|
|||
(76)
يمكن الانبعاث عنه ، بحيث لو فرض أنه لو كان الخطاب الواقع كذلك ـ أي على ما هو عليه من الإجمال (1) من دون أن يتعلق بخصوصية أحد الأطراف ـ لكان لك تكليفا مولويا ، يصلح لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد نحو امتثاله وينتج نتيجة التخيير الشرعي أو العقلي ـ على اختلاف المقامات ـ فالجهل بالخصوصية لا يضر بالمعلوم بالإجمال ولا يمنع عن حكم العقل بقبح الاقتحام على مخالفته ، وذلك واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.
الأمر الثاني : ذهب بعض الأعاظم إلى انحفاظ رتبة الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي (2) لأن موضوع الحكم الظاهري هو الجهل بالواقع ، والأصول ثم إن الناظر البصير ربما يرى تهافتا بين قوله في المقام : « ويمكن الانبعاث عن البعث في العلم الإجمالي » و بين تقريبه السابق بأن « الانبعاث من قبل احتمال البعث لا نفسه » وجعل ذلك منشأ تأخيره رتبة عن الامتثال التفصيلي ، فراجع وتدبر. 1 ـ أقول : مثل هذا التعبير في باب التخيير غلط ، كما لا يخفى على من تأمل فيما ذكرنا آنفا. 2 ـ أقول : رتبة الحكم الظاهري إنما يكون محفوظا في فرض تعلق الشك بنفس الواقع ، بلا شائبة تنجز فيه ، وإلا فمع احتمال التكليف المنجز الملازم لاحتمال المعصية العقل يأبى عن الترخيص في المعصية ولو مع احتمالها ، وحينئذ فلا محيص لمثل هذا المقرر أن يعزل العلم الإجمالي عن المنجزية رأسا ، أو يدعى تعليقية حكم العقل بمنجزية العلم بعدم ترخيص على خلافه ، وعلى الفرضين لا يمنعه الجزم بمخالفة الأصلين للواقع بعد اختلاف الرتبة في البين ، كما هو الشأن في الشبهات البدوية ، وعليه فلا يبقى مجال لما أفيد في جوابه من التفكيك في شمول أدلة الأصول للطرفين أو طرف واحد ألا مع إثباته التفكيك بين الموافقة والمخالفة في التعليقية والتنجيزية ، ولا مجال لإثباته من الخارج ، بل مجرد احتمال التنجيزية يكفي مطلقا ، يكفي لمنع شمول دليل الترخيص ولو لأحدهما ، ولا مجال أيضا لاثباته حينئذ بتوهم شمول دليل الترخيص لفرض الشك دون العلم وذلك لما فيه : حيث نقول : بأن شمول دليل الترخيص لفرض الشك حينئذ دوري ، لأن الشمول منوط بثبوت التعليقية ، فكيف يثبت التعليقية بشمول دليل الترخيص ؟. فان قلت : إن مانعية المعصية لدليل الترخيص إذا كان عقليا يصير من المخصصات اللبية ، ولا بأس بالتمسك العام في المخصص اللبي فبدليل الترخيص يستكشف عدم المعصية عند الشك بها. قلت : نتيجة التمسك بالعام في المخصص اللبي ليس نفي المعصية المشكوكة وجدانا ، بل غايته نفيها تعبدا ، (77)
العملية إنما تجرى في كل واحد من الأطراف بخصوصه وكل واحد منها مجهول الحكم ، وليس في البين أصلى عملي يجرى في مقابل نفس المعلوم بالإجمال حتى يقع التضاد والمنافاة بين مؤدى الأصل والمعلوم بالإجمال ، فلا يلزم من جريان الأصول في الأطراف محذور المناقضة والتضاد.
قلت : جريان الأصول العملية في كل واحد من الأطراف يستلزم الجمع في الترخيص بين جميع الأطراف (1) والترخيص في الجميع يضاد التكليف المعلوم بالإجمال ، فلا يمكن أن تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة في جميع الأطراف. نعم : يمكن الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر أو فعله. ودعوى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية و أن العلم الإجمالي إما أن يكون علة تامة بالنسبة إلى كلا المرحلتين وإما أن لا يكون ، فهي مما لا شاهد عليها ولا سبيل لها ، بداهة أن العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي (2) وللشارع الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية في العلم فاحتمال المعصية وجدانا موجود ، ومع هذا الاحتمال يأبى العقل عن الترخيص فيها ، فكان العقل يرى عدم المعصية شرطا للحكم الظاهري أيضا ـ نظير شرطية القدرة ـ وحينئذ ليس المقام من موارد التمسك بالعام في الشبهات المصداقية اللبية كما توهم ، فتدبر. 1 ـ أقول : لنا مجال النقض بمشكوكية كل واحد من الطرفين ومعلومية أحدهما ، مع أن بين الشك واليقين كمال المناقضة ، وحينئذ فلو ادعى الطرف بأن مركز الترخيص هو المشكوك بلا سرايته إلى العنوان المعلوم ، من أين يسرى الترخيص إلى الجهة المعلومة ؟ فتدبر. 2 ـ أقول : بعد اكتفاء العقل في مقام الفراغ عما اشتغلت الذمة بالأعم من الواقعي والظاهري ، فلا قصور حينئذ في تصرف الشارع في مقام الفراغ بجعل البدل ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي بضرب قاعدة الفراغ ، وأين هذا مع فرض صرف الترخيص في بعض الأطراف بلا تصرف في مقام الفراغ وجعله بدلا عن الواقع ، كيف ! ومثل هذا الترخيص أيضا غير جار في العلم التفصيلي أيضا ، وحينئذ ليس مجال الاستشهاد بمثل جعل البدل في المقامين على جواز الترخيص في أحد الطرفين بلا تعيين مفرغ وجعل بدل. وتتمة الكلام موكول إلى محله في بحث الاشتغال. (78)
التفصيلي ، كما هو مفاد الأصول الجارية في وادى الفراغ ، فما ظنك بالعلم الإجمالي ؟ وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، فراجع.
الأمر الثالث : الأصول المتكفلة للتنزيل كالاستصحاب لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم ، فلا يجري استصحاب النجاسة في كل واحد من الإنائين اللذين علم إجمالا بطهارة أحدهما مع سبق النجاسة في كل منهما ، كما لا يجرى استصحاب الطهارة فيهما مع العلم بنجاسة أحدهما وسبق الطهارة في كل منهما ، مع أنه لا يلزم من جريان الاستصحابين في الفرض الأول مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، لان التعبد ببقاء الواقع في كل من الإنائين ينافي العلم بعدم بقائه في واحد منهما. وهذا بخلاف الأصول الغير المتكفلة للتنزيل ـ كأصالة البراءة والحل والاحتياط ـ فان جريانها في أطراف العلم الإجمالي يدور مدار لزوم المخالفة العملية وعدمه ، فإن لم يلزم من جريانها مخالفة عملية تجرى ويلزم العمل على مقتضاها ، وقد ذكرنا تفصيل الكلام في ذلك بأمثلته في خاتمة الاستصحاب. الأمر الرابع : المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ليس قصور أدلة اعتبارها وعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي كما توهم ، لوضوح أن ذلك على تقدير تسليمه يختص ببعض أخبار الاستصحاب مما اشتمل على لزوم نقض اليقين باليقين ، فان اشتماله على ذلك هو الذي أوجب توهم عدم شمول الدليل للشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي. وأما بقية أخبار الاستصحاب وأدلة سائر الأصول فليس فيها ما يقتضي توهم اختصاصها بغير الشبهة المقرونة بالعلم (79)
الإجمالي ، بل المانع من جريانها هو قصور المجعول فيها وعدم انحفاظ رتبتها ، من جهة لزوم المناقضة بين مؤدى الأصول والتكليف المعلوم بالإجمال ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فالبحث عن عموم أدلة الأصول وعدم عمومه مما لا أثر له ، فإنه مع فرض عمومها لابد من تخصيصها عقلا بغير الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، على تفصيل بين الأصول المتكفلة للتنزيل وغيرها ، كما تقدم الإشارة إليه.
كما أنه لا أثر للبحث عن أن عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لعدم المقتضى أو لثبوت المانع ، مع أنه لم يظهر المراد من المقتضى والمانع المبحوث عنه في المقام. فان كان المراد من المقتضى ، هو أن كل واحد من الأطراف من حيث كونه مجهول الحكم فيه اقتضاء جريان الأصل والعلم الإجمالي بتعلق التكليف بأحدهما مانع عن جريانه ، فهذا معنى صحيح غير قابل للنزاع والبحث فيه. وإن كان المراد من المقتضى ، هو أن أدلة الأصول تعم أطراف العلم الإجمالي ولزوم المخالفة العملية من جريانها مانع في مقابل من يقول : إن أدلة الأصول لا تعم أطراف العلم الإجمالي ـ كما يظهر من الشيخ ـ فقد عرفت أن البحث عن عموم الدليل وعدمه مما لا أثر له بعد عدم قابلية المجعول في باب الأصول لان يعم أطراف العلم الإجمالي. فالإنصاف : أن البحث عن ثبوت المقتضى ولا ثبوته مما لا يرجع إلى محصل ، ويأتي تفصيله في خاتمة الاستصحاب وفي الاشتغال. الأمر الخامس : يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أمور : الأمر الأول : أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال صالحا للانبعاث (80)
عنه وقابلا لأن يكون محركا لإرادة المكلف نحو امتثاله مع ما هو عليه من الإجمال ، بحيث يمكنه المخالفة القطعية للتكليف ، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا تعلق بما لا يمكن أن يكون محركا لإرادة العبد ، كموارد دوران الأمر بين المحذورين ، فان التكليف المردد ين وجوب الحركة أو السكون غير صالح للانبعاث عنه بعد ما كان العبد لا يخلو عن أحدهما تكوينا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ( في مبحث البراءة ) ان شيئا من الأصول العقلية والشرعية لا تجري في موارد دوران الأمر بين المحذورين.
وليعلم أنه يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين أمور : الأول : وحدة القضية وعدم تكررها ، فان في صورة تكرار القضية يتمكن المكلف من المخالفة القطعية ، كما لو دار أمر المرأة بين كونها محلوفة الوطي في كل ليلة من ليالي الأسبوع ، أو محلوفة الترك كذلك ، فإنه مع وطيها في بعض ليالي الأسبوع وترك وطيها في الليالي الاخر يعلم بمخالفة التكليف. الثاني : أن لا يكون المكلف به في كل من طرف الفعل والترك تعبديا أو كان أحدهما المعين تعبديا ، فإنه لو كان كذلك لكان المكلف متمكنا من المخالفة القطعية بترك قصد التعبد في أحدهما أو في خصوص المعين ، ومهما تمكن المكلف من المخالفة القطعية فالعلم الإجمالي يقتضي التنجيز ولو بهذا المقدار ولو لم تجب الموافقة القطعية لعدم التمكن منها. ودعوى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فإذا لم تجب الموافقة القطعية لم تحرم المخالفة القطعية ، قد عرفت ما فيها. الثالث : عدم القول بوجوب الموافقة الالتزامية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإنه لو بنينا على وجوب الموافقة الالتزامية لكان المكلف متمكنا أيضا من المخالفة القطعية بترك الالتزام بالتكليف المعلوم بالإجمال أو الالتزام بضده. ولكن في أصل الموافقة الالتزامية موضوعا وحكما إشكال ، فان المراد من الموافقة الالتزامية إن كان هو التصديق بما جاء به النبي ( صلى الله (81)
عليه وآله ) فهذا مما لا إشكال في وجوبه ، لأن عدم الالتزام بذلك يرجع إلى إنكار النبي ( صلى الله عليه وآله ). وإن كان المراد منها معنى آخر ، فلو سلم أن وراء التصديق بما جاء به النبي ( صلى الله عليه وآله ) معنى آخر فلا دليل على وجوبه ، ولو سلم قيام الدليل عليه فهو يختص بما إذا علم بالتكليف تفصيلا ليمكن الالتزام به ، ولو سلم أن الدليل يعم العلم الإجمالي فالالتزام بالواقع على ما هو عليه في موارد العلم الإجمالي بمكان من الإمكان ، وهذا لا ينافي كون أمر التكليف من حيث العمل يدور بين المحذورين.
الأمر الثاني : يعتبر في تأثير الإجمالي أن لا يسبق التكليف ببعض الإطراف على العلم الإجمالي (1) وإلا كان الأصل النافي للتكليف جاريا في الطرف الآخر بلا معارض ، كما إذا علم بوقوع قطرة من الدم في أحد الإنائين مع أن أحدهما المعين كان نجسا قبل وقوع القطرة من الدم في أحدهما ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما له من الفروع في مبحث الاشتغال. الأمر الثالث : أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال مما له تعلق بشخص العالم ، أي كان شخص العالم هو المخاطب بالتكليف ، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال مرددا بين شخصين ـ كالجنابة المرددة بين الشخصين في الثوب المشترك ـ فان أصالة عدم الجنابة تجرى في حق كل من الشخصين بلا معارض. نعم : قد يتولد من العلم بجنابة أحد الشخصين ما يقتضي تعارض الأصلين ، وذلك يتصور في موارد : منها : ما إذا اجتمعا في صلاة الجمعة بحيث كانا من المتممين للعدد 1 ـ أقول : سبق التكليف غير مؤثر شيئا ، بل لابد من التقارن ، كما سيجيء توضيحه في محله. (82)
المعتبر فيها سواء كانا مأمومين أو كان أحدهما مأموما والآخر إماما ، فلا تصح صلاة كل منهما. بل لا تصح صلاة كل من اجتمع معهما لأنه يعتبر في صلاة الجمعة أن يكون كل من المأمومين محرزا ـ ولو بالأصل ـ صحة صلاة الإمام و بقية المأمومين ، ومع العلم بجنابة المجتمعين لصلاة الجمعة لا يمكن إحراز صحة صلاة الجميع ، فلا يمكن أن يجرى كل شخص أصالة عدم الجنابة في حق نفسه. وإن شئت قلت : إن صلاة المجتمعين في صلاة الجمعة بمنزلة صلاة واحدة مرتبطة بعضها مع بعض ، فأصالة عدم الجنابة في كل من الشخصين تعارض أصالة عدمها في الشخص الآخر.
ومنها : ما إذا اقتدى أحدهما بالآخر في غير صلاة الجمعة ، أو اقتدى ثالث بكل منهما في صلاتين أو صلاة واحدة ، فإنه في الفرض الأول يعلم بفساد إحدى الصلاتين إما صلاة نفسه أو صلاة إمامه ، وفي الفرض الثاني يعلم بفساد صلاة أحد الإمامين ، إلا إذا قلنا : إنه يكفي في صحة صلاة الجماعة إحراز كل من الإمام والمأموم صحة صلاة نفسه ولو بالأصل ، ولا يعتبر في الصحة إحراز المأموم صحة صلاة الإمام ، فإنه على هذا تصح صلاة الجميع و تجرى أصالة عدم الجنابة في حق كل منهما بلا معارض ، وتفصيل ذلك موكول إلى محله. ومنها : ما إذا استأجر كل منهما لما يكون مشروطا بالطهارة كالصلاة والصوم ، فان المستأجر يعلم بفساد صلاة أحد الأجيرين. فلا تفرغ ذمة المنوب عنه ، إلا إذا قلنا أيضا بأنه يكفي في صحة الإجارة وتفريغ ذمة المنوب عنه كون الأجير محرزا لصحة عمله ولو بالأصل. ومنها : ما إذا استأجر كل منهما لما يحرم على الجنب فعله ـ ككنس المسجد والدخول فيه لحمل المتاع ونحو ذلك ـ فإنه قد يقال : بفساد الإجارة للعلم بحرمة دخول أحد الأجيرين. ولكن الأقوى في هذا الفرض صحة الإجارة لأنه لا يعتبر في صحتها (83)
سوى كون العمل مملوكا للأجير وممكن الحصول للمستأجر وكل من الشرطين حاصل في الفرض ، لأن كلا من الأجيرين مالك لعمل نفسه فإنه يباح لكل منهما الدخول في المسجد وكنسه ولو بمقتضى الأصل ، فيجوز لهما ذلك ، وإذا جاز لهما ذلك جاز استيجارهما عليه.
ومنها : غير ذلك من الموارد التي تظهر للمتأمل. الأمر الرابع : أن لا يكون للعلم بالخصوصية دخل في الحكم ، بحيث كان إجمال المتعلق مما يقتضي تبدل الحكم واقعا. وبعبارة أخرى : يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن لا يكون الموضوع من الموضوعات التي يعتبر العلم بالخصوصية في ترتب الحكم عليه ، سواء كان الحكم من الأحكام التكليفية ، أو من الإحكام الوضعية ، وعلى ذلك يبتني حصول الشركة في الأموال عند الخلط ، فإنه تبطل ملكية الخصوصية وتحصل الإشاعة في المالين المختلطين واقعا ، من غير فرق بين خلط الحنطة بالحنطة أو خلط الدراهم بالدراهم ، وإن خالف بعض في حصول الشركة وثبوت الإشاعة بخلط الدارهم. ولكن الأقوى : حصول الشركة فيها أيضا ، والسر في حصول الشركة بخلط الأموال هو أن الملكية لما كانت من الأمور الاعتبارية العرفية (1) كان إجمال الخصوصية موجبا لبطلانها وعدم اعتبارها لمالكها ، فتخرج الخصوصية الإفرازية عن ملك صاحبها وتحصل الشركة بنسبة المالين المختلطين : من النصف والثلث والربع. 1 ـ أقول : هذا البرهان جار في خلط كل متماثل من الثياب وغيرها ، وهو كما ترى ! فالأولى عدم التعدي في الشركة والخلط عن الأمور التي يحسب بالخلط شيئا واحدا دقة ـ كالمايعات ـ أو عرفا ـ كالحبوبات ـ وأما مثل الدراهم بعد الخلط أيضا متعدد ، فلا مجال لاعتبار الشركة فيها ، بل يجرى فيها حكم عدم الميز ، نظير صورة عدم الخلط ، كما لا يخفى. (84)
وما ورد في الدرهم الودعي : من إعطاء أحد الدرهمين عند تلف الثالث لصاحب الدرهمين وتنصيف الدرهم الآخر بين مالك الدرهم والدرهمين بالسوية ـ كما في رواية السكوني ـ لابد من حمله على صورة عدم خلط الدراهم ، وإلا كان الحكم فيه التثليث.
وبالجملة : الخلط في باب الأموال يوجب الشركة وبطلان خصوصية الإفراز كما عليه الأصحاب واستفاضت به الروايات. نعم : الحكم بالشركة يختص بصورة الخلط. وأما في صورة اشتباه المالين وعدم تميز أحدهما عن الآخر بلا خلط ، فالحكم فيها هو التصالح أو القرعة ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله. الأمر الخامس : أن لا يكون في البين ما يوجب بطلان اقتضاء العلم الإجمالي وسقوطه عن الأثر : من التحالف وحكم الحاكم والإقرار المستتبع لتنصيف المال ، أو فسخ العقد المتنازع فيه. والفرق بين هذا الأمر والأمر السابق هو أنه في الأمر السابق كان إجمال المتعلق بنفسه يوجب بطلان اقتضاء العلم الإجمالي ، وفي هذا الأمر إجمال المتعلق بنفسه لا يوجب ذلك ، بل لابد من تعقبه بحكم الحاكم أو التحالف أو الإقرار ، فان هذه الأمور توجب تبدل موضوع الحكم ، إما تبدلا واقعيا ، وإما تبدلا ظاهريا. وتفصيل ذلك : هو أنه في مورد التحالف يتبدل الموضوع واقعا ، لأنه يقتضي فسخ العقد المتنازع فيه ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى ملك مالكه قبل العقد ، فيبطل اقتضاء العلم الإجمالي بانتقال أحد الثمنين أو المثمنين المتنازع فيه ، بل يبطل اقتضاء العلم التفصيلي بانتقال ما لا نزاع فيه ملك مالكه ، فإنه يكون حكم الفسخ بالتحالف حكم الفسخ بالخيار أو الإقالة موجبا لانتقال كل ملك إلى مالكه الأصلي. (85)
وأما حكم الحاكم : فبالنسبة إلى غير المحكوم له يوجب التبدل الواقعي أيضا ، فلو ادعى أحد الشخصين ملكية جميع الدار ، وادعى الآخر ملكية الجميع أيضا ، وكانت الدار في يد كل منهما ، أو أقام كل منهما البينة ، أو حلف كل منهما على نفي ما يدعيه الآخر ، فالذي عليه الأصحاب ونطقت به الروايات هو الحكم بالتنصيف ، وبعد حكم الحاكم بالتنصيف ينتقل نصف الدار عن مالكها ، يعنى يجب ترتيب آثار الانتقال الواقعي ما لم يبطل الحكم باقرار المحكوم له أو بالانكشاف القطعي ، فان الإقرار أو الانكشاف القطعي يكون بمنزلة فسخ العقد ، فلا أثر للعلم الإجمالي بكون الدار كلها لأحد المتداعيين وأخذ أحدهما النصف بلا حق ، فللثالث أن يشترى كل من النصفين من كل من المتداعيين.
نعم : بالنسبة إلى المحكوم له يكون حكم الحاكم بمنزلة الحكم الظاهري ، له التصرف في النصف المحكوم له ما لم يعلم بالخلاف وأن دعواه كانت بلا حق. وأما الإقرار : فهو بالنسبة إلى المقر له يكون طريقا محضا ليس له التصرف في المقر به مع علمه بمخالفة الإقرار للواقع ، وأما في حق غير المقر له فيجرى الإقرار مجرى السبب الواقعي ، ويجب ترتيب آثار انتقال المقر به إلى المقر له ، فلو أقر شخص بأن ما في يدي لزيد ، ثم أقر بأنه لعمرو ، يعطى ما في يده لزيد ويغرم قيمته لعمرو ، ويجوز للثالث أن يجمع عنده عين ما في يد المقر مع ما يغرمه لعمرو بأحد موجبات الاجتماع ، إلا إذا علم ببطلان خصوص أحد الإقرارين تفصيلا. ولا يخفى أن في كثير من فروض هذه المسائل إشكال وخلاف (1) و حيث كانت المسائل فقهية لا ينبغي إطالة الكلام فيها. وتفصيلها موكول إلى 1 ـ أقول : جزاك الله خيرا لقد جئت بالحق. (86)
محلها.
والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى بيان أن ما ذكره الشيخ ( قدس سره ) من الموارد التي توهم فيها انحزام القاعدة التي يقتضيها العلم الإجمالي ـ من عدم جواز المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال ـ ليس شيء منها تقتضي ذلك. إذ منها : ما لا يصح الالتزام به ، كمسألة جواز إحداث القول الثالث عند اختلاف الأمة على قولين يعلم أن الإمام مع أحدهما ، وكجواز ارتكاب كلا المشتبهين دفعة أو تدريجا. ومنها : ما نلتزم به ولا يكون مخالفا لما يقتضيه العلم الإجمالي ، كمسألة اقتداء أحد واجدي المنى بالآخر ، وكمسألة التنصيف في باب التداعي والتحالف ، فان العلم الإجمالي يسقط عن التأثير في هذه الموارد بالبيان المتقدم. وينبغي ختم الكلام في مباحث العلم الإجمالي بالتنبيه على أمر : وهو أنه لو تردد المعلوم بالإجمال بين ما يكون بوجوده الواقعي ذا أثر وبين ما يكون بوجوده العلمي ، كما لو تردد حال الثوب بين الغصب والنجاسة ، فالعلم الإجمالي ما دام موجودا يقتضي أثره ويترتب عليه جميعه الآثار المترتبة على الغصب والنجاسة ، فلا يجوز استعمال الثوب والتصرف فيه تصرفا مشروطا بالطهارة والإباحة. وأما الآثار الزائدة المترتبة على الشيء بوجوده الواقعي فلا تترتب ، فلو غفل المكلف عن علمه وصلى في الثوب لم يجب عليه الإعادة والقضاء لاحتمال أن يكون غصبا ، والصلاة في الثوب المغصوب مع النسيان صحيحة واقعا. والنجاسة لم يتعلق العلم بها في وقت حتى يقال : إن العلم بالنجاسة آنا ما (87)
يكفي في فساد الصلاة ولو مع الذهول والنسيان (1) وسيأتي لذلك مزيد و توضيح في مبحث الاشتغال.
هذا قليل من كثير مما يتعلق بالعلم الإجمالي من المباحث وما يعتبر فيه من الشرائط ، واستقصاء الكلام في الجميع موكول إلى « الجزء الرابع » من الكتاب ، وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه في المقام الأول المتكفل للبحث عن مسائل القطع. والحمد الله أولا وآخر والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. 1 ـ أقول : لو قيل في مانعية النجاسة بكفاية تنجزه ولو بعلم إجمالي في وقت كان هذه الجهة موجودا في النجاسة ، ومعلوم : أنه يمنع عن الحكم بصحة الصلاة ولو كان حين العمل غافلا عن المعصية ، كما لا يخفى ، وعمدة النكتة هو أن دليل معذورية النجاسة إنما يختص بصورة بقاء المعذورية بجهله بها من الأول ، ولا يشمل غيره ، كما لا يخفى. (88)
المقام الثاني
في الظن وتفصيل البحث عن ذلك يستدعى رسم مباحث :
والمراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي ، يعنى أن من التعبد بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع : من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة واستلزامه الحكم بلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين ، وغير ذلك من التوالي الفاسد المتوهمة في المقام ؟ أو أنه لا يلزم شيء من ذلك ؟ وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني بحيث يلزم من التعبد بالظن أو الأصل محذور في عالم التكوين (1) فان الإمكان التكويني لا يتوهم البحث عنه في المقام ، وذلك واضح.
1 ـ أقول : إذا كان المحذور في المقام لزوم اجتماع الضدين أو صدور القبيح ممن يستحيل صدوره منه من التعبد بالظن ، فهل هو غير الاستحالة التكوينية في هذا التعبد والتشريع ، ولازمه في قباله هل هو غير الإمكان التكويني ؟ وكون موضوع هذا الإمكان والاستحالة أمرا تشريعيا لا يقتضي خروج إمكانه عن التكوين ، كما لا يخفى ، فبعد الإمكان التكويني لا يفهم له معنى محصل. (89)
ثم إن المحاذير المتوهمة من التعبد الأمارات ـ منها : ما يرجع إلى المحذور الملاكي. ومنها : ما يرجع إلى المحذور الخطابي (1).
أما الأول : فتقريبه ـ أنه يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند مخالفة الظن للواقع ، وإدائه إلى وجوب ما يكون حراما أو حرمة ما يكون واجبا (2) وإلى ذلك ينظر الاستدلال المحكى عن « ابن قبة » من أنه يوجب تحليل الحرام وتحريم الحلال. ولا يخفى : أن محذور تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة يتوقف على أمور : الأول : الالتزام بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات وأن تلك المصالح تجرى في عالم التشريع مجرى العلل التكوينية من استتباعها للأحكام وكونها لازمة الاستيفاء في عالم التشريع (3) لا أنها من المرجحات والمحسنات لتشريع الأحكام من دون أن تكون لازمة الاستيفاء ، فإنها لو كانت كذلك لا يلزم من تفويتها محذور. الثاني : الالتزام بأن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية المحضة و 1 ـ أقول : في المحذور الخطابي جهتان : إحديهما شبهة التضاد بين الحكمين عند المخالفة ، والأخرى شبهة نقض الغرض ، بتقريب : أن مع فرض تعلق الإرادة بشيء يستحيل جعل شيء يوجب تفويت مرامه ، كما لا يخفى. ثم إن هذه الشبهة مختص بصورة المخالفة ، ولا يجرى عند موافقة الأمارة للواقع ، بخلاف شبهة التضاد ، فإنه يجرى حتى في صورة الموافقة ، لأن المثلان كالضدان ، بناء على التحقيق : من عدم مجيء شبهة التأكد في المقام ، كما توهم. 2 ـ أقول : أو إداء الجعل إلى تفويت مرامه باختياره الراجع إلى نقض غرضه ، ويمكن إرجاع كلام « ابن قبة » إليه أيضا. 3 ـ أقول : يعنى اقتضائه له على وجه قابل لمنع المانع في عالم الوجود مع كونها علة تامة للخطاب وتشريع الأحكام من دون منافاة بينهما ، إذ هذا المعنى يناسب كلام الإمامية لا العلية المطلقة. (90)
لم نقل بالمصلحة السلوكية ، وإلا لم يلزم تفويت الملاك من التعبد بالظن ، وسيأتي المراد من المصلحة السلوكية.
الثالث : اختصاص المحذور بصورة انفتاح باب العلم وإمكان الوصول إلى الواقعيات. وأما في صورة الانسداد فلا يلزم محذور التفويت ، بل لابد من التعبد به ، فان المكلف لا يتمكن من استيفاء المصالح في حال انسداد باب العلم إلا بالاحتياط التام ، وليس مبنى الشريعة على الاحتياط في جميع الأحكام ، فالمقدار الذي تصيب الأمارة للواقع يكون خيرا جاء من قبل التعبد بالأمارة ، ولو كان مورد الإصابة أقل قليل ، فان ذلك القليل أيضا كان يفوت لولا التعبد ، فلا يلزم من التعبد إلا الخير. فظهر : أن محذور التفويت إنما يلزم في صورة الانفتاح بناء على الطريقية المحضة على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد مع كونها لازمة الاستيفاء. والتحقيق : أن مع هذه القيود لا يلزم محذور من التعبد بالأمارات الغير العلمية ، فان المراد من انفتاح باب العلم هو إمكان الوصول إلى الواقع بالسؤال عن شخص الإمام ( عليه السلام ) لا فعلية الوصول ، فان انفتاح باب العلم بهذا المعنى مما لا يمكن دعواه ، بل المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول وهو غير فعلية الوصول ، فقد يكون الشخص متمكنا من الوصول إلى الواقع ، و لكن لم يصل إليه لاعتماده على الطرق المفيدة للعلم (1) مع خطأ علمه وكونه من الجهل المركب. ودعوى انسداد باب العلم بالنسبة إلى هذا الشخص ـ لأن المراد من 1 ـ أقول : ما المراد من اعتماده على الطرق المفيدة ؟ فان كان المراد أنه قبل حصول العلم منها مع احتمال الخطأ فيها كان مرخصا في الخوض فيها ، فهو أول شيء ينكر ، وإن كان الفرض انه لا يلتفت إلى مخالفتها أو كان قهري الحصول ، فلا مجال لقياس التعبد بالظن به مع التفاته بخطائه إذ مرجعه إلى تفويت الشارع عليه باختياره ، ولقد فصلنا الكلام فيه في الحاشية الآتية ، فراجع. |
|||
|