فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: 376 ـ 390
(376)
ومشروطا بالشرط المتأخر أيضا ، وهو العصيان في حال التسليمة ، وحيث كان المختار امتناع الشرط المتأخر كان اللازم امتناع الامر الترتبي. وارجاع الشرط إلى عنوان التعقب انما يكون بعد مساعدة الدليل والاعتبار عليه ، والمفروض انه لم يقم دليل بالخصوص على ثبوت الامر الترتبي في جميع موارد التدريجيات ، حتى يقال : ان دلالة الاقتضاء تقتضي كون الشرط هو عنوان التعقب ، بل قد تقدم ان نفس الأدلة الأولية تقتضي الخطاب الترتبي ، بعد اشتراط كل تكليف بالقدرة على متعلقه ، و معلوم : ان اقتضاء الأدلة الأولية ذلك انما هو فيما إذا لم يلزم من الخطاب الترتبي امر غير معقول : من الشرط المتأخر. واما مع استلزامه ذلك ، فالأدلة ح لا تقتضي الخطاب الترتبي ، وتقل فائدة البحث عنه ح ، لان الغالب في الخطابات الترتبية كون متعلقاتها تدريجية ، مع استمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فيلزم في الغالب من الخطاب الترتبي الشرط المتأخر.
    أقول : ضعف هذا الاشكال مما لا يكاد يخفى ، لوضوح ان هذا ليس اشكالا مخصوصا بالامر الترتبي ، بل توهم هذا الاشكال مطرد في جميع الأوامر التي تتعلق بعدة اجزاء متدرجة في الوجود ، كالصوم ، والصلاة ، والوضوء ، وغير ذلك من المركبات الارتباطية ، لوضوح ان الامر بكل جزء مشروط بالقدرة على الاجزاء اللاحقة ، فيلزم الشرط المتأخر في جميع المركبات ، ولو لم يكن هناك امر ترتبي. و لا يلزم من القول بالامر الترتبي اشكال زائد على الاشكال المطرد ، فان الامر المترتب المتعلق بما يكون تدريجي الحصول أيضا يكون مشروطا ببقاء القدرة إلى آخر الاجزاء ، غايته ان القدرة على الاجزاء اللاحقة انما تكون باستمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فليس في الامر الترتبي اشكال سوى اشكال اعتبار بقاء القدرة إلى آخر الاجزاء في الامر بأول الاجزاء في المركبات الارتباطية ، هذا.
    وقد تقدم الجواب عن هذا الاشكال المطرد ، وبيان ضعف توهم استلزام الامر بالمركب للشرط المتأخر في بعض المباحث المتقدمة. وحاصل الجواب : هو ان لازم اعتبار الوحدة في المركب من عدة اجزاء متدرجة في الوجود ، هو ان تكون القدرة على كل جزء في حال وجوده شرطا بوجودها العيني الخارجي ، وبالنسبة إلى


(377)
الاجزاء الاخر من السابقة واللاحقة يكون الشرط هو التقدم والتأخر. مثلا الامر بالتكبيرة مشروط بالقدرة عليها خارجا وتعقبها بالقدرة على سائر الأجزاء. وكذا الامر بالحمد مشروط بالقدرة عليها خارجا وسبقها بالقدرة على التكبيرة وتعقبها بالقدرة على الاجزاء المتأخرة. فشرطية التعقب والتقدم مما يقتضيه نفس الامر بالمركب بعد اعتبار الوحدة فيه واخذه على جهة الارتباطية. فالقول بان الشرط في مثل هذا هو عنوان التعقب ليس قولا بلا دليل ، بل نفس دليل المركب بعد اعتبار الوحدة فيه يقتضى ذلك ، وعليه يساعد الاعتبار. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في مسألة الشرط المتأخر ، فراجع. (1) وعلى كل حال : لا يرد على الامر الترتبي في التدريجيات اشكال زائد على الاشكال في المركبات ، والجواب واحد في الجميع.
    وحينئذ نقول : ان الامر بأول جزء من متعلق الامر المترتب مشروط بعصيان الامر المترتب عليه بالشرط المقارن وبتعقبه باستمرار العصيان إلى آخر الاجزاء. ولا محذور فيه أصلا ، لان شرطية عنوان التعقب انما تستفاد من نفس اعتبار الوحدة في متعلق الامر المترتب.
    ثم لا يخفى عليك : ان الامر الترتبي قد يثبت من أول الشروع في العمل التدريجي ويستمر إلى آخره ، وقد يحدث في أثناء العمل ، وربما ينعكس الامر ، بحيث يكون الامر المترتب مترتبا عليه لو حدث في الأثناء ، بعد ما كان مترتبا لو كان من أول العمل. مثلا في إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة يختلف الحال فيها. فتارة : يعلم بنجاسة المسجد قبل الدخول في الصلاة ، وأخرى : يعلم به في أثناء الصلاة.
    فان كان عالما بها قبل الصلاة مع سعة الوقت ، يكون ح الامر بالصلاة من أولها إلى آخرها مترتبا على عصيان الإزالة ، لأنه يكون من مزاحمة الموسع والمضيق. و قد تقدم ان الامر بالموسع يكون مترتبا على عصيان الامر بالمضيق. وهذا الامر الترتبي محفوظ من أول الصلاة إلى آخرها ، فله بعد الشروع في الصلاة قطع الصلاة
1 ـ راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث الشرط المتأخر ص 280 ـ 281

(378)
للاشتغال بالإزالة ، بل يجب عليه قطعها لبقاء موضوع الإزالة واستمرار عصيانها إلى آخر الصلاة ، فلا يحرم قطع مثل هذه الصلاة. ولا موقع للتمسك بحرمة الابطال ، بعد ما كان الامر الترتبي محفوظا من أول الصلاة إلى آخرها. فأقصى ما يقتضيه الامر الترتبي هو صحة الصلاة لو لم يقطعها ، ولا يقتضى حرمة قطعها. هذا إذا كان عالما بالنجاسة قبل الصلاة.
    واما ان كان جاهلا بها ، فحيث لم يتنجز عليه الامر بالإزالة لمكان الجهل بها ، كان دخوله في الصلاة ليس بالامر الترتبي بل بأمرها الأولى ، وتوجه عليه حرمة الابطال وقطع الصلاة. فإذا علم بنجاسة المسجد في الأثناء ، فيكون كما لو حدثت النجاسة في المسجد في الأثناء ، ومن حين العلم يتوجه عليه الامر بالإزالة ، فتقع المزاحمة ح بين الامر بالإزالة مع حرمة قطع الصلاة ، وكل منهما يكون من المضيق. و دعوى أهمية حرمة القطع من وجوب الإزالة ليس بكل البعيد ، فيكون الامر بالإزالة حينئذ مترتبا على عصيان الامر باتمام الصلاة ، مع أنه كان مترتبا عليه لو كان عالما بالنجاسة من أول الصلاة. وهذا ما قلناه : من أن الامر قد ينعكس ويكون المترتب مرتبا عليه.
    ثم إن هناك فرعا محكيا عن الفصول ، يناسب ذكره في المقام (1) وهو انه لو انحصر ماء الوضوء فيما يكون في الآنية المغصوبة ، على نحو يحرم عليه الاغتراف منها للوضوء ، وذلك فيما إذا لم يكن بقصد التخليص ـ على ما سيأتي ضابط التخليص ـ فان اغترف منها ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، فهذا مما لا اشكال في وجوب الوضوء عليه بعد اغترافه ، وان عصى في أصل الاغتراف ، الا انه بعد العصيان و الاغتراف يكون واجدا للماء ، فيجب عليه الوضوء. وأما إذا لم يغترف ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، بل كان بنائه على الاغتراف تدريجا فاغترف ما يكفيه لغسل الوجه فقط ، فالمحكي عن صاحب الفصول : انه لا مانع من صحة وضوئه ح بالامر
1 ـ راجع الفصول ، تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى الواجب والمشروط ، بيان وجه الفرق بين الواجب المعلق والواجب المشروط ، وتظهر الثمرة في وجوب المقدمات التي .. » ص 81

(379)
الترتبي ، فإنه يكون واجدا للماء بعد ما كان يعصى في الغرفة الثانية والثالثة التي تتم بها الغسلات الثلث للوضوء ، فيكون امره بالوضوء نظير امره بالصلاة إذا كان مما يستمر عصيانه لإزالة إلى آخر الصلاة ، فان المصحح للامر بالصلاة ، انما كان من جهة حصول القدرة على كل جزء منها حال وجوده ، لمكان عصيان الامر بالإزالة في ذلك الحال وتعقبه بالعصيان بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة ، على ما تقدم بيانه. و في الوضوء يأتي هذا البيان أيضا ، فان القدرة على كل غسلة من غسلات الوضوء تكون حاصلة عند حصول الغسلة ، لمكان العصيان بالتصرف في الآنية المغصوبة ، و العصيان في الغرفة الأولى لغسل الوجه يتعقبه العصيان في الغرفة الثانية والثالثة لغسل اليدين ، فيجرى في الوضوء الامر الترتبي كجريانه في الصلاة ، هذا.
    ولكن لا يخفى عليك : الفرق بين باب الوضوء ، وباب الصلاة ، فان الصلاة لا يعتبر فيها أزيد من القدرة العقلية على اجزائها ، المفروض حصولها باستمرار عصيان الإزالة ، فلا مانع من الامر الترتبي فيها. واما في الوضوء ، فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون شرعية ومما لها دخل في الملاك ، ولا قدرة شرعية على الوضوء بعد ما كان موقوفا على التصرف في الآنية المغصوبة ، ولا ملاك له حينئذ ، فيكون غسل الوجه بالغرفة الأولى لغوا لا اثر له ، بعد ما لم يكن في ذلك الحال واجدا لماء مباح شرعا يكفي للوضوء ، فلا يجرى في الوضوء الامر الترتبي. هذا إذا لم يكن الاغتراف للتخليص. و أما إذا كان للتخليص ، فلا اشكال في جواز الاغتراف دفعة واحدة ، بل بدفعات ـ على اشكال في الأخير ـ فيكون مكلفا بالوضوء ولا ينتقل تكليفه إلى التيمم.
    ثم انه ليس المراد من التخليص مجرد القصد والنية ، بل ضابطه ان يكون الماء الموجود في الآنية المغصوبة ملكا له لا مباحا ، وكان وقوعه في الآنية لا باختياره ، فإنه ح له تخليص مائه عن الآنية وان استلزم التصرف فيها.
    وأما إذا كان مباحا ، أو كان وقوعه في الآنية بسوء اختياره ، ففي مثل هذا لا يجوز له التصرف في الآنية. اما فيما إذا كان الماء مباحا فواضح ، حيث إنه لا ربط له به حتى يجوز له التصرف في الآنية. واما فيما إذا كان ملكا له فلان الماء وان لم يخرج عن ملكه ، الا انه هو بسوء اختياره سلب سلطنته عن ملكه ، فليس له


(380)
التصرف في الآنية لاخراج مائه من دون اذن صاحبها ، فتأمل جيدا.
    هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، مع ما يستتبعها من التنبيهات.
    المسألة الثانية :
    هي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، من دون ان يكون هناك تضاد في المتعلقين ، كالقيام في الركعة الأولى والثانية. وقد تقدم حكم التزاحم في ذلك ، وان المتأخر ان كان أهم يجب حفظ القدرة له ، و يكون بأهميته شاغلا مولويا عن المتقدم. وان لم يكن أهم وجب صرف القدرة إلى المتقدم ، وليس مخيرا في صرف القدرة في أيهما شاء ، فان التخيير انما يكون في المتزاحمين العرضيين ، لا الطوليين. وقد تقدم ان عدم التخيير في المقام من ثمرات كون التخير في المتزاحمين المتساويين عقلا باعتبار اشتراط التكليف بالقدرة عقلا ، لا شرعيا على ما تقدم تفصيله ـ فراجع ـ فلا موجب لإعادته.
    والغرض في المقام هو بيان جريان الخطاب الترتبي فيما إذا كان المتأخر أهم الذي فرضنا وجوب حفظ القدرة إليه. فلو خالف وعصى ولم يحفظ القدرة إليه ، فهل يجب صرف القدرة إلى المتقدم بالخطاب الترتبي ، أو ان المقام لا يجرى فيه الخطاب الترتبي ؟.
    والأقوى : ان الخطاب الترتبي في هذه المسألة مما لا يمكن ولا يعقل ، و توضيح ذلك هو ان الخطاب الترتبي ، اما ان يلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتأخر واخذ عصيانه شرطا للامر بالمتقدم ، واما ان يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه ، وهو وجوب حفظ القدرة له ، فيكون عصيان هذا الخطاب شرطا للامر بصرف القدرة إلى المتقدم.
    فان كان الأول ، فيرد عليه ـ مضافا إلى استلزامه للشرط المتأخر من دون قيام دليل عليه بالخصوص ليرجع الشرط إلى وصف التعقب ، فإنه في التدريجيات التي قلنا فيها ان الامر بالاجزاء السابقة مشروط باستمرار العصيان إلى الاجزاء اللاحقة وارجعنا الشرط إلى عنوان التعقب انما كان من جهة ان استمرار العصيان


(381)
عبارة أخرى عن استمرار القدرة المعتبرة فيها التي لا يمكن الا بكون الشرط هو عنوان التعقب ، لمكان اعتبار الوحدة في الاجزاء التدريجية ، وأين هذا مما نحن فيه ؟ من جعل عصيان الواجب المتأخر شرطا للمتقدم ، فان هذا لا ربط له بباب اشتراط الواجب بالقدرة حتى نلتجي إلى ارجاع الشرط إلى عنوان التعقب كما لا يخفى ـ ان ذلك لا يجدى في رفع المزاحمة ، فان المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر ولو كان أهم ، بل المزاحم له هو الخطاب المتولد منه ، وهو لزوم حفظ القدرة له وعدم صرفها في غيره ، إذ لولا ذلك لما كاد يقع مزاحمة بين المتقدم ، والمتأخر ، لعدم اجتماعهما في الزمان ، فالمزاحم هو خطاب وجوب حفظ القدرة ، ومعلوم : انه من فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة ، لعدم سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه ، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب ـ احفظ قدرتك ـ فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها ، وخطاب ـ احفظ قدرتك ـ موجب للتعجيز عن المتقدم ، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر ، فتأمل.
    وان كان الثاني ، أي لو حظ الخطاب الترتبي بالنسبة إلى خطاب ـ احفظ قدرتك ـ فهو وان كان يسلم عن اشكال الشرط المتأخر الا انه يرد عليه : ان عدم حفظ القدرة للمتأخر لايكون الا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة إليه ، وذلك الفعل الوجودي اما نفس المتقدم ، أو فعل آخر. فان كان الأول يلزم طلب الحاصل ، وان كان الثاني يلزم تعلق الطلب بالممتنع ، فإنه مع صرف قدرته في المتقدم يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك إلى الركعة المتأخرة مثلا وقمت في الركعة الأولى فقم فيها. وهذا كما ترى يلزم تحصيل الحاصل.
    وان صرف قدرته في فعل آخر كما إذا صار حمالا بحيث يمتنع عليه القيام في الركعة الثانية مع ذلك الفعل ، يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك للقيام في الركعة الثانية وصرت حمالا فقم في الركعة الأولى. وهذا أيضا كما ترى يلزم طلب الممتنع ، لأنه مع صرف قدرته في ذلك يتعذر عليه القيام في الركعة الأولى.
    وان كان المراد من عدم حفظ القدرة في المتأخر : المعنى الجامع بين صرف


(382)
القدرة إلى المتقدم أو فعل وجودي آخر مضاد لذلك ، يلزم كلا المحذورين ، من طلب الحاصل ، والتكليف بالممتنع.
    ولا يقاس المقام بالإزالة والصلاة ، حيث قلنا : انه يصح الامر بالصلاة عند ترك الإزالة ، ولا يلزم من ذلك طلب الحاصل ، ولا التكليف بالممتنع. مع أنه يمكن هذا التقريب في ذلك أيضا ، بان يقال : ان تركت الإزالة واشتغلت بالصلاة فصل ، فيلزم طلب الحاصل ، وان اشتغلت بغيرها يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. فان قياس المقام بذلك فاسد جدا ، لوضوح ان ترك الإزالة لا يلازم الصلاة ، ولا فعلا آخر مضادا لها ، بل كل فعل وجودي يفرض فإنما هو مقارن لترك الإزالة ، لا عينه ولا يلازمه ، لتمكن المكلف من عصيان الامر بالإزالة مع عدم اشتغاله بفعل وجودي أصلا ، كما تقدم في رد شبهة الكعبي. وليست الافعال الوجودية من مصاديق ترك الإزالة ، إذ الوجود لايكون مصداقا للعدم ، فمع فرض تركه للإزالة يمكنه ان لا يشتغل بفعل وجودي ، فلا مانع من امره بالصلاة ح عند ترك الإزالة ، ولا يكون من طلب الحاصل أو الطلب بالممتنع ولو فرض انه اشتغل بفعل وجودي آخر ، لأنه لم يقيد الامر الصلواتي بصورة الاشتغال بالصلاة ، أو صورة الاشتغال بفعل وجودي آخر حتى يلزم ذلك ، بل الامر الصلواتي كان مقيدا بترك الإزالة فقط ليس الا. وقد عرفت ان الافعال الوجودية ، لا هي عين ترك الإزالة مفهوما أو مصداقا ، و لا ملازمة بينهما.
    وهذا بخلاف المقام ، فان ترك حفظ قدرته للمتأخر لايكون الا بالاشتغال بفعل وجودي يوجب سلب القدرة عن المتأخر ، لوضوح انه لو لم يشتغل بفعل وجودي كذلك تكون قدرته إلى المتأخر محفوظة ، فالفعل الوجودي يكون ملازما لعدم انحفاظ القدرة ، ولا يكون الفعل الوجودي مقارنا. وحينئذ يرجع الكلام السابق : من أن ذلك الفعل الوجودي ، اما ان تفرضه هو المتقدم ، أو فعل آخر مضاد ، أو الجامع بين الافعال الوجودية الموجبة لسلب القدرة عن المتأخر ، وعلى كل تقدير يلزم أحد المحاذير المتقدمة.
    وبتقريب آخر : ان الحكم في المقام عقلي ، وليس هناك دليل لفظي. و


(383)
العقل يستقل بقبح صرف القدرة إلى غير المتأخر الذي فرضناه أهم وبلزوم حفظ القدرة إلى المتأخر. ومعلوم ان كل فعل وجودي يفرض كونه موجبا لعدم القدرة على المتأخر ، فإنما هو من مصاديق صرف القدرة إلى غير المتأخر ، ومعلوم ان قبح الشيء يسرى إلى مصاديقه ، ولا مجال للامر الترتبي في مثل هذا.
    فالمقام نظير ما سيأتي من عدم جريان الترتب في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، حيث نقول في ذلك : انه لا يمكن تصحيح الصلاة بالامر الترتبي بعد تقديم جانب النهى ، فلا يصح ان يقال : لا تغصب وان غصبت فصل. فان المراد من قوله ( ان غصبت ) ان كان خصوص الغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل ، وان كان غير ذلك يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. وليس ذلك الا لمكان ان كل فعل وجودي يفرض فإنما يكون من مصاديق الغصب ، فالصلاة أيضا تكون مصداقا للغصب ، لا مقارنة له ، كما في الصلاة والإزالة. فالصلاة تكون منهيا عنها بنفس النهى عن الغصب. ويرجع الامر الترتبي في ذلك إلى قوله : لا تغصب الغصب الصلواتي وان فعلت ذلك فصل ، وهو كما ترى يلزم طلب الحاصل. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في محله إن شاء الله.
    وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الامر الترتبي لا يجرى في المسألة الثانية من مسائل التزاحم ، وهي ما كان التزاحم فيه لقصور قدرة المكلف ، لا لتضاد المتعلقين.
    المسألة الثالثة :
    من مسائل الترتب هي : ما إذا كان التزاحم واقعا بين المقدمة وذيها. و الأقوى جريان الترتب فيها.
    وتفصيل الكلام في ذلك : هو ان المقدمة ، اما ان تكون سابقة في الوجود على ذيها كالتصرف في ارض الغير لانقاذ الغريق. واما ان تكون مقارنة في الوجود لذيها كالتصرف في الماء الذي وقع الغريق فيه لانقاذه ، وكترك أحد الضدين لوجود الآخر ، بناء على مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر فينبغي عقد الكلام في مقامين :


(384)
    ( المقام الأول )
    في المقدمة السابقة في الوجود على ذيها. والكلام فيها يقع من جهات :
    الجهة الأولى :
    قد تقدم ان المقدمة المحرمة ذاتا بحسب حكمها الأولى لا تسقط حرمتها بمجرد كونها مقدمة لواجب ، بل إن كان وجوب ذي المقدمة أهم من حرمة المقدمة ، ففي مثل هذا تسقط حرمتها وتجب بالوجوب المقدمي. وان لم تكن أهم فحرمة المقدمة باقية على حالها ، ولا تصل النوبة إلى التخيير في صورة التساوي. وقد تقدم أيضا ان ذلك من ثمرات كون التخيير في الواجبين المتزاحمين المتساويين عقليا أو شرعيا ، وانه بناء على المختار : من كون التخيير عقليا ، لا يتحقق التخيير بين المقدمة وذيها ، بل إن كان ذو المقدمة أهم كان بأهميته موجبا للتعجيز عن المقدمة وسلب القدرة عنها فتجب. وان لم تكن أهم فلا معجز مولوي يوجب سقوط الحرمة عن المقدمة ، بل يكون حرمتها الحالية معجزا عن وجوب ذيها ، فلا يجب وتبقى الحرمة على حالها. و لا يختص هذا بالمقدمة السابقة في الوجود على ذيها ، بل يجرى في المقدمة المقارنة أيضا ، لوضوح ان التصرف في ماء الغير انما يجب إذا توقف عليه واجب أهم : من انقاذ نفس محترمة أو تلف مال كثير. وأما إذا لم يكن الواجب أهم ، فحرمة التصرف تبقى على حالها ، إذ ليس له معجز مولوي عن ذلك ، فتأمل.
    هذا إذا كانت المقدمة محرمة ذاتا ، وأما إذا كانت مباحة أو مستحبة أو مكروهة ، فلا اشكال في سقوط كل من هذه الأحكام عند كونها مقدمة لواجب ، لان الوجوب لا يمكن ان يزاحمه الإباحة والاستحباب والكراهة.
    الجهة الثانية :
    قد تقدم في مبحث مقدمة الواجب : ان الذوق والاعتبار يأبى عن وقوع المقدمة المحرمة الذاتية على صفة الوجوب والمطلوبية الغيرية مطلقا ولو لم يقصد بها فعل ذي المقدمة ولا ترتب عليها ذلك ، لوضوح انه لا يمكن الالتزام بكون التصرف في ارض الغير واجبا لمجرد انه توقف انقاذ الغريق عليه ، مع أن الشخص لم يتصرف لأجل ذلك ، بل قصد في تصرفه النزهة والعدوان والتفرج. فان دعوى كون


(385)
التصرف مع هذا واجبا ومطلوبا يكذبها الوجدان والاعتبار ، ولأجل ذلك تشتتت الآراء فيما هو الواجب من المقدمة ، وسلك كل مسلكا. فذهب صاحب المعالم إلى أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها ، وذهب صاحب الفصول إلى المقدمة الموصلة ، و ذهب الشيخ ( قده ) إلى اعتبار قصد التوصل. (1) كل ذلك لأجل استبعاد كون المقدمة واجبة مط. وقد تقدم منا بيان فساد ذلك كله ، وانه لا يمكن اعتبار قيد التوصل أو قصد التوصل في وجوب المقدمة ، أو في وقوعها على صفة الوجوب بحيث يكون قيدا للواجب ، لاستلزام تلك المحاذير المتقدمة.
    ولنا في المقام مسلك آخر به يحسم مادة الاشكال ، ويوافق عليه الذوق و الاعتبار وهو : ان الحرمة الذاتية التي كانت للمقدمة لم تسقط مطلقا ، بل سقط اطلاقها لحالتي فعل ذي المقدمة وتركها مع انحفاظ الحرمة في صورة ترك ذي المقدمة ، بل انحفاظ كل حكم كان للمقدمة ذاتا ولو لم يكن الحرمة ، بل كان الحكم هو الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب.
    وبالجملة : الدعوى هو ان كل حكم كان للمقدمة مع قطع النظر عن عروض وصف المقدمية عليها فهو محفوظ في حال ترك ذي المقدمة ، أعني الواجب الذي فرضناه أهم. وذلك لايكون الا بالامر الترتبي الذي قد تقدم الكلام عنه ، و عن امكانه بل وقوعه. نعم : يختص الامر الترتبي في المقام ببعض الاشكالات ، التي لا ترد على الامر الترتبي في سائر المقامات. وحاصل تلك الاشكالات يرجع إلى أمرين :
    الأول : ان الامر الترتبي في المقام يوجب اجتماع الوجوب والحرمة في نفس المقدمة ، والوجوب والحرمة متضاد ان لا يمكن اجتماعهما.
    الثاني : ان الامر الترتبي في المقام يتوقف على القول بالشرط المتأخر ، لان الحرمة ح تكون مشروطة بعصيان ذي المقدمة المتأخر زمانا عن المقدمة ، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخر في المقام ، حتى نرجعه إلى وصف التعقب. هذا
1 ـ قدم تحقيق ذلك في هامش ص 286 من هذا الكتاب

(386)
وسيتضح لك دفع الاشكالين بما سنذكره في الجهة الثالثة التي نذكره فيها مقدمتين لبيان جريان الامر الترتبي في المقام.
    ( المقدمة الأولى )
    لا اشكال في أن الامر بالمقدمة انما يكون في رتبة كون المولى بصدد تحصيل مراده من ذي المقدمة وفي مرتبة الوصول إلى غرضه ومطلوبه النفسي ، فإنه في هذه المرتبة تنقدح إرادة المقدمة في نفس المولى ، لوضوح ان إرادة المقدمة لا تكون الا لمكان الوصول إلى ذيها ، فتكون واقعة في رتبة الوصول إلى ذي المقدمة وكون المولى بصدد تحصيله ، لا في رتبة اليأس عن ذي المقدمة وعدم الوصول إليه ، فان هذه المرتبة ليست مرتبة انقداح إرادة المقدمة في نفس المولى ، وذلك واضح.
    ( المقدمة الثانية )
    قد تقدم في المقدمة الرابعة من مقدمات الترتب : انه لا يعقل الاطلاق والتقييد لحاظا ونتيجة بالنسبة إلى حالتي فعل الواجب وتركه ، وان هذا الانقسام ليس كسائر الانقسامات اللاحقة للمتعلق مما يمكن فيها الاطلاق والتقييد اللحاظي أو نتيجة الاطلاق والتقييد ، لاستلزامه طلب الحاصل ، أو طلب النقيضين ، على ما تقدم تفصيله. ولكن هذا في كل واجب بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه.
    واما بالنسبة إلى حالتي فعل واجب آخر وتركه ، فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، بل لا محيص عنه إذ لا يعقل الاهمال الثبوتي بالنسبة إلى ذلك ، الا ان هذا انما يكون في الواجبين الملحوظين على جهة الاستقلالية والاسمية ، كالصوم و الصلاة ، حيث لا محيص : اما من اطلاق الامر بالصوم لحالتي فعل الصلاة وتركها ، و اما من تقييده بإحدى الحالتين. وكذا الامر بالصلاة.
    وأما إذا كان أحد الواجبين ملحوظا على جهة التبعية والحرفية ، كالأمر المقدمي فهو في الاطلاق ، والاشتراط ، والاهمال ، تابع للامر بذى المقدمة. وانه كل ما يكون الامر بذى المقدمة مطلقا أو مقيدا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا يكون مطلقا أو مقيدا بالنسبة إلى ذلك الشيء وكل ما يكون الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا مهمل بالنسبة إليه. والسر في ذلك واضح ، لان


(387)
الامر المقدمي انما يتولد من الامر بذى المقدمة ، ويكون معلولا له ومترشحا منه ، و ليس ناشئا عن مبادئ استقلالية ، بل يكون انشائه قهرا على المولى ، بحيث لا يمكن ان لا ينشأه بعد انشاء الامر بذى المقدمة ، على ما تقدم بيانه في مقدمة الواجب. فإذا كان كذلك ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي تابعا في الاطلاق والاشتراط والاهمال للامر بذيها ، كما يكون تابعا في أصل وجوده ، فلا يقاس الامر بالمقدمة مع الامر بذيها بالامر بالصلاة والصوم حيث قلنا : انه في مثل الصلاة والصوم لا بد من الاطلاق أو التقييد ، من دون ان يكون الاطلاق في أحدهما تابعا للاطلاق في الآخر ، فان بين الامر المقدمي وذيها وبين الامر بالصلاة والصوم بونا بعيدا.
    نعم : ان لوحظ الامر المقدمي معنى اسميا صح القياس ، الا ان الامر المقدمي لم يلاحظ معنى اسميا ، فلا بد ح من التبعية المذكورة. وحيث كان الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي أيضا مهملا بالنسبة إلى حالتي فعل ذي المقدمة وتركه ، فلا يكون فيه اطلاق و لا تقييد بالنسبة إلى ذلك ، بل يكون الامر المقدمي كالأمر بذيها مقتضيا في عالم التشريع لرفع الترك عن ذي المقدمة وطاردا له. وبعد ما عرفت ذلك ، يتضح جريان الامر الترتبي في باب المقدمة وذيها ، وانه لا مانع من انحفاظ حرمة المقدمة أو كل حكم فرض لها ولو كان هو الإباحة في مرتبة ترك ذي المقدمة وعصيان امره ، بحيث يكون الحكم الأصلي لها مترتبا على عصيان ذي المقدمة ، فان هذه الرتبة ليست رتبة الامر بالمقدمة. لأنا قد فرضنا ان الامر بالمقدمة مهمل بالنسبة إلى حالة ترك ذي المقدمة وعصيانه ، بل الامر بالمقدمة يكون في الرتبة السابقة على ذلك ، وهي رتبة الوصول إلى ذي المقدمة ، لا على وجه يكون مقيدا بذلك ، حتى يرجع إلى المقدمة الموصلة ، بل هو واقع في تلك الرتبة مع كونه مهملا بالنسبة إلى حالتي الفعل و الترك. فارتفع الاشكال الأول الذي ذكرنا انه مختص بالامر الترتبي في المقام ، وهو لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في المقدمة ، لان الحكمين وان اجتمعا في المقدمة زمانا الا انهما قد اختلفا بالرتبة ، حيث إن الامر واقع في رتبة الوصول ، والنهى واقع في رتبة الياس وترك الوصول بعصيان ذي المقدمة. ولا مانع من اجتماع الحكمين


(388)
المتضادين في الزمان مع اختلافهما بالرتبة ، إذ ليس عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين مما قام عليه دليل لفظي ، حتى نتمسك باطلاقه ونقول : لا يكفي اختلاف الرتبة بل الحكم في المقام عقلي والعقل لا يمنع عن الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة. إذ امتناع اجتماع الضدين انما هو لمكان انه يرجع إلى اجتماع النقيضين ، ويعتبر في النقيضين الممتنعي الجمع وحدة الرتبة.
    فتحصل : انه لا مانع من كون المقدمة محكوما بحكمين متضادين ، مع كونهما مختلفي الرتبة.
    نعم : يبقى اشكال استلزام الامر الترتبي في المقام للشرط المتأخر الذي لم يقم عليه دليل بالخصوص. ولكن هذا الاشكال أيضا مندفع بان الشرط المتأخر في المقام مما يحكم به العقل ويستقل به ، بعد ما بينا سابقا : من اباء الذوق والاعتبار عن اتصاف المقدمة بالمطلوبية مط على أي وجه اتفقت ولو كان التصرف في ارض الغير مثلا لأجل التنزه والتفرج ، وبعد ما بيناه من أن الامر بالمقدمة واقع في رتبة الوصول إلى ذيها ، لا في رتبة اليأس عنه ، وبعد ما كان كل مقدمة منقسمة في حد ذاتها إلى ما يتعقبها وجود ذي المقدمة وما لا يتعقبها ، فان هذه الأمور توجب استقلال العقل باعتبار الشرط المتأخر ، فهو مما قام عليه دليل بالخصوص ، غايته انه ليس شرعيا بل عقليا.
    والحاصل : انه لا يختص اعتبار الشرط المتأخر بمعنى التعقب بباب القدرة ، بل يجرى في المقام أيضا ، لان صريح العقل والوجدان حاكم باعتبار الشرط المتأخر ( بمعنى التعقب ) بعد ما كان الوجدان شاهدا على عدم وقوع المقدمة على صفة المطلوبية كيف ما اتفقت. وهذا الوجدان هو الذي أوجب الشرط المتأخر ، و أوجب الامر الترتبي. فليس اعتبار الشرط المتأخر في المقام من جهة اقتضاء الامر الترتبي ذلك ، حتى يقال : انه لم يقم دليل بالخصوص في المقام على الامر الترتبي ليقتضي بدلالة الاقتضاء اعتبار الشرط المتأخر ، بل الموجب للذهاب إلى الامر الترتبي في المقام هو الموجب لاعتبار الشرط المتأخر فيه ، وهو تلك المقدمات العقلية فلا تغفل.


(389)
    ولا تقس المقام بالمسألة المتقدمة التي أنكرنا جريان الامر الترتبي فيها لمكان استلزام الشرط المتأخر ، وهي ما إذا كان التزاحم لأجل قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، وذلك لان المقدمات العقلية الجارية في المقام لم تكن جارية في تلك المسألة. هذا تمام الكلام في المقام الأول.
    ( المقام الثاني )
    ما إذا كانت المقدمة مقارنة بحسب الزمان لذيها ، وله أمثلة كثيرة ، ولكن المثال المهم الذي يترتب عليه الأثر ، هو باب الضدين ، بناء على مقدمية ترك أحدهما لفعل الآخر. والأقوى جريان الامر الترتبي فيه أيضا. واشكال استلزام الامر الترتبي للشرط المتأخر لا يجرى في المقام ، لأن المفروض كون المقدمة مقارنة بحسب الزمان.
    نعم : اشكال استلزام اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد يجرى ، كالمقدمة المتقدمة بحسب الزمان. ويزداد الاشكال في الضدين ، حيث إنه يلزم اجتماع الحكمين في كل من طرف الأهم والمهم ، حيث إنه كما أن ترك المهم يكون مقدمة لفعل الأهم فيجب من باب المقدمة مع أنه حرام لغرض وجوب فعل المهم بمقتضى الامر الترتبي ، فيكون ترك الصلاة واجبا بالوجوب الغيري وحراما نفسيا لغرض وجوب الصلاة. كذلك يكون ترك الأهم مقدمة لفعل المهم الذي فرضناه واجبا بالامر الترتبي ، فيجب ترك الأهم بالوجوب المقدمي مع أنه يحرم لوجوب فعل الأهم. فاشكال اجتماع الحكمين المتضادين يأتي في كل من الأهم والمهم بناء على المقدمية. ولكن يندفع الاشكال في طرف المهم بما دفعنا به الاشكال في المقدمة المتقدمة بحسب الزمان.
    وحاصله : ان ترك المهم وان كان حراما نفسيا وواجبا مقدميا ، الا ان وجوبه المقدمي انما يكون في مرتبة الوصول إلى الأهم ، والحرمة انما تكون في مرتبة تركه وعصيانه ، فتختلف رتبة الوجوب والحرمة ولا مانع من الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة.
    واما الاشكال في طرف الأهم فلا يندفع بذلك ، لان الامر في طرف الأهم


(390)
ليس ترتبيا حتى يتحقق اختلاف الرتبة ويصح اجتماع كل من الوجوب والحرمة لمكان اختلاف الرتبة ، بل إن الامر في طرف الأهم هو الامر الأولى الذاتي. الا ان الذي يسهل الخطب هو ان ترك الأهم لايكون واجبا بالوجوب المقدمي أصلا ، بل ليس حكمه الا الحرمة ، فان ترك الأهم وان كان مقدمة وجودية لفعل المهم ، الا انه مع ذلك يكون مقدمة وجوبية له أيضا ، لان وجوب المهم مشروط بترك الأهم ، و معلوم ان المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي ، فترك الأهم حرام ليس الا ، و لا يجتمع فيه الحكمان المتضادان.
    نعم لو قيل : بان المقدمة الوجوبية أيضا تجب بالوجوب المقدمي يلزم ذلك ، الا انه لا يعقل القول بذلك لما فيه :
    أولا : من أن المقدمة الوجوبية تكون علة لثبوت الوجوب على ذيها ، ولا يعقل ان يؤثر المعلول في علته ، لان التأثير يستدعى سبق الرتبة ، والمعلول لا يعقل ان يسبق علته في الرتبة ، بل هو متأخر عنها.
    وثانيا : ان المقدمة الوجوبية لا بد ان تؤخذ مفروضة الوجود ، ومع اخذها مفروضة الوجود لا يعقل ان تجب بالوجوب المقدمي لاستلزامه طلب الحاصل.
    وثالثا : انه يلزم من وجوب المقدمة الوجوبية ان يتقدم زمان وجوب ذيها على موطنه ، وذلك في كل مقدمة تكون سابقة التحقق في الزمان على موطن وجوب ذي المقدمة ، مثلا لو كان قيام زيد في أول طلوع الشمس مقدمة وجوبية لوجوب الصلاة في أول الزوال ، فلو وجب قيام زيد مع ذلك بالوجوب المقدمي يلزم تقدم وجوب الصلاة على موطنه ، وان يتحقق من أول الشمس ليترشح منه الوجوب إلى المقدمة. وهذا خلف ، لأنا فرضنا ان موطن وجوب الصلاة هو الزوال. فالمقدمة الوجوبية لا يمكن ان تتصف بالوجوب المقدمي لهذه الجهات الثلث. فترك الأهم الذي يكون مقدمة وجوبية للمهم لا يجب بالوجوب المقدمي من الجهات الثلث.
    نعم : الجهة الأخيرة لا ترد ، بناء على القول بالتقدير وفرض سبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم آنا ما ، على ما تقدم تفصيله. فإنه لا يلزم من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي تقدم وجوب ذي المقدمة على موطنه وزمانه ، لأنا قد
فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس