فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: 436 ـ 450
(436)
عدم الرخصة في اتيان ذلك الفرد ، فيحصل التدافع بين كل من اطلاق الامر واطلاق النهى ، من حيث ما يقتضيانه : من الرخصة وعدم الرخصة. فلا بد حينئذ من اطلاق متعلق الامر بما عدا ذلك الفرد ، لقوة اطلاق النهى من حيث كونه شموليا ، ويخرج ذلك الفرد من صلاحيته لانطباق الطبيعة المأمور بها عليه.
    وهذا بخلاف النهى التنزيهي ، فان النهى التنزيهي لا يقتضى المنع وعدم الرخصة عن ذلك الفرد ، بل النهى التنزيهي بنفسه يقتضى الرخصة والمفروض ان الامر أيضا يقتضى الرخصة بذلك الفرد ، فلا تدافع بين ما يقتضيه اطلاق الامر ، و ما يقتضيه اطلاق النهى التنزيهي ، وبعد عدم التدافع لا موجب لتقييد اطلاق الأوامر بما عدا المجمع ، بل اطلاق الامر بعد محفوظ على حاله ، من دون تصرف فيه. وذلك لا ينافي التضاد بين الوجوب والكراهة ، فان التضاد بينهما انما يمنع عن اجتماعهما في امر واحد شخصي ، بحيث تتعلق الكراهة بعين ما تعلق به الوجوب ، كما إذا كان هناك شيء واحد تعلق به الوجوب بحيث لا يرضى الآمر بتركه ، وتعلق به الكراهة بحيث يرضى بتركه ، من غير فرق بين ان يكون ذلك الشيء متعلقا للوجوب والكراهة ، بالنصوصية ، أو بالاطلاق ، بان يكون كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا يعم جميع الافراد ، فإنه يلزم أيضا تعلق الامر والكراهة في واحد شخصي.
    وأما إذا لم يتعلق الامر الوجوبي بعين ما تعلق به النهى الكراهتي ـ لا بالنصوصية ولا بالاطلاق الشمولي ، بحيث ينحل إلى جميع الافراد والوجودات التي تفرض للطبيعة ، بل تعلق الامر بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، وتعلق النهى الكراهتي بالطبيعة على نحو مطلق الوجود ـ فلم تجتمع الكراهة مع الوجوب حتى يلزم اجتماع الضدين ، لما عرفت : من أن الافراد فيما إذا كان المطلوب صرف الوجود ليست هي بنفسها متعلق الامر ، والا للزم الاتيان بجميعها ، وليس المطلوب و متعلق الامر ( أحدها ) على نحو الواجب التخييري الشرعي ، بل كان كل فرد من الافراد مما تنطبق عليه الطبيعة ، لمكان الاطلاق. وانطباق الطبيعة على فرد انما يقتضى الرخصة في اتيانه بحيث يجوز تركه إلى بدل ، لا تعينه ، كما إذا كان المطلوب مطلق الوجود. والرخصة في الفرد لا ينافي كراهته ، لأنها أيضا تتضمن الرخصة.


(437)
    فالقائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي لا يلزمه التقييد واخراج المجمع عن اطلاق الامر فيما إذا كان النهى تنزيهيا ، كما كان يلزمه فيما كان النهى تحريميا ، للمنافاة بين الرخصة في اتيان الفرد المستفادة من اطلاق الامر ، وعدم الرخصة فيه المستفاد من اطلاق النهى ، كما عرفت.
    ولا يتوهم : ان القائل بالامتناع ، انما يقول به لأجل لزوم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ، ومع العينية لا يفرق الحال بين ما إذا كان النهى تحريميا أو كان تنزيهيا ، لثبوت المضادة بين جميع الأحكام الخمسة.
    وذلك : لان المراد من حديث العينية ، ليس هو ان المأتى به من الفرد هو عين ما تعلق به الأمر والنهي ، لوضوح ان الامر لم يتعلق بالمأتى به ، بل تعلق الامر بالطبيعة بما انها مرآة لما في الخارج ، ويكون المأتى به مما ينطبق عليه الطبيعة بمقتضى اطلاقها. وقد عرفت : ان الاطلاق لا يقتضى أزيد من الرخصة في كل فرد مع جواز تركه إلى بدل ، لمكان كون الافراد متساوية الاقدام في انطباق الطبيعة على كل منها. والنهى التحريمي يوجب دفع هذا التساوي ، والا لزم اجتماع الرخصة واللارخصة ، والنهى التنزيهي لا يرفع هذا التساوي لبقاء الرخصة على حالها ، فتأمل جيدا. فإنه لا يخلو عن دقة ولطافة.
    هذا إذا كان بين متعلق الأمر والنهي التنزيهي العموم من وجه.
    واما القسم الثاني :
    وهو ما إذا كان بين المتعلقين العموم المطلق ، كصل ، ولا تصل في الحمام ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم السابق ، لما عرفت سابقا : من أن القسم السابق بناء على الامتناع يكون من صغريات مسألة النهى عن العبادة ، وقد عرفت ان النهى التنزيهي عن العبادة لا يقتضى التقييد وليس كالنهي التحريمي. ففي مثل قوله : صل ، ولا تصل في الحمام ، يكون كل من الامر الوجوبي والنهى التنزيهي على حاله ، حيث إن الامر الوجوبي باطلاقه يقتضى الرخصة في الصلاة في الحمام. والنهى التنزيهي لا ينافي هذه الرخصة ، ولا يلزم أيضا اتحاد متعلق الامر الوجوبي والنهى التنزيهي وعينية أحدهما للآخر ، حتى يلزم اجتماع الضدين ، فان الامر الوجوبي


(438)
تعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود ولم يتعلق بجميع حصصها على نحو الشمول والسريان ، والامر المتعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود لا يقتضى أزيد من الرخصة في ايجاد الطبيعة في ضمن أي حصة ، وهذا لا ينافي النهى التنزيهي عن حصة خاصة ، لأنه أيضا يقتضى الرخصة.
    وهذا هو السر فيما يصنعه الفقهاء في مقام الجمع بين الاخبار : من حمل النهى على التنزيه والكراهة ، ولا يعاملون النهى التنزيهي معاملة التعارض من وجه أو المطلق ، ولا يحملون المطلق على المقيد في مثل أعتق رقبة ولا تعتق الكافرة ، إذا استفادوا منه كون النهى تنزيهيا وكذا لا يعملون قواعد التعارض من وجه في مثل : أكرم عالما ، ولا تكرم الفاسق ، إذا كان النهى للتنزيه. بل ربما يجمعون بين الاخبار المتعارضة بحمل النهى فيها على التنزيه ، ويستشكلون بأنه لا شاهد على هذا الجمع. واشكالهم من حيث عدم ما يدل على أن النهى تنزيهي ، لا من حيث إن النهى التنزيهي بعد الفراغ عن كونه تنزيهيا لا يوجب الجمع بين الاخبار المتعارضة ، بل ذلك عندهم مفروغ عنه ، وانما ينازعون في الصغرى. فاحفظ ما ذكرناه فإنه يفتح به باب من أبواب الفقه في مقام الجمع بين الاخبار.
    وما قيل : من أن التنزيهي في باب العبادات انما يكون بمعنى أقل ثوابا ، فهو بظاهره مما لا يستقيم ، لأنه ليس معنى النهى التنزيهي أقلية الثواب ، ولا موجب لاخراج النهى عن ظاهره من المولوية إلى الارشادية وجعله بمنزلة الاخبار عن قلة الثواب ، بل النهى على ظاهره من المولوية. نعم هو كاشف عن وجود حزازة و منقصة في تلك الحصة من الطبيعة. وبهذا المعنى تكون جميع الأوامر والنواهي كاشفة وارشادا إلى المصالح والمفاسد ، ومع ذلك تكون الأوامر والنواهي مولوية.
    بقى الكلام في القسم الثالث :
    وهو ما إذا تعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الامر ، كصوم يوم عاشوا. والتوجيه الذي ذكرناه في القسمين الأولين لا يجرى في هذا القسم ، لان صوم يوم عاشوراء بما انه صوم يوم عاشورا مستحب ، لاستحباب صوم كل يوم بالخصوص ، و معه لا يعقل ان يتعلق به النهى التنزيهي ، لما بين الأمر والنهي من التضاد ، وان


(439)
كان أحدهما استحبابيا والآخر تنزيهيا.
    وما قيل في توجيه ذلك : من أنه يمكن ان يكون ترك صوم يوم عاشوراء ملازما لعنوان راجح ، أو سببا توليديا له ، فيكون الترك كالفعل راجحا ومستحبا و ان كان الترك أرجح ، لمواظبة الأئمة ( عليهم السلام ) وأصحابهم عليه.
    فاسد ، فإنه لا يعقل ان يكون كل من الفعل والترك راجحا ومستحبا شرعا ، لان المتيقن من وقوع الكسر والانكسار بين الجهات والمصالح هو ما إذا كانت الجهات بين النقيضين : من فعل شيء وتركه ، وكيف يعقل عدم وقوع الكسر والانكسار بين النقيضين ؟ مع وقوعهما بين الضدين الذين لا ثالث لهما والمتلازمين في الوجود دائما. فإذا كان هذا حال المتضادين والمتلازمين ، فما ظنك في النقيضين.
    وبالجملة : لا يعقل ان لا يقع الكسر والانكسار بين الجهات في باب النقيضين ، ولا يعقل ان يكون كل من النقيضين مأمورا به بالامر الاستحبابي ويكون كل من الفعل والترك راجحا مبعوثا إليه شرعا ، فلا محيص من وقوع الكسر والانكسار إذا كان في كل من الفعل والترك مصلحة. وحينئذ اما ان تغلب إحدى المصلحتين على الأخرى ، فيكون البعث نحوها فقط. واما ان لا تغلب ، فيكون الحكم هو التخيير ليس الا. فهذا الوجه الذي افاده في التقرير (1) وتبعه صاحب (2) الكفاية مما لا يحسم مادة الاشكال.
    فالأولى في التوجيه ، هو ان يقال : ان مركب النهى التنزيهي غير مركب الامر الاستحبابي ، وان مركب الامر الاستحبابي هو نفس العمل وذات الصوم ، و مركب النهى التنزيهي هو التعبد بالعمل والتقرب به إليه تعالى ، فيكون الصوم مستحبا ، ومع ذلك يكون التعبد به مكروها. ولا منافاة بينهما ، إذ لم يتحد مركب الامر الاستحبابي ومركب النهى التنزيهي ، حتى يلزم اجتماع الضدين.
1 ـ مطارح الأنظار ، بحيث الاجتماع ، الهداية التي تكلم فيها عن حجج المجوزين. المقام الثاني في تصوير الكراهة في العبادات. قوله : « الثالث لا يبعد ان يكون حاسما لمادة الاشكال وهو .. » ص 135
2 ـ كفاية الأصول ، الجلد الأول ، بحث الاجتماع قوله : « اما القسم الأول فالنهي تنزيها عنه .. » ص 255


(440)
    فالمقام يكون نظير تعلق الامر النفسي بصلاة الظهر ، مع الامر المقدمي بها ، من حيث كونها مقدمة وجودية لصلاة العصر ، فان الامر النفسي متعلق بذات صلاة الظهر ، والامر المقدمي تعلق بها بوصف كونها مأمورا بها ، إذ ليست ذات صلاة الظهر مقدمة لصلاة العصر ، بل صلاة الظهر المأتى بها بداعي أمرها وبما انها متعبد بها تكون مقدمة لصلاة العصر ، فيختلف مركب الامر المقدمي مع مركب الامر النفسي. ولا يكون من اجتماع المثلين ، ولا من اتحاد الامرين ، كاتحاد الامر بالوفاء بالنذر مع الامر بصلاة الليل عند نذرها ، لوحدة متعلق الامرين في مثل هذا ، فان المنذور هو فعل ذات صلاة الليل ، لا صلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، فان وصف الاستحباب لا يدخل تحت النذر ، إذ لا يمكنه بعد النذر اتيان صلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، لصيرورتها واجبة بالنذر ، والمنذور لا بد ان يكون مقدورا للناذر في ظرف الامتثال ، فلابد ان يكون متعلق النذر هو ذات صلاة الليل ، والامر الاستحبابي أيضا تعلق بالذات ، فيتحد متعلق الامر الاستحبابي المتعلق بالذات مع متعلق الامر الوجوبي الآتي من قبل الوفاء بالنذر ، ومعلوم ان الامر الاستحبابي يندك حينئذ في الامر الوجوبي ، كما أن الامر التوصلي الآتي من قبل النذر يكتسب التعبدية ، فيكتسب كل من الامر الوجوبي والاستحبابي من الاخر ما يكون فاقدا له ، فالامر الوجوبي يكتسب التعبدية ، والامر الاستحبابي يكتسب الوجوب ، لان الفاقد يكون من قبيل اللامقتضى ، والواجد يكون من المقتضى. ولا يعقل في مثل هذا بقاء الامر الاستحبابي على حاله ، لما عرفت من وحدة المتعلقين ، فيلزم اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد.
    وهذا بخلاف مثل الامر الآتي من قبل الإجارة إذا آجر الشخص نفسه لما يكون مستحبا على الغير أو واجبا ، فأن الامر الوجوبي الآتي من قبل الوفاء بالعقود انما يكون متعلقا بالعمل بوصف كونه مستحبا على الغير أو واجبا عليه ، لا بما هو ذات العمل حتى يلزم اجتماع الضدين أو المثلين ، لان الشخص انما صار أجيرا لتفريغ ذمة الغير ، ولا يحصل ذلك الا بقصد الامر المتوجه إلى ذلك الغير ، فيكون متعلق الإجارة هو العمل المأمور به بوصف كونه كذلك.


(441)
    والمقام بعينه يكون من هذا القبيل ، حيث إن الامر الاستحبابي انما يكون متعلقا بذات الصوم في يوم عاشوراء ، أو الصلاة عند طلوع الشمس. والنهى التنزيهي غير متعلق بذلك ، بل تعلق بالتعبد بالصوم والصلاة في ذلك اليوم والوقت ، لما في التعبد بهما من التشبه ببني أمية وعبدة الشمس ، حيث إن بنى أمية لعنهم الله انما كانوا يتعبدون بصوم يوم عاشوراء ويتقربون به إلى الله ، وكذا عبدة الشمس كانوا يتعبدون بعملهم في أول الشمس ، فيكون المنهى عنه بالنهي التنزيهي هو ما كان عليه عمل أولئك ، وليس هو الا التعبد ، فيكون التعبد مكروها مع كون العمل مستحبا ، إذ لا منافاة بين كراهة التعبد ورجحان تركه وبين استحباب العمل و رجحان فعله.
    نعم : لو كان النهى تحريميا ، كان ذلك منافيا لاستحباب العمل ، لان حرمة التعبد لا يجامع صحة العمل. بخلاف كراهة التعبد المتضمن للرخصة ، فتأمل في ما ذكرناه جيدا.
    هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالعبادات المكروهة.
    ثم إن شيخنا الأستاذ مد ظله ، أراد ان يتعرض للتنبيه الثالث ، المتعلق بالمضطر والمتوسط في الأرض المغصوبة ، ولكنه اعرض عن ذلك واخره ، لان له تعلقا بكلا المقامين المبحوث عنهما في مسألة اجتماع الأمر والنهي. والأولى عطف عنان الكلام إلى المقام الثاني ، وهو انه هل وجود المندوحة يكفي في رفع غائلة التزاحم والتكليف بما لا يطاق ، أو انه لا يكفي ؟ والأقوى في هذا المقام عدم الكفاية. وان كان مقتضى ما تقدم عن المحقق الكركي ( قده ) ـ من كفاية القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في بعض الافراد في صحة تعلق التكليف بها وانطباقها على الفرد المزاحم للمضيق أو الأهم ويتحقق الاجزاء عقلا ـ هو كفاية وجود المندوحة في المقام أيضا. وان كان فرق بين المقام وبين ما افاده المحقق ( قده ) من حيث إن المراد بالمندوحة في المقام انما هي بالنسبة إلى الافراد العرضية ، حيث إن للمكلف ايجاد الصلاة في الدار المباحة وفي المسجد وفي الدار الغصبية ، فتكون الصلاة في الدار الغصبية من أحد افراد الصلاة العرضية. والمراد من المندوحة في مقالة


(442)
المحقق ( قده ) هي المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، لان كلامه انما كان في الواجب المضيق المزاحم لبعض افراد الواجب الموسع في بعض الوقت. ولكن هذا الفرق لايكون فارقا في المناط ، فان مناط كفاية المندوحة في الافراد الطولية ، هو القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في غير الفرد المزاحم للمضيق ، وهذا المقدار يكفي في حسن التكليف عقلا ، إذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق لقدرة الفاعل على ايجاد الطبيعة ولو في الجملة. فلا مانع من شمول اطلاق الامر بالصلاة للفرد المزاحم للإزالة ، وتنطبق الطبيعة المأمور بها عليه قهرا فيتحقق الاجزاء عقلا. وهذا الكلام كما ترى يجرى في الافراد العرضية أيضا ، لتمكن المكلف من ايجاد الصلاة مثلا في غير الدار الغصبية ، وهذا المقدار يكفي في صحة التكليف بالصلاة ، ويكون الفرد المأتى به من الصلاة في الدار الغصبية مما تنطبق عليه الطبيعة ، هذا.
    ولكن أصل المبنى عندنا فاسد ، كما تقدم في مبحث الترتب ، حيث إن القدرة المعتبرة في التكاليف لا ينحصر مدركها بحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، بل القدرة معتبرة ولو لم يحكم العقل بذلك ، لمكان اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقه ، حيث إن حقيقة الخطاب هو البعث على أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفي الممكن ، فيعتبر في التكليف ـ مضافا إلى قدرة الفاعل التي يحكم بها العقل ـ القدرة على الفعل التي يقتضيها الخطاب. والفرد المزاحم للإزالة أو للغصب فيما نحن فيه ليس مقدورا عليه ، لان المانع الشرعي كالمانع العقلي ، فلا تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها بما انها مأمور بها ، لان الانطباق من حيث السعة والضيق يدور مدار سعة القدرة وضيقها ، وليس للقدرة سعة تشمل الفرد ، على ما تقدم تفصيله في مبحث الترتب. وعليه لا تصح الصلاة في الدار الغصبية باطلاق الامر بالصلاة كما أنه لا يمكن تصحيحها بالامر الترتبي كما تقدم أيضا في ذلك المبحث ، لاستلزامه الامر بتحصيل الحاصل ، أو الامر بالمحال ، إذ لا معنى لقوله : لا تغصب وان غصبت بالصلاة فصل ، لأنه يكون من تحصيل الحاصل ، أو ان غصبت بغير الصلاة فصل ، لأنه يكون من طلب المحال ، على ما مر تفصيله.
    واما تصحيحها بالملاك فربما يتوهم انه لا مانع عنه ، ولازم ذلك صحة


(443)
الصلاة في الدار الغصبية ، ولو عن علم وعمد ، مع أن الظاهر تسالم الاعلام على عدم الصحة حينئذ ، كتسالمهم على الصحة في صورة الجهل والنسيان. فيتوجه في المقام اشكال ، من حيث إنه لو بنينا على الامتناع في المقام الأول ، يلزم القول ببطلان الصلاة في صورة الجهل والنسيان ، ولو بنينا على الجواز ، يلزم القول بصحتها في صورة العلم والعمد ، ولا يمكن الالتزام بكل من القولين ، لتسالمهم على الخلاف ، هذا.
    ولكن يمكن دفع الاشكال ، بأنه ليس لازم القول بالجواز في المقام الأول ، هو الصحة في صورة العمد ، لان الصلاة في الدار الغصبية وان كانت مشتملة على الملاك ، الا انها لمكان اتحادها مع الغصب في الايجاد والصدور كان ذلك مانعا عن التقرب بها ، لبغضها الفاعلي وعدم اتصاف صدورها منه بالحسن الفاعلي ، لخلطه بين المأمور به والمنهى عنه في الايجاد والصدور. والحسن الفعلي لا يكفي في التقرب ما لم ينضم إليه الحسن الفاعلي ، بحيث يصدر من الفاعل حسنا. وليس خلط الصلاة بالغصب واتحادها معه في الايجاد كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة ، فان النظر إلى الأجنبية لا ربط له بجهة ايجاد الصلاة ، بخلاف الغصب المتحد معها في الايجاد. فالقول بجواز اجتماع الأمر والنهي لا يلازم القول بصحة الصلاة في صورة العلم والعمد ، كما كان القول بالامتناع يلازم القول بالبطلان في صورة الجهل والنسيان ، فتأمل جيدا.
    هذا كله إذا كان للمكلف مندوحة ، بحيث كان يمكنه فعل الصلاة في المكان المباح. وأما إذا لم يكن للمكلف مندوحة بل انحصر مكان الصلاة في الدار الغصبية ، فترجيح الغصب بكونه مما لا بدل له لا يجرى في الفرض ، لان الصلاة أيضا مما لا بدل لها حسب الفرض ، بل لابد من اعمال سائر مرجحات باب التزاحم. وقبل بيان ذلك ، لابد من التنبيه على امر ، وان كان حقه ان يذكر في المقام الأول ، الا انه قد فاتنا ذكره هناك.
    وحاصل ذلك الامر : هو انه لو فرض تعلق الامر بعنوان وتعلق النهى بعنوان آخر ، وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وكان التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، ولكن كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا ، فهل


(444)
يندرج ذلك في المسألة المبحوث عنها ؟ ويتأتى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق في الفرض المذكور ، أو انه لا يندرج في ذلك ؟ بل لابد من القول بتعارض الأمر والنهي في مورد التصادق وأعمال قواعد التعارض.
    الحق هو الثاني ، لان التلازم بين متعلق الامر ومتعلق النهى في مورد التصادق دائمي ، ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم إذا كان التلازم دائميا ، لعدم قدرة العبد على امتثالهما ، كما في الضدين. فكما لا يجوز الامر بالقيام والقعود في زمان واحد ، كذلك لا يجوز الامر باستقبال المشرق والنهى عن استدبار المغرب في زمان واحد ، لأنه لا يعقل امتثال كل من الأمر والنهي ، والتكليف الغير القابل للامتثال لا يعقل تشريعه ، وذلك واضح.
    فالأقوى اعمال قواعد التعارض ، فيما إذا كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا وكانت النسبة بينهما العموم من وجه ، سواء كان التركيب في مورد الاجتماع من التركيب الاتحادي ، أو من التركيب الانضمامي ، وبعد هذا لا تصل النوبة إلى اعمال مرجحات باب التزاحم.
    إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه ، وهو انه لو لم يكن للمكلف مندوحة وانحصرت الصلاة في الدار الغصبية ، فهذا تارة : يكون بسوء اختياره كمن توسط في الأرض المغصوبة اختيارا وضاق الوقت الا عن الصلاة فيها. وأخرى : يكون لا بسوء اختياره كالمحبوس في الدار الغصبية. فان كان عدم المندوحة لا بسوء اختياره فهذا مما لا اشكال في صحة الصلاة منه في الدار الغصبية وسقوط قيدية لزوم عدم ايقاعها في المكان المغصوب مطلقا ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ كما هو المختار ـ أو قلنا بامتناعه.
    اما بناء على القول بالامتناع : فلان القيدية انما استفيدت من تعلق النهى بالصلاة في الدار الغصبية ، لما عرفت : من أنه بناء على الامتناع يكون مورد التصادق من صغريات النهى في العبادة ، والقيدية المستفادة من الحرمة النفسية تدور مدار الحرمة. وليست كالقيدية المستفادة من النواهي الغيرية ، مثل قوله : لا تصل في غير المأكول ، حيث قلنا ان الظاهر منها هو القيدية المطلقة ، سواء تمكن المكلف منها


(445)
أو لم يتمكن ، غايته انه مع عدم التمكن من القيد يسقط التكليف عن المقيد ، الا ان يقوم دليل على عدم سقوطه بسقوط القيد ، فيستفاد منه كون القيدية مخصوصة بحال التمكن ، كما ربما يستفاد ذلك من قوله : الصلاة لا تسقط بحال ، ولكن هذا في القيدية المستفادة من النهى أو الامر الغيري. واما القيدية المستفادة من النهى النفسي فهي تابعة للنهي ، وبعد سقوط النهى بالاضطرار تسقط القيدية فقط ، ولا موجب لسقوط المقيد ، هذا.
    ولكن للتأمل في ذلك مجال ، لان القيدية وان استفيدت من النهى ، الا انها ليست معلولة للنهي ، بل هي معلولة للملاك الذي أوجب النهى. فالحرمة والقيدية معلولان لعلة ثالثة ، وهو الملاك ، وسقوط أحد المعلولين بالاضطرار لا يوجب سقوط المعلول الآخر.
    فالأولى ان يقال : ان القيدية المستفادة من النهى النفسي أيضا تقتضي القيدية المطلقة. وقد ذكرنا شطرا من الكلام في ذلك في رسالة المشكوك. وسيأتي انشاء الله البحث عنه أيضا في مسألة النهى في العبادات.
    ولكن هذا لا اثر له في باب الصلاة ، لان الظاهر من قوله عليه السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، هو كون قيدية كل قيد مقصورة بحال التمكن ، سواء كانت القيدية مستفادة من النهى الغيري ، أو من النهى النفسي. هذا كله بناء على الامتناع. واما بناء على الجواز فسقوط القيدية عند الاضطرار أولى ، من جهة انه بناء على الجواز تكون المسألة من صغريات التزاحم كما عرفت. والقيدية المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة ، وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيدية لا محالة. وليس هناك ملاك اقتضى القيدية في صورة التزاحم ، حتى يقال : انه لا موجب لسقوط القيدية بسقوط المزاحم ، كما كان الامر في النهى النفسي كذلك ـ على ما عرفت ـ بل القيدية في باب التزاحم انما تكون معلولة للمزاحم ، وبعد سقوط المزاحم تسقط القيدية لا محالة ، ففساد الصلاة في الدار الغصبية لم يكن لها موجب الا حرمة الغصب ومزاحمة الصلاة للغصب ، بناء على الجواز ، وبعد الاضطرار إلى الغصب لايكون هناك مزاحم حتى يقتضى فساد الصلاة ، فالمحبوس في الدار الغصبية تصح


(446)
صلوته.
    وتقييد بعض بما إذا لم تستلزم الصلاة تصرفا زائدا لم يظهر لنا وجهه ، فان شاغلية الشخص للمكان لا يختلف بين كونه قائما أو قاعدا أو نائما ، ولا يزيد بذلك أو ينقص ، فليس صلاة المحبوس تصرفا زائدا على ما إذا كان قاعدا ، بل لا يعقل ان يكون تصرفه في حال الصلاة زائدا على تصرفه في حال العقود ، وان كان العرف ربما يعد الصلاة لمكان اشتمالها على الهوى والجلوس والركوع والسجود تصرفا زائدا على ما إذا كان ساكنا ، الا ان لا عبرة بالنظر العرفي ، بعد ما كان تصرفه بحسب الدقة لا يزيد ولا ينقص.
    هذا إذا كان محبوسا في الدار المغصوبة. وأما إذا دخل في الدار الغصبية لا عن اختيار ، ولكن كان مختارا في الخروج عنها ، فاللازم هو الصلاة في حال الخروج ماشيا إذا ضاق وقتها ، وليس له المكث فيها للصلاة ، لأنه اختياري محرم ، فتأمل جيدا.
    ثم لا يخفى عليك : ان المراد من عدم المندوحة هو عدم المندوحة في الغصب ، بحيث كان غير متمكن من ترك الغصب ، كالمحبوس. واما لو كان متمكنا من ترك الغصب ، ولكن كان غير متمكن من الصلاة الا في المغصوب ، بحيث دار الامر بين ترك الصلاة وبين ترك الغصب ، فهذا خارج عما نحن فيه ، وفي مثل هذا لا بد من ملاحظة الأهمية والمهمية ، ولا يجرى فيه قوله ( عليه السلام ) : الصلاة لا تسقط بحال ، لأنه انما يكون بالنسبة إلى القيود الغير المحرمة ذاتا ، فتأمل جيدا.
    هذا كله إذا لم يكن عدم المندوحة بسوء الاختيار ، وأما إذا كان ذلك بسوء الاختيار ، كمن توسط أرضا مغصوبة باختياره ، فالكلام فيه تارة : يقع من حيث الحكم التكليفي وان خروجه هل يكون مأمورا به أو منهيا عنه ؟ وأخرى : يقع من حيث صحة الصلاة في حال الخروج وعدمها.
    اما الجهة الأولى :
    فقد وقعت معركة الآراء وتعددت فيها الأقوال.
    فقول : بان الخروج واجب ليس الا ولا يعاقب عليه ، وهو المنسوب


(447)
إلى الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1).
    وقول : بأنه واجب وحرام بمعنى انه مأمور به ومنهي عنه ، وهو المنسوب إلى أبى هاشم ، وحكى أيضا عن المحقق القمي (2).
    وقول : بأنه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه ، بمعنى انه يعاقب عليه لا بالنهي الفعلي ، بل بالنهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج ، و هو المنسوب إلى صاحب الفصول (3).
    وقول : بأنه غير مأمور به ولا منهي عنه بالنهي الفعلي ، ولكن يعاقب عليه و يجرى عليه حكم المعصية مع الزام العقل بالخروج لكونه أقل محذورا ، من دون ان يكون مأمورا به شرعا ، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني في كفايته (4).
    وقول : بأنه منهي عنه بالنهي الفعلي وليس بمأمور به شرعا.
    والأقوى من هذه الأقوال هو القول الأول الذي اختاره الشيخ ( قده ) : فان مبنى سائر الأقوال هو كون المقام من صغريات قاعدة ـ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ـ وسيتضح فساد ذلك ، وان المقام ليس مندرجا في ذلك.
    ولكن لو بنينا على كون المقام من صغريات تلك القاعدة فالحق ما عليه المحقق الخراساني ( قده ) : من أنه ليس بمأمور به شرعا ولا منهيا عنه مع كونه يعاقب عليه ، وذلك لان الامتناع بالاختيار انما لا ينافي الاختيار عقابا ، لا خطابا ، فإنه
1 ـ مطارح الأنظار ، ص 151 قوله قدس سره « والأقوى كونه مأمورا به فقط ولا يكون منهيا عنه ولا يفترق فيه النهى السابق واللاحق »
2 ـ قوانين الأصول ، التنبيه الثاني ص 86 قوله قدس سره « الثالث انه مأمور به ومنهى عنه أيضا ، و يحصل العصيان بالفعل والترك كليهما ، وهو مذهب أبي هاشم وأكثر أفاضل متأخرينا ، بل هو ظاهر الفقهاء وهو الأقرب .. »
3 ـ الفصول ، ص 140 قوله قدس سره « والحق انه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلص ، وليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به ، لكنه عاص به بالنظر إلى النهى السابق .. »
4 ـ كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 263 « والحق انه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكاد يكون مأمورا به .. »


(448)
يستحيل الخطاب بالممتنع وان كان امتناعه بسوء الاختيار ، حيث إنه لا يصلح الخطاب للداعوية والباعثية ، ومع هذا كيف يصح الخطاب ؟.
    ودعوى ان الخطاب في مثل هذا يكون تسجيليا ليس فيه بعث حقيقي مما لا نعقلها ، فان الخطاب التسجيلي من المولى الحكيم مما لا يعقل ، بل يتوقف صحة الخطاب من الحكيم على امكان ان يكون داعيا ومحركا لعضلات العبد ، وان لم يكن بمحرك فعلى ، كالخطابات المتوجهة إلى العصاة والكفار. واما الخطاب الذي لا يمكن ان يكون داعيا ومحركا فهو مستحيل من الحكيم. فدعوى : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا ، فاسدة جدا.
    ومنه يظهر فساد القول بكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، مضافا إلى اقتضاء ذلك للامر بالنقيضين والنهى عنهما كما لا يخفى.
    واما القول بكونه مأمورا به فعلا مع جريان حكم المعصية عليه ـ لمكان النهى السابق الساقط ـ فهو أيضا مما لا يعقل ، لان اختلاف زمان الأمر والنهي مع تواردهما على شيء واحد بلحاظ حال وجوده مما لا اثر له ، لوضوح ان النهى عن الخروج في الزمان السابق على الدخول انما يكون بلحاظ حال وجود الخروج ، و مع كونه بهذا اللحاظ منهيا عنه كيف يكون مأمورا به ؟ وهل هذا الا توارد الأمر والنهي على شيء واحد ؟.
    ودعوى : انه لا مانع من كون الخروج منهيا عنه قبل الدخول على نحو المعلق ـ بان يكون النهى فعليا وكان المنهى عنه استقباليا ـ لا تصحح هذا القول ، فان المعلق انما يقتضى تقدم زمان فعلية الحكم على زمان امتثاله ، ولكن مع استمرار الحكم إلى زمان الامتثال لا مع انقطاعه ، والمفروض من صاحب هذا القول هو سقوط النهى في حال الخروج ، وانما يجرى عليه حكم المعصية.
    فظهر : انه بناء على كون المقام من صغريات قاعدة ـ الامتناع بالاختيار ـ لا محيص عن القول بان الخروج غير مأمور به ولا منهى عنه في الحال ، وان كان منهيا عنه قبل الدخول. ويجرى على الخروج حكم المعصية من حيث العقاب ، الا ان الشأن في كون المقام مندرجا تحت تلك القاعدة ، فان دعوى ذلك في غاية السقوط لما


(449)
فيها : (1).
    أولا : ان الخروج غير ممتنع للتمكن من تركه ، والذي امتنع عليه هو مقدار من الكون في المغصوب ، الذي يحصل بالخروج تارة وبتركه أخرى ، ولكن ذلك لا يوجب امتناع الخروج ، لان الاضطرار إلى الجامع لا يلازم الاضطرار إلى ما يحصل به.
    والحاصل : ان الاضطرار إلى مقدار من الغصب غير الاضطرار إلى الخروج ، ومحل الكلام هو امتناع الخروج. واما الاضطرار إلى الكون الغصبي في الجملة فسيأتي الكلام فيه ، فدعوى : ان الخروج مما يكون من الامتناع بالاختيار ، واضحة الفساد.
    وثانيا : ان مورد قاعدة الامتناع بالاختيار ، هو ان يكون التكليف بالممتنع بالنسبة إلى المقدمة الاعدادية ، التي بتركها حصل الامتناع مطلقا ، بحيث تكون تلك المقدمة من المقدمات الوجودية ، على وجه لايكون الخطاب مشروطا بها ولا الملاك ، كالسير بالنسبة إلى الحج ، فان الحج وان كان مشروطا بالزمان من يوم عرفة امتثالا وخطابا ـ على ما هو الحق عندنا من امتناع الواجب المعلق ـ الا انه غير مشروط بالنسبة إلى السير. ومن هنا قلنا : ان السير واجب لا بالوجوب المقدمي الآتي من قبل وجوب الحج ، بل بالوجوب الطريقي الناشئ عن ملاك وجوب الحج ، على وجه يكون من قبيل متمم الجعل ، حيث إنه لا يمكن للآمر استيفاء ملاك الحج الا بأمرين : امر بالحج ، وامر بالسير إليه. وعلى كل حال ، ليس السير مقدمة وجوبية للحج ، بحيث يكون الملاك والخطاب مشروطا به ، فتركه حينئذ يوجب امتناع الحج عليه في يوم عرفة ، ويكون من الامتناع بالاختيار.
    وأما إذا كان الواجب بالنسبة إلى تلك المقدمة الاعدادية مشروطا خطابا
1 ـ ولا يخفى عليك : ان صاحب الكفاية لم يجعل الخروج مما امتنع على المكلف ، وانما يكون الخروج منهيا عنه قبل الدخول ، وبعد الدخول لمكان الزام العقل به لا يعقل بقاء النهى ، بل لا بد من سقوطه ، وان يعاقب عليه. فالمهم في رد مقالة الكفاية ، هو اثبات ان الخروج لم يكن منهيا عنه قبل الدخول فتأمل ـ منه

(450)
وملاكا ، فترك تلك المقدمة الاعدادية وان كان يوجب امتناع الواجب ، الا انه ليس من صغريات تلك القاعدة. مثلا لو فرض ، ان السير كان مقدمة وجوبية للحج ، بحيث كان الحج واجبا إذا كان الشخص في الحرم واتفق وقوع السير منه ، فترك مثل هذا السير لا يوجب العقاب على ترك الحج ، وان امتنع عليه. وفي المقام يكون الدخول في الدار الغصبية من المقدمات التي يتوقف عليها أصل الخطاب بالخروج ، إذ لا يعقل الخروج الا بالدخول ، فلا يعقل النهى من الخروج الا مشروطا بالدخول ، ولا يتحقق للخروج ملاك النهى الا بعد الدخول ، فهو مشروط بالدخول خطابا وملاكا ، والمفروض انه بعد الدخول ليس الخروج منهيا عنه حسب تسليم الخصم. فمتى كان الخروج منهيا عنه ؟ حتى يندرج تحت تلك القاعدة.
    وبعبارة أخرى : الدخول يكون موضوعا للخروج ، حيث إنه لا موضوع للخروج بدون الدخول ، فكيف يعقل النهى عنه قبل الدخول ؟ حتى يندرج تحت قاعدة الامتناع بالاختيار.
    وبتقريب آخر : ( وان شئت فاجعله وجها ثالثا لفساد كون المقام من صغريات تلك القاعدة ) وهو ان امتناع الخروج انما يكون بترك الدخول لا بفعل الدخول ، فهو عكس قاعدة ـ الامتناع بالاختيار ـ لان مورد تلك القاعدة هو ما إذا كان مخالفة الامر المقدمي يوجب امتناع ذي المقدمة ، كترك السير في مثال الحج. و اما في المقام ، فامتثال النهى المقدمي وترك الدخول يوجب امتناع الخروج لعدم تحقق موضوعه ، لا فعل الدخول فان فعل الدخول موجب للتمكن من الخروج ، لا انه موجب لامتناعه.
    وثالثا أو رابعا : انه يعتبر في مورد القاعدة ، ان يكون الفعل الممتنع عليه بالاختيار حال امتناعه غير محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع ، بل لا بد ان لايكون محكوما بحكم ، أولو كان محكوما بحكم لكان هو الحكم السابق على الامتناع ، كما يدعيه القائل بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا و ملاكا. مثلا الحج حال امتناعه على الشخص بترك المسير ، اما غير محكوم بحكم أصلا ، كما هو مقالة من يقول : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكا فقط ،
فوائد الاصول ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس