فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 106 ـ 120
(106)
الإنفاق على الزوجة ، وحرمة تزويج الغير لها ، ووجوب القسم بينها وبين غيرها ، وحرمة ترك وطئها أكثر من أربعة أشهر ، ووجوب المضاجعة ، وحرمة العزل على القول به ، وغير ذلك من الأحكام المترتبة على الزوجية. وقد يتخلف بعض هذه الأحكام مع انحفاظ الزوجية ـ كوجوب الإنفاق عند النشوز ـ فأي حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منه ؟ وأي جامع بين هذه الأحكام التكليفية ليكون منشأ لانتزاع الزوجية ؟ وهكذا غير الزوجية من الأحكام الوضعية المستتبعة لجملة من الأحكام التكليفية مع تخلف بعضها في بعض الموارد ، كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد والملكية والرقية والولاية والحرية وغير ذلك من الأمور الاعتبارية العرفية ، فلا محيص عن القول بتأصل مثل هذه الأحكام الوضعية في الجعل كالأحكام التكليفية.
    ومنها : الطريقية والوسطية في الإثبات ، فإنها بنفسها مما تنالها يد الجعل ولو إمضاء ، لما تقدمت الإشارة إليه : من أنه ليس فيما بأيدينا من الطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وإثبات مقاصدهم ، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع (1) وليس
1 ـ أقول : بعد تسليم أن للشارع ليس جعل طريق في مورد من الموارد إلا بنحو الإمضاء للطرق العقلائية حتى في مثل البينة العادلة وأصالة صحة عمل الغير وسوق المسلم وأمثالها ، مع أنه ليس كذلك جزما ـ خصوصا في مثل السوق وأمثاله ـ نقول : إنه بعد البناء على تنزيل العقلاء احتمال الخلاف منزلة العدم ، فلا محيص من الالتزام بمثل هذا التنزيل من الشارع بإمضائه لهم في مقام الجعل ، وحينئذ لنا أن نقول : أن تنزيل العقلاء هذا الاحتمال منزلة العدم لابد وأن يكون بلحاظ بنائهم على العمل به لا بشيء آخر ، كيف ! وتنزيل وجود شيء منزلة عدمه قابل لأن يكون بلحاظ جهات أخرى غير عملهم ، نظير تشبيه شيء بشيء ، إذ هو قابل لأن يكون وجه الشبه أمور شتى التي منها البناء في مقام العمل ، فإذا كان الأمر كذلك فلابد أن يكون نظرهم في هذا التنزيل إلى البناء المزبور لا بشيء آخر ، بل لنا أن نقول :
    إن تنزيلهم المزبور الذي هو مدار حجية الطرق لديهم لابد وأن يكون بلحاظ بنائهم على العمل بها لا نفس العمل ، كيف ! وهذه الطرق حجة لديهم ولو لم يعملوا بها ، فلو كان قوام حجيتها لديهم التنزيل المزبور بلحاظ نفس العمل ، يلزم اختصاص حجيتها بصورة عملهم ، وليس كذلك جزما ، فيكشف أن التنزيل بلحاظ أمر مقتضى لعملهم بها لا نفس عملهم ، وليس ذلك إلا بنائهم والتزامهم عند أنفسهم بالعمل بها ، ومثل هذا


(107)
اعتمادهم عليها من باب الاحتياط ورجاء إدراك الواقع ، لأنه ربما يكون طرف الاحتمال تلف النفوس والأموال وهتك الأعراض ، فلو كان اعتمادهم على الطرق لمحض رجاء إدراك الواقع لكان الاحتياط بعدم الاعتماد عليها في مثل هذه الموارد مما يكون خطر المخالفة عظيما ، فاقدامهم على العمل بالطرق والأمارات والاعتماد عليها مع هذا الاحتمال ليس إلا لمكان تنزيل احتمال المخالفة منزلة العدم وكأنه لم يكن مع وجوده تكوينا.
    فلا يقال : لعل اعتمادهم عليها لمكان حصول العلم لهم منها ، فان ذلك مما يكذبه الوجدان ، لوضوح وجود احتمال مخالفة الطريق للواقع في أنفسهم ومع ذلك يعتمدون عليها في إثبات مقاصدهم ، لمكان أن الطرق عندهم من حيث الإتقان والاستحكام كالأسباب المفيدة للعلم ، وليس عند العقلاء جعل وتعبد وتشريع ، حتى يقال : إن المجعول عندهم ما يكون منشأ لانتزاع هذا الاعتبار والحجية ، بل نفس الحجية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار من دون أن يكون هناك ما يكون منشأ للانتزاع
البناء والالتزام من سنخ إرادة كلية على شيء في أنفسهم بنحو قابل للتخلف عنه في مقام العمل ـ كنذورهم ـ وبعد ما أمضى الشارع هذا التنزيل فلابد وأن يكون نظره أيضا في هذا التنزيل إلى إرادته لعملهم دون غيره ، و عليه فهذا التنزيل من الشارع مستتبع لهذه الإرادة التشريعية ، ولا نعنى من انتهاء أمره في أمثال هذا الجعل إلى الحكم التكليفي إلا هذا.
    فان قلت : إن مثل هذه الإرادة والبناء مأخوذ في مرحلة الامتثال وإرشاد إلى حكم العقل بموافقة الحجة ، ولا يمكن أن يكون منشأ اعتبار الحجة.
    قلت : بعد ما لا يكون منشأ لاعتبار الحجة غير التنزيل المزبور واحتياج التنزيل إلى كون النظر إلى مثل هذا البناء والإرادة ، فلا محيص من كون البناء المزبور مصحح أصل الحجة لا من تبعاتها فارغا عن ثبوتها ، وبعد ما كان كذلك ، فلا محيص من كون رتبة هذه الإرادة والبناء الكلي سابقا عن التنزيل المزبور ، لأنه مصححه ، وبعد ذلك نسأل : بأن هذه الإرادة والبناء إرادة حقيقية ثابتة في فرض الموافقة ومخالفة الطريق للواقع ؟ أو هو من الإرادات الطريقية المنحلة إلى الإرادة عند الموافقة والترخيص عند المخالفة ؟ لا محيص للأول ، وإلا لازمه الالتزام بسببية الإمارة ، فلابد وأن يكون من الثاني. وعلى أي حال : يكون المنجز هذه الإرادة الطريقية ، لا صرف التنزيل المزبور ، كما أنه بناء عليه يبقى شبهة التضاد بحاله ، كما لا يخفى.


(108)
من حكم تكليفي.
    فالأقوى : أن الحجية والوسطية في الإثبات بنفسها مما تنالها يد الجعل بتتميم كشفها ، فإنه لابد في الأمارة من أن يكون لها جهة كشف عن الواقع كشفا ناقصا ، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بالقاء احتمال الخلاف في عالم التشريع ، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالم التكوين ، فكأن الشارع أوجد في عالم التشريع فردا من العلم ، وجعل الطريق محرزا للواقع كالعلم بتتميم نقض كشفه وإحرازه ، ولذا قامت الطرق والأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، كما تقدم تفصيله.
    وإذ قد عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأن المجعول فيها نفس الوسطية في الإثبات ، ظهر لك : أنه ليس في باب الطرق والأمارات حكم حتى ينافي الواقعي ليقع في إشكال التضاد أو التصويب ، بل ليس حال الأمارة المخالفة إلا كحال العلم المخالف ، فلا يكون في البين إلا الحكم الواقعي فقط مطلقا أصاب الطريق الواقع أو أخطأ ، فإنه عند الإصابة يكون المؤدى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيز الواقع وصحة المؤاخذة عليه ، وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذورية وعدم صحة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول. هذا بناء على ما هو المختار من تأصل الحجية والطريقية في الجعل.
    وأما بناء على مسلك الشيخ ( قدس سره ) من أن المجعول هو منشأ الانتزاع ، فيتوجه حينئذ إشكال التضاد ولابد من دفعه ، وينبغي أولا تصوير ما يصح أن يكون منشأ لانتزاع الحجية.
    والإنصاف : أن تصويره في غاية الإشكال ، لأن منشأ انتزاع الحجية لا بد وأن يكون أمرا لا دخل له بإطاعة المكلف وعصيانه ، إذ الحجية محفوظة في كلا الحالين ولا دخل لعمل المكلف في ذلك ، فان المكلف عمل أو لم يعمل يكون الخبر الواحد حجة ، فلابد وأن يكون منشأ انتزاع الحجية حكما تكليفيا


(109)
مستمرا لا يسقط بعصيانه في زمان لتكون الحجية مستمرة باستمراره.
    وأحسن ما يمكن أن يقال ـ في منشأ انتزاع الحجية ـ هو ما ذكره الشيخ ( قدس سره ) في دليل الانسداد عند نقل كلام « المحقق صاحب الحاشية » في الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما في بيان أن مقدمات دليل الانسداد لا تثبت إلا اعتبار الظن بالطريق لا في نفس الحكم الفرعي.
    قال ( قدس سره ) : في رد هذا الوجه « فيه : أن تفريغ الذمة عما اشتغلت به ، إما بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية ، وإما بفعل ما حكم حكما جعليا بأنه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة » انتهى موضع الحاجة من كلامه.
    وله ( قدس سره ) في هذا المقام عبارة أخرى تقرب من هذه ، وغرضه من ذلك : هو أن المجعول في باب الطرق والأمارات إنما هو الحكم بأن المؤدى هو الواقع النفس الأمري وأنه هو ، فليس المجعول فيها أمرا مغايرا للواقع ، بل المجعول فيها هو الحكم بأن المؤدى هو الواقع ، فان أصابت الأمارة الواقع فهو ، و إن أخطأت يتبين أنه ليس المؤدى هو الواقع ، وعلى كلا التقديرين : لا يكون في البين إلا الحكم الواقعي.
    وبالجملة : حيث كان المؤدى هو الوجوب أو الحرمة الواقعية فيكون المجعول هو وجوب المؤدى أو حرمته على أنه هو الواقع ، فليس ما وراء الواقع حكما آخر حتى يقع التضاد بينهما ، ولا إشكال في أنه للشارع جعل الهوهوية والحكم بأن المؤدى هو الواقع في صورة الجهل به والشك فيه.
    وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة يقرب هذا الوجه ويرتضيه على تقدير عدم القول بتأصل الحجية في الجعل ، ولكن في هذه الدورة ضعفه بما حاصله : أن الحكم بأن المؤدى هو الواقع لا يمكن أن يكون إخبارا ، بل لابد وأن يكون إنشاء ، وإنشاء الحكم بالهوهوية وكون المؤدى هو الواقع لا يصح إلا باعطاء صفة الوجوب أو الحرمة للمؤدى ، فيعود إشكال التضاد عند


(110)
مخالفة الأمارة للواقع.
    وبالجملة : لا نرى في دفع محذور التضاد عند مخالفة الطرق والأمارات للواقع أقرب من القول بتأصلها في الجعل (1) هذا كله في باب الطرق و الأمارات.
    وأما الأصول المحرزة : فالأمر فيها أشكل ، وأشكل منها الأصول الغير المحرزة ـ كأصالة الحل والبراءة ـ فان الأصول بأسرها فاقدة للطريقية ، لأخذ الشك في موضوعها ، والشك ليس فيه جهة إرائة وكشف عن الواقع ، حتى يقال : إن المجعول فيها تتميم الكشف ، فلابد وأن يكون في مورد الأصول حكم مجعول شرعي ، ويلزمه التضاد بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفة الأصل له.
    هذا ، ولكن الخطب في الأصول التنزيلية هين ، لأن المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر و جعله كالعدم (2) ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على
1 ـ أقول : علم الله ! لو خليت الاعتساف ومشيت على وفق الإنصاف وتأملت فيما ذكرناه ـ في الحاشية السابقة بطولها ـ ترى عدم البد من الالتزام بلزوم التضاد ظاهرا بين الحكم الواقعي والظاهري ، وعدم تمامية ما أفيد في التخلص عنه.
    ثم لئن أغمض عما ذكرنا وقلنا برفع التضاد بالتقريب المزبور ، لكن يبقى في البين شبهة نقض الغرض بالتقريب الذي بيناه في شرح كلام « ابن قبة » ولا مجال حينئذ لقياس الطرق المجعولة باليقين الحاصل على خلاف الواقع ، إذ في أمثال اليقين انتقاض قهري ، بخلاف الطرق ، فإن في جعلها على خلاف مرامه نقض لغرضه بالاختيار ، وهو محال.
    وفي هذه الشبهة لا فرق بين أن يكون المجعول حكما تكليفيا أم وضعيا. نعم : مثل هذا المقرر لما لم يتعرض من الأول مثل هذه الشبهة وقصر النظر بشبهة التضاد بين الأحكام ، كان له الاقتصار في دفع شبهته بما أفاد ، وإلا فلو فتح البصر ونظر إلى هذه الشبهة أيضا لا محيص له إلا من الالتزام برفع اليد عن فعلية الواقع بمرتبة لا يلزم على خلافه نقض غرض ، ولا نعنى من مراتب الحكم أيضا إلا هذا ، كما لا يخفى ، فتدبر.
2 ـ أقول : لا نفهم من هذا التعبير معنى محصلا ، إذ البناء العملي فعل المكلف ، ولا معنى لجعله ، وأنما المجعول هو الأمر به الذي مرجعه إلى الأمر بالمعاملة مع المشكوك معاملة الواقع ، كما هو مفاد هيئة « لا تنقض » الراجع إلى الأمر بالإبقاء في مقام العمل ، وحينئذ مرجع الكلام إلى مفاد هذا الأمر عند المخالفة مع الإرادة


(111)
وجه الطريقية ، لكونها متكفلة للجهة الثالثة التي يكون القطع واجدا لها ، وهو الجري على وفق القطع وترتيب آثار المقطوع عملا ، كما أن الأمارة تكون واجدة للجهة الثانية ، وهي جهة الإحراز والكاشفية ـ على ما تقدم بيانه ، فالمجعول في الأصول التنزيلية ليس أمرا مغايرا للواقع ، بل الجعل الشرعي إنما تعلق بالجري العملي على المؤدى على أنه هو الواقع ، كما يرشد إليه قوله ( عليه السلام ) في بعض أخبار قاعدة التجاوز « بلى قد ركعت » (1) فان كان المؤدى هو الواقع فهو ، وإلا كان الجري العملي واقعا في غير محله من دون أن يكون قد تعلق بالمؤدى حكم على خلاف ما هو عليه.
    وبالجملة : الهوهوية التي بنى عليها الشيخ ( قدس سره ) في باب الأمارات ونحن أبطلناها ، هي التي تكون مجعولة في باب الأصول التنزيلية.
    نعم : يتوجه على الشيخ ( قدس سره ) إشكال الفرق بين الأمارات والأصول ، فإنه على هذا يكون المجعول في كل منهما هو الهوهوية ، فكيف صارت مثبتات الأمارة حجة دون مثبتات الأصول مع اتحاد المجعول فيها ؟ و لكن نحن في فسحة عن هذا الإشكال ، لما عرفت : من أن المجعول في باب الأمارات غير المجعول في باب الأصول ، ومن اجل اختلاف المجعول صارت مثبتات الأمارات حجة دون مثبتات الأصول ، كما سيأتي في محله.
    وبالجملة : ليس في الأصول التنزيلية حكم مخالف لحكم الواقع ، بل
الواقعية ، والتعبير بالهوهوية وإن كان تعبيرا عرفانيا لطيفا ، لكن لا يفهم له معنى في المقام إلا الأمر بالبناء على وجود الواقع المشكوك ، وهذا الأمر بعدما كان موجودا عند المخالفة يقع الكلام في الجمع بينهما.
    نعم : لئن فرضنا المجعول نفس البناء على وجود الواقع عملا كان لما أفيد وجه ، إذ حينئذ أمكن دعوى أن شأن التكليف هذا البناء الموجب لوجود الواقع عند المخالفة بلا جعل عند المخالفة. لكن هذا المعنى يستحيل أن يجئ تحت الجعل ، كما عرفت.
    وتوهم أن شأن العقلاء البناء المزبور والشارع أمضاهم على بنائهم ، قد عرفت تفصيله وأنه لا ينتج شيئا في المقام ، فراجع.
1 ـ الوسائل : الباب 13 من أبواب الركوع الحديث 3


(112)
إذا كان المجعول فيها هو البناء العملي على أن المؤدى هو الواقع ، فلا يكون ما وراء الواقع حكم آخر حتى يناقضه ويضاده.
    وتوهم : أن الذي ذكرناه في تضعيف ما أفاد الشيخ ( قدس سره ) من جعل الهوهوية في باب الأمارات يجرى بعينه في باب الأصول المحرزة ، فاسد ، فان الهوهوية المجعولة في باب الأصول المحرزة هي الهوهوية العملية ، أي البناء العملي على كون المؤدى هو الواقع ، وهي لا تستلزم جعل حكم في المؤدى على خلاف ما هو عليه من الحكم ، بخلاف الهوهوية في الأمارة فإنها إما أن تكون إخبارا ، وإما أن تكون إنشاء حكم في مؤدى الأمارة ، فان المجعول في باب الأمارات ليس هو البناء العملي ، فلو كان في المؤدى حكم فلابد وأن يكون مضادا لما عليه من الحكم الواقعي ، فتأمل.
    وأما الأصول الغير المحرزة ـ كأصالة الاحتياط والحل والبراءة ـ فقد عرفت : أن الأمر فيها أشكل ، فان المجعول فيها ليس الهوهوية والجري العملي على بقاء الواقع ، بل مجرد البناء على أحد طرفي الشك من دون إلقاء الطرف الآخر والبناء على عدمه (1) بل مع حفظ الشك يحكم على أحد طرفيه بالوضع أو الرفع ، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط والحلية المجعولة في أصالة الحل تناقض الحلية والحرمة الواقعية على تقدير تخلف الأصل عن الواقع ، بداهة أن المنع عن الاقتحام في الشيء ( كما هو مفاد أصالة الاحتياط ) أو الرخصة فيه ( كما هو مفاد أصالة الحل ) ينافي الجواز في الأول ، والمنع في الثاني.
    وقد تصدى بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بين الحكمين باختلاف الرتبة ، فان رتبة الحكم الظاهري رتبة للشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم الواقعي متأخر في الرتبة عن نفس وجوده ، فيكون الحكم الظاهري في
1 ـ أقول : لم ما تقول هنا أيضا : إن المجعول هو البناء العملي على أحد طرفي الشك بأنه واقع ؟ الملازم لعدم جعل حكم عند المخالفة أيضا.

(113)
طول الحكم الواقعي ، ولا تضاد بين المختلفين في الرتبة ، لأن وحدة الرتبة من جملة الوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضاد.
    هذا ، وأنت خبير بفساد هذا التوهم ، فان الحكم الظاهري وإن لم يكن في رتبة الحكم الواقعي ، إلا أن الحكم الواقعي يكون في رتبة الحكم الظاهري ، لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشك فيه ولو بنتيجة الإطلاق (1) فيجتمع الحكمان المتضادان في رتبة الشك.
    ولا يقاس المقام بالخطاب الترتبي المبحوث عنه في باب الضد ، فان العمدة في رفع غائلة التضاد بين الحكمين في الخطاب الترتبي إنما هو اشتراط خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم وعدم إطلاق خطاب الأهم لحالتي اطاعته وعصيانه ـ على ما أوضحناه بما لا مزيد عليه في مبحث الضد ـ وأين هذا من اجتماع الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي مع إطلاق الحكم الواقعي لحالة العلم والظن والشك فيه ولو بنتيجة الإطلاق ؟ فتأخر رتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لا يرفع غائلة التضاد بينهما إلا بضم مقدمة أخرى إلى ذلك ، وهي أن الأحكام الواقعية بوجوداتها النفس الأمرية لا تصلح للداعوية وقاصرة عن أن تكون محركة لإرادة العبد نحو امتثالها في صورة الشك في وجودها (2)
1 ـ أقول : إذا كان الحكم الظاهري في طول الواقع معنى طوليته كون الحكم الواقع المشكوك مأخوذا في موضوعه ، وحينئذ كيف يعقل أن يكون الحكم الواقعي ـ ولو بنتيجة الإطلاق ـ في عرض الحكم الظاهري وفي مرتبته ؟ فهل يتوهم أحد أن الموضوع في مرتبة محموله ؟ نعم : هما متحدان زمانا لا رتبة ، فكل واحد محفوظ في رتبة نفسه بلا تعدية إلى مرتبة غيره ، فعلى فرض الاكتفاء باختلاف المرتبة بين الحكمين محضا ، لا مجال لمثل هذا الجواب عنه.
2 ـ أقول : الالتزام بعدم دعوة الحكم الواقعي في ظرف الشك به لازمه إنكار فعلية الحكم المشكوك ، إذ لا نعنى من فعليته إلا دعوته ومحركيته عند وجود موضوعه ، فمع عدم متمم الجعل لابد وأن يلتزم بعدم فعلية الحكم المشكوك ، فلا يبقى للحكم الواقعي إلا إنشاء قانونيا بلا إرادة فعلية ، إذ فعلية الإرادة على ممشاك لا ينفك عن المحركية عند وجود الموضوع ، فعدم محركيته حينئذ مساوق عدم فعليته ، ولا نعنى من جعل القانون إلا هذا ، وحينئذ فتصور المعذورية مع وجود الحكم الفعلي في غير محله ، إلا بتصور التفكيك بين فعلية الحكم وعدم الدعوة ، ويلزمك حينئذ عدم إناطة فعلية الإحكام بوجود موضوعها خارجا ، بل الحاكم بمجرد علمه بالمصلحة على الشيء القائم


(114)
فان الحكم لا يمكن أن يتكفل لأزمنة وجوده ـ التي منها زمان الشك فيه ـ ويتعرض لوجود نفسه في حال الشك وإن كان محفوظا في ذلك الحال على تقدير وجوده الواقعي ، إلا أن انحفاظه في ذلك الحال غير كونه بنفسه مبينا لوجوده فيه ، بل لابد في ذلك من مبين آخر وجعل ثانوي يتكفل لبيان وجود الحكم في أزمنة وجوده ، ـ ومنها زمان الشك فيه ـ ويكون هذا الجعل الثانوي من متممات الجعل الأولى ويتحد الجعلان في صورة وجود الحكم الواقعي في زمان الشك.
    ولا يخفى : أن متمم الجعل على أقسام : فان ما دل على وجوب قصد التعبد في العبادات يكون من متممات الجعل ، وما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم يكون من متممات الجعل ، وما دل على وجوب الغسل على المستحاضة قبل الفجر في اليوم الذي يجب صومه من متممات الجعل ، وغير ذلك من الموارد التي لابد فيها من متمم الجعل ، وهي كثيرة في أبواب متفرقة وليست بملاك واحد ، بل لكل ملاك يخصه ، وإن كان يجمعها قصور الجعل الأولى عن أن يستوفى جميع ما يعتبر استيفائه في عالم التشريع ، ولاستقصاء الكلام في ذلك محل آخر. والغرض في المقام : بيان أن من أحد أقسام متمم الجعل هو الذي يتكفل لبيان وجود الحكم في زمان الشك فيه إذا كان الحكم الواقعي على وجه يقتضي المتمم ، وإلا فقد يكون الحكم لا يقتضي جعل المتمم في زمان الشك.
    وتوضيح ذلك : هو أن للشك في الحكم الواقعي اعتبارين :
بالموضوعات المقدرة يحكم حكما فعليا عن إرادة فعلية تابعة للحاظ موضوعه الكلي ، بلا انتظار لوجوده ـ كما هو التحقيق في كلية الأحكام ـ وأن المحركية من تبعات الإرادة وهو المعلق على وجود الموضوع خارجا ، وعلى هذا المبنى ينثلم الإشكال في الواجب المعلق ، وينخرم أساس جعل الأحكام الطلبية من القضايا الحقيقية التي شأنها كون الحكم تابع الموضوع فرضيا وفعليا ، إذ بناء على ما ذكر تصير الأحكام الطلبية فعلية قبل وجود موضوعاتها وفي زمان فرضه ، كما لا يخفى ، فتدبر.

(115)
    أحدهما : كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه ـ كحالة العلم والظن ـ وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعا لحكم يضاد الحكم الواقعي ، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.
    ثانيهما : اعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له ، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعا لما يكون متمما للجعل ومنجزا للواقع وموصلا إليه ، كما أنه يمكن أخذه موضوعا لما يكون مؤمنا عن الواقع ـ حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية ومناطات الأحكام الشرعية ـ فلو كانت مصلحة الواقع مهمة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمم ـ كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه ـ فإنه لما كان حفظ نفس المؤمن أولى بالرعاية وأهم في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشك حفظا للحمى وتحرزا عن الوقوع في مفسدة قتل المؤمن ، وهذا الحكم الطريقي إنما يكون في طول الحكم للواقع نشأ عن أهمية المصلحة الواقعية ، ولذا كان الخطاب بالاحتياط خطابا نفسيا وإن كان المقصود منه عدم الوقوع في مخالفة الواقع (1) إلا أن هذا لا يقتضي أن يكون خطابه مقدميا ، لأن الخطاب المقدمي هو ما لا مصلحة فيه أصلا ، والاحتياط ليس كذلك ، لأن أهمية مصلحة الواقع دعت
1 ـ أقول : والأولى أن يقال : إن الخطاب بالاحتياط خطاب طريقي كسائر الخطابات الطريقية ناشئ عن الإرادة الواقعية ومظهرة لها في ظرف الشك بها ، ومشتملة على الترخيص على مخالفة الواقع عند مخالفتها ـ كما هو الشأن في سائر أوامر الطرق ـ وفي خصوص الاحتياط كان ترخيصه على وفق الواقع عند عدم وجوبه المحتمل ، وليس وجوبه مقدميا ، لأنه مع الموافقة عين الواقع في لب الإرادة ومع المخالفة يباينه ، ولا نفسيا لفرض عدم إرادة تحته في فرض المخالفة.
    ومن هذا البيان ظهر : أن الأمر بالاحتياط وهكذا غيره بيان للواقع ومنجز له في فرض الموافقة ، وعند المخالفة موجب لعذره وترخيصه المشتمل عليه أمره وليس موجبا للعقوبة على نفسه.
    وتوهم : أن العقوبة على الواقع حينئذ عقاب بلا بيان فلابد من أن يكون العقوبة على نفسه ، فاسد بما يأتي بيانه في الحاشية الآتية.


(116)
إلى وجوبه فالاحتياط إنما يكون واجبا نفسيا للغير لا واجبا بالغير ، ولذا كان العقاب على مخالفة التكليف بالاحتياط عند تركه وإدائه إلى مخالفة الحكم الواقعي ، لا على مخالفة الواقع ، لقبح العقاب عليه مع عدم العلم به ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في خاتمة الاشتغال.
    فان قلت : إن ذلك يقتضي صحة العقوبة على مخالفة الاحتياط صادف الواقع أو خالفه ، لأن المفروض كونه واجبا نفسيا وإن كان الغرض من وجوبه هو الوصلة إلى الأحكام الواقعية وعدم الوقوع في مفسدة مخالفتها ، إلا أن تخلف الغرض لا يوجب سقوط الخطاب ، فلو خالف المكلف الاحتياط وأقدم على قتل المشتبه وصادف كونه مهدور الدم كان اللازم استحقاقه للعقوبة ، لأنه قد خالف تكليفا نفسيا.
    قلت : فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لا يضر تخلفه ولا يدور الحكم مداره هو الأول ، لأنها تكون حكمة لتشريع الأحكام ، فيمكن أن يكون تحقق الحكمة في مورد علة لتشريع حكم كلي ، وأما علة الحكم ، فالحكم يدور مدارها ولا يمكن أن يتخلف عنها ـ كما أوضحناه في محله ـ ولا إشكال أن الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علة للحكم بالاحتياط (1)
1 ـ أقول : بعدما كان الحكم الواقعي علة لتشريع الاحتياط ، فمع انتفائه ينتفى تشريع الاحتياط ، وعليه : ففي كل مورد يرد عليه الأمر بالاحتياط يتردد المكلف بين تشريع الاحتياط وعدمه ، ولازمه ترديده بكون الأمر به حقيقيا أم صوريا ، ومع هذا الترديد كيف يدعوه هذا الأمر على الاحتياط ؟ وعليه : فلا يكون هذا الأمر موجبا للعقوبة على مخالفة نفسه أو مخالفة الواقع ، وهذه الشبهة جارية في جميع الأوامر الطريقية.
    ولنا لحل هذا الإشكال مسلكان : أحدهما أن يقال : إن المصلحة إذا كانت مهمة بنحو لا يجوز منه المولى حتى في ظرف الجهل بها ، فقهرا الإرادة المتعلقة به وأمره يكون تبعا لهذا الاهتمام ، ومثل هذه الإرادة والأمر نفس احتماله منجز عقلا وخارج من موضوع قبح العقاب بلا بيان ، وأن الأمر الطريقي كاشف عن هذا الاهتمام ، ولذا يكون منجزا للواقع عند المطابقة ، كما أن مخالفته كاشفة عن عدم الاهتمام به ، خصوصا مع ترخيصه على خلافه ، فيكون موجبا لعذره حتى مع فرض انفتاح بابه.
    وثانيهما : أن شأن الأوامر الطريقية بعد ما كان إبرازا للإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها ، فمع احتمال


(117)
لأن أهمية ذلك أوجب الاحتياط ، فلا يمكن أن يبقى وجوب الاحتياط في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما يجب حفظ نفسه ، ولكن لما كان المكلف لم يعلم كون المشكوك مما يجب حفظ نفسه أو لا يجب ؟ كان اللازم عليه هو الاحتياط تحرزا عن أن يكون المشكوك مما يجب حفظ نفسه فيقع في مخالفة الحكم الواقعي. ومن ذلك يظهر : أنه لا مضادة بين ايجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ، فان المشتبه إن كان مما يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو ، وإن لم يكن المشتبه مما يجب حفظ نفسه فلا يجب الاحتياط ، لانتفاء علته ، وإنما المكلف يتخيل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه ، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدمي ، وإن كان من جهة أخرى يغايره. والحاصل : أنه لما كان ايجاب الاحتياط متمما للجعل الأولى من وجوب حفظ نفس المؤمن ، فوجوبه يدور مدار الوجوب الواقعي ، ولا يعقل بقاء المتمم ( بالكسر ) مع عدم وجود المتمم ( بالفتح ) فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل أن يقع بينهما التضاد ، لاتحادهما في مورد
الواقع كان الواقع ملازما مع البيان للواقع ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال لحكم العقل بقبح العقاب ، إذ موضوعه صورة الجزم بعدم البيان ، وحينئذ فشأن الأوامر الطريقية رفع موضوع حكم العقل ، فيكون واردا عليه.
    فان قلت : إنه في ظرف وجود الواقع نقطع بوجوده ، ولو كان هذا المقدار من البيان الاحتمالي كافيا ، يلزم عدم جريان القاعدة في كل تكليف مشكوك ولو لم يكن في البين جعل طريق ، وهو كما ترى.
    قلت : لا يخفى أن العلم بوجود الواقع في ظرف وجود المشكوك لا يكون منوطا بوجود الواقع خارجا كي يصير مشكوكا ، بل العلم الفعلي الوجداني ينوط بوجود الواقع لحاظا ، فلا يتصور في مثله الجهل بوجود العلم ، كي يكون المورد من باب احتمال البيان ، بل العلم الوجداني منوط بوجود المشكوك لحاظا حاصل فعلا ، ومثل هذا العلم لا يكون لدى العقل بيانا أصلا ، ففي مورده نقطع بعدم البيان ، بخلاف الأوامر الطريقية ، حيث إن بيانيته منوط بوجود الواقع خارجا ، فكان البيان فيه مشكوكا ، بخلاف فرض العلم ، كما لا يخفى.


(118)
المصادفة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة ، فأين التضاد ؟.
    هذا كله إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمم : من ايجاب الاحتياط. وإن لم تكن المصلحة الواقعية تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة من الأهمية بحيث يلزم للشارع رعايتها كيفما اتفق ، فللشارع جعل المؤمن ، كان بلسان الرفع ، كقوله صلى الله عليه وآله ـ « رفع ما لا يعلمون » ، أو بلسان الوضع كقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « كل شيء لك حلال » فان المراد من الرفع في قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « رفع ما لا يعلمون » ليس رفع التكليف عن موطنه حتى يلزم التناقض ، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات وايجاب الاحتياط ، فالرخصة المستفادة من قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ : « رفع ما لا يعلمون » نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فكما أن الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا تنافى الحكم الواقعي ولا تضاده ، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله ـ عليه السلام ـ « رفع ما لا يعلمون » والسر في ذلك : هو أن هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخر رتبتها عنه (1) لأن الموضوع فيها هو الشك
1 ـ أقول : يا للعجب ! قد تقدم منه أن مجرد طولية الحكم الظاهري للواقع غير مجد في رفع التضاد ، لأن الحكم الواقعي بنتيجة الإطلاق يشمل مرتبة الحكم الظاهري ، فكيف في المقام التزم بكفاية الطولية في رفع التضاد. وكيف كان : الذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال : إن طولية الحكمين على نحوين :
    أحدهما : طولية الحكمين في ذات واحدة محفوظة في مرتبة نفسه ، كما هو الشأن في عنوان الخمر ومشكوك الخمرية.
    وثانيهما : طولية الحكمين الثابتين للذاتين في رتبتين ـ كما هو الشأن في فرض الجهل بالحكم من الجهات التعليلية لطرو الحكم الظاهري على الذات ـ فإنه حينئذ يرى الذات في رتبتين ، بخلاف ما كان الجهل من الجهات التقييدية لأن الذات في هذه الصورة لا يرى إلا في رتبة واحدة موضوعا لحكمين طوليين ، وحينئذ الذي يثمر لرفع التضاد هو الطولية بالمعنى الثاني دون الأول ، والسر فيه : أن الذات في الصورة لما كان واحدا لا يتحمل لحكمين ولو طوليين متماثلين أو متضادين.
    وأما في فرض أخذ الذات في رتبتين فلا يرى حينئذ إلا ذاتين ، وحيث إن معروض الحكم في كلية


(119)
في الحكم من حيث كونه موجبا للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجز له ، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل أن تضاد الحكم الواقعي.
    وبالجملة : الرخصة والحلية المستفادة من « حديث الرفع » و « أصالة الحل » تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من ايجاب الاحتياط ، وقد عرفت : أن ايجاب الاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرعا عليه ، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضا ، وإلا يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه ، فتأمل.
    هذا تمام الكلام في إمكان التعبد بالأمارات الغير العلمية ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه : أنه لا محذور فيه ، لا ملاكا ولا خطابا.

    ولا ينبغي التأمل والإشكال في أن الأصل يقتضي حرمة التعبد بكل أمارة لم يعلم التعبد بها من قبل الشارع.
    ويدل على ذلك من الكتاب ، قوله تعالى : « قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون » (1) بناء على شمول الافتراء لمطلق إسناد الشيء إليه تعالى ولو مع عدم العلم بأنه منه تعالى ، لا خصوص ما علم أنه ليس منه تعالى ـ كما قيل ـ ولو سلم عدم شمول الافتراء لما لا يعلم موضوعا فلا أقل من شموله حكما ، لأنه جعل في مقابل الإذن ، فتدل الآية الشريفة على أن كل ما لم يؤذن
المقامات هو نفس العنوان لا المعنون ، فوحدة المعنون لا يضر بتعدد الحكم لكل منهما بعنوان غير الآخر. ولقد أبسطنا الكلام في مسألة التجري ، وبهذا البيان أيضا رفعنا هناك التضاد بين قبح التجري وحسن الواقع ، كما عرفت ، فتدبر في المقام فإنه من مزال الأقدام.
1 ـ سورة يونس الآية 59


(120)
فيه فهو افتراء ، إما موضوعا ، وإما حكما.
    ومن السنة : قوله عليه السلام « رجل قضى بالحق وهو لا يعلم » (1) بناء على كون التوبيخ لأجل القضاء بما لا يعلم ، لا لأجل التصدي للقضاء مع عدم كونه أهلا له.
    ومن الإجماع : ما ادعاه الوحيد البهبهاني ( قدس سره ) من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات عند العوام فضلا عن الخواص.
    ومن العقل : إطباق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على تشريعه وإسناده إلى المولى ما لا يعلم أنه منه ، فان ذلك تصرف في سلطنة المولى وخروج عما يقتضيه وظائف العبودية.
    وبالجملة : لا إشكال ولا كلام في قبح التشريع واستتباعه استحقاق العقوبة. نعم : وقع الكلام في مسألة قبح التشريع من جهات :
    الجهة الأولى : هل حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح المعصية مما لا تناله يد الجعل الشرعي ولا يستتبع خطابا مولويا بحرمته ؟ أو أن حكمه بقبح التشريع يستتبع الحكم الشرعي بحرمته ولو بقاعدة الملازمة ؟ ذهب إلى الأول المحقق الخراساني ( قدس سره ) وحمل ما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب على الإرشاد ، نظير قوله تعالى : « أطيعوا الله ورسوله ».
    وظاهر كلام الشيخ ( قدس سره ) هو الثاني ، حيث استدل على حرمة التشريع بالأدلة الأربعة ، وهو الأقوى ، لأن الأحكام العقلية التي لا تستتبع الخطابات الشرعية إنما هي فيما إذا كانت واقعة في سلسلة معلولات الأحكام كقبح المعصية وحسن الطاعة ، لا في ما إذا كانت واقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح العقلي الناشئ عن إدراك المصالح
1 ـ الوسائل : الباب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث 6
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس