فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: 271 ـ 285
(271)
    وبالجملة باب العناوين التوليدية ، ليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، فليس هناك الا واجب نفسي واحد تعلق بالفعل لا بما هو وبعنوانه الأولى ، بل بعنوانه الثانوي. هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية والخارجية بمعناهما الأعم والأخص.
    ومن جملة تقسيمات المقدمة :
    تقسيمها إلى العقلية والعادية والشرعية. والمراد من الشرعية الشروط و الموانع ، وقد تقدم انها مندرجة في المقدمات الداخلية أو الخارجية على اختلاف الاعتبارين. والمراد من العادية ما جرت العادة على التوقف عليها كنصب السلم ، و هي في الحقيقة ترجع إلى العقلية باعتبار وليس هذا تقسيما آخر للمقدمة ، بل تكون من الخارجية بالمعنى الأخص.
    وقد تقسم المقدمة إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ترجع إلى مقدمة الوجود ، وهي تدخل في المقدمة الداخلية أو الخارجية.
    وقد تقسم أيضا إلى مقدمة العلم ومقدمة الوجود ، ولا يخفى ان مقدمة العلم ليست من اقسام المقدمة المبحوث عنها في المقام ، بل هي مقدمة للعلم بتحقق الامتثال الذي يحكم به العقل في موارد العلم الاجمالي.
    ومن جملة تقسيمات المقدمة :
    تقسيمها إلى المقارنة ، والمتقدمة ، والمتأخرة في الوجود ، وهي المعبر عنها بالشرط المتأخر ، وقد وقع النزاع في جوازه وامتناعه. وتحرير محل النزاع يتوقف على تقديم أمور :
    ( الامر الأول )
    ينبغي خروج شرط متعلق التكليف عن حريم النزاع ، لان حال الشرط حال الجزء في توقف الامتثال عليه وعدم الخروج عن عهدة التكليف الا به ، فكما انه لا اشكال فيما إذا كان بعض اجزاء المركب متأخرا عن الاخر في الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، كما إذا امر بمركب بعض اجزائه في أول النهار والبعض الاخر في آخر النهار ، كذلك لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان شرط الواجب متأخرا في


(272)
الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، ومجرد دخول الجزء قيدا وتقييدا في المركب و خروج الشرط قيدا لايكون فارقا في المقام بعد ما كان التقييد داخلا في متعلق التكليف.
    والحاصل : ان اشكال الشرط المتأخر انما هو لزوم الخلف والمناقضة ، و تقدم المعلول على علته ، وتأثير المعدوم في الموجود على ما سيأتي بيانه ، وشيء من ذلك لا يجرى في شرط متعلق التكليف ، لأنه بعد ما كان الملاك والامتثال والخروج عن عهدة التكليف موقوفا على حصول التقييد الحاصل بحصول ذات القيد ، فأي خلف يلزم ؟ وأي معلول يتقدم على علته ؟ أو أي معدوم يؤثر في الموجود ؟ فأي محذور يلزم إذا كان غسل الليل المستقبل شرطا في صحة صوم المستحاضة ؟ فان حقيقة الاشتراط يرجع إلى أن الإضافة الحاصلة بين الصوم والغسل شرط في صحة الصوم ، بحيث لايكون الصوم صحيحا الا بحصول الإضافة الحاصلة بالغسل.
    نعم لو قلنا : ان غسل الليل المستقبل موجب لرفع حدث الاستحاضة عن الزمان الماضي ، بحيث يكون غسل المغرب يوجب رفع الحدث من الظهر ، أو قلنا : ان غسل الليل يوجب تحقق الامتثال من السابق وان لم يوجب رفع الحدث عنه ، كان الاشكال في الشرط المتأخر جاريا فيه كما لا يخفى ، الا ان حديث جعل الغسل شرطا للصوم لا يقتضى ذلك ، بل أقصاه انه لا يتحقق صحة الصوم الا به ، غايته انه لا على وجه الجزئية ، بل على وجه القيدية ، وذلك مما لا محذور فيه بعد ما كان الغسل فعلا اختياريا للمكلف وكان قادرا على ايجاده في موطنه ، فتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى قيود متعلق التكليف مما لا وجه له.
    ( الامر الثاني ).
    لا اشكال في خروج العلل الفائتة عن حريم النزاع ، فان العلل الفائتة غالبا متأخرة في الوجود عما تترتب عليه ، وليست هي بوجودها العيني علة للإرادة و حركة العضلات نحو ما تترتب عليه حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وتقدم المعلول على علته ، بل العلة والمحرك هو وجوده ا العلمي ، مثلا علم النجار بترتب النوم على السرير موجب لحركة عضلاته نحو صنع السرير ، وكذا علم المستقبل


(273)
بمجيئ زيد في الغد يوجب ارادته للاستقبال ، ولا اثر لوجودهما العيني في ذلك ، فان من لم يعلم بقدوم زيد في الغد لا يتحقق منه إرادة الاستقبال وان فرض قدومه في الغد ، كما أن علمه بقدومه يوجب إرادة الاستقبال وان فرض عدم قدومه ، فالمؤثر هو الوجود العلمي ، وكذا الحال في علل التشريع ، فان علل التشريع هي العلل الفائتة ولا فرق بينهما ، الا انهم اصطلحوا في التعبير عنها في الشرعيات بعلل التشريع وحكم التشريع ، وفي التكوينيات بالعلل الفائتة ، وعلى كل حال علم الآمر بترتب الحكمة موجب للامر وان كانت هي بوجودها العيني متأخرة عن الامر ، فما كان من العلل الفائتة والعلل التشريعية لا يندرج في الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام ، وذلك واضح.
    ( الامر الثالث )
    ليس المراد من الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام باب الإضافات والعناوين الانتزاعية ، كالتقدم ، والتأخر ، والسبق ، واللحوق ، والتعقب ، وغير ذلك من الإضافات والأمور الانتزاعية ، فلو كان عنوان التقدم والتعقب شرطا لوضع أو تكليف لايكون ذلك من الشرط المتأخر ، ولا يلزم الخلف وتأثير المعدوم في الموجود و تقدم المعلول على علته ، وذلك لان عنوان التقدم ينتزع من ذات المتقدم عند تأخر شيء عنه ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم عن شيء على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل في بعض المقامات مما لا يمكن ذلك ، كتقدم بعض اجزاء الزمان على بعض ، فان عنوان التقدم ينتزع لليوم الحاضر لتحقق الغد في موطنه ، فيقال : هذا اليوم متقدم على غد ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم لليوم الحاضر على مجيء الغد ، بل لا يصح لتصرم اليوم الحاضر عند مجيء الغد ، ولا معنى لاتصافه بالتقدم حال تصرمه وانعدامه. هذا حال الزمان ، وقس على ذلك حال الزمانيات الطولية في الزمان ، حيث يكون أحد الزمانيين مقدما على الاخر في موطن وجوده لمكان وجود المتأخر في موطنه ، فيقال زيد مقدم على عمرو ولو لم يكن عمرو موجودا في الحال ، بل يكفي وجوده فيما بعد في انتزاع عنوان التقدم لزيد في موطن وجوده.


(274)
    ( الامر الرابع )
    لا اشكال في خروج العلل العقلية عن حريم النزاع مط بجميع أقسامها و شؤونها : من البسيطة ، والمركبة ، والتامة ، والناقصة ، والشرط ، والمقتضى ، وعدم المانع ، والمعد ، وكل ما يكون له دخل في التأثير ، سواء كان له دخل في تأثير المقتضى كالشرط وعدم المانع ، أو كان له دخل في وجود المعلول بحيث يترشح منه وجود المعلول كالمقتضى ، فان امتناع تأخر بعض اجزاء العلة عن المعلول من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى مؤنة برهان ، لان اجزاء العلة بجميع أقسامها تكون مما لها دخل في وجود المعلول على اختلاف مراتب الدخل حسب اختلاف مراتب اجزاء العلة من الجزء الأخير منها إلى أول مقدمة اعدادية ، ويشترك الكل في اعطاء الوجود للمعلول ، ومعلوم : ان فاقد الشيء لايكون معطي الشيء ، وكيف يعقل الإفاضة والرشح مما لا حظ له من الوجود.
    وبالجملة : امتناع الشرط المتأخر في باب العلل العقلية أوضح من أن يحتاج إلى بيان بعد تصور معنى العلية والمعلولية. وعليك بمراجعة (1) ما علقه السيد
1 ـ هذا إشارة إلى ما ذكره الفقيه الجليل السيد محمد كاظم الطباطبائي في التعليقة في دفع ما افاده الشيخ قدس سره في المكاسب من عدم الفرق في استحالة تأثير المتأخر في المتقدم شرطا كان أو سببا بين الأمور العقلية والشرعية.
    توضيح ذلك :
    ان صاحب الجواهر قدس سره التزم بكاشفية الإجازة في العقد الفضولي وذكر ان استحالة تأثير المتأخر في المتقدم سببا كان أو شرطا تختص بالأمور العقلية ، واما الاعتباريات ومنها المجعولات الشرعية ليست مجرى هذه القاعدة ، وذكر ان الشارع كثيرا ما جعل ما يشبه تقديم السبب على المسبب كغسل الجمعة يوم الخميس واعطاء الفطرة قبل وقته فضلا عن تقدم المشروط على الشرط كغسل الفجر بعد الفجر للمستحاضة الصائمة و ..
    ودفعه الشيخ قدس سره : بأنه لا فرق فيما فرض شرطا أو سببا بين الشرعي وغيره ، وتكثير الامثلة لا يوجب وقوع المحال العقلي.
    وأورد عليه السيد في حاشيته على المكاسب بما هذا لفظه :
    « ودعوى ان ذلك من المحال العقلي ، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوعه مدفوعة.
    أولا : بان الوجه في الاستحالة ليس الا كونه معدوما ولا يمكن تأثير المعدوم في الموجود وهذا يستلزم عدم


(275)
الطباطبائي ره على المكاسب في باب الإجازة في العقد الفضولي ، ليظهر لك ما وقع في كلامه من الخلط والاشتباه.
    إذا عرفت هذه الأمور ، ظهر لك ان محل النزاع في الشرط المتأخر انما هو في الشرعيات في خصوص شروط الوضع والتكليف ، وبعبارة أخرى : محل الكلام انما هو في موضوعات الاحكام وضعية كانت أو تكليفية ، فقيود متعلق التكليف ، و
جواز تقدم الشرط أيضا على المشروط ، لأنه حال وجود المشروط معدوم ، وكذا تقدم المقتضى واجزائه ، ولازم هذا التزام ان المؤثر في النقل ( التاء ) من قوله : ( قبلت ) وان الاجزاء السابقة ليست بمؤثرة أو انها معدات.
    وثانيا : بامكان دعوى ان المؤثر انما هو الوجود الدهري للإجازة وهو متحقق حال العقد وانما تأخره في سلسلة الزمان.
    وثالثا : نقول : ان الممتنع انما هو تأثير المعدوم الصرف ، لا ما يوجد ولو بعد ذلك.
    ورابعا : على فرض تسليم الامتناع نقول : ان ذلك مسلم فيما إذا كان المؤثر تاما لا مجرد المدخلية ، فان التأخر في مثل هذا مما لا مانع منه ، وأدل الدليل على امكانه وقوعه اما في الشرعيات ففوق حد الاحصاء ، واما في العقليات فلان من المعلوم ان وصف التعقب مثلا متحقق حين العقد مع أنه موقوف على وجود الإجازة بعد ذلك ، فان كانت في علم الله موجودة فيما بعد فهو متصف الان بهذا الوصف والا فلا ، لا يقال : انه من الأمور الاعتبارية.
    لأنا نقول : لو لم يكن هناك معتبر أيضا يكون هذا الوصف متحققا ، وكذا الكلام في وصف الأولوية والتقدم مثلا يوم أول الشهر متصف الان بأنه أول ، مع أنه مشروط بوجود اليوم الثاني بعد ذلك ومتصف بالتقدم فعلا مع أنه مشروط بمجيئ التأخر ، وهكذا الجزء الأول من الصلاة متصف بأنه صلاة إذا وجد في علم الله بقية الاجزاء ، وكذا لو اشتغل بتصوير صورة من أول الشروع يقال : انه مشتغل بالتصوير بشرط ان يأتي ببقية الاجزاء ، وهكذا امساك أول الفجر صوم لو بقى إلى الآخر ، وكذا لو هيأ غذاء للضيف يقال : انه فيه مصلحة وليس بلغو إذا جاء الضيف بعد ذلك ، والا فهو من أول الامر متصف بأنه لغو ، وكذا لو حفر بئرا ليصل إلى الماء فإنه متصف من الأول بعدم اللغوية ان وصل إليه ، والا فباللغوية ، وهكذا إلى ما شاء الله من اتصاف شيء بوصف فعلى مع اناطته بوجود مستقبلي.
    بل أقول : لا مانع من أن يدعى مدع ان النفوس الفلكية والأوضاع السماوية والأرضية كما أن كل سابق معد لوجود اللاحق كذلك كل لاحق له مدخلية في وجود السابق.
    بل يمكن ان يقال : ان جميع اجزاء العالم مرتبطة بمعنى انه لولا هذا لم يوجد ذاك وبالعكس ، فلو لم يوجد الغد لم يوجد اليوم ، وهكذا ، فجميع العالم موجود واحد تدريجي ولا يمكن ايجاد بعضه من دون بعض والانصاف : انه لا ساد لهذا الاحتمال ولا دليل على بطلان هذا المقال .. » ( حاشية السيد على المكاسب. كتاب البيع. في تحقيق وجوه الكشف والنقل ص 150


(276)
العلل الفائتة ، والأمور الانتزاعية ، والعلل العقلية ، خارجة عن حريم النزاع.
    وبعد ذلك نقول : ان امتناع الشرط المتأخر في موضوعات الاحكام يتوقف على بيان المراد من الموضوع ، وهو يتوقف على بيان الفرق بين القضايا الحقيقية و القضايا الخارجية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية لا القضايا الخارجية ، وقد تقدم منا شطر من الكلام في ذلك في باب الواجب المشروط والمطلق ، ولا بأس بالإشارة الاجمالية إليه ثانيا.
    فنقول : القضايا الخارجية عبارة عن قضايا جزئية شخصية خارجية ، كقوله : يا زيد أكرم عمروا ، ويا عمرو حج ، ويا بكر صل ، وغير ذلك من القضايا المتوجهة إلى آحاد الناس من دون ان يجمعها جامع ، وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فان الأشخاص والآحاد لم تلاحظ فيها ، وانما الملحوظ فيها عنوان كلي رتب المحمول عليه ، كما إذا قيل : أهن الجاهل ، وأكرم العالم ، فان الملحوظ هو عنوان الجاهل والعالم ويكون هو الموضوع لوجوب الاكرام من غير أن يكون للآمر نظر إلى زيد وعمرو وبكر ، بل إن كان زيد من افراد العالم أو الجاهل فالعنوان ينطبق عليه قهرا ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية ، حيث يكون الموضوع فيها هو العنوان الكلي الجامع ويكون ذلك العنوان بمنزلة الكبرى الكلية ، ومن هنا يحتاج في اثبات المحمول لموضوع خاص إلى تأليف قياس ، ويجعل الموضوع الخاص صغرى القياس و العنوان الكلي كبرى القياس ، فيقال : زيد عالم وكل عالم يجب اكرامه فزيد يجب اكرامه ، وهذا بخلاف القضايا الخارجية ، فان المحمول فيها ثابت لموضوعه ابتداء من دون توسط قياس كما هو واضح ، وقد استقصينا الكلام في الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية والأمور التي تترتب عليه ، والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى الفرق ، حيث إن المقام أيضا من تلك الأمور المترتبة على الفرق بين القضيتين. ومجمل الفرق بينهما : هو ان الموضوع في القضية الحقيقية حملية كانت أو شرطية ، خبرية كانت أو انشائية ، هو العنوان الكلي الجامع بين ما ينطبق عليه من الافراد ، وفي القضية الخارجية يكون هو الشخص الخارجي الجزئي ، ويتفرع على هذا الفرق أمور تقدمت الإشارة إليها ـ منها : ان العلم انما يكون له دخل في القضية


(277)
الخارجية دون القضية الحقيقية.
    وتوضيح ذلك : هو ان حركة إرادة الفاعل نحو الفعل ، أو الآمر نحو الامر انما يكون لمكان علم الفاعل والآمر بما يترتب على فعله وأمره ، وما يعتبر فيه من القيود و الشرائط ، وليس لوجود تلك القيود دخل في الإرادة ، بل الذي يكون له دخل فيها هو العلم بتحققها ، مثلا لو كان لعلم زيد دخل في اكرامه ، فمتى كان الشخص عالما بان زيدا عالم يقدم على اكرامه مباشرة أو يأمر باكرامه ، سواء كان زيد في الواقع عالما أو لم يكن ، وان لم يكن الشخص عالما بعلم زيد لا يباشر اكرامه ولا يأمر به وان كان في الواقع عالما ، فدخل العلم في وجوب اكرام زيد يلحق بالعلل الفائتة التي قد عرفت انها انما تؤثر بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، وهكذا الحال في سائر الأمور الخارجية ، مثلا العلم بوجود الأسد في الطريق يوجب الفرار لا نفس وجود الأسد واقعا ، وكذا العلم بوجود الماء في الطريق يوجب الطلب لا نفس الماء ، وهكذا جميع القضايا الشخصية حملية كانت أو انشائية المدار فيها انما يكون على العلم بوجود ما يعتبر في ثبوت المحمول ، لا على نفس الثبوت الواقعي.
    وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لا دخل للعلم فيها أصلا ، لمكان ان الموضوع فيها انما هو العنوان الكلي الجامع لما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، والمحمول فيها انما هو مترتب على ذلك العنوان الجامع ، ولا دخل لعلم الآمر بتحقق تلك القيود وعدم تحققها ، بل المدار على تحققها العيني الخارجي ، مثلا الموضوع في مثل ـ لله على الناس حج البيت الخ ـ انما هو المستطيع ، فان كان زيد مستطيعا يجب عليه الحج و يترتب عليه المحمول ، ولو فرض ان الآمر لم يعلم باستطاعة زيد بل علم عدم استطاعته. ولو لم يكن مستطيعا لا يجب عليه الحج ولو فرض ان الآمر علم بكونه مستطيعا. فالقضية الخارجية انما تكون في طريق النقيض للقضية الحقيقية من حيث دخل العلم وعدمه. وان أردت توضيح ذلك فعليك بمراجعة ما سطرناه في الواجب المعلق. (1)
1 ـ راجع بحث الواجب المعلق من مباحث تقسيمات الواجب من هذا الكتاب ، ص 170

(278)
    إذا عرفت ذلك
    فنقول : لا ينبغي الاشكال في أن المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الشخصية الخارجية ، بحيث يكون ما ورد في الكتاب والسنة اخبارات عن انشاءات لا حقة ، حتى يكون لكل فرد من افراد المكلفين انشاء يخصه عند وجوده ، فان ذلك ضروري البطلان كما أوضحناه فيما سبق ، بل هي انشاءات أزلية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، كما هو ظاهر ما ورد في الكتاب والسنة.
    وحيث عرفت الفرق بين القضيتين ، وان المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الخارجية ، ظهر لك المراد من موضوعات الاحكام التي هي محل النزاع في المقام ، وانها عبارة عن العناوين الكلية الملحوظة مرآة لمصاديقها المقدر وجودها في ترتب المحمولات عليها ، ويكون نسبة ذلك الموضوع إلى المحمول نسبة العلة إلى معلولها وان لم يكن من ذاك الباب حقيقة بناء على المختار من عدم جعل السببية ، الا انه يكون نظير ذلك من حيث التوقف والترتب ، فحقيقة النزاع في الشرط المتأخر يرجع إلى تأخر بعض ما فرض دخيلا في الموضوع على جهة الجزئية أو الشرطية عن الحكم التكليفي أو الوضعي ، بان يتقدم الحكم على بعض اجزاء موضوعه.
    ومما ذكرنا ظهر ان ما صنعه في الكفاية (1) والفوائد (2) من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي والى عالم اللحاظ ، مما لا ماس له فيما هو محل النزاع ، وخروج عن موضوع البحث بالكلية ، فان تأثير الوجود العلمي انما يكون في العلل الفائتة ، لا في موضوعات الاحكام. وارجاع الشرط المتأخر في باب الاحكام إلى الوجود العلمي لا يستقيم ، الا إذا جعلنا الاحكام من قبيل القضايا الخارجية ، وأن يكون ما ورد في الكتاب اخبارا عن انشاء لاحق عند تحقق افراد المكلفين ،
1 ـ راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، مباحث مقدمة الواجب منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدمة. ص 145 إلى 148
2 ـ راجع الفوائد ، المطبوعة في آخر حاشية على الرسائل ص 291 ، فائدة : لا يخفى ان قضية الاشتراط تقدم الشرط على المشروط..


(279)
فيكون لكل فرد انشاء يخصه عند وجوده ، وح يكون المناط هو علم الآمر بواجدية الفرد لمناط حكمه من كونه عالما مستطيعا ، أو كون هذا العقد مما يلحقه إجازة المالك ، وغير ذلك من العناوين التي تكون في القضايا الخارجية كلها من العلل الفائتة التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، على ما تقدم بيانه ، وليس في القضايا الخارجية طائفتان : طائفة تسمى بموضوعات الاحكام ، وطائفة تسمى بالعلل الفائتة وعلل التشريع ، كما كان في القضايا الحقيقية كذلك ، أي كان لكل قضية طائفتان : موضوع الحكم ، وعلة التشريع ، بناء على ما ذهبت إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.
    وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فان جميع العناوين فيها تكون من علل التشريع ، وليس لها موضوع يترتب الحكم عليه سوى شخص زيد ، وما عدا شخص زيد لا دخل له في الحكم بوجوده العيني ، وانما يكون له دخل بوجوده العلمي ، ومن هنا تسالم الفقهاء : على أنه لو اذن لزيد في اكل الطعام أو دخول الدار لمكان علمه بان زيدا صديق له جاز لزيد اكل الطعام أو دخول الدار ، وان لم يكن في الواقع صديقا له ، بل كان عدوا له ، لان الاذن قد تعلق بشخص زيد ولا اثر لعلمه بصداقته في جواز الدخول ، وانما يكون العلم له دخل في نفس اذنه.
    وهذا بخلاف ما إذا اذن لعنوان صديقه وقال : من كان صديقي فليدخل ، أو قيد الحكم بالصداقة وقال : يا زيد ادخل الدار ان كنت صديقي ، فإنه في مثل هذا لا يجوز لزيد دخول الدار إذا لم يكن صديقا وان علم الآذن بأنه صديق ، فإنه ليس المدار على علم الآذن ، بل المدار على واقع الصداقة ، من غير فرق بين اخذ الصداقة عنوانا أو قيدا من الجهة التي نحن فيها.
    نعم : بينهما فرق من جهة أخرى : وهو انه لو اخذ الشيء على جهة العنوانية أوجب تعدى الحكم عن مورده إلى كل ما يكون العنوان منطبقا عليه ، فلو قال مخاطبا لزيد : يا صديقي ادخل الدار جاز لعمرو أيضا دخول الدار إذا كان صديقا ، الا إذا علم مدخلية خصوصية زيد فيخرج العنوان عن كونه تمام الموضوع. وهذا بخلاف ما إذا كان قيدا ، فإنه لا يجوز لغير زيد دخول الدار وان كان مشاركا له في القيد ، و


(280)
تفترق العنوانية والقيدية أيضا في باب العقود ، حيث إن العقد على عنوان يوجب بطلان العقد عند تخلفه ، بخلاف العقد على مقيد ، فإنه عند تخلف القيد يوجب الخيار.
    وعلى كل حال : قد أطلنا الكلام في ذلك ، لتوضيح ان العلم لا دخل له في القضايا التي تكون موضوعاتها العناوين الكلية. وانما العلم يكون له دخل في القضايا الشخصية. وارجاع الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام إلى الوجود العلمي وان المؤثر هو العلم ، لا يستقيم الا بجعل الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، ولكن هو ( قده ) لم يلتزم بذلك ، ولا يمكن الالتزام به ، لما تقدم من أن الضرورة قاضية بان الأحكام الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية ، فلا معنى لارجاع الشرط المتأخر إلى عالم اللحاظ والوجود العلمي.
    إذا عرفت ذلك ظهر لك : ان امتناع الشرط المتأخر من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى برهان ، بل يكفي في امتناعه نفس تصوره ، من غير فرق في ذلك بين ان نقول بجعل السببية ، أو لا نقول بذلك وقلنا : ان المجعول هو نفس الحكم الشرعي مترتبا على موضوعه ، فإنه بناء على جعل السببية يكون حال الشرعيات حال العقليات ، التي قد تقدم امتناع تأخر العلة فيها أو جزئها أو شرطها أو غير ذلك مما له أدنى دخل في تحقق المعلول ، عن معلولها.
    واما توهم ان الممتنع هو تأخر المقتضى الذي يستند وجود المعلول إليه ـ دون تأخر الشرط حيث لا محذور في تأخره ـ ففساده غنى عن البيان ، وان كان ربما يظهر من بعض الكلمات القول به ، فإنه بعد فرض كون الشيء شرطا اما لتأثير المقتضى ، واما لقابلية المحل ـ على الوجهين في الشروط العقلية ـ كيف يعقل حصول اثر المقتضى مع عدم وجود شرطه ؟ وهل هذا الا لزوم تقدم المعلول على علته ؟ واما بناء على عدم جعل السببية كما هو المختار ، فلان الموضوع وان لم يكن علة للحكم ، الا انه ملحق بالعلة من حيث ترتب الحكم عليه ، فلا يعقل تقدم الحكم عليه بعد فرض اخذه موضوعا ، للزوم الخلف ، وان ما فرض موضوعا لم يكن موضوعا.
    واما توهم ان امتناع الشرط المتأخر انما يكون في التكوينيات ـ دون


(281)
الاعتباريات والشرعيات التي أمرها بيد المعتبر والشارع ، حيث إن له ان يعتبر كون الشيء المتأخر شرطا لأمر متقدم ـ ففساده أيضا غنى عن البيان ، لأنه ليس المراد من الاعتبار مجرد لقلقة اللسان ، بل للاعتباريات واقع ، غايته ان واقعها عين اعتبارها ، و بعد اعتبار شيء شرطا لشيء واخذه مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه كما هو الشأن في كل شرط ، كيف يمكن تقدم الحكم على شرطه ؟ وهل هذا الا خلاف ما اعتبره ؟.
    وبالجملة : بعد فرض اعتبار شيء موضوعا للحكم لا يمكن ان يتخلف و يتقدم ذلك الحكم على موضوعه ، فظهر فساد ما ذكر من الوجوه لجواز الشرط المتأخر. وأحسن ما قيل في المقام من الوجوه : هو ان الشرط عنوان التعقب و الوصف الانتزاعي ، وقد تقدم عدم توقف انتزاع وصف التعقب على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل يكفي في الانتزاع وجود الشيء في موطنه ، فيكون الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب ، وان السبب للنقل والانتقال هو العقد المتعقب بالإجازة ، وهذا الوصف حاصل من زمن العقد هذا.
    ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا الوجه وان لم يلزم منه محذور عقلي ، ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة في الشرط المتأخر ، الا ان ارجاع الشرط إلى الامر الانتزاعي ووصف التعقب يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وأن يكون مما يساعد عليه العقل والاعتبار ، وليس لنا ارجاع كل شرط إلى عنوان التعقب.
    نعم : يستقيم ذلك في باب المركبات الارتباطية التي اعتبرت الوحدة فيها ، كالصوم على ما تقدم بيانه في الواجب المعلق ، حيث قلنا : ان في باب الصوم ، لما كان ظرف التكليف وشرطه وامتثاله متحدا ، لمكان ان الصوم ليس الا عبارة عن الامساكات المتتابعة في آنات النهار المتصلة ، والتكليف بالامساك في كل آن مشروط بالقدرة عليه في ذلك الآن ، واما القدرة على الامساكات الاخر المتأخرة فليست شرطا للتكليف بالامساك في الآن السابق حتى يلزم اشتراط التكليف بأمر متأخر ، بل الشرط هو تعقب القدرة في الآن السابق بالقدرة في الآن اللاحق ، فالتكليف في كل آن يكون مشروطا بالقدرة على ذلك الآن نفسه ، ومشروطا أيضا


(282)
بتعقبها بالقدرة على الآن اللاحق لمكان اعتبار الصوم أمرا واحدا وكون امساكاته مرتبطا بعضها مع بعض ، فنفس اعتبار الوحدة والارتباطية يقتضى ان يكون الشرط هو عنوان التعقب ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر. وان أردت تفصيل ذلك فعليك بمراجعة ما ذكرناه في الواجب المعلق.
    وبالجملة : اعتبار عنوان التعقب في الارتباطيات التي لها جهة وحدة مما يساعد عليه الاعتبار ، حيث إن أصل التكليف بالجزء السابق وحصول امتثاله بما انه جزء للمركب انما يكون بتعقب ذلك الجزء للاجزاء الاخر ، فاعتبار الوحدة في المكلف به يقتضى ذلك.
    وليس الشأن في باب الإجازة كذلك ، لأن الاعتبار والعقل لا يساعد على انتقال المال عن مالكه من زمن العقد لمجرد انه يتعقبه الرضا والإجازة ، مع أن الرضا مقوم للانتقال ، حيث إنه لا يحل مال امرء الا عن طيب نفسه. وهل يمكن لاحد ان يقول : بإباحة مال الناس لمكان تحقق الرضاء منهم بعد ذلك ؟ أو هل يفرق بين الإباحة وبين خروج المال عن ملكه ؟ فدعوى ان الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب مما لا يساعد عليه لا العقل ، ولا الدليل ، ولا الاعتبار ، فلا محيص ح عن القول بالنقل وانه من حين الإجازة ينتقل المال إلى المشترى. الا ان يقوم دليل على ترتيب بعض الآثار من حين الإجازة من زمن العقد ، بان يقوم دليل على أنه حين ما أجاز المالك يكون النماء للمشتري من حين العقد ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى النقل ، لأنه من حين الإجازة ينتقل النماء السابق إلى المشترى ، كما ربما يدعى دلالة رواية عروة البارقي على ذلك ، وهذا هو المراد من الكشف الحكمي الذي اختاره الشيخ ( قده ) (1).
    وربما حكى عن بعض المشايخ عدم الحاجة إلى قيام دليل في الكشف الحكمي ، بل نفس دليل نفوذ الإجازة واعتبارها يقتضى ترتيب الآثار من حين العقد عند إجازة المالك ، وذلك لان مفاد العقد هو النقل من حينه ، والإجازة انما
1 ـ راجع المكاسب ، قسم البيع ، تحقيق وجوه الكشف من مباحث بيع الفضولي ص 133

(283)
تتعلق بما أنشأه العاقد ، فيكون مفاد الإجازة هو انفاذ ما أنشأه العاقد ، وقام الدليل على صحة انفاذ المالك ما أنشأه العاقد ، والمفروض ان العاقد انما أنشأ الملكية من حين العقد ، غايته ان أصل الملكية لا يمكن ان تكون حين العقد ، لاستلزامه المحذور المتقدم في الشرط المتأخر ، واما ترتيب الآثار من زمن العقد عند الإجازة فلا محذور فيه ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر غير دليل صحة الإجازة هذا.
    ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان العاقد لم ينشأ الملكية من حين العقد ، بل انشائه كان في ذلك الحين ، واما منشأه فهو أصل الملكية معراة عن الزمان ، وليس للعاقد تقييد الملكية من زمان خاص ، فان امر ذلك ليس بيده ، فهل ترى ان يكون للعاقد انشاء الملكية من قبل السنة ؟.
    وبالجملة : المنشأ هو أصل الملكية معراة عن الزمان ، والإجازة انما تتعلق بأصل الملكية المنشأة ، ودليل نفوذها لا يقتضى أزيد من تحقق الملكية ، ومقتضى ذلك هو النقل من حيث الملكية ومن حيث الآثار ، فالكشف الحكمي لا بد من قيام الدليل عليه ، والا فالقاعدة لا تقتضي أزيد من النقل.
    وما استدل به على بطلان النقل وان القاعدة تقتضي الكشف الحقيقي : من أن العقد عدم حين الإجازة ، فلو قيل بالنقل يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وهذا هو الذي حكاه الفخر عن بعض ، وليس من كلام نفس الفخر ـ على ما حكاه شيخنا الأستاذ من عبارته ـ حيث نقل ( مد ظله ) ان الفخر بعد ما نقل الاستدلال بذلك رده والتزم بالنقل بعد التنزل والقول بصحة عقد الفضولي ، والا فهو منكر لأصل صحة الفضولي.
    وعلى كل حال : ان الاستدلال للكشف بذلك واضح الفساد ، فان العقد بناء على كون الإجازة شرطا يكون حاله حال العقد في الصرف والسلم ، حيث تتوقف الملكية على القبض فيهما ، وليس المقام من باب التأثير والتأثر حتى يقال : يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، لان التأثير والتأثر انما يكون بناء على جعل السببية الذي قد أبطلناه.
    واما بناء على أن المجعول هو الحكم على فرض وجود موضوعه فلا يلزم تأثير


(284)
المعدوم في الموجود ، بل غايته ان الشارع رتب الملكية على الايجاب والقبول و الإجازة ، فيكون كل من الايجاب والقبول والإجازة جزء الموضوع ، ولا يلزم ان تكون اجزاء الموضوع مجتمعة في الزمان ، بل يكفي وجودها ولو متفرقة ، ويكون نسبة الجزء السابق إلى اللاحق نسبة المعد في اجزاء العلة التكوينية المتصرمة في الوجود ، حيث إن الجزء السابق انما يكون معدا واثره ليس الا الاعداد وهو حاصل عند وجوده ، فلا يلزم تأخر الأثر عن المؤثر ، بل اثر كل جزء انما يتحقق في زمان ذلك الجزء ، غايته ان الأثر يختلف ، فاثر الاجزاء السابقة على الجزء الأخير من العلة التامة انما هو الاعداد ، واثر الجزء الأخير هو وجود المعلول ، فليس في سلسلة اجزاء العلة المتدرجة في الوجود ما يلزم منه تأخر الأثر عن المؤثر وتأثير المعدوم في الموجود.
    وبما ذكرنا ظهر فساد مقايسة الشرط المتأخر بالشرط المتقدم ، وتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى الشرط المتقدم ، وذلك لما عرفت من أن الشرط المتقدم كالجزء المتقدم مما لا اشكال فيه حيث إنه ليس اثر المتقدم الا الاعداد ، وهو حاصل مقارنا لوجود المتقدم ، كما لا يخفى.
    هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع في مقدمة الواجب. وبعد ذلك نقول : لا ينبغي الاشكال في وجوب المقدمة بالمعنى المتقدم ، لوضوح انه لا يكاد يتخلف إرادة المقدمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشيء مقدمة وانه لا يمكن التوصل إلى المطلوب الا بها ، وان أردت توضيح ذلك ، فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل ، فهل ترى انك لو أردت شيئا وكان ذلك الشيء يتوقف على مقدمات يمكنك ان لا تريد تلك المقدمات ؟ لا بل لابد من أن تتولد إرادة المقدمات من إرادة ذلك الشيء قهرا عليك ، بحيث لا يمكنك ان لا تريد بعد الالتفات إلى المقدمات ، والا يلزم ان لا تريد ذا المقدمة ، وهذا واضح وجدانا ، إرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل.
    ودعوى انه لا موجب لإرادة المقدمات ـ بعد حكم العقل بأنه لابد من اتيانها لتوقف الطاعة عليها ، وبعد ذلك لا حاجة إلى تعلق الإرادة بها ـ فاسدة ، فإنه ليس كلامنا في الحاجة وعدم الحاجة ، بل كلامنا ان إرادة المقدمات تنقدح في نفس الآمر قهرا ، بحيث لا يمكن ان لا يريدها ، فلا تصل النوبة إلى الحاجة وعدم


(285)
الحاجة ، حتى يقال : لا حاجة إلى ارادتها بعد حكم العقل.
    نعم : لو كان الوجوب المبحوث عنه في المقام هو الوجوب الأصلي الناشئ عن مبادئ مستقلة لكانت دعوى عدم الحاجة في محلها ، وكان الأقوى ح عدم وجوبها ، الا انه ليس الكلام في هذا النحو من الوجوب ، بل الكلام في الوجوب القهري التبعي الترشحي ، وهذا النحو من الوجوب مما لابد منه وان لم يكن له اثر على ما يأتي بيانه في ثمرة المسألة ـ الا ان عدم الثمرة لا يضر بهذا المعنى من الوجوب القهري ، وانما يضر بالوجوب الأصلي النفسي ، ونحن لا نقول به.
    وبالجملة : بعد شهادة الوجدان بتعلق الإرادة بالمقدمة عند إرادة ذيها ، لا حاجة إلى إطالة الكلام في الاستدلال على ذلك بما لا يخلو عن مناقشة ، فلاحظ ما استدل به في المقام للطرفين ، والأولى إحالة الامر إلى الوجدان.
    وينبغي التنبيه على أمور :
    ( الامر الأول )
    لا اشكال في أن وجوب المقدمة يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، ولا يعقل ان يكون وجوبها مغايرا لوجوب ذيها ، لأن المفروض ان وجوبها انما تولد من ذلك ، فلا يمكن ان يتلون بلون مغاير ، وما يشاهد في بعض المقامات من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها فإنما هو لبرهان التفويت ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا.
    ( الامر الثاني )
    اختلفوا في أن معروض الوجوب في باب المقدمة ما هو ؟.
    فقيل : ان معروضه هو ذات المقدمة مط.
    وقيل : ان معروضه هو الذات الموصلة إلى ذيها.
    وقيل : هو الذات عند إرادة ذيها ،
    وقيل : هو الذات بشرط قصد التوصل بها إلى ذيها ،
    ولعل منشأ اعتبار القيود الزائدة على الذات هو استبعاد كون الواجب هو نفس الذات من غير اعتبار شيء ، مع أنه قد تكون الذات محرمة ويتوقف واجب أهم عليها ، كما لو فرض توقف انقاذ الغريق على التصرف في ملك الغير ، فان القول بكون
فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس