فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 91 ـ 105
(91)
العلم هو العلم المصادف لا الأعم منه ومن الجهل المركب ـ ضعيفة ، لما عرفت من أن المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول ، فلا ملازمة بين الانفتاح وبين عدم الوقوع في خلاف الواقع ، وعلى هذا يمكن أن تكون الأمارات الظنية في نظر الشارع كالأسباب المفيدة للعلم التي يعتمد عليها الانسان من حيث الإصابة والخطأ ، أي كانت إصابة هذه الأمارات وخطائها بقدر إصابة العلم وخطائه. فإذا كان الحال هذه ، فلا يلزم محذور من التعبد بالأمارات الغير العلمية ، لعدم تفويت الشارع من التعبد مصلحة على العباد.
    فما يظهر من الشيخ ( قدس سره ) من الاعتراف بالقبح في صورة الانفتاح ليس في محله ، لما عرفت : من إمكان أن تكون الأمارات الغير العلمية من حيث الإصابة والخطأ كالعلم ، بل الطرق المبحوث عنها في المقام كلها طرق عقلائية عرفية عليها يدور رحى معاشهم ومقاصدهم ومعاشراتهم ، وليس فيما بأيدينا من الطرق ما يكون اختراعية شرعية ليس منها عند العقلاء عين ولا أثر ، بل جميعها من الطرق العقلائية ، وتلك الطرق من حيث الإتقان والاستحكام عند العقلاء كالعلم. أي حالها عندهم حال العلم من حيث الإصابة والخطأ ، والشارع قرر العقلاء على الأخذ بها ولم يردع عنها ، لعدم ما يقتضي الردع عنها كما ردع عن القياس مع أنه من الطرق العقلائية ويعتمدون عليه في مقاصدهم الدنيوية ، إلا أن الشارع ردع عنه في الأمور الدينية ، لأن القياس مبنى على استخراج المناط ، وذلك لا يخلو عن إعمال نظر واجتهاد ، وهو في الموضوعات الخارجية قليل الخطأ ، لأن غالب الأمور الخارجية المتشابه تحت جامع واحد و كانت مناطاتها بأيدي العقلاء ، فإعمال النظر وتخريج المناط لا يضر بمقاصدهم ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فان مناطاتها ليست مما تنالها الأفهام ، لأن مبنى الشرع على تفريق المجتمعات وجميع المتفرقات ، فكان القياس كثير الخطأ في الشرعيات ولذلك نهى الشارع من إعماله ، وأين ذلك من سائر الطرق العقلائية الغير المبنية على النظر والاجتهاد ؟ فان الخطأ فيها


(92)
ليس بأكثر من خطأ العلم عند العقلاء ولذا يعتمدون عليها في مقام اعتمادهم على العلم ، والشارع قررهم على ذلك واكتفى بها في إثبات أحكامه.
    ولا يمكن أن يتفاوت الحال في الأمارة من حيث قلة الخطأ والإصابة بين الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية ، فان خبر الثقة لو كان قليل الخطأ في إخباره عن الموضوعات الخارجية فهو قليل الخطأ أيضا في إخباره عن الأحكام الشرعية.
    ومن ذلك يظهر : أن لا وجه لتكثير الأقسام من كون الأمارة غالب المصادفة ودائم المصادفة أو أغلب مصادفة من الأسباب المفيدة للعلم ، فإنه لا فائدة في تكثير الأقسام ، مع أنه كلها من التخرص بالغيب.
    فالمدار على كون الأمارة من حيث الإتقان والاستحكام كالعلم ، كما هو الشأن في ما بيد العقلاء من الطرق والأمارات ، ولا سبيل إلى دعوى كون الأمارة أكثر خطأ من العلم.
    فان قلت : هب انه لا سبيل إلى دعوى العلم بكون الأمارة أكثر خطأ من العلم إلا أنه ليست الأمارة (1) أقرب إلى الخطأ من العلم لكونها في مظنة الوقوع في خلاف الواقع ، وهذا المقدار يكفي في صحة ردع الشارع عن العمل بها ، بل يقبح إمضائها ، فان في الإمضاء مظنة التفويت.
    قلت : أولا : نمنع الأقربية.
    وثانيا : مجرد الأقربية لا تقتضي الردع ، بل لزوم الردع يتوقف على أن تكون الأمارات أكثر خطأ من العلم في الواقع حتى يلزم من الإمضاء تفويت المصالح ، فالأقربية بنفسها ما لم تقتض كثرة الخطأ لا توجب الردع.
    وثالثا : سلمنا أن مجرد الأقربية تقتضي الردع ، إلا أنه إذا لم تكن
1 ـ كذا في نسخة الأصل. والصحيح : « إلا أنها أقرب إلى الخطاء من العلم » ( المصحح ).

(93)
هناك ما يلزم رعايته ، وهو مصلحة التسهيل (1).
    فإنه لا إشكال في أن إمضاء ما بأيديهم من الطرق وعدم ردعهم عن العمل بها يقتضي التوسعة عليهم والتسهيل لهم في عملهم ، وهذه مصلحة نوعية يصح للشارع مراعاتها ، وإن كان رعاية ذلك يوجب تفويت بعض المصالح الشخصية ، وكم من مصلحة نوعية قدمت على المصلحة الشخصية ! وليس ذلك بعزيز الوجود في الشرعيات بل في العرفيات.
    فان قلت : إن كانت مصلحة التسهيل على وجه يلزم من ردع الشارع عن تلك الطرق وقوع العباد في العسر والحرج الرافعين للتكاليف ، فهذا
1 ـ أقول : الذي يقتضيه التحقيق في المقام : هو أن المصلحة القائمة بالعمل إن كانت بمثابة لا يصلح أن يزاحمه مزاحم ، فلا شبهة في أن لازمه الاستيفاء مطلقا عقلا ، فتفويت مثل هذه المصلحة قبيح ولو لمصلحة أخرى ، ولا يقاس حينئذ بصورة فوتها من جهة العلوم الخطائية الحاصلة قهرا ، إذ التفويت الاختياري غير الفوت القهري. وأما إن لم يكن بهذه المثابة فلا مانع في تفويته ولو لمصلحة أخرى ، ولا ينافي ذلك أيضا كون هذه المصلحة غير مزاحم بشيء في مقام تشريع الأحكام الذي هو مضمون خطاباته الواقعية ، إذ عدم المانع في جعل الخطاب لا ينافي وجود المانع في إيصاله إليه أو تشريع خطاب في ظرف عدم وصوله ، غاية الأمر يستكشف من ذلك عدم إرادته للذات بنحو يقتضي حفظ وجودها حتى في ظرف الجهل به بعد الجزم بعدم اقتضاء الخطاب حفظ الوجود حتى في ظرف عدم وصوله إليه ، بل غاية اقتضائه حفظه من قبل المقدمات المحفوظة في الرتبة السابقة عن الجهل به بلا اقتضائه حفظه من قبل المقدمات المحفوظة في الرتبة اللاحقة عن الجهل به ، فمن قبل هذه المقدمات له التفويت ولو لإبقائه على جهله أو ترخيصه في ظرف الجهل.
    ولا ينافي ذلك حكم عقله بلزوم الفحص مع تمكنه منه ، لأن العقل همه تحصيل ما أراده الشارع في مرتبة الذات ، مع أن اقتضاء مصلحة الوجود على الإطلاق يقتضي الكشف عن الإرادة كذلك ، إلا أن يقوم قرينة على الخلاف : من سكوت المولى من إنشائه في ظرف جهله أو ترخيصه في تركه مع فرض حكم عقله بلزوم الفحص أو مهما يستكشف عدم إطلاق في إرادته ، كما هو الشأن في خطابه ، وحينئذ لا يقتضي الخطابات الواقعية إلا حفظ المرام في الرتبة السابقة عن خطابه.
    وأما حفظه في الرتبة اللاحقة عن شكه بخطابه ، فلا يكون المولى بصدد حفظه ولو لمصلحة مزاحمة لاقتضاء المصلحة القائمة بالعمل بقول مطلق ، وعليه فلا قصور في الجمع بين الخطابات الواقعية والأحكام الظاهرية ، من دون لزوم نقض غرض ولا جمع بين الضدين ولا تفويت المصلحة بلا مزاحم ، بل لو فرضنا قصور اقتضاء المصلحة عن حفظ ما قامت به في ظرف الشك بخطابه ، فلا يحتاج جواز تفويت العمل في ظرف الجهل بخطابه إلى مصلحة أخرى جابرة أو مزاحمة ، كما لا يخفى ، فتدبر في المقام ، فإنه من مزال الأقدام.


(94)
يرجع إلى انسداد باب العلم وعدم إمكان الوصول إلى الواقعيات ، لأن المراد من انفتاح باب العلم هو انفتاحه بلا عسر ولا حرج رافع للتكليف ، والكلام إنما هو في صورة انفتاح باب العلم. وإن كانت مصلحة التسهيل على وجه لم يلزم من عدم رعايتها العسر والحرج ، فمثل هذه المصلحة لا يجب رعايتها على وجه تفوت بعض المصالح الشخصية بل لا يجوز ، فالإشكال لا يرتفع بالالتزام بالمصلحة التسهيلة.
    قلت : ليس المراد من مصلحة التسهيل ما يلزم من عدم رعايتها العسر والحرج حتى يرجع ذلك إلى انسداد باب العلم ، بل المراد مجرد التسهيل الذي يناسب الملة السمحة والشريعة السهلة.
    ودعوى : أنه لا يجوز تفويت المصالح الشخصية لأجل هذا المقدار من التسهيل ، مما لا شاهد عليها ، ولا سبيل إلى منع إمكان رعاية الشارع التسهيل النوعي وإن استلزم من ذلك فوات بعض المصالح الشخصية ، فتأمل. (1).
    فتحصل : أنه لا يلزم من التعبد بالأمارات في حال الانفتاح محذور تفويت الملاك فضلا عن حال الانسداد ، فلا ملزم للالتزام بالمصلحة التداركية ، كما التزم به بعض الأعلام.
    وإن أبيت عن ذلك كله ، وقلت : إن في التعبد بالأمارة يلزم تفويت المصلحة ـ إما لكونها أكثر خطأ من العلم ، وإما لكونها أقرب إلى الخطاء ، وإما لكون المصلحة التسهيلية لا يصح رعايتها ـ فلنا أن نلتزم حينئذ بالسببية على وجه تتدارك المصلحة الفائتة على أصول المخطئة من دون أن يلزم التصويب
1 ـ وجهه : هو أن مصلحة التسهيل النوعي وإن كانت من المصالح التي يصح للشارع رعايتها ـ وإن استلزم منها فوت بعض المصالح من بعض آحاد الأشخاص إلا أنه لابد من تدارك ما يفوت من بعض آحاد الأشخاص ، ولو بالوجه الآتي من المصلحة السلوكية ، وعلى ذلك بناء شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة ( منه )

(95)
الباطل. وتفصيل ذلك هو أن سببية الأمارة لحدوث المصلحة تتصور على وجوه ثلاث :
    الأول : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدى تستتبع الحكم على طبقها ، بحيث لا يكون وراء المؤدى حكم في حق من قامت عنده الأمارة ، فتكون الأحكام الواقعية مختصة في حق العالم بها ولا يكون في حق الجاهل بها سوى مؤديات الطرق والأمارات ، فتكون الأحكام الواقعية تابعة لآراء المجتهدين ، وهذا هو « التصويب الأشعري » الذي قامت الضرورة على خلافه. وقد ادعى تواتر الأخبار على أن الأحكام الواقعية يشترك فيها العالم والجاهل أصابها من أصاب وأخطأها من أخطأ.
    الثاني : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدى أيضا أقوى من مصلحة الواقع ، بحيث يكون الحكم الفعلي في حق من قامت عنده الأمارة هو المؤدى ، وإن كان في الواقع أحكام ويشترك فيها العالم والجاهل على طبق المصالح والمفساد النفس الأمرية ، إلا أن قيام الأمارة على الخلاف تكون من قبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانوية اللاحقة للموضوعات الأولية المغيرة لجهة حسنها وقبحها ، نظير الضرر والحرج ، ولابد وأن تكون المصلحة الطارئة بسبب قيام الأمارة أقوى من مصلحة الواقع ، إذ لو كانت مساوية لها كان الحكم هو التخيير بين المؤدى وبين الواقع ، مع أن المفروض أن الحكم الفعلي ليس إلا المؤدى ، وهذا الوجه هو « التصويب المعتزلي » ويتلو الوجه السابق في الفساد والبطلان ، فان الإجماع انعقد على أن الأمارة لا تغير الواقع ولا تمس كرامته بوجه من الوجوه ، وسيأتي ما في دعوى : أن الحكم الفعلي في حق من قامت عنده الأمارة هو مؤدى الأمارة.
    الثالث : أن تكون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدى على ماهما عليه من المصلحة والمفسدة ، من دون أن يحدث في المؤدى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه قبل قيام الأمارة ، بل


(96)
المصلحة إنما تكون في تطرق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها والبناء على أنه هو الواقع بترتيب الآثار المترتبة على الواقع على المؤدى ، وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات على المكلف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافه.
    والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان الوجه الثاني كان مبنيا على سببية الأمارة لحدوث مصلحة في المؤدى غالبة على ما فات من المكلف من مصلحة الواقع على تقدير تخلفها وإدائها إلى غير ما هو الواجب واقعا ، أو غالبة على ما في المؤدى من المفسدة على تقدير إدائها إلى وجوب ما هو حرام واقعا ، وأين هذا من الوجه الثالث ؟ فان المؤدى على الوجه الثالث باق على ما كان عليه ، ولا يحدث فيه مصلحة بسبب قيام الأمارة عليه ، وإنما المصلحة كانت في سلوك الأمارة وأخذها طريقا إلى الواقع من دون أن تمس الأمارة كرامة المصلحة والحكم الواقعي بوجه من الوجوه ، والسببية بهذا المعنى عين الطريقية التي توافق أصول المخطئة ، بل ينبغي عد هذا الوجه من وجوه الرد على التصويب ، بخلاف الوجه الثاني ، فإنه من أحد وجوه التصويب.
    وبالجملة : المصلحة في الوجه الثالث إنما تكون في السلوك وتطبيق العمل على مؤدى الأمارة لا في نفس المؤدى ، ولا بد وأن تكون مصلحة السلوك بمقدار ما فات من المكلف بسبب قيام الأمارة على خلاف الواقع ، وهذا يختلف باختلاف مقدار السلوك ، فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يومها وعمل المكلف على طبقها ثم تبين مخالفة الأمارة للواقع وأن الواجب هو صلاة الظهر ، فان كان انكشاف الخلاف قبل مضى وقت فضيلة الظهر فلا شيء للمكلف ، لأن قيام الأمارة على الخلاف لم توجب ايقاعه على خلاف ما يقتضيه الواقع من المصلحة ، لتمكن المكلف من استيفاء مصلحة الواقع بتمامها وكمالها حتى الفضيلة الوقتية ، وإن كان انكشاف الخلاف بعد انقضاء وقت


(97)
الفضيلة فبمقدار ما فات من المكلف من فضل أول الوقت يجب أن يتدارك ، وإن كان انكشاف الخلاف بعد انقضاء تمام الوقت فاللازم هو تدارك ما فات منه من المصلحة الوقتية ، وإن لم ينكشف الخلاف إلى الأبد ، فالواجب هو تدارك ما فات منه من مصلحة أصل الصلاة. والسر في ذلك : هو أن التدارك إنما يكون بمقدار ما اقتضته الأمارة من ايقاع المكلف على خلاف الواقع وبالقدر الذي سلكه ، ولا موجب لأن يستحق المكلف زائدا عما سلكه.
    فما أفاده الشيخ ( قدس سره ) من التبعيض في الإجزاء قدر ما فات من المكلف من المصلحة الواقعية بسبب سلوك الأمارة ، هو الحق الذي يقتضيه أصول المخطئة.
    وما قيل : من أن الحكم الظاهري إن كان يقتضي الإجزاء فينبغي أن يقتضيه مطلقا وإن انكشف الخلاف في الوقت فضلا عن خارجه ولابد أن تتدارك المصلحة الواقعية بتمامها وكمالها ، وإن لم يقتض الإجزاء فينبغي أن لا يتدارك شيء من المصلحة الواقعية من غير فرق بين فضيلة الوقت وغيرها.
    فضعفه ظاهر مما قدمناه ، لأن المفروض أن الأمارة لم تحدث في المؤدى شيئا من المصلحة ، والمصلحة إنما كانت في السلوك ، وإلا فهي متمحضة في الطريقية ، فالتدارك لابد وأن يكون بمقدار ما تقتضيه من السلوك ، وذلك إنما يكون قبل انكشاف الخلاف.
    نعم : لو قلنا بالوجه الثاني من أن الأمارة تحدث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع ، كان اللازم هو الإجزاء مطلقا (1) فيكون انكشاف الخلاف من قبيل تبدل الموضوع كالمسافر والحاضر ، وظني أن ذلك بمكان من
1 ـ أقول : لو فرض مصلحة المؤدى أيضا بنحو لا يكون إلا جابرة لما فات من الواقع لا مانعا من تأثير مصلحة الواقع بقول مطلق يجرى في مثله لوازم مصلحة السلوكية ، وان كان بينهما فرق بأن شرط مصلحة السلوكية العمل على طبق الأمارة ، بخلاف مصلحة المؤدى حيث لا يعتبر فيه السلوك والعمل ولكن لا تكون إلا جابرة لما فات لا مطلقا ، ولازمه أيضا التفصيل في الإجزاء به عن الواقع بمقدار فوته ليس إلا ، فتدبر.

(98)
الوضوح.
    تنبيه :
    نقل شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) أن العبارة التي صدرت من قلم الشيخ ( قدس سره ) في الوجه الثالث كانت هكذا : « الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمنت الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة ، إلا أن بالعمل على طبق الأمارة والالتزام به في مقام العمل على أنه هو الواقع وترتيب الآثار الشرعية المترتبة عليه واقعا ، يشتمل على مصلحة الخ » ولم يكن في أصل العبارة لفظ « الأمر » وإنما أضافها بعض أصحابه ، وعلى ذلك جرت نسخ الكتاب.
    والإنصاف : أن زيادة لفظ « الأمر » مما لا حاجة إليه لو لم يكن مخلا بالمقصود (1) ولعل نظر من أضافها إلى أن المجعول في باب الأمارات نفس الحجية والطريقية ، وهي من الأحكام الوضعية التي لا تتعلق بعمل المكلف ابتداء ، فليس في البين عمل يمكن اشتماله على المصلحة ، بل لابد وأن تكون المصلحة في نفس الأمر والجعل.
1 ـ أقول : غرض من أضاف « الأمر » في المقام إنما هو إمكان الجعل ولو لمصلحة في التسهيل على العباد ، بلا لزوم الالتزام بمصلحة في عملهم على طبق الأمارة لمصلحة في المؤدى ، أو لمصلحة في سلوكها ، ومن البديهي : أن مصلحة التسهيل إنما كانت قائمة بفعل الشارع ـ وليس ذلك إلا جعل الطريق من دون أن يكون مفاد جعله حكما تكليفيا أم وضعيا منتزعا من التكليف أو أصيلا ـ فالغرض في أمره نفس جعله بانشاء أمر أو إنشاء حكم وضعي ، وعليه : ففي زيادة « الأمر » توسعة في نحو الجعل لا مخل به ، كما لا يخفى على الدقيق.
    ويا ليت ! لم يوجه كلام من زاد « الامر » بما أفاد ، كي يرد عليه إشكاله ، فتدبر.
    وما أفيد أيضا : من عدم معقولية المصلحة في نفس الأمر إنما يصح في الأوامر الغير الطريقية ، وإلا ففي الأوامر الطريقية إنما المصلحة في نفسها في فرض مخالفتها ، وفي هذا الفرض لا يكون مفادها إلا ترخيصا على خلاف الواقع. وقيام المصلحة في نفس الترخيص على خلاف المرام بملاحظة الصبر على المكروه إمكانه كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار.


(99)
    بخلاف الأحكام التكليفية ، فإنه لما كان الأمر يتعلق بعمل المكلف ابتداء ، فيمكن أن تكون المصلحة في العمل.
    هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنه مضافا إلى ما تقدم في مباحث القطع : من أنه لا معنى لاشتمال نفس الأمر على المصلحة.
    يرد عليه : أنه إن قلنا : بأن الأحكام الوضعية منتزعة عن الأحكام التكليفية ، كما عليه الشيخ ( قدس سره ) فالحكم التكليفي الذي ينتزع عنه الحجية والطريقية لابد وأن يتعلق بعمل المكلف ، وذلك العمل هو الذي يشتمل على المصلحة السلوكية بالبيان المتقدم.
    وإن قلنا : إن الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل ـ كما هو الحق عندنا على ما سيأتي بيانه ـ فالمصلحة إنما تكون في المجعول لا في نفس الجعل ، بداهة أن النجاسة أو الطهارة المجعولة هي التي على المفسدة والمصلحة ، لا أن المصلحة في نفس جعل النجاسة والطهارة ، وكذا الحال في سائر الأحكام الوضعية.
    فالإنصاف : أن إضافة لفظ « الأمر » في العبارة كان بلا موجب ، بل لعله يخل بما هو المقصود : من كون المصلحة في السلوك وتطبيق العمل على المؤدى.
    هذا تمام الكلام فيما يلزم من التعبد بالأمارات والأصول من المحذور الملاكي ، وقد عرفت : أنه لا محذور فيه أصلا.
    وأما المحذور الخطابي فحاصله : أنه يلزم اجتماع حكمين متضادين أو متناقضين من التعبد بذلك عند مخالفة الأمارة أو الأصل للواقع وإدائها إلى حرمة ما يكون واجبا أو عدم وجوب ما يكون واجبا.
    وقد يقال : بلزوم اجتماع المثلين عند مصادفة الأمارة أو الأصل للواقع وإدائها إلى وجوب ما يكون واجبا ، فلا يختص الإشكال بصورة المخالفة ، ولكن قد تقدم في بعض مباحث القطع : من أن لزوم اجتماع المثلين ليس محذورا ، فان الاجتماع يوجب التأكد ، ويكون الوجوب المجامع لمثله آكد


(100)
وأقوى مناطا ، (1) فلو كان الوجوب الواقعي ذا مراتب عشر وأدت الأمارة إلى وجوبه وقلنا : بأن الأمارة سبب لحدوث حكم على طبق مؤداها ـ كما هو مبنى الإشكال ـ وفرضنا أن الوجوب الجائي من قبل الأمارة أيضا ذا مراتب عشر ، فيتأكد الوجوب ويثبت في المؤدى وجوب ذو مراتب عشرين ، ولا محذور في ذلك ، فاشكال اجتماع المثلين ليس بشئ.
    وإنما الإشكال لزوم اجتماع الضدين والنقيضين من الإرادة والكراهة والوجوب والحرمة ، وهذا الإشكال يرد حتى على مبنى « الأشاعرة » من عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. وقد تفصى عن الأشكال بوجوه :
    الوجه الأول : ما هو ظاهر كلام الشيخ ( قدس سره ) في أول مبحث التعادل والتراجيح ـ على بعض النسخ ـ وحاصله : أن الموضوع في الحكم الظاهري مغاير لموضوع الحكم الواقعي ، فان موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ، والحكم الواقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك ، واختلاف الموضوع يوجب رفع التضاد والتناقض من البين.
    وفيه : أن الحكم الواقعي وإن لم يؤخذ في موضوعه الشك ، إلا أنه محفوظ في حالة الشك ولو بنتيجة الإطلاق ، كانحفاظه في حالة العلم ، فان الحكم الواقعي إذا كان مقيدا بغير صورة الشك فيه ـ ولو بنتيجة التقييد ـ رجع ذلك إلى التصويب الباطل ، ولم يكن وجه لتسمية مؤديات الأمارات والأصول بالأحكام الظاهرية ، بل كانت من الأحكام الواقعية ، إذ المفروض
1 ـ أقول : قد تقدم منا أيضا بأن تأكد الحكم باجتماع الملاكين إنما يصح في العناوين العرضية ، وإلا فلو كان أحد العنوانين في طول حكم العام بعنوان آخر يستحيل التأكد ، كيف ! ومرجع التأكد إلى وحدة الوجود ، ومرجع الطولية المزبورة إلى تخلل « الفاء » بينهما الموجب لترتب أحدهما على الآخر ، ولازم تخلل « الفاء » بينهما انفكاك الوجودين كل منهما عن الآخر وكون أحدهما موضوع غيره ، وفي مثله كيف يتصور التأكد ؟.

(101)
أنه لا حكم في الواقع إلا المؤديات.
    والحاصل : أن الإشكال إنما هو بعد فرض انحفاظ الحكم الواقعي في حالة الشك ، فيلزم اجتماع الضدين في تلك الحالة ، هذا مع أن في باب الأمارات لم يؤخذ الشك في موضوعها وإنما الشك اخذ في موضوع الأصول ، فهذا الوجه ضعيف غايته.
    ويتلوه في الضعف الوجه الثاني ( من وجوه الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ) وهو اختلاف المحمول ، فان الحكم في أحدهما واقعي وفي الآخر ظاهري ، ولا منافاة بينهما.
    وأنت خبير ! بأن الكلام إنما هو في تصوير الحكم الظاهري ، وأنه كيف يجتمع مع الحكم الواقعي على وجه لا يلزم منه اجتماع الضدين ، فكيف يجمع بينهما بما هو محل الكلام ؟.
    الوجه الثالث : ما أفاده بعض الأساطين من حمل الأحكام الواقعية على الشأنية أو الإنشائية ـ على اختلاف في تعبيراته ـ والأحكام الظاهرية على الفعلية.
    والجمع بهذا الوجه بكلا تعبيريه مما لا يستقيم.
    أما الشأنية : فان كان المراد منها أنه في مورد قيام الأمارة على الخلاف ليس في الواقع إلا شأنية الحكم ومجرد ثبوت المقتضى فتكون الأحكام الواقعية اقتضائية محضة ، فهو بمكان من الضعف ، فإنه إن رجع إلى أن في مورد الأمارة ليس في الواقع أحكام حقيقية بل مجرد الملاكات وقيام الأمارة على خلافها مانع عن تأثيرها وتشريع الأحكام على طبقها ، فهذا يرجع إلى التصويب الباطل ، لأنه يلزم خلو الواقع عن الحكم.
    وإن رجع إلى أن في مورد قيام الأمارة على الخلاف يكون في الواقع


(102)
أحكام اقتضائية ، فنحن لا نتعقل للأحكام الاقتضائية معنى ، لأن الإهمال الثبوتي لا يعقل في الأحكام بالنسبة إلى الانقسامات السابقة ولا بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة ، بل الحكم بالنسبة إلى جميع الانقسامات إما مطلق ، أو مقيد بالإطلاق والتقييد اللحاظي أو بنتيجة الإطلاق والتقييد ، و من جملة الانقسامات اللاحقة قيام الأمارة على الخلاف.
    والحكم الواقعي المترتب على موضوعه الواقعي ، إما أن يكون مطلقا بالنسبة إلى قيام الأمارة على الخلاف ، وإما أن يكون مقيدا بعدم قيام الأمارة على ذلك. فعلى الأول : يلزم التضاد بين الحكم الواقعي والحكم الجائي من قبل الأمارة. وعلى الثاني : يلزم التصويب.
    ولا يعقل إنشاء الحكم على طبق المقتضى والملاك مهملا غير ملحوظ فيه قيام الأمارة على الخلاف وعدم قيام الأمارة ، حتى يكون الحكم الاقتضائي حكما بحيال ذاته ، مع أنه لا أثر لإنشاء الحكم على هذا الوجه ، فان
1 ـ أقول : لو ترى زماننا هذا : من بنائهم على التفكيك بين جعل القانون وبين إجرائه وجعلهم مقام التقنين غير مقام الإجراء وأنه ربما يؤدى المصلحة على جعل القانون بنحو الكلية على موضوع مع عدم قيام المصلحة في إجرائه ـ ولو لعدم استعداد الرعية على امتثال هذا القانون ـ لا يبقى لك مجال إنكار التفكيك بين جعل القانون وبين إجرائه ، وترى في هذه الصورة أن القانون على كليته باقية ولا يكون المصلحة في إجرائه ، وحينئذ لا يكون المراد من القانون المجعول الا مجرد إنشائه على طبق المصلحة القائمة بموضوعه مع خلوه من الإرادة الفعلية ولو للتسهيل على الرعية ، وإلا فيستحيل تفكيك القوة الإجرائية عن قوة جعل القانون على موضوعه في ظرف وجود موضوعه.
    وتوهم : رجوع شرائط الإجراء إلى شرائط موضوع القانون ، غلط فاحش ، لأن من شرائط سهولة الامتثال علمهم ، ومثل هذا الشرط من لوازم موافقة القانون لا من مصححات نفسه.
    وبالجملة : من تأمل في هذا التفكيك المتعارف في زماننا ليس له إنكار الحكم الإنشائي وإرجاعه الحكم طرأ إلى جعل حكم حقيقي لموضوع مخصوص المستتبع لعدم التفكيك بين القوة المقننة والإجرائية عند وجود موضوع القانون ، وحينئذ فله أيضا أن يدعى كفاية هذا المقدار لاشتراك الحكم بين العالم والجاهل بالأخبار ، إذ مثل هذا القانون له نحو اعتبار عقلائي قابل لأن يصير حكما فعليا بتحقق مقدمات إجرائه ، كما لا يخفى.
    ومن هذا البيان أيضا ظهر : أن الغرض من الأحكام القانونية ليس إنشاء حكم حقيقي مهملة من الحيثيات السابقة واللاحقة ، كي يرد عليه ما أفيد.


(103)
قيام الأمارة إما أن يوجب ملاكا مزاحما لملاك الواقع وأقوى منه ، وإما أن لا يوجب ، فعلى الأول : يقتضي إنشاء الحكم المقيد. وعلى الثاني : يقتضي إنشاء الحكم المطلق ، فأي أثر لإنشاء الحكم الاقتضائي لو سلم إمكانه ؟ (1) وإن كان المراد من الشأنية الحكم الإنشائي ، ليرجع التعبيران إلى أمر واحد ، ففيه : أنه ليس في الواقع أحكام إنشائية ، بل الذي يكون هو إنشاء الأحكام ، وهو عبارة عن تشريعها وجعلها على موضوعاتها المقدرة وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط على نهج القضايا الحقيقة ـ كما حققناه في الواجب المشروط بما لا مزيد عليه ـ وفعلية الحكم عبارة عن تحقق موضوعه بجميع ما اعتبر فيه من القيود والشرائط وعدم الموانع ، ولا نعقل لفعلية الحكم معنى غير ذلك ، والكلام في المقام إنما هو بعد فعلية الحكم بتحقق موضوعه.
    ودعوى : أن الحكم الواقعي في مورد الأمارة لا يكون فعليا ، واضحة الفساد.
    فإنه لا يمكن أن لا يكون الحكم فعليا إلا إذا اخذ في موضوعه عدم قيام الأمارة على الخلاف بحيث يكون قيدا في ذلك ، ومعه لا يكون في الواقع حكم عند قيام الأمارة على الخلاف ، لعدم تحقق قيده ، فيعود محذور التصويب.
    والحاصل : أن في الواقع ونفس الأمر ، إما أن يكون الحكم الواقعي مقيدا بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، وإما أن لا يكون مقيدا ، فان كان مقيدا يلزم التصويب ، وإن لم يكن مقيدا يلزم أن يكون فعليا عند قيام الأمارة على الخلاف إذا تحقق موضوعه بما له من القيود ـ كما هو محل الكلام ـ فان الكلام
1 ـ أقول : يكفي لمن التزم بالتضاد بين الحكم الواقعي الفعلي والحكم الظاهري جمعه بهذه الحيلة بينهما مع فراره عن التصويب الباطل : من عدم حكم مجعول في حق الجاهل أصلا ، بدعواه كفاية جعل القانون على وفق المصلحة الواقعية وإن لم يقتض المصلحة في إجرائه في حق الجاهل ، ولقد عرفت : إمكان التفكيك بين المرتبتين لدى العقلاء ، خصوصا في أمثال زماننا.

(104)
في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إنما هو بعد تحقق موضوع الحكم الواقعي (1) بجميع ما اعتبر فيه من القيود.
    ولا يعقل أن يقيد فعلية الحكم بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، فان أخذ ذلك قيدا إنما يمكن في مرحلة إنشاء الحكم وتشريعه ، بمعنى أنه ينشأ الحكم على ما لا تقوم الأمارة على الخلاف (2) فيكون الموضوع الذي قامت الأمارة على خلافه مما لم ينشأ في حقه حكم ، وهذا عين التصويب.
    فظهر : أنه لا معنى لحمل الحكم الواقعي على الإنشائي ، لأنه ليس لنا في الواقع حكم إنشائي في مقابل الحكم الفعلي ، بل الذي يكون هو إنشاء الحكم على موضوعه ، فعند تحقق ذلك الموضوع يكون الحكم فعليا لا محالة ، ومع عدم تحققه لا يكون في الواقع حكم أصلا (3) فلو فرض أن وجوب الحج قيد في الواقع بمن لم تقم عنده الأمارة على الخلاف ، فالذي قامت عنده الأمارة على الخلاف لم يكلف بالحج ولم ينشأ في حقه التكليف بالحج ، ويكون حاله حال غير البالغ أو غير المستطيع.
    وبالجملة : في مورد قيام الأمارة على الخلاف ، إما أن يكون الموضوع للحكم الواقعي متحققا ، وإما أن لا يكون ، وعلى الأول : يلزم الفعلية ويعود إشكال التضاد. وعلى الثاني : لا حكم في الواقع حتى نحتاج إلى الجواب ، مع أن الذي تقتضيه أصول المخطئة : هو أن الأحكام الواقعية بما هي عليها من المصالح مشتركة بين العالم والجاهل ، والجهل إنما يكون عذرا فقط في ما إذا لم
1 ـ يمكن أن يقال : إن فرض تحقق الموضوع إنما نحتاج إليه في الشبهات الموضوعية ، وأما الشبهات الحكمية فالتضاد بين الحكمين حاصل ولو لم يتحقق الموضوع خارجا ( منه ).
2 ـ أقول : بل ينشئ القانون حتى على من قامت الأمارة على خلافه ، ولكن لا يكون حينئذ موقع إجرائه ، وإن هذا المقدار لا يوجب سلب الحكمية عنه مطلقا.
3 ـ أقول : كيف لا يكون حكم أصلا مع أن العقلاء يرتبون بمرتبة جعل القانون أثر وجود الحكم ببعض مراتبه وإن لم يكن تاما إلا بضم مصلحة إجرائه به ، كما لا يخفى.


(105)
يكن عن تقصير ، (1) فالتصرف في الأحكام الواقعية بأي تصرف ينافي ما عليه أصول المخطئة ، فهذه الوجوه مما لا تحسم مادة الإشكال.
    والتحقيق في الجواب هو أن يقال : إن الموارد التي توهم وقوع التضاد بين الأحكام الظاهرية والواقعية على أنحاء ثلاثة :
    أحدها : موارد قيام الطرق والأمارات المعتبرة في الخلاف.
    ثانيها : موارد مخالفة الأصول المحرزة للواقع.
    ثالثها : موارد تخلف الأصول الغير المحرزة عن الواقع.
    والتفصي عن الإشكال يختلف حسب اختلاف المجعول في هذه الموارد الثلاثة ، ويختص كل منها بجواب يخصه ، فينبغي إفراد كل منها بالبحث.
    فنقول : أما في باب الطرق والأمارات فليس المجعول فيها حكما تكليفيا حتى يتوهم التضاد بينه وبين الحكم الواقعي ، بناء على ما هو الحق عندنا : من أن الحجية والطريقية من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ومما تنالها يد الوضع والرفع ابتداء ، ما عدا الجزئية والشرطية والمانعية والسببية ـ على ما أوضحناه بما لا مزيد عليه في بعض مباحث الاستصحاب ـ خلافا للشيخ ( قدس سره ) حيث ذهب إلى أن الأحكام الوضعية كلها منتزعة عن الأحكام التكليفية التي تكون في موردها.
    والإنصاف : أنه لو أمكن في بعض الأحكام الوضعية تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الحكم الوضعي منه ، ففي بعضها الآخر لا يمكن تصويره ، فان الزوجية مثلا من الأحكام الوضعية ويستتبعها جملة من الأحكام التكليفية ، كوجوب
1 ـ أقول : هذا مسلم ، إنما الكلام فيما هو مشترك هل هو مرتبة إجرائه أو مرتبة قانونيته ، لا مجال للأول ، فلا محيص من الالتزام بالآخر ، كما لا يخفى.
    وبالجملة نقول : إنه لا مناص لرفع هذه الغائلة الا برفع التضاد بين الأحكام الفعلية الواقعية والطارية ، وإلا فعلى فرض التضاد لا محيص إلا من هذا الجمع بين مرتبة القانون ومرحلة إجرائه من دون لزوم محذور آخر ، ولا تصويب وأمثاله ، فتدبر.
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس