجد عند الفجر ، وأين هذا مما نحن فيه ، من تعلق الإرادة التبعية الناشئة من إرادة ذي المقدمة ؟ فان باب الإرادة التبعية امر ، وباب التفويت امر آخر ، فالمستشكل كان حقه ان لا يمثل بما يجرى فيه برهان التفويت ، بل يفرض الكلام فيما إذا لم يتوقف المطلوب على مقدمات يلزم تحصيلها لمكان التفويت ، كما لو فرض ان الشخص حاضر في مسجد الكوفة ، ففي مثل هذا يتضح الفرق بين المثالين : مثال كون الصلاة مطلوبة بلا قيد ، ومثال كونها مطلوبة عند طلوع الفجر ، فهل يمكنه ان يقول : انه لا نجد فرقا بين المثالين ؟ كلا لا يمكنه ذلك ، فإنه لو كانت نفس الصلاة مطلوبة بلا قيد فلا محالة انه يحرك عضلاته نحوها و يأتي بها في الحال ، بخلاف ما إذا كانت مطلوبة على تقدير طلوع الفجر ، فإنه لا يحرك عضلاته نحوها في الحال بل ينتظر ويصبر حتى يطلع الفجر. وليس ذلك الا لمكان عدم تعلق الإرادة الفعلية بها ، وهل يمكن لاحد ان يدعى عدم الفرق بين المثالين و ان الإرادتين في كليهما على نهج واحد ؟.
فعلم من جميع ما ذكرنا : انه لا مجال لدعوى امكان الواجب المعلق ، وان (194)
تثليث الأقسام مما لاوجه له ، بل الواجب ينقسم إلى مطلق ومشروط ، من دون ان يكون لهما ثالث ، فكل خصوصية لم تؤخذ مفروضة الوجود فالواجب يكون بالنسبة إليها مط ، وان اخذت مفروضة الوجود فالواجب بالنسبة إليها مشروط ، وتقسيم المقدمة إلى الوجودية والوجوبية انما ينشأ من هذا ، فان المقدمة الوجودية هي ما اخذت تحت دائرة الطلب ، والمقدمة الوجوبية هي ما اخذت فوق دائرة الطلب ، و هي التي لوحظت مفروضة الوجود ، سواء كانت اختيارية أو غير اختيارية ، فإنه لا يفترق الحال في ذلك بعد اخذها مفروضة الوجود.
ثم انه لا اشكال ، في أن وجوب المقدمات الوجودية يتبع في الاطلاق و الاشتراط وجوب ذيها ، فان كان وجوب ذي المقدمة مط فلابد ان يكون وجوب المقدمات الوجودية أيضا مط ، وان كان مشروطا فكذلك ، والسر في ذلك واضح ، لان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذيها ، فلا يعقل ان يكون وجوب ذي المقدمة مشروطا ووجوب المقدمة مط ، لان فاقد الشيء لا يمكن ان يكون معطي الشيء ، فلا تجب المقدمات الوجودية الا عند وجوب ذيها وحصول ما يكون شرطا لوجوبها. هذا حسب ما تقتضيه قاعدة التبعية عقلا. ولكن انحزمت هذه القاعدة في عدة موارد ، حيث كانت المقدمات الوجودية لازمة التحصيل قبل وجوب ذيها وحصول المقدمة الوجوبية ، والذي ألجأ صاحب الفصول إلى الالتزام بالواجب المعلق هو هذا ، حيث شاهد وجوب بعض المقدمات الوجودية قبل حصول ما هو الشرط في وجوب ذي المقدمة كالوقت ، فالتزم بتقدم الوجوب على الوقت. وحيث أبطلنا الواجب المعلق فلا بد لنا من بيان وجه وجوب تلك المقدمات الوجودية قبل وجوب ذيها. ولا يخفى عليك : اختلاف كلمات الفقهاء واضطرابها في بيان الموارد التي تجب فيها المقدمات ، فتريهم في مورد يحكمون بوجوب المقدمة الوجودية قبل حصول وقت ذي المقدمة ، وتريهم في مورد آخر لا يحكمون بذلك ، كما أنه في المورد الواحد يفرقون بين المقدمات الوجودية ، فيوجبون بعضها ولا يوجبون البعض الاخر ، مثلا تريهم يقولون : لا يجوز إراقة الماء قبل الوقت لمن يعلم بأنه لا يتمكن من الوضوء بعد (195)
الوقت ، ومع ذلك يقولون : بجواز اجناب نفسه مع علمه بعدم تمكنه من الغسل. و كذا تريهم في باب الاستطاعة يقولون : انه لا يجوز تفويتها بعد حصولها ولو قبل أشهر الحج ، وربما خص ذلك بعض بأشهر الحج وانه قبل ذلك يجوز تفويتها. وربما يفرقون ، بين المقدمات الوجودية الحاصلة قبل الوقت فلا يجوز تفويتها ، وبين المقدمات الغير الحاصلة فلا يجب تحصيلها.
وبالجملة : المسألة مشكلة جدا والكلمات فيها مضطربة غاية الاضطراب. وقد يدفع الاشكال باعتبار الملاك ، حيث إن المقدمات الوجودية لما لم يكن لها دخل في الملاك ، فكل مورد تم ملاك الوجوب لزم تحصيل مقدمات الواجب وإن كان ظرف امتثال الواجب متأخرا ، الا انه لما لم يتمكن من تحصيل المقدمات في ظرف وجوبه ، كان اللازم عليه عقلا حفظ قدرته من قبل لمكان تمامية الملاك ، ويكون هذا الحكم العقلي كاشفا عن متمم الجعل وان هناك جعلا مولويا بلزوم تحصيل المقدمات. لكن هذا البيان لا يفي بالموارد التي حكموا فيها بلزوم تحصيل المقدمات قبل وجوب ذي المقدمة ، فإنك تريهم يحكمون بلزوم تحصيل بعض المقدمات ولو قبل تمامية الملاك ، كإراقة الماء قبل الوقت ، مع أن الوقت في باب الصلاة له دخل في أصل الملاك ، كما ربما يستظهر ذلك من قوله : إذا زالت الشمس وجب الطهور و الصلاة ، فان الظاهر منه ان للزوال دخلا في أصل ملاك الوجوب ، مع أنه بناء على هذا لا ينبغي الفرق بين المقدمات الوجودية ، فكيف حرم إراقة الماء ؟ ولم يجب تحصيل الماء لمن كان فاقدا له ؟ حيث إن الظاهر أنهم لم يقولوا بوجوب تحصيل الماء قبل الوقت لمن يعلم بعدم حصوله بعده. وبالجملة : هذا البيان انما يتم في بعض موارد المسألة كوجوب المسير للحج بعد الاستطاعة ، والغسل قبل الفجر ، حيث تم ملاك وجوب الحج والصوم بالاستطاعة ودخول الليل ، فلابد من بيان آخر يكون حاويا لأطراف المسألة. والذي ينبغي ان يقال هو انه تارة : يقع الكلام في المقدمات المفوتة التي يوجب فواتها عجز المكلف عن فعل المأمور به وعدم قدرته عليه ، كترك المسير إلى |
|||
|