فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 196 ـ 210
(196)
وأما العقل :
    فقد ذكر في تقريره وجوه :

    الوجه الأول :
    ما أفاده الشيخ ( قدس سره ) واعتمد عليه سابقا ( عند البحث عن حجية كلام اللغوي ) وهو ترتيب مقدمات الانسداد الصغير في خصوص الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب لاستنتاج حجية الظن بالصدور.
    وينبغي أولا بيان المراد من « الانسداد الصغير » ثم نعقبه بما أفيد في المقام.
    فنقول : قد تقدم أن استفادة الحكم الشرعي من الخبر يتوقف على أمور : الأول : العلم بصدور الخبر. الثاني : العلم بجهة صدوره من كونها لبيان حكم الله الواقعي لا للتقية ونحوها. الثالث : كون الخبر ظاهرا في المعنى المنطبق عليه. الرابع : حجية الظهور ووجوب العمل على طبقه.
    فهذه الأمور لابد من إثباتها في مقام استنباط الحكم الشرعي من الرواية وإقامة الدليل على كل واحد منها ، وإذا اختل أحدها يختل الاستنباط ، فان قام الدليل بالخصوص على كل واحد منها فهو ، وإن لم يقم الدليل على شيء منها وانسد طريق إثباتها ، فلابد حينئذ من جريان مقدمات الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي ، للعلم بثبوت الأحكام في الشريعة ولا يجوز إهمالها وترك التعرض لها ـ إلى آخر المقدمات الآتية في باب الانسداد ـ وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الكبير.
    وإن قام الدليل على إثبات بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية دون بعض ، كما لو فرض أنه قام الدليل على الصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ، ولكن لم يمكن تشخيص الظهور وتوقف على الرجوع إلى كلام


(197)
اللغوي في تعيين أن اللفظ الكذائي كلفظ « الصعيد » مثلا موضوع للمعنى الكذائي ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار قوله ، فاعتبار الظن الحاصل من كلام اللغوي وعدمه مبنى على صحة جريان مقدمات الانسداد في خصوص معاني الألفاظ لاستنتاج حجية الظن الحاصل من كلام اللغوي في معنى اللفظ ـ وإن لم يحصل الظن بالحكم الشرعي من قوله ـ وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الصغير.
    وحاصل الفرق بين الانسداد الكبير والانسداد الصغير : هو أن مقدمات الانسداد الكبير إنما تجرى في نفس الأحكام ليستنتج منها حجية مطلق الظن فيها ، وأما مقدمات الانسداد الصغير (1) فهي إنما تجرى في بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية من إحدى الجهات الأربع المتقدمة ليستنتج منها حجية مطلق الظن في خصوص الجهة التي انسد باب العلم فيها.
    وفي صحة جريان مقدمات الانسداد الصغير مطلقا في أي جهة من هذه الجهات الأربع ، أو عدم صحته مطلقا ، أو التفصيل بين الجهات ، فأي جهة توقف العلم بأصل ثبوت الحكم على العلم بها لا يصح جريان مقدمات الانسداد الصغير فيها بل لابد إما من إقامة الدليل بالخصوص على إثباتها وإما من جريان مقدمات الانسداد الكبير لاثبات حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي ، وأي جهة توقف تشخيص الحكم وتعيينه على العلم بها من دون أن يكون لها دخل في أصل العلم بالحكم فان لم يقم دليل بالخصوص عليها تجرى
1 ـ أقول : ميزان الكبر والصغر في باب الانسداد كبر دائرة العلم الإجمالي وصغره بنحو لا يلزم محذور في ترك العمل في هذه الدائرة لولا العلم المخصوص بها من ناحية العلم الكبير ، وإلا فمجرد العلم بالحكم بنحو الكلية الذي هو موضوع الانسداد الكبير لا يتوقف على العلم بصدور روايته ، كيف والعامي البالغ العالم بحكمه وبمحذور الخروج عن الدين غير ملتفت بروايته وصدوره ! نعم : ليس العلم بالحكم بنحو الكلي بنحو لولا العلم بصدور الروايات لا يلزم من ترك العمل فيها محذور خروجه عن الدين ، وبذلك تمتاز عن العلم في دائرة ظواهر جملة من الألفاظ المخصوصة ، وحينئذ فعمدة الميزان ذلك ، فتدبر.

(198)
فيها مقدمات الانسداد الصغير.
    وتوضيح ذلك : هو أن بعض هذه الجهات مما يتوقف عليها العلم بأصل الحكم ـ كجهة الصدور ـ فإنه لولا إثبات صدور الرواية لا يكاد يحصل العلم بالحكم لا بجنسه ولا بفصله موضوعا ومتعلقا ، ففي مثل ذلك لابد إما من قيام الدليل على الصدور ، وإما من جريان مقدمات الانسداد الكبير بالنسبة إلى أصل الأحكام. وبعضها الآخر مما لا يتوقف عليها العلم بأصل الحكم بل كان لها دخل في تشخيص الحكم وتعيينه من حيث الموضوع أو المتعلق كالظهور ـ فان العلم بأصل الحكم لا يتوقف على العلم بالظهور عند العلم بالصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ، بل تشخيص الحكم يتوقف على ذلك إذا كان الإجمال في ناحية الموضوع أو المتعلق ، مثلا في قوله تعالى : « فتيمموا صعيدا طيبا » متعلق الجهل هو خصوص « الصعيد » من أجل تردده بين مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب الخالص ، والجهل بمعنى « الصعيد » لا يضر العلم بأصل الحكم ، لأن المكلف يعلم بأنه مكلف بما تضمنته الآية الشريفة من الحكم ، ففي هذه الجهة إن لم يقم دليل بالخصوص على حجية قول اللغوي في تعيين معنى « الصعيد » تجرى فيها مقدمات الانسداد الصغير ، ولا تصل النوبة إلى مقدمات الانسداد الكبير ، لأنها إنما تجرى بالنسبة إلى نفس الحكم ، والمفروض حصول العلم بالحكم في مورد الكلام.
    فلابد من جريان مقدمات الانسداد الصغير لإثبات حجية مطلق الظن الجهة التي انسد باب العلم فيها.
    وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة يميل إلى هذا التفصيل ، بل كان يقويه ، وعليه بنى حجية الظن الحاصل من قول اللغوي في تعيين مداليل الألفاظ بعد ما كان يمنع عنه ، كما تقدم بيانه.
    وعلى كل حال : المقصود من الوجه الأول ( من وجوه تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد ) هو إجراء مقدمات الانسداد بالنسبة إلى خصوص


(199)
جهة الصدور لإثبات حجية مطلق الظن به (1) وبيانه : هو أنه لا إشكال في أنا نعلم إجمالا بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولا سبيل إلى منع العلم الإجمالي بذلك ، فان من تتبع حال الرواة وكيفية اهتمامهم في ضبط الأخبار وأخذها من الكتب المعتبرة يعلم علما وجدانيا بصدور كثير منها عن الأئمة ( صلوات الله عليهم ) ولا إشكال أيضا بأنا مكلفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام الشرعية ، فلا يجوز إهمالها. ولا يجب الاحتياط فيها لعدم إمكانه أو تعسره ، ولا يجوز أيضا الرجوع إلى الأصول العملية لمنافاتها للعلم الإجمالي ـ على ما سيأتي بيانه في مقدمات الانسداد ـ لابد حينئذ من الأخذ بمظنون الصدور فقط ، أو مع مشكوك الصدور ، أو مع الموهوم أيضا ، حسب اختلاف مراتب العلم الإجمالي ـ على ما سيأتي تفصيله ـ هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه.
    ولكن يرد عليه :
    أولا : ان العلم الإجمالي بالأحكام لا ينحصر أطرافه في ما بأيدينا من الأخبار ، بل الأمارات الظنية ـ كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية ـ أيضا من أطراف العلم الإجمالي ، بل دائرة العلم الإجمالي أوسع من ذلك أيضا ، فان العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الشريعة يقتضي أن تكون جميع الوقايع المشتبهة ( من المظنونة والمشكوكة والموهومة ) من أطرافه ، فيكون للعلم الإجمالي مراتب ثلاث : الأولى : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بأيدينا من الأخبار. الثانية : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بين الأخبار والأمارات الظنية. الثالثة : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في مجموع الوقايع المشتبهة ، وهذه المرتبة
1 ـ أقول : كلامه السابق يقتضي أن يكون الانسداد الجاري في المقام هو الانسداد الكبير ، ومن فحاوي كلماته الآتية بل صريح بعضها يقتضي كونه من الانسداد الصغير ، فتدبر فيها صدرا وذيلا ، لعلك تعرف المرام وتدفع بها التهافت في المقام.

(200)
أوسع من الثانية ، والثانية أوسع من الأولى.
    ومقتضى العلم الإجمالي في المرتبة الثالثة وإن كان هو الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ( مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ) إلا أنه ينحل بالعلم الإجمالي في المرتبة الثانية ، لأن المعلوم بالإجمال بين الوقايع المشتبهة لا يزيد قدرا عن المعلوم بالإجمال بين جميع الأمارات الظنية. والذي يدلك على ذلك ، هو أنه لو عزلنا طائفة من الأمارات الظنية بقدر المعلوم بالإجمال بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها عليها ثم ضممنا الوقايع المشتبهة إلى الباقي من الأمارات الظنية لم يكن لنا علم إجمالي بتكليف بين الوقايع المشتبهة مع الباقي من الأمارات.
    مثلا لو فرضنا : أن المتيقن من المعلوم بالإجمال بين الأمارات الظنية مآت من الأحكام ، وعزلنا بذلك المقدار منها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعزول ، فلا يبقى العلم الإجمالي فيما بقى من الأمارات الظنية ، ولو ضممنا إلى الباقي الوقايع المشكوكة لا يحصل لنا العلم الإجمالي بثبوت حكم فيما بين بقية الأمارات الظنية والوقايع المشكوكة ، لأن نفس بقية الأمارات ليس فيها علم إجمالي ، فضم الوقايع المشكوكة لا يؤثر في حصول العلم ، لأن الشك لا ينقلب عن كونه شكا ، فلا يعقل أن يكون ضم الشك إلى الظن موجبا لحدوث العلم الإجمالي ، وهذا أقوى شاهد على أن العلم الإجمالي الوسيع الذي يكون منشأ العلم بثبوت التكاليف في الشريعة ينحل ببركة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف فيما بين الأمارات الظنية المتوسط بين ذلك وبين العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار المودعة في الكتب.
    فان قلت : العلم الإجمالي المتوسط أيضا ينحل بالعلم الإجمالي الصغير الذي يكون أطرافه خصوص الأخبار ، لأنه لا يعلم بثبوت التكاليف أزيد مما في بين الأخبار ، فلا أثر للعلم الإجمالي المتوسط.
    قلت : هذه الدعوى مما يكذبها الوجدان ، بداهة أن الأمارات الظنية


(201)
ما عدا الأخبار لو لم تكن بنفسها متعلقة للعلم الإجمالي فلا أقل من كونها من أطراف العلم الإجمالي ، لأن متعلق الإجمالي هو المجموع من الأخبار ومن بقية الأمارات الظنية ، وهذا لا ينافي أن تختص الأخبار بعلم إجمالي آخر فيما بينها. وليس العلم الإجمالي في المجموع مستندا إلى العلم الإجمالي في الأخبار لينحل العلم الإجمالي فيه بالعلم الإجمالي فيها.
    والشاهد على ذلك (1) هو أنه لو عزلنا طائفة من الأخبار بقدر المتيقن من الأحكام المعلوم بالإجمال فيما بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها على المعزول منها ، فلا يبقى العلم الإجمالي في بقية الأخبار ، ولو ضممنا إلى البقية سائر الأمارات الظنية كان العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين بقية الأخبار والأمارات الظنية بحاله ، وإنكار ذلك يكون مكابرة واضحة.
    فان قلت : إن ذلك يقتضي أن يكون متعلق العلم الإجمالي نفس الأمارات الظنية فقط ، لا أنها من أطراف العلم الإجمالي ، لأن المفروض أن في بقية الأخبار المنضمة إليها ليس علم بالتكليف ، لانحلاله بسبب عزل طائفة منها ، فضمها إلى الأمارات يكون من قبيل ضم الحجر في جانب الإنسان لا يؤثر في حصول العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي الحاصل لابد وأن يكون في خصوص الأمارات الظنية.
    قلت : أولا : دعوى العلم الإجمالي في خصوص الأمارات الظنية ليست ببعيد ، لأن من تراكم الظنون يحصل العلم الإجمالي بخلاف تراكم الشكوك.
1 ـ أقول : في فرض العلم الإجمالي بين الأمارات الظنية وبقية الأخبار بعد عزل جملة منها إنما يوجب الاحتياط في الجميع لو كان المعلوم بالإجمال في المظنونات وبقية الأخبار غير المعلوم بالإجمال في مجموع الأخبار ، وإلا فمع احتمال اتحادهما لا يقتضي مثل هذا الفرض الاحتياط في جميع الأخبار والأمارات الظنية ، بل العقل يحكم بالتخيير بين الأخذ بالأخبار تماما أو الأخذ بالمظنونات وبقية الأخبار ، لأنه بكل واحد من الآخذين لا يبقى محذور ، بل يقطع بالفراغ عما علم ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال بين المجموع عليه ، كما لا يخفى ، فتدبر كي لا يحتاج إلى التمثيل بشرقية ولا غربية.

(202)
    وثانيا : انه قد يكون الشيء بنفسه ليس موردا للعلم الإجمالي ، إلا أن ضمه إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال يوجب حصول العلم الإجمالي ، مثلا لو كان إنائات ثلاث في الجانب الشرقي من الدار ، وإنائات ثلاث أخرى في الجانب الغربي ، وعلم إجمالا بأنه أصاب أحد الإنائات في الشرقية قطرة من الدم ، وعلم إجمالا أيضا أنه زمان وقوع تلك القطرة وقعت قطرة أخرى من الدم ، إما في أحد الإنائات الشرقية غير ما وقعت فيه تلك القطرة ، وإما في أحد الإنائات الغربية ، ففي الفرض الإنائات الغربية ليست مما تعلق العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، لاحتمال أن تكون كلتا القطرتين وقعتا في الإنائات الشرقية ، ولكن ضم الإنائات الغربية إلى الإنائات الشرقية يوجب زيادة في أطراف المعلوم الإجمالي ، ولو بعد عزل ما يوجب انحلال العلم الإجمالي في الإنائات الشرقية ، فتكون الإنائات الست كلها من أطراف العلم الإجمالي ، فإنه لو عزلنا أحد الإنائات الشرقية ، فالعلم الإجمالي الذي كان بنجاسة أحدهما بسبب وقوع أحد القطرتين في خصوص أحدهما ينحل لا محالة ، لأنه لا يعلم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين الباقيين ، كما لا يعلم بنجاسة أحد الإنائات الغربية ، ولكن من ضم الإنائات الغربية إلى الإنائين الباقيين في طرف الشرق يحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وحال الأمارات الظنية مع بقية الأخبار بعد عزل طائفة منها حال الإنائات بعينه ، وعليه تكون الأمارات الظنية أطراف العلم الإجمالي وحالها حال الأخبار.
    إلا أن يدعى أنه من أول الامر ليست الأمارات من أطراف العلم الإجمالي ، وليس لنا علم بثبوت التكليف في الأخبار وعلم بثبوت التكاليف في الأعم من الأخبار والأمارات الظنية ، فإنه ، على هذا تكون الأمارات خارجة عن أطراف العلم الإجمالي. ولكن عهدة هذه الدعوى على مدعيها.
    فان قلت : سلمنا كون الأمارات من أطراف العلم الإجمالي الحاصل بين بقية الأخبار ـ بعد عزل طائفة منها ـ وبينها ، ولكن لما كانت بقية الأخبار من


(203)
أطراف علم إجمالي آخر ـ وهو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار ـ فقد تنجز التكليف بها بذلك العلم الإجمالي ، فلا يبقى أثر للعلم الإجمالي الحاصل بينها وبين الأمارات الظنية ، لأن بعض أطرافه قد تنجز التكليف به بمنجز آخر ، وقد ذكرنا في محله : أنه لو تنجز التكليف بأحد أطراف العلم الإجمالي بمنجز آخر غير العلم الإجمالي فالطرف الآخر لا يجب الاجتناب عنه ، لأن الشبهة فيه تكون بدوية ، كما لو علم بنجاسة أحد الإنائين ثم علم بوقوع قطرة من الدم إما في أحد الإنائين وإما في الإناء الثالث ، فالإناء الثالث لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض ، وحال الأمارات الظنية حال الإناء الثالث.
    قلت : ذلك إنما يكون إذا كان المعلوم بالإجمال في أحد العلمين متأخرا زمانا عن المعلوم بالإجمال في العلم الآخر ـ كما في المثال ـ حيث فرض أن وقوع القطرة الثانية من الدم المرددة بين كونها في أحد الإنائين أو في الإناء الثالث كان بعد نجاسة أحد الإنائين ، من غير فرق بين تقارن نفس العلمين أو في سبق أحدهما الآخر يكون معلومة متأخرا (1) ولو كان السابق ، فان العبرة إنما هو في تقدم المعلوم وتأخره ، لا في تقدم العلم وتأخره.
    وأما لو كان المعلومين بالإجمال حدثا في زمان واحد ، فلا وجه لانحلال أحد العلمين بالآخر. بل تكون جميع أطراف العلمين في عرض واحد ويجب الاجتناب عن الجميع. وقد ذكرنا تفصيل ذلك في « الجزء الرابع » وما نحن فيه من القسم الثاني ، لأن ثبوت الأحكام في الأخبار ليس أسبق في الزمان عن ثبوت الأحكام في الأمارات ، فالأخبار والأمارات تكون في عرض واحد طرفا للعلم الإجمالي ، وذلك واضح.
    وثانيا : سلمنا أن الأمارات الظنية ليست من أطراف العلم الإجمالي ،
1 ـ كذا في نسخة الأصل ، والصحيح : « بعد كون معلومه متأخرا » ( المصحح ).

(204)
ولكن وجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار إنما هو لأجل ما تضمنتها من الأحكام الواقعية لا بما هي هي ، فالمتعين هو الأخذ بكل ما يظن أن مضمونه حكم الله الواقعي لا خصوص ما يظن بصدوره من الأخبار ، لأن الأخذ بمظنون الصدور إنما هو لاستلزامه الظن بالمضمون غالبا ، ومقتضى ذلك هو اعتبار الظن بالحكم سواء حصل من الظن بالصدور أو من الشهرة والإجماع المنقول (1).
    وثالثا : أقصى ما يقتضيه هذا الدليل هو الأخذ بمظنون الصدور من الأخبار باب التبعيض في الاحتياط ، لأن العلم الإجمالي كان يقتضي الأخذ بجميع ما في الكتب من الأخبار ، ولمكان لزوم العسر والحرج وجب التبعيض في الاحتياط والأخذ بخصوص مظنون الصدور ، والرواية التي كان العمل بها من باب الاحتياط لا تكون حجية شرعية بحيث تنهض لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات (2) والمدعى هو كون مظنون الصدور حجة شرعية.
    وهذا الإشكال يتوجه في الانسداد الكبير أيضا ، كما سيأتي. ولكن سنحرر ( إن شاء الله تعالى ) أن نتيجة مقدمات الانسداد لو كانت هي التبعيض في الاحتياط كان الإشكال واردا ، وأما لو كانت النتيجة هي جعل الشارع مظنون الصدور في المقام ومطلق الظن في الانسداد الكبير طريقا للوصول إلى أحكامه ـ كما هو المعنى الكشف ـ فلا محالة يترتب على مظنون الصدور أو مطلق الظن جميع ما يترتب على الحجة من نهوضها للتخصيص والتقييد وغير ذلك ، فانتظر
1 ـ أقول : بعد اختصاص العلم في خصوص الأخبار فقط الذي يحكم به العقل هو الأخذ بمضمون الأخبار ، لا بمضمون بقية الأمارات الظنية ، فتدبر.
2 ـ أقول : لازم العلم في الأخبار المثبتة خروج العمومات النافية عن الحجية ، ولازمه إجراء حكم التخصيص والتقييد عليها. نعم : في الأخبار النافية مع العمومات المثبتة مقتضى المختار هو العكس ، ولكن حيث مختاره من عدم جريان الأصول المثبتة أيضا في أطراف العلم الإجمالي بنفي التكليف يجرى الكلام السابق فيها أيضا.


(205)
تفصيل ذلك.
    فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن مقدمات الانسداد الصغير لا تنتج اعتبار الظن بالصدور ، بل أقصى ما تقتضيه هو اعتبار الظن بالمضمون ، هذا.
    ولكن يمكن تقريب مقدمات الانسداد الصغير بوجه آخر تنتج اعتبار الظن بالصدور ، مع سلامته عما أورد على الوجه الأول.
    بيانه : هو أنه نعلم بصدور غالب الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولا إشكال في أنه يجب الأخذ بما صدر عنهم ( صلوات الله عليهم ) من الأخبار ، لا من حيث أنها تتضمن الأحكام الواقعية ليرجع إلى الوجه الأول ، بل من حيث إن نفس الأخبار الصادرة عنهم أحكام ظاهرية من جهة وقوعها في طريق إحراز الواقعيات بعد فرض جريان الأصول اللفظية والجهتية فيها ، وحيث لم يمكن لنا تحصيل العلم بالأخبار الصادرة عنهم ، فلابد من التنزل إلى الظن والأخذ بمظنون الصدور. ولا يرد على هذا التقريب شيء مما ذكر في التقريب السابق ، فان الإشكالات المتقدمة كانت مبتنية على أن وجوب العمل بالأخبار من باب أنها تتضمن الأحكام الواقعية ، فكان يرد عليه : أن متعلق العلم بالأحكام الواقعية لا يختص بالأخبار ، بل الأمارات الظنية أيضا من أطراف العلم الإجمالي ، فلابد من العمل بكل ما يظن أنه حكم الله الواقعي لا خصوص مظنون الصدور من الأخبار ، إلى آخر الإشكالات المتقدمة.
    وأما هذا التقريب : فهو مبنى على وجوب العمل بنفس الأخبار الصادرة من حيث إنها أخبار لكونها أحكاما ظاهرية ، فلا تكون سائر الأمارات من أطراف هذا العلم الإجمالي ، لأن الأمارات الظنية التي لم يقم دليل على اعتبارها ليست أحكاما ظاهرية ، فدائرة العلم الإجمالي يتخصص بالأخبار ، ونتيجته هي الأخذ بمظنون الصدور عند تعذر تحصيل العلم التفصيلي بما صدر وعدم وجوب الاحتياط في الجميع ، بل مقتضى العلم بصدور غالب ما في الكتب من الأخبار هو انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف بين الأخبار


(206)
والأمارات ، لأن ما صدر عنهم ( عليهم السلام ) يكون بقدر المعلوم بالإجمال من التكاليف بين الاخبار والأمارات ، فترتفع الإشكالات المتقدمة على التقريب السابق بحذافيرها.
    نعم : الإشكال الأخير مشترك الورود ، وهو أن ذلك لا يقتضي حجية مظنون الصدور بحيث يكون مخصصا ومقيدا للعموم والإطلاق ، إلا إذا قلنا بالكشف.
    وتقريب مقدمات الانسداد الصغير على هذا الوجه يقرب مما سيأتي من المحقق « صاحب الحاشية » وأخيه « صاحب الفصول » من تقريب مقدمات الانسداد الكبير على وجه ينتج خصوص الظن بالطريق لا الظن بالحكم ، وإن كان بين ما ذكرناه في المقام وما ذكراه في ذلك المقام فرق ، وهو أن الغرض من ترتيب مقدمات الانسداد في المقام إنما هو تعيين موضوع الطريق ومصداقه بعد العلم بأن ما صدر عنهم ( صلوات الله عليهم ) يكون طريقا ، وأما مقصودهما من ترتيب مقدمات الانسداد في ذلك المقام هو اعتبار الظن في طريقية الطريق وتعيين ما جعله الشارع طريقا ، هذا.
    ولكن لا يخفى عليك : أن ما ذكرناه من التقريب وإن كان يسلم عن كثير من الإشكالات المتقدمة ، إلا أنه يرد عليه : أن وجوب العمل بالأحكام الظاهرية إنما هو لأجل كونها موصلة إلى الأحكام الواقعية ومحرزة لها ، لا أنها أحكام في مقابل الأحكام الواقعية ، فالعبرة إنما تكون بامتثال الأحكام الواقعية ، ووجوب العمل بالأخبار إنما هو لأجل كونها من الطرق الموصلة إليها ، فلو فرض الوصول إليها من طريق آخر غير الأخبار كان مجزيا ، ونتيجة ذلك بعد تعذر العلم بها وعدم وجوب الاحتياط هي التنزل إلى الظن بها ، لا الظن بالصدور ـ كما أفيد في المقام ـ ولا الظن بالطريق ، كما أفاده « المحقق » واخوه في ذلك المقام.
    وبالجملة : عمدة مقدمات دليل الانسداد الصغير والكبير هو عدم جواز


(207)
إهمال الاحكام الواقعية وترك التعرض لها ، إذ لولا ذلك لم يبق مجال لبقية المقدمات لكل من يقول : إنه يجب الأخذ بمظنون الصدور ، أو يقول : إنه يجب الأخذ بمظنون الطريق ، أو يقول : إن يجب الأخذ بمظنون الحكم ، أن يحوم حول امتثال الأحكام الواقعية وعدم جواز إهمالها ، إذ ليس للعمل بمظنون الصدور أو مظنون الطريق خصوصية سوى كونه طريقا إلى الواقع ومحرزا له. وعليه كان الواجب ترتيب مقدمات الانسداد بالنسبة إلى نفس الأحكام لاستنتاج حجية الظن بها ، ولا أثر لترتيب مقدمات الانسداد بالنسبة إلى ما صدر عنهم من الأخبار أو ما نصب من الطرق.
    فان قلت : نعم ، الواجب أولا وبالذات وإن كان هو امتثال الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، إلا أنه حيث علم بصدور غالب ما بأيدينا من الأخبار بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية ، فالعلم الإجمالي بها ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب العمل على طبق الأحكام الظاهرية التي هي فيما بين الأخبار المودعة في الكتب والشك البدوي بالنسبة إلى ما عداها من الوقايع المشتبهة ، وحيث لم يتمكن من احراز تلك الأحكام الظاهرية تفصيلا ولم يمكن أو لم يجب الاحتياط في العمل بجميع الأخبار المودعة في الكتب وجب التنزل إلى الظن بالحكم الظاهري ، وهو المراد من الظن بالصدور ، فلا يبقى موقع للانسداد الكبير ، لأن مبناه العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الوقايع المشتبهة ، وقد انحل ببركة العلم بثبوت التكاليف الظاهرية في الأخبار المودعة.
    قلت : مجرد العلم بصدور جملة من الأخبار التي بأيدينا لا يقتضي أن يترتب على الأخبار الصادرة آثار الأحكام الظاهرية ، فان الحكم الظاهري يتوقف على العلم به موضوعا وحكما ، لا أقول : إن وجوده الواقعي يتوقف على العلم بالموضوع والحكم فان ذلك ضروري البطلان ، بداهة أن الحكم الظاهري من الطريقية والحجية كالحكم الواقعي من الوجوب والحرمة لا


(208)
يتوقف وجوده الواقعي وجعله النفس الأمري على العلم به ، ولكن الآثار المرغوبة من الحكم الظاهري : من كونه منجزا للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة ، لا تكاد تترتب مع الجهل به موضوعا أو حكما ، فان الحكم الظاهري ليس أمرا مقابلا للحكم الواقعي ـ كما تقدم بيانه في باب جعل الطرق والأمارات ـ بل الوجه في كون الشيء حكما ظاهريا إنما هو لمكان أنه موصل إلى الواقع ، وهذا كما ترى ما لم يكن الطريق محرزا لدى المكلف لا يكون موصلا إليه ، لوضوح أن وجود الرواية في الكتب من دون العلم بها تفصيلا لا تكون منجزة للواقع ، لأن الواقع بعد باق على ما كان عليه من الجهل به.
    وكذا مع العلم بالرواية تفصيلا والجهل بظهورها أو جهة صدورها أو إرادة ظهورها ، فان الجهل بأي من هذه الجهات يضر بحجية الرواية ـ أي بالآثار المرغوبة منها ـ لأن الجهل بأي منها يقتضي الجهل بالواقع فلا يكون محرزا لدى المكلف ، وما لم يكن محرزا لا يكون منجزا ، فلا بد من العلم بالرواية صدورا وظهورا لتجري الأصول العقلائية واللفظية في جهة الصدور وإرادة الظهور ، لتكون الرواية حكما ظاهريا منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة. وهذا المعنى لا يكاد يتحقق في العلم الإجمالي بصدور جملة من الأخبار المودعة في الكتب ، لعدم العلم بظهور ما هو الصادر منها لتجري فيه الأصول العقلائية (1) فلا يمكن أن يترتب على الصادر من الأخبار ما للحكم الظاهري من الآثار ، فيبقى العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية بين الأخبار والأمارات الظنية على حاله ، ولابد من ترتيب مقدمات الانسداد الكبير بالنسبة
1 ـ أقول : ولا أقل من منع ظهور جميعها بنحو يفي بمقدار المعلوم بالإجمال في جميع الدوائر ، وحينئذ لا يبقى مجال لانحلال العلم الكبير بالعلم الإجمالي بالصدور ، إلا بدعوى العلم المزبور في دائرة الظواهر وكونه بمقدار المعلوم بالإجمال ، وليس ذلك كل البعيد أيضا ، فتدبر.

(209)
إلى نفس الأحكام الواقعية لاستنتاج حجية الظن بالحكم ، ولا أثر للظن بالصدور.
    وثانيا : فعلى فرض تسليم كون الإجمال غير مانع عن ترتب آثار الأحكام الظاهرية على ما صدر من الأخبار ، ولكن مجرد ذلك لا يكفي في انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف فيما بأيدينا من الأخبار وسائر الأمارات الظنية ، فان تلك الأحكام الظاهرية التي فرض كونها بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية لم تحرز بالوجدان ، ولم يجب الاحتياط في جميع ما بأيدينا من الأخبار وثبت الترخيص في غير مظنون الصدور ـ كما هو المفروض ـ فلا يمكن مع هذا أن ينحل العلم الإجمالي بالتكاليف ، لأن انحلال العلم الإجمالي إنما يكون بانحلال القضية المانعة الخلو ـ التي كل علم إجمالي يتضمنها ـ إلى قضيتين حمليتين ، إحديهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، وقضية العلم الإجمالي بالتكاليف لا تنحل إلى ذلك ، لأن وجوب الأخذ بمظنون الصدور من الأحكام الظاهرية لا يوجب انحلال العلم بالنسبة إلى بقية الأخبار وساير الأمارات بحيث يكون الشك فيها بدويا ، بل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بينها على حاله ، لأن الأحكام الظاهرية في مظنون الصدور ليست بقدر الأحكام الواقعية في مجموع الإخبار والأمارات (1) بل أقصى ما يدعى هو أن مجموع ما صدر عنهم ( صلوات الله عليهم ) من الأحكام الظاهرية بقدر التكاليف الواقعية ، فالترخيص في ما عدا مظنون الصدور يوجب نقصا في الأحكام الظاهرية ، ويلزمه زيادة الأحكام الواقعية عن الأحكام الظاهرية التي يلزم الأخذ بها.
    فان قلت : الموجب للإنحلال هو العلم بصدور الأخبار بمقدار المعلوم
1 ـ أقول : ذلك صحيح في الظن الفعلي بالصدور ، وإلا لو أريد به الوثوق النوعي فعهدة ذلك على مدعيه ، كيف وبناء الفقه فعلا على ما هو موثوق الصدور من الأخبار ، ولو لم تكن وافية بمقدار المعلوم بالإجمال ، قلنا : « إنا لله وإنا إليه راجعون ».

(210)
بالإجمال من التكاليف ، ومجرد الترخيص في ترك العمل بما عدا مظنون الصدور من الأخبار لا يقتضي عدم الانحلال ، لأن عدم ايجاب الشارع الجمع بين جميع الأخبار في العمل لا يضر بالانحلال.
    قلت : قد عرفت أن الترخيص في ترك العمل ببعض الأخبار يوجب نقصا في الأحكام الظاهرية ، للعلم بأن بعض الأحكام الظاهرية تكون في الأخبار التي رخص في ترك العمل بها ، لأن مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر التكاليف الواقعية ، فلا يبقى مجال للإنحلال.
    مثلا لو علم إجمالا بأن في القطيع من الغنم موطوء وأقله عشرون ويحتمل أن يكون أزيد ، وقام الدليل على أن في البيض من القطيع عشرين موطوء ، وكان عدد البيض يزيد عن مقدار عدد المعلوم بالإجمال في مجموع القطيع ، ففي هذا لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي المتعلق بمجموع القطيع بقيام الدليل على وجود عشرين موطوء في البيض ، لان المعلوم بالإجمال في المجموع محتمل الانطباق على ما في البيض.
    ولكن لو لم يجب الاجتناب عن بعض أفراد البيض للعسر والحرج والاضطرار وكان الذي يجب الاجتناب عنه أقل عددا من المعلوم بالإجمال في مجموع القطيع ، فالعلم الإجمالي المتعلق بالمجموع لا ينحل ، لأن الاضطرار إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال وإن كان يوجب التوسط في التنجيز ـ على ما سيأتي بيانه في محله ـ بحيث لو كان الموطوء في الأفراد التي لا يجب الاجتناب عنها للاضطرار كان التكليف بالاجتناب عن الموطوء غير منجز ، إلا أن هذا إذا لم يلزم عن عدم الاجتناب عن بعض أفراد البيض محذور المخالفة القطعية للتكليف بالاجتناب عن الموطوء من الغنم في القطيع ، وإلا عاد العلم الإجمالي في المجموع على حاله ولابد من علاجه ، لأن عدد المعلوم بالإجمال فيه يزيد عن عدد ما يجتنب عنه من أفراد البيض ، فلا يبقى أثر لقيام الدليل على وجود الموطوء في البيض بقدر المتيقن من المعلوم بالإجمال في المجموع من البيض ومن
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس