فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 121 ـ 135
(121)
والمفاسد ، فان الأحكام العقلية الراجعة إلى هذا الباب كلها تكون مورد القاعدة الملازمة ، ويستتبعها الخطابات الشرعية ، ومسألة قبح التشريع من هذا الباب ، لأن حكم العقل بقبحه ليس واقعا في سلسلة معلولات الأحكام ، بل هو حكم ابتدائي من العقل لما فيه من المفسدة من تصرف العبد فيما ليس له ، وإن شئت قلت : إن التشريع من أفراد الكذب الذي يستقل العقل بقبحه والشرع بحرمته (1).
    الجهة الثانية : هل قبح التشريع يسرى إلى الفعل المتشرع به بحيث يصير الفعل قبيحا عقلا وحراما شرعا ، أو إنه لا يسرى إلى الفعل بل يكون التشريع من الآثام القلبية مع بقاء الفعل المتشرع به على ما هو عليه ؟ ذهب إلى الوجه الثاني المحقق الخراساني ( قدس سره ) وظاهر كلام الشيخ ( قدس سره ) هو الأول ، حيث قال ( قدس سره ) : والحاصل : أن المحرم هو العمل بغير علم متعبدا به ومتدينا به .. الخ ، ومال إليه شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) بتقريب : انه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيرة لجهة حسن العمل وقبحه ، فيكون الالتزام والتعبد والتدين بعمل لا يعلم التعبد به من الشارع موجبا لانقلاب العمل عما هو عليه (2) وتطرأ عليه
1 ـ أقول : عمدة الكلام في المقام ، هو أن العقل في باب التشريع كما يستقل بالقبح ، يستقل بالعقوبة أيضا أم لا ، وبعبارة أخرى : هل حكمه بقبحه من تبعات موجبة لاستحقاق العقوبة بنفس عنوانه ؟ أم استحقاق العقوبة فيه من تبعات حكمه لا نفسه وأن ما هو من تبعات نفسه مجرد قبحه ؟ وهذه الجهة أيضا مايزة بين المعصية وسائر المقبحات الأخرى ، لا مجرد طولية عنوان للحكم وعدمه ، وعليه نقول :
    لا غرو في دعوى أن التشريع المتجرى نحو طغيان على المولى وجسارة موجبة بنفسه للعقوبة بلا احتياج إلى حكم مولوي ، كيف ! ولا أظن من ينكر الملازمة كلية إنكار عدم استحقاق المشرع للعقاب نظير الافتراء على المولى ، فتأمل.
2 ـ أقول لا نرى فرقا من هذه الجهة بين التشريع في فعل نفسه أو التشريع في عمل غيره ـ كتشريع وجوب الصلاة على الحائض ـ فهل يتوهم أحد أن الثاني موجب لحرمة فعل الغير ؟! فليكن الأول أيضا كذلك ، فتدبر.


(122)
بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلا وحرمته شرعا ، وظاهر قوله : « رجل قضى بالحق وهو لا يعلم » (1) حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه ، فيدل على حرمة نفس العمل.
    الجهة الثالثة : هل صحة التعبد بالأمارة والالتزام بمؤداها على أنه حكم الله تعالى يلازم حجيتها بحيث يستكشف من عدم جواز التعبد عدم الحجية ؟ أو أن الحجية من اللوازم الأعم ؟ فقد تكون الأمارة حجة مع عدم جواز التعبد بها وإسنادها إلى الشارع.
    ظاهر كلام المحقق الخراساني ( قدس سره هو الثاني ، بل صريح كلامه ذلك ، حيث قال : وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الأحكام وصحة نسبته إليه تعالى فليسا من آثارها ، ضرورة أن حجية الظن عقلا على تقرير الحكومة في حال الانسداد لا يوجب صحتهما .. الخ.
    ولا يخفى ما فيه ، فان معنى جعل الأمارة حجة هو كونها وسطا لإثبات متعلقها وإحراز مؤداها (2) فيكون حالها حال العلم ، وهل يمكن أن يقال : إنه لا يصح التعبد بمتعلق العلم ولا يجوز إسناده إلى الشارع إذا كان المتعلق من الأحكام الشرعية ؟ والأمارة بعد جعلها حجة تكون كالعلم. وما
1 ـ الوسائل : الباب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث 6
2 ـ أقول : قد تقدم سابقا أن مجرد جعل الوسطية تنزيلا لا يفي بالمنجزية ، بل المنجز هو الأمر الطريقي المستكشف من هذا الجعل الذي هو المصحح للتنزيل ، ومن المعلوم : أن منجزيته غير ملازم لوجوب التعبد بمؤداه ، كيف ! وهذا الأمر المنجز موجود في ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية ، مع أنه لا يجوز التعبد المزبور فيها ، وهكذا لو فرض ورود الأمر بالعمل بالظن الفلاني بلا لسان تنزيل في البين ، إذ مثل هذا الأمر أيضا منشأ حجيته ، مع أنه لا يجوز التعبد في مثله ، كما أن الظن على الحكومة في باب الانسداد عند من لا يرى العلم الإجمالي مؤثرا ـ إما لذاته أو لشبهة انحلاله ـ لابد من الالتزام بمثبتية الظن وأن مسقطيته إنما هو على مسلك التبعيض في الاحتياط ، وهو غير حجية الظن ومنجزيته في حال الانسداد كما لا يخفى.


(123)
أفاده : من أن الظن بناء على الحكومة يكون حجة عقلية مع عدم صحة إسناد متعلقه إلى الشارع وعدم جواز التعبد به ، فقد عرفت ـ في أول مبحث الظن ـ ما فيه ، وحاصله : أنه ليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة مثبتا لمتعلقه ، بل شأن العقل هو الإدراك وليس من وظيفته التشريع ، وحكمه باعتبار الظن في حال الانسداد ليس معناه كون الظن حجة مثبتا لمتعلقه ، بل معناه الاكتفاء بالإطاعة الظنية للأحكام المعلومية بالإجمال عند تعذر الإطاعة العلمية ، وهذا المعنى أجنبي عن معنى الحجية ، فان الحجة تقع في طريق إثبات التكاليف والظن بناء على الحكومة يقع في طريق إسقاط التكاليف ، وسيأتي توضيح ذلك ـ إنشاء الله تعالى ـ في دليل الانسداد.
    وبالجملة صحة التعبد بالأمارة وجواز إسناد مؤداها إلى الشارع من اللوازم التي لا تنفك عن حجيتها ، ولا يعقل التفكيك بينهما ، فمن حرمة التعبد بالأمارة التي لم يعلم التعبد بها من الشارع ـ كما هو مقتضى الأدلة المتقدمة ـ يستكشف عدم حجيتها ، بل الشك في الحجية يلازم القطع بعدم الحجية ، لا بمعنى أخذ العلم بالحجية موضوعا لها بحيث لا تكون حجة واقعا مع عدم العلم بها ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة أن الحجية كسائر الأحكام الوضعية والتكليفية لا يدور وجودها الواقعي مدار العلم بها ، بل بمعنى عدم ترتب آثار الحجية عليها من كونها منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة ، فان التنجز يتوقف على العلم بالحكم أو ما يقوم مقامه ، والمكلف لا يكون معذورا إلا إذا استند في العمل إلى الحجة ويتوقف على العلم بها موضوعا وحكما ، ويأتي مزيد توضيح لذلك في المباحث الآتية.
    الجهة الرابعة : هل الحكم العقلي بقبح التعبد بما يشك في التعبد به وإسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه من الأحكام العقلية الطريقية نظير حكمه بقبح الإقدام على ما لا يأمن منه الوقوع في الظلم من


(124)
التصرف في أموال الناس وأعراضهم ؟ أو أن حكم العقل بذلك ليس طريقيا ؟ الظاهر أن يكون هو الثاني ، بل لا ينبغي التأمل فيه ، فان تمام المناط في نظر العقل هو الإسناد إلى الشارع ما لا يعلم أنه منه ، من غير دخل للواقع في ذلك ، فلو فرض أن المتعبد به كان في الواقع مما شرعه الشارع ولكن المكلف لم يعلم بتشريعه وأسنده إلى الشارع من غير علم كان ذلك من التشريع القبيح ، لتحقق تمام المناط والموضوع الذي يستقل العقل بقبحه ، ولو انعكس الأمر وأسند المكلف إلى الشارع ما علم بتشريعه إياه وكان في الواقع مما لم يشرعه الشارع لم يكن المكلف مشرعا ، لا أنه يكون مشرعا ولمكان جهله يكون معذورا عند العقل.
    وبالجملة : ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلف أو لا يصيبه ، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إياه ، سواء علم المكلف بالعدم أو ظن أو شك ، وسواء كان في الواقع مما شرعه الشارع أو لم يكن ، فليس حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح الظلم ، فان العقل إنما يستقل بقبح الظلم ، وهو عبارة عن التصرف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ، غايته أنه من الشك في كون المال مال الناس يحكم العقل حكما طريقيا بقبح التصرف فيه ، مخافة أن يكون المال مال الناس فيقع المكلف في مفسدة التصرف في مال الناس ظلما وعدوانا ، فللعقل في باب الظلم حكمان : حكم موضوعي بقبح التصرف فيما هو مال الناس واقعا عند الالتفات إليه ، وحكم آخر طريقي بقبح التصرف فيما يشك كونه مال الناس (1) فلو خالف المكلف وأقدم على التصرف في المشكوك ولم يكن
1 ـ أقول : المراد من الأحكام الطريقية هو الإنشاءات الحاكية عن الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها وكاشفة عن الترخيص في صورة المخالفة ، ومثل هذا المعنى غير متصور في مثل حكم العقل بقبح الشيء في ظرف الجهل بقبحه واقعا ، إذ الوجدان بعد ما حكم بالقبح في ظرف الشك يستحيل كشفه عن الترخيص في صورة المخالفة ، إذ لازمه مع احتمال المخالفة أن لا يستقل بقبح شيء ، ومع استقلاله به حينئذ لا محيص من الالتزام

(125)
في الواقع مال الناس فليس عليه إلا تبعة التجري ، وأين هذا من باب التشريع ؟ فإنه ليس للعقل فيه إلا حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم والظن والشك. والحاصل : أن الأحكام العقلية قسمين : أحدهما : ما يكون للعقل حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم والظن والشك ، ومن أوضح مصاديق هذا القسم حكمه بقبح التشريع. ثانيهما : ما يكون للعقل حكمان : حكم على الموضوع الواقعي الذي استقل بقبحه ، وحكم آخر طريقي على ما يشك أنه من مصاديق الموضوع الواقعي ، ومن أوضح مصاديق هذا القسم حكمه بقبح الظلم. وقد يقع الشك في بعض الأحكام العقلية أنه من أي القسمين ؟ كحكمه بقبح الإقدام على الضرر ، فإنه يحتمل أن يكون الموضوع لحكم العقل بقبح الإقدام عليه هو الضرر الواقعي ، وله حكم آخر طريقي بقبح الإقدام على ما لا يأمن منه الوقوع في الضرر ، ويحتمل أن يكون الموضوع لحكم العقل مطلقا « ما لا يأمن منه الوقوع في الضرر » سواء في ذلك صورة العلم بالضرر أو الظن أو الشك ، كان في الواقع ضرر أو لم يكن. هذا ، ولكن ظاهر المحكى من تسالم الأصحاب على أن سلوك الطريق الذي يظن أو يقطع فيه الضرر والخطر يكون معصية ويجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف الخلاف وتبين عدم الضرر ، هو أن يكون قبح الضرر عندهم كقبح التشريع ليس للعقل فيه إلا حكم واحد ، إذ لو كان للعقل فيه حكمان ـ كباب الظلم ـ كان اللازم عدم وجوب إتمام الصلاة عند انكشاف الخلاف
بالموضوعية وبعده لا يفهم فرق بين الظلم والتشريع ، إذ في كل منهما يحكم العقل وجدانا بقبحه طابق الواقع أم خالف ، وحينئذ لا نفهم لهذا الحكم الطريقي مفهوما محصلا في باب الظلم دون غيره. نعم : يمكن أن يقال بمنع استقلال العقل بقبح ما هو مشكوك الظلم ، بل الذي يستقل هو قبح الظلم الواقعي عند إحراز ظلمه ، نظرا إلى دخل العلم في كلية المستقلات العقلية في حكمه بحسن أو قبح ، كما لا يخفى.

(126)
وتبين عدم الضرر ، لأنه لم يتحقق ما هو الموضوع لحكم العقل بالقبح ليستتبع الحكم الشرعي بالحرمة حتى يكون السفر معصية يجب فيه إتمام الصلاة ، بل غايته أن يكون سلوك الطريق من التجري ، فتسالم الأصحاب على هذه الفتوى لا ينطبق إلا بالحاق باب الضرر بباب التشريع ، من حيث كون الموضوع لحكم العقل بالقبح مطلق ما لا يأمن ، فتأمل جيدا.

    تتمة :
    قد عرفت : أن الأصل عند الشك في حجية كل أمارة يقتضي حرمة التعبد بها والالتزام بمؤداها بمقتضى الأدلة المتقدمة.
    وقد يقرر الأصل بوجه آخر ، وهو استصحاب عدم الحجية ، لأن حجية الأمارة من الحوادث وكل حادث مسبوق بالعدم.
    وقد منع الشيخ ( قدس سره ) عن جريان استصحاب عدم الحجية ، وأفاد في وجهه بما حاصله : أنه لا يترتب على مقتضى الاستصحاب أثر عملي ، فإنه يكفي في حرمة العمل والتعبد نفس الشك في الحجية ، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة حتى يجرى استصحاب العدم ، فان الاستصحاب إنما يجرى فيما إذا كان لا أثر مترتبا على الواقع المشكوك فيه ، لا على نفس الشك. هذا حاصل ما افاده الشيخ ( قدس سره ) في وجه المنع عن جريان استصحاب عدم الحجية.
   ورده المحقق الخراساني ( قدس سره ) بما حاصله : أن الحاجة إلى الأثر في جريان الأصل إنما هو في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، وأما الأصول الجارية في الشبهات الحكمية فلا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي ما وراء المؤدى ، بل يكفي في صحة جريان الأصل ثبوت نفس المؤدى ـ من بقاء الحكم في الاستصحابات الوجودية وعدمه في الاستصحابات العدمية ـ بداهة أن وجوب الشيء أو عدم وجوبه بنفسه من الآثار التي يصح جريان


(127)
الأصل بلحاظها ، فلا حاجة إلى أثر آخر وراء ذلك ، والحجية وعدمها من جملة الأحكام ، فيجرى استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها بلا انتظار أثر آخر وراء عدم الحجية ، فان استصحاب عدم الحجية كاستصحاب عدم الوجوب ، فكما أنه لا يتوقف استصحاب عدم الوجوب على أثر آخر وراء نفس عدم الوجوب ، كذلك استصحاب عدم الحجية.
    ثم أفاد ( قدس سره ) أنه لو سلم كون الحجية من الموضوعات الخارجية التي يتوقف جريان الأصل فيها على أن يكون في البين أثر عملي ، إلا أن ذلك لا يمنع عن استصحاب عدم الحجية ، فان حرمة التعبد كما يكون أثرا للشك في الحجية كذلك يكون أثرا لعدم الحجية واقعا ، فيكون الشك في الحجية موردا لكل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشك ، ويقدم الاستصحاب على القاعدة لحكومته عليها ، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها. ثم بين ضابطا كليا بما حاصله : أن الأثر إذا كان مترتبا على الواقع فقط فلا مجال للاستصحاب ، وإن كان مترتبا على الشك فقط فلا مجال إلا للقاعدة المضروبة للشك ، وإن كان مترتبا على كل من الواقع والشك فلكل من الاستصحاب والقاعدة مجال ، إلا أن الاستصحاب يقدم لحكومته عليها.
    هذا حاصل ما أفاده المحقق الخراساني ( قدس سره ) ردا على ما افاده الشيخ ( قدس سره ).
    وأنت خبير بما فيه ! أما ما أفاده ( قدس سره ) أولا : من أن الحجية بنفسها من الأحكام فلا يتوقف جريان استصحاب عدمها على أن يكون وراء المؤدى أثر عملي ، ففيه : أن ما اشتهر من أنه « في الأصول الحكمية لا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي » إنما هو لأجل أن المؤدى بنفسه من الآثار العملية (1) وإلا فلا يمكن أن تجرى الأصول من دون أن يترتب
1 ـ أقول : الذي يحتاج في الاستصحاب كون المستصحب مما يترتب عليه العمل ، بمعنى كونه مقتضيا له ولو

(128)
عليها أثر عملي ، من غير فرق في ذلك بين الأصول الموضوعية والحكمية ، فان الأصول إنما تكون وظائف عملية ، لما عرفت آنفا : من أن المجعول فيها هو الجري العملي ، وبذلك تمتاز الأصول من الأمارات ، فان الأمارة تقتضي الثبوت الواقعي ولا يتوقف التعبد بها على أن يكون المؤدى مما يقتضي الجري العملي ، بل يكفي في التعبد بها أن يترتب عليها أثر عملي ولو بألف واسطة لكي لا يلزم اللغوية ، فلا مانع من قيام الأمارة على عدم الحجية بعد ما كان مفادها عدم الثبوت الواقعي.
    وبالجملة : لا يعقل أن يجرى الأصل من دون أن يقتضي الجري والبناء العملي ، ولما كانت الأصول الحكمية بنفسها تقتضي الجري العملي على طبق المؤدى كان الأصل جاريا بلا حاجة إلى أن يكون أثر عملي وراء المؤدى ، وإلا فلو فرض أصل حكمي لا يقتضي الجري العملي فلا يكاد يجرى ، لعدم
في ظرف العلم به ، بلا واسطة أو بواسطة أثر شرعي ، نظير الوجوب الذي هو مقتضى للعمل ولو في ظرف العلم به ، كما أن نفيه موجب لنفي العمل المستند إلى عدم المقتضى ، وهذا المعنى موجود في الحجية المجعولة ، بملاحظة كونها موضوعا لحكم العقل بموافقتها عند العلم به ، وعدم وجوبه عند عدمها لعدم المقتضى ، وليس أثرها ممحضا بخصوص حرمة التعبد بمؤداه كي يختص ذلك بحال شكه وكان من تبعات نفس الشك به ، كيف ! وقد قلنا بأن حرمة التعبد ليس من لوازم عدم الحجية ، وإن كان جوازه من لوازم حجيته ، وحينئذ لا يبقى مجال لمثل هذا التعب في رد هذا القائل خصوصا في إلزامه بأن عدم الحجية يقتضي الرخصة ، مع أنه ليس كذلك ، لأن الأحكام بأسرها مضادة ، وليس نقيض كل عين الآخر ، ولا يقتضي أيضا إثباته بدليل التعبد الذي هو مفاد الأصل ، لعدم حجية مثبتات الأصول ، فلا يكون نتيجة استصحاب عدم الوجوب إلا رخصة العقل لترك العمل بنفس شكه من جهة قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ كيف يكون استصحاب العدم حاكما على قبح العقاب بلا بيان ، بل لازم كلامه كون المورد مجرى القاعدة ، لا مجرى الاستصحاب ، إلا بناء على حجية مثبته من إثبات الرخصة الشرعية ، وهو كما ترى ! وحينئذ ما تقول في استصحاب عدم الوجوب نقول به في استصحاب عدم الحجية. ولعمري ! ان عمدة ما أوقعه في هذا المحذور تخيل أن أثر عدم الحجية منحصر لجهة التعبد بمؤداه الذي مترتب في فرضه على نفس الشك ، وهو أول شيء ينكر ! بل عمدة أثر عدم الحجية عدم حكم العقل بلزوم موافقته ، لعدم المقتضى ـ نظير حكمه بعدم لزوم العمل والامتثال في صورة عدم وجوبه ـ وأن مصحح جريان الاستصحاب في المقامين متساويان ، فتدبر ، ولا تبادر بالإشكال على الأساطين !.

(129)
صحة التعبد به ، والحجية وإن كانت من الأحكام الوضعية وكانت بنفسها مما تنالها يد الجعل ، إلا أنها بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي أصلا ، والآثار المترتبة عليها ـ منها : ما يترتب عليها بوجودها العلمي ، ككونها منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة. ومنها : ما يترتب على نفس الشك في حجيتها ، كحرمة التعبد بها وعدم جواز إسناد مؤداها إلى الشارع ، فعدم الحجية الواقعية بنفسه لا يقتضي الجري العملي حتى يجرى استصحاب العدم ، إذ ليس لإثبات عدم الحجية أثر إلا حرمة التعبد بها ، وهو حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا ، لما عرفت : من أن الشك تمام الموضوع لحرمة التشريع وعدم جواز التعبد ، فجريان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل ، بل أسوء حالا منه ، فان تحصيل الحاصل إنما هو فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ واحد كلاهما وجدانيان أو كلاهما تعبديان ، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرر بالوجدان بالتعبد ، فهو أسوء حالا من تحصيل الحاصل.
    وبالجملة : فرق بين استصحاب عدم الوجوب واستصحاب عدم الحجية ، فان عدم الوجوب كالوجوب بنفسه مما يتعلق بعمل المكلف ويقتضي الجري العملي نحوه ، لأن عدم الوجوب يقتضي الرخصة الشرعية في الفعل ، وهي ليست حاصلة بنفس الشك وجدانا ، ولذلك كان استصحاب عدم الوجوب حاكما على البراءة العقلية والشرعية ، لأن البراءة لا تقتضي أزيد من عدم العقاب وعدم تنجز الواقع. وأما الرخصة الواقعية فلا يكاد تثبتها البراءة ، بخلاف استصحاب عدم الوجوب ، وأين هذا من استصحاب عدم الحجية الذي لا يترتب عليه أثر إلا ما كان حاصلا بنفس الشك ، فتأمل. (1)
1 ـ وجهه : هو أنه قد يختلج في البال : أن المنع عن جريان استصحاب عدم الحجية يقتضي المنع عن جريان استصحاب بقاء الحجية عند الشك في نسخها ، لأن استحالة التعبد بأحد النقيضين يلازم استحالة التعبد بالنقيض الآخر ، وإن كان يمكن منع الملازمة ، فان المسلم من الملازمة هو أن القدرة على أحد النقيضين يلازم القدرة على النقيض الآخر ، وأما التعبد بأحد النقيضين فلا يلازم التعبد بالآخر ، إذ قد لا يكون محل للتعبد

(130)
    وأما ما أفاده ( قدس سره ) ثانيا : من أن حرمة التعبد بالأمارة كما يكون أثرا للشك في حجيتها كذلك يكون أثرا لعدم حجيتها واقعا ، ففي ظرف الشك يجرى كل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة له ، ويقدم الاستصحاب لحكومته عليها.
    ففيه : أنه لا يعقل أن يكون الشك في الواقع موضوعا للأثر في عرض الواقع (1) مع أنه على هذا الفرض لا يجرى الاستصحاب أيضا ، لأن الأثر
بأحدهما ـ للزوم اللغوية أو غير ذلك ـ دون التعبد بالآخر *.
    وقد يختلج في البال أيضا : أن ذلك يقتضي عدم جواز قيام الأمارة المعتبرة على عدم حجية أمارة ، فان المجعول في باب الأمارات وإن لم يكن هو البناء العملي بل نفس الوسطية في الإثبات ، إلا أنه لابد وأن يترتب على مؤدى الأمارة أثر عملي ولو بألف واسطة ليصح التعبد بها ، والمفروض أنه لا يترتب على عدم الحجية الواقعية أثر عملي ، بل الأثر مترتب على نفس عدم العلم بالحجية ، وهو حاصل قبل قيام الإمارة المعتبرة على ذلك.
    ولا يدفع هذا الإشكال مجرد كون الأمارة مثبتة لمؤداها الواقعي ، لأن المفروض أن المؤدى ليس موضوعا للأثر ، فحال الأمارة القائمة على عدم حجية أمارة كحال الأمارة القائمة على موضوع لم يترتب عليه أثر عملي أصلا ولو بألف واسطة.
    ولا يقال : إنه بعد قيام الأمارة على عدم حجية يحصل العلم بعدم الحجية والعلم بعدم الحجية كالشك فيها يكون موضوعا لأثر حرمة التعبد ، فان العلم بعدم الحجية إنما يحصل بعد قيام الأمارة والتعبد بها ، والمفروض أنه في المرتبة السابقة على قيام الأمارة تحقق موضوع الأثر ، فلا يكون مجالا للتعبد فيها ، فتأمل جيدا ( منه ).
    * ـ أقول : لو كان أثر الحجية منحصرا بجواز التعبد ، لا شبهة في أن هذا الجواز منوط بالعلم بها ، فقبل العلم يحرم التعبد به بمقتضى كلامه ، وحينئذ يتوقف الأثر على الاستصحاب كي يوجب له العلم بالحجية ، والاستصحاب أيضا ينوط بهذا الأثر ، ، فيدور ، وحينئذ لا يرفع هذه الغائلة إلا بدعوى كفاية اقتضاء الأثر في المستصحب بلا احتياج إلى فعليته ، ولازمه حينئذ كفاية نفي المقتضى في طرف استصحاب عدمه بلا احتياج إلى أثر آخر ، كما هو في استصحاب الوجوب ونفيه ـ على ما أسلفناه ـ ومن هذا البيان ظهر أيضا وجه جريان الأمارة على عدم الحجية ، شكر الله سعيه في هذا التعب العظيم !.
1 ـ أقول إذا فرض كون الواقع مقتضيا لشئ والشك به مانعا عن ترتبه ، نظير وجوب الامتثال بالنسبة إلى الوجوب وأمثاله ، فهل لك محيص من الالتزام بنفي الأثر المترتب على الأعم من عدم المقتضى ووجود المانع ؟ وفي المقام « استاذنا » لا يريد إلا هذا ، فلا ترمه بعدم المعقولية.
    ثم بعد تسليم مدعاه ليس لك أن تنكر الاستصحاب ، لأن ترتب الأثر على الشك في عرض ترتب الاستصحاب عليه ، وبعد ذلك نقول ، إن الأمر يدور في تطبيق الاستصحاب أو تطبيق كبرى هذا الأثر بين


(131)
يترتب بمجرد الشك ، لتحقق موضوعه ، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ، لانه لا تصل النوبة إلى إثبات بقاء الواقع ليجري فيه الاستصحاب ، فإنه في المرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقق موضوع الأثر وترتب عليه الأثر ، فأي فائدة في جريان الاستصحاب ؟.
    وما قرع سمعك ، من أن الاستصحاب يكون حاكما على القاعدة المضروبة لحال الشك ، فإنما هو فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة ـ كقاعدة الطهارة والحل واستصحابهما ـ فان القاعدة لا تثبت الطهارة والحلية الواقعية (1) بل مفادها ليس إلا ترتيب آثار الطهارة والحلية : من جواز الاستعمال وحلية الأكل ونحو ذلك ، بخلاف الاستصحاب ، فان مفاده بقاء الطهارة والحلية الواقعية ، وقد يترتب على بقاء الطهارة والحلية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلية الأكل من آثار اخر ، وعلى ذلك يبتني جواز الصلاة في أجزاء الحيوان الذي شك في حليته إذا كان يجرى في الحيوان استصحاب الحلية ـ كما إذا كان غنما فشك في مسخه إلى الأرنب ـ وعدم جواز الصلاة في
التخصيص والتخصص ، لأن بجريان الاستصحاب يرتفع موضوع هذه الكبرى ، فإنه مبنى على عدم جريان الاستصحاب بمخصص خارجي ، وإلا لا يصلح هذه الكبرى لتخصيصه ، لأنه معلق على عدم جريانه.
    ولئن شئت قلت : إن لسان الاستصحاب ينفى موضوع هذه الكبرى فكان ناظرا إليه ، بخلاف لسان الكبرى ، فإنه ليس لسانه نفي موضوع الاستصحاب ، بل جريانه موجب للغوية الاستصحاب ، فالاستصحاب من الأول مانع عن جريانها ، فتدبر.
    ولئن شئت قلت : إن نتيجة الاستصحاب ترتب الأثر على عدم المقتضى ونتيجة القاعدة ترتب العدم على المانع ، وباعترافه ترتب العدم على عدم المقتضى مقدم على الترتب على المانع.
1 ـ أقول : بالله ! لو لم تثبت قاعدة الطهارة الطهارة الواقعية التعبدية يلزم عند العلم بنجاسة الماء المتوضى منه ، إما الحكم بصحة الوضوء واقعا أو عدم صحة الوضوء بمثل هذا الماء ، وهو كما ترى !.
    وجه الملازمة : أن موضوع صحة الوضوء واقعا ، إما الطهارة الواقعية أو الأعم منها ومن الطهارة الظاهرية ، فعلى الأول : فلا يجوز الوضوء به ، لعدم إحراز الطهارة الواقعية. وعلى الثاني : يلزم عدم اقتضاء كشف نجاسته لبطلان وضوئه حين جريان القاعدة فيها ، وحينئذ لا محيص إلا أن تلتزم بأن مفاد قاعدة الطهارة أيضا إثبات الطهارة الواقعية ، وحينئذ من أين وجه تقدم الاستصحاب على القاعدة ؟ فتدبر.


(132)
أجزائه إذا لم يجرى فيه استصحاب الحلية وإن كان تجرى فيه أصالة الحل ، فإنها لا تثبت الحلية الواقعية وكون الحيوان من الأنواع المحللة ، مع أن جواز الصلاة قد رتب على الحلية الواقعية.
    وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع استصحاب بقاء التكليف ، فإنه في المورد الذي تجرى فيه قاعدة الاشتغال لا يجرى فيه الاستصحاب ، وفي المورد الذي يجرى فيه الاستصحاب لا تجري فيه القاعدة ، فان القاعدة إنما تجرى في مورد العلم الإجمالي عند خروج بعض أطرافه عن الابتلاء بالامتثال ونحوه ، والاستصحاب يجرى عند الشك في فعل المأمور به.
    فما ربما يتوهم من عبارة الشيخ ( قدس سره ) في المقام : من عدم جريان الاستصحاب في جميع موارد الشك في فعل المأمور به ، فاسد ، فتصريحه في مبحث الاشتغال بجريان استصحاب بقاء التكليف عند الشك في إتيان المأمور به وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، وأين هذا مما نحن فيه مما كان الأثر المترتب على الاستصحاب عن الأثر المترتب على الشك ! ؟ فالإنصاف : أنه لا مجال لتوهم جريان استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها ، فتأمل فيما ذكرناه جيدا.

    بعد ما عرفت : من أن مقتضى القاعدة عدم حجية ما شك في حجيته من الطرق والأمارات إلا أن يقوم دليل بالخصوص على حجية أمارة خاصة أو على حجية كل أمارة تفيد الظن ، فلابد من صرف عنان الكلام إلى ما دل الدليل على اعتباره ، أو قيل باعتباره من الأمارات.
    ولا يخفى : أن البحث عن ذلك من أهم المباحث التي ينبغي تنقيحها ، خصوصا بالنسبة إلى من لم يلتزم بحجية الظن المطلق ، فإنه لابد له من إقامة الدليل على حجية ما بأيدينا من الأخبار المودعة في الكتب من حيث


(133)
الظهور والصدور (1) ولا يغنى البحث في حجية الظهور عن البحث في جهة الصدور (2) بل لابد من إثبات حجية كل منهما ، ولذلك عقد الأصحاب بحثا في حجية الظواهر وبحثا آخر في حجية الأخبار (3) وعلى كل حال : ينبغي عقد الكلام في مقامين :

    المقام الأول : في بيان الأمارات قام الدليل على اعتبارها بالخصوص أو ما قيل بقيامه عليه.
    المقام الثاني : في بيان الأدلة التي توهم دلالتها على اعتبار كل أمارة مفيدة للظن.
    أما المقام الأول ففيه فصول :
الفصل الأول
في حجية الظواهر (4)
    اعلم : أن البحث في باب الظهورات تارة : يكون صغرويا ، كالبحث
1 ـ أقول : بل وجهة الصدور أيضا.
2 ـ أقول : وبالعكس أيضا.
3 ـ أقول : ويقتضي بحثا آخر في نفي جهة التقية أو التورية في كلامه أيضا الذي يسمى بجهة الصدور ، كما أشرنا.
4 ـ أقول : ينبغي أولا أن يتكلم بأن ما هو المرجع عند العقلاء وكان بنائهم على العمل به هو أصالة الحقيقة أو العموم والإطلاق أو أصالة عدم القرينة على خلاف وضع اللفظ ، أو أن مبنى بنائهم على ما انعقد عليه ظهور اللفظ ووجهة الكلام ، وتظهر الثمرة في صورة اتصال الكلام بما يصلح للقرينية المانعة عن انعقاد الظهور ، فإنه حينئذ لا مجرى للأصل الآخر ، بخلاف الأصول السابقة ، كما أنه في صورة انعقاد الظهور بالقرائن العامة أو


(134)
عن الأوضاع اللغوية ، والقرائن العامة ، من وقوع الأمر عقيب الحظر ، والاستثناء عقيب الجمل المتعددة ، ونحو ذلك مما يوجب انعقاد الظهور لمفردات الكلام أو للجملة التركيبية ـ أي ما يوجب تعيين الظهور وتشخيصه ـ فالبحث عن جميع ذلك يكون بحثا عن المبادئ ، كالبحث عن الرواة وسلسلة السند.
    وأخرى : يكون كبرويا كالبحث عن حجية الظهور بعد فرض انعقاده للكلام ، فان البحث عن حجية الظهور يكون من المباحث الأصولية ، لا من المبادئ ـ كما توهم ـ بتخيل أن البحث عن دليلية الدليل لا يرجع إلى البحث عن العوارض ، بل من المباحث الراجعة إلى أصل تحقق الموضوع.
    ولا يخفى ما فيه ، لما تقدم ( في صدر الجزء الأول من الكتاب ) من أن الموضوع في علم الأصول ليس هو خصوص الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها لتختص مسائل علم الأصول بما يكون البحث فيه عن عوارض الأدلة الأربعة ، بل البحث عن كل ما يقع في طريق الاستنباط يكون بحثا أصوليا ، لأن مسائل علم الأصول هي الكبريات التي تقع في طريق الاستنباط ، ومن أوضحها مسألة حجية الظواهر وحجية الخبر الواحد.
    ثم إن المباحث التي ترجع إلى الصغرى ـ منها : ما تقدم البحث عنه في باب الأوامر والنواهي والعام والخاص ، كالبحث عن وقوع الأمر عقيب الحظر والاستثناء عقيب الجمل المتعددة ، ونحو ذلك من القرائن العامة التي تقتضي
الخاصة ـ كالوقوع عقيب الحظر مثلا ـ لا يبقى مجال لأصالة الحقيقة وكان لأصالة الظهور مجال. نعم : الذي يسهل الخطب إمكان دعوى اليقين بأن بنائهم في باب الألفاظ على الأخذ بما عليه وجهة الكلام من الظهور ، لا بصرف احتمال الحقيقة بلا ظهور.
    ومن هذه الجهة أوردنا على القوم بأن البحث في أن التبادر لابد وأن يكون مستندا إلى حاق اللفظ ، مستدرك. نعم : بناء على كون مدار العقلاء على أصالة الحقيقة ، كان له مجال. ولكن أنى لهم باثباته ، فتدبر جيدا.


(135)
ظهور الكلام على خلاف ما كان ظاهرا فيه لولا احتفافه بتلك القرائن.
    ومنها : ما يأتي البحث عنه بعد ذلك ، كالبحث عن حجية قول اللغوي.
    والمقصود بالكلام فعلا هو البحث عن الكبرى ( وهي حجية الظواهر ) ونعني بحجية الظواهر الحكم بأن ما تكفله الكلام من المعنى الظاهر فيه هو المراد النفس الأمري والبناء على أن الكلام بظاهره قد سيق لإفادة المراد ، ولا إشكال في أن بناء العقلاء على ذلك في الجملة ، بل عليه يدور رحى معاشهم ونظامهم ، فإنه لولا اعتبار الظهور والبناء على أن الظاهر هو المراد لاختل النظام ولما قام للعقلاء سوق.
    ومن المعلوم : أنه ليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد بذلك ، بل لمكان أنهم لا يعتنون باحتمال عدم إرادة المتكلم ما يكون الكلام ظاهرا فيه ، لأن احتمال إرادة خلاف الظاهر إنما ينشأ من احتمال غفلة المتكلم من نصب قرينة الخلاف ، أو احتمال عدم إرادة استيفاء مراده من الكلام ، ونحو ذلك مما يوجب انقداح احتمال عدم إرادة المتكلم ظاهر الكلام ، وكل هذه الاحتمالات منفية بالأصول العقلائية التي جرت عليها طريقتهم ، والشارع قررهم عليها ولم يردع عنها ، بل اتخذها طريقة له أيضا لأنه أحدهم ، فإنه ليس للشارع طريق خاص في بيان مراداته ، بل يتكلم على طبق تكلم العقلاء ، بل لا يتطرق بعض الاحتمالات التي توجب الشك في إرادة ظاهر الكلام في كلامه كاحتمال الغفلة عن نصب القرينة ـ فلم يبق إلا احتمال عدم إرادة استيفاء تمام مراده من الكلام وهو منفى بالأصل.
    وبالجملة : لا إشكال في اعتبار الظواهر ، من غير فرق بين ظواهر كلام الشارع وغيره ، ومن غير فرق بين ظواهر الكتاب العزيز وغيره ، وإن نسب إلى الأخباريين عدم جواز العمل بظاهر الكتاب العزيز ، واستدلوا على ذلك بوجهين :
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس