فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 211 ـ 225
(211)
غيره ، وحال المقام بعينه حال المثال ، فتدبر.
    فان قلت : الأخذ بمظنون الصدور فيما بأيدينا من الأخبار إن كان من باب التبعيض في الاحتياط كان لعدم الانحلال مجال ، وأما إن كان من باب أن الشارع جعل الظن بالصدور حجة وطريقا إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الأخبار ، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي المتعلق بالمجموع من الأخبار والأمارات الظنية ، لأن الأحكام الظاهرية التي فرضناها أنها بقدر الأحكام الواقعية تكون محرزة ببركة حجية الظن ، فان نتيجة جعل الشارع الظن بالصدور طريقا إلى ما صدر من الأخبار هي : أن ما عدا المظنون ليس مما صدر (1) واختصاص ما صدر بمظنون الصدور ، والمفروض أن ما صدر بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام التكليفية ، فيلزمه انطباقه على مظنون الصدور وينحل العلم الإجمالي بالتكاليف.
    قلت : هذا إذا تمت المقدمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة ، فتكون النتيجة حجية الظن وأن الشارع جعل الظن طريقا إلى ما صدر. ولكن المدعى انه لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة ، من جهة أن عمدة المقدمات التي يتوقف عليها أخذ النتيجة هو عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة من الأحكام الظاهرية ، وبعد بطلان هذه المقدمة بجواز إهمال بعض الوقايع ـ وهو ما عدا المظنون ـ لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة ، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة ، وانتظر لذلك مزيد توضيح في باب الانسداد الكبير.
    فتحصل : أن مقدمات الانسداد الصغير بكلا وجهيه لا تنتج اعتبار الظن بالصدور ، فالوجه الأول ( من وجوه تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد ) فاسد.
1 ـ أقول مع الإغماض عن سائر جهاته نقول : مجرد حجية الظن بالصدور لا يقتضي حصر الصادر بما ظن به كي يلزم ما ذكر ، فتدبر.

(212)
    الوجه الثاني :
    هو ما ذكره المحقق صاحب الحاشية (ره) وحاصله : أن وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالإجماع والضرورة ، فان أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم منهما بالحكم أو الظن المعتبر فهو ، وإلا فلابد من الرجوع إليهما على وجه يحصل الظن منهما بالحكم ، فلا محيص عن الأخذ بمظنون الصدور.
    وقد جعل هذا الوجه من أقوى الوجوه الثمانية التي أقامها على اعتبار الظن بالطريق.
    وأنت خبير بما فيه ، فإنه إن أراد من السنة نفس قول المعصوم (ع) وفعله وتقريره ـ كما هو المصطلح عليه وقام الإجماع والضرورة على الرجوع إليها ـ كان اللازم عند تعذر تحصيل العلم بما هو واقع السنة من قول الإمام ( عليه السلام ) وفعله وتقريره هو العمل بما ظن أنه مدلول السنة ـ أي ما ظن أنه مقول قول المعصوم ( عليه السلام ) ـ من غير فرق بين ما إذا حصل الظن بذلك من الأخبار أو من الشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية ، لاستواء الكل في حصول الظن منها بمدلول السنة ، إلا إذا شك أو ظن بأن مدلول الشهرة لم يكن مقول قول المعصوم ( عليه السلام ) ولم يصدر ما قامت عليه الشهرة عن الإمام ( عليه السلام ) بل كان مما سكت الله عنه وأمر الحجج بعدم تبليغه إلى الأنام ، ولكن دون حصول الشك أو الظن بذلك خرط القتاد ! بل من المحالات العادية ، لأن المسائل التي انعقدت الشهرة عليها أو حكى الإجماع بها من المسائل التي تعم بها البلوى ، بحيث نعلم بصدور حكمها عنهم ( صلوات الله عليهم ). وإن أراد من السنة الأخبار الحاكية لها لا نفس قول المعصوم ( عليه السلام ) وفعله وتقريره ( كما حكى أنه صرح في ذيل كلامه بأن المراد منها ذلك ) على خلاف ما هو المصطلح من السنة ففيه : مضافا إلى أنه لم تعم الإجماع والضرورة على العمل بالأخبار


(213)
الحاكية عن السنة ـ لأنها هي محل الكلام بين الأعلام ـ إن ذلك يرجع إلى التقريب الثاني من الوجه الأول ( إن كان الوجه في وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية لكونها من الأحكام الظاهرية ) وإلى التقريب الأول منه ( إن كان الوجه في الرجوع إليها كونها تتضمن الأحكام الواقعية ) وقد تقدم ما في كلا التقريبين من النقض والإبرام.

    الوجه الثالث :
    ما ذكره « صاحب الوافية » مستدلا به على خصوص الأخبار المودعة في الكتب الأربعة مع عمل جمع بها.
    وحاصل ما أفاده من الوجه : هو أنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، خصوصا بالضروريات ـ كالصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس وغير ذلك من العبادات والمعاملات ـ ولا إشكال أن غالب أجزاء هذه الأمور وشرائطها إما تثبت بخبر الواحد بحيث لو ترك العمل به لخرجت عن حقايقها ولم تستحق إطلاق أساميها عليها ، فلابد من العمل بخبر الواحد.
    وفيه :
    أولا : أن اللازم حينئذ العمل بخصوص الأخبار المثبتة للأجزاء والشرايط دون الأخبار النافية.
    وثانيا : أنه لا خصوصية للأخبار المودعة في الكتب الأربعة مع اشتراط العمل بها ، بل العلم الإجمالي بثبوت الأجزاء والشرائط حاصل في مطلق الأخبار ، بل في مطلق الأمارات ، فالمتعين هو الاحتياط بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته.
    وثالثا : أنه لا موجب لقصر العلم الإجمالي بخصوص الأجزاء والشرائط ، بل يعلم بثبوت الأحكام والتكاليف النفسية والغيرية في الأخبار المودعة في الكتب الأربعة وفي مطلق الأخبار والأمارات ، فيرجع هذا الوجه


(214)
إلى الانسداد الكبير مع حذف بعض مقدماته التي لابد منها ، كما سيأتي بيانه.
    فالانصاف : أن ما استدلوا به على حجية الخبر الواحد من الحكم العقلي بتقريباته مما لا يستقيم. ولكن المسألة في غنى عن ذلك ، لأنه يكفي لإثبات حجية الخبر الموثوق به ما تقدم من الأدلة وعمدتها الطريقية العقلائية مع عدم ردع الشارع عنها.
    هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لبيان ما اعتبر فيه من الظنون الخاصة.

    المقام الثاني : في الوجوه التي استدلوا بها على حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي أو في الجملة ( على ما سيأتي بيانه ) وهي أربعة :
    الوجه الأول : ان الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر عند ترك العمل به ، ودفع الضرر المظنون لازم عقلا ، فيجب العمل بالظن.
    ولا يخفى أن الفرق بين هذا الوجه والوجه الرابع ـ المعروف بدليل الانسداد ـ هو أن الوجه الرابع يتوقف على انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام ، وهذا الوجه مع ما يتلوه من الوجه الثاني لا يتوقف على ذلك ، بل مع فرض انفتاح باب العلم في المعظم إذا حصل الظن بالحكم في المورد الذي اتفق انسداد باب العلم فيه يكون الظن حجة على هذا الوجه والوجه الثاني.
    ثم إن هذا الوجه يتركب من صغرى وكبرى.
    أما الكبرى ـ وهي لزوم دفع الضرر المظنون عقلا ـ فهي في الجملة مما لا ينبغي التأمل والإشكال فيها ، لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ،


(215)
بل المشكوك ، بل الموهوم أيضا إذا كان الضرر المحتمل من سنخ العقاب الأخروي ، ولذلك لا تكفى الإطاعة الظنية عند التمكن من الإطاعة العلمية ، مع أن الضرر في الإطاعة الظنية يكون موهوما.
    وأما الصغرى : فهي ممنوعة أشد المنع.
    وتنقيح البحث في كل من الصغرى والكبرى يحتاج إلى تمهيد أمور :
    الأمر الأول : انه لا إشكال في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما أنه لا إشكال في استقلال العقل بلزوم دفع ضرر العقاب الموهوم فضلا عن المشكوك فضلا عن المظنون. ومورد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو فيما إذا أعمل العبد ما تقتضيه وظيفته وجرى على ما يلزمه الجري عليه من الفحص والسؤال عن مرادات المولى ، فإذا فعل ذلك ولم يعثر على مراد المولى قبح عقابه ، سواء كان للمولى مراد واقعا أو لم يكن ، فان المراد من « البيان » في قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » هو البيان الواصل إلى العبد لا البيان الواقعي ، لأن الإرادة النفس الأمرية لا تكون محركة للعضلات ولا تصلح للداعوية ، فلا أثر للبيان الواقعي ما لم يصل إلى العبد ، وليس قبح العقاب بلا بيان مورد الدليل اللفظي حتى يستظهر منه الأعم من البيان الواقعي والبيان الواصل ، بل هو حكم عقلي ملاكه قصور الإرادة الواقعية عن تحريك إرادة العبد نحو المراد ، فالعقل يستقل بقبح عقاب العبد وعتابه إذا أعمل وظيفته بالفحص والسؤال فلم يعثر على مراد المولى ، فان عدم عثور العبد مع الفحص : إما لكون المولى أخل بوظيفته بعدم بيان مراده بالطرق التي يمكن الوصول إليه منها ، وإما لأجل تقصير الوسائط في ايصال مراد المولى إلى العبد ، وعلى كلا التقديرين : لا دخل للعبد في عدم حصول مراد المولى على تقدير وجوده النفس الأمري ، وذلك واضح.
    وأما مورد حكم العقل بلزوم دفع ضرر العقاب المحتمل ، فهو إما في


(216)
الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وإما في الشبهات البدوية إذا أخل العبد بما تقتضيه وظيفته بترك الفحص والسؤال عن مرادات المولى واعتمد على الشك ، فان مثل هذا العبد يستحق العقاب والعتاب إذا صادف فوت مراد المولى.
    ويشهد لذلك الطريقة المألوفة بين الموالى والعبيد العرفية ، فإنه لكل من المولى والعبد وظيفة تخصه ، أما وظيفة المولى : فهي أن يكون بيان مراده على وجه يمكن وصول العبد إليها إذا لم يتوسط في البين ما يمنع عن ذلك من تقصير الوسائط في التبليغ ونحو ذلك. وأما وظيفة العبد : فهي الفحص والسؤال عن مرادات المولى في مظان وجودها ، فعند إخلال العبد بوظيفته يستحق العقاب ويكون مورد حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.
    وبما ذكرنا من الضابط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل يظهر : أنه لا يكاد يتحقق الشك في مورد أنه من موارد قبح العقاب بلا بيان أو من موارد دفع الضرر المحتمل ؟ إلا إذا قلنا : إن المراد من البيان في « قاعدة قبح العقاب بلا بيان » هو البيان الواقعي ، فإنه يمكن حينئذ فرض الشك في ذلك ، ولابد من التحرز عن المشكوك ، لأن احتمال الضرر فيه وجداني والشك في جريان البراءة فيه ، فتأمل جيدا.
    الأمر الثاني : قد تقدم في بعض المباحث السابقة أن ملاكات الأحكام تختلف من حيث الأهمية ، فقد يكون الملاك بمثابة من الأهمية في نظر الشارع ، بحيث يقتضي تحريم جملة من المحللات ظاهرا ، لإحراز الملاك والتحفظ عليه ، وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، وطريق استكشاف أن ملاك الحكم من أي قبيل إنما يكون بجعل المتمم ، فإنه لابد للشارع من جعل المتمم إذا كان الملاك مما يجب رعايته ، إذ لا طريق للعباد إلى إحراز كون الملاك بتلك المثابة من الأهمية حتى يجب عليهم التحرز عن فوته في موارد الشك ، فلو كان الملاك ثبوتا مما يلزم رعايته فعلى الشارع بيان ذلك بجعل


(217)
المتمم من ايجاب الاحتياط في موارد الشك ، كما أوجبه في باب الدماء والأعراض والأموال ، فمن عدم ايجاب الاحتياط في مورد يستكشف كون الملاك ليس بتلك المثابة من الأهمية. ولو شك في جعل المتمم ووجوب الاحتياط في مورد فالأصل يقتضي البراءة ، لأنه يندرج في قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « رفع ما لا يعلمون » فان أمر المتمم وضعا ورفعا بيد الشارع ، فيشمله حديث الرفع.
    الأمر الثالث : الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه ، إما يكون أخرويا ، وإما يكون دنيويا.
    فان كان أخرويا فلا إشكال في أن حكم العقل بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل منه يكون للإرشاد لا يستتبع حكما مولويا شرعيا على طبقه ، لان حكم العقل في باب العقاب الأخروي واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، وكل حكم عقلي وقع في هذه السلسلة لا يستتبع الحكم المولوي الشرعي وليس مورد القاعدة الملازمة وإلا يلزم التسلسل ، فحكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل يكون إرشاديا وطريقيا لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على المرشد إليه من العقاب الواقعي لو فرض مصادفة الظن أو الاحتمال للواقع ، وإلا كان من التجري في حكم العقل ، وذلك واضح.
    وإن كان الضرر دنيويا : فالذي يظهر من بعض كلمات الشيخ ( قدس سره ) في مبحث البراءة ، هو أن الظن في المضار الدنيوية يكون طريقا مجعولا شرعيا كسائر الطرق الشرعية ، فلا يترتب العقاب على مخالفته إلا إذا صادف الظن الواقع وكان ما أقدم عليه ضررا واقعا ، فيستحق المكلف العقاب على مخالة الواقع لا مخالفة الطريق ، وقد تقدم منا الإشكال في ذلك ، وأن الظاهر من تسالم الأصحاب ـ على ما هو المحكى عنهم ـ من أن سلوك الطريق الذي لا يؤمن من الوقوع في الضرر معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو تبين عدم


(218)
الضرر (1) هو أن للعقل في باب الضرر الدنيوي حكم واحد بمناط واحد يعم صورة القطع والظن بل الاحتمال العقلائي ، نظير حكمه بقبح التشريع ، لا أنه للعقل حكمان : حكم على الضرر الواقعي ، وحكم آخر طريقي على ما لا يؤمن منه من الوقوع في الضرر ، نظير حكمه بقبح الظلم.
    وعلى كل حال : سواء قلنا : بأن حكم العقل في موارد احتمال الضرر طريقي أو موضوعي ، فحيث كان هذا الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام فيستتبع الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة على طبق ما حكم به العقل ، فان كان الحكم العقلي طريقيا فالحكم الشرعي المستكشف منه أيضا يكون طريقيا ، نظير ايجاب الاحتياط في باب الدماء والفروج ، وإن كان موضوعيا فالحكم الشرعي أيضا يكون كذلك ، ولا يمكن أن يختلف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي في الموضوعية والطريقية ، بل يتبعه في ذلك لا محالة.
    وهذا الحكم العقلي الطريقي أو الموضوعي المستتبع للحكم الشرعي على طبقه يكون حاكما على أدلة الأصول الشرعية : من البراءة والاستصحاب (2) كما يكون واردا على البراءة العقلية ، فإنه يخرج المورد عن كونه « ما لا يعلمون » وعن « نقض اليقين بالشك » وعن كون « العقاب عليه بلا بيان » بل يكون « ما يعلمون » ومن « نقض اليقين باليقين » ومن « كون العقاب عليه عقابا مع البيان الواصل » ويأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء الله تعالى ).
1 ـ أقول : لولا حمل كلامهم على كونه في فرض المخالفة بحكم المعصية بمناط التجري وأنه موجب لإتمام الصلاة أيضا ، ولقد أشرنا إلى هذه الجهة سابقا أيضا ، فراجع. هذا ، مع إمكان أن يقال : إن لازم طريقية الاحتمال لزوم ترتيب آثار المطابقة عليه ، ومن آثاره إتمام الصلاة حين وجود الاحتمال ، وليس فتواهم بوجوب التمام أزيد من وجوبه حين قيام الطريق بلا نظر منهم إلى فرض انكشاف خلافه ، فتدبر.
2 ـ أقول : لا نفهم وجه الحكومة ، خصوصا الاستصحاب ، لولا دعوى عكسه فيه ، فتدبر.


(219)
    الأمر الرابع : المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام ، قد تكون شخصية راجعة إلى آحاد المكلفين كالواجبات العبادية وغالب المحرمات ، كالصوم والصلاة والحج والزنا وشرب الخمر وغير ذلك مما تعود المصلحة والمفسدة إلى شخص الفاعل.
    وقد تكون نوعية كالواجبات النظامية ، من الطبابة والصياغة والخياطة ونحو ذلك مما يتوقف عليها حفظ الجامعة والنظام.
    وفي كلا القسمين تكون المصلحة والمفسدة في متعلق الأمر ، لا في نفس الأمر ، فإنه لو كانت المصلحة في نفس الأمر والجعل كان اللازم حصولها بمجرد الأمر ولم يبق موقع للامتثال ، فالمصلحة لابد وأن تكون في المتعلق ، بل في الأوامر الامتحانية أيضا لا تكون المصلحة في نفس الأمر ، وإنما المصلحة في إظهار العبد الطاعة والعبودية.
    وبالجملة : دعوى كون المصلحة في نفس الأمر والجعل ولو موجبة جزئية مما لا سبيل إليها.
    إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم : أن المراد من « الضرر » في قول المستدل « إن الظن بالحكم يستلزم الظن بالضرر » إن كان هو العقاب فالملازمة ممنوعة ، فان العقاب يدور مدار التنجيز وهو يدور مدار وصول التكليف وإحرازه بالعلم أو ما يقوم مقامه من الطرق الشرعية ، لما عرفت ( في الأمر الأول ) من أن التكليف بوجوده الواقعي قاصر عن أن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد ويقبح العقاب عليه. والظن بالحكم مع عدم قيام الدليل على اعتباره وجعله كاشفا ومحرزا لا يقتضي وصول الحكم ، وما لم يصل لا عقاب عليه ، لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، فالظن بالحكم لا يلازم احتمال العقاب فضلا عن الظن به ، لأن العقاب فرع التنجيز وهو فرع الوصول ، فما يقال : من « أن الظن بالحكم وإن لم يلازم الظن بالعقاب إلا أنه يحتمل


(220)
العقاب ، ودفع العقاب المحتمل كالمظنون مما يلزم به العقل » ضعيف غايته ، فإنه كيف يحتمل العقاب مع عدم اعتبار الظن وعدم كونه منجزا للتكليف ، بل ينبغي القطع بعدم العقاب لاستقلال العقل بقبحه.
    وإن أريد من « الضرر » غير العقاب من المصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات التكاليف ـ بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الراجعة إلى العباد لاستغنائه ( تعالى ) عن ذلك ـ فالظن بالتكليف يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة ، لأن المصالح والمفاسد من الأمورات الواقعية التكوينية ولا تأثير للعلم والجهل بها ، ولا يمكن أن يدور وجودها الواقعي مدار العلم بالتكليف ، فالظن به يلازم لا محالة الظن بها ، إلا أن الشأن في كون فوت المصالح أو الوقوع في المفاسد من المضار الدنيوية ليندرج الظن بها في صغرى حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون.
    والإنصاف : أنه ليس كذلك ، فان التكليف المظنون ، إما أن يكون من العبادات التي تتوقف على قصد الامتثال ، وإما أن يكون من التوصليات.
    فان كان من العبادات : فالمصلحة فيها تدور مدار قصد الامتثال ، وهو يدور مدار العلم بالتكليف أو ما يقوم مقامه (1) ليتمكن المكلف من قصد الامتثال ، فالظن بالحكم مع عدم قيام الدليل على اعتباره لا يصحح قصد الامتثال ، بل لا يتمكن المكلف من ذلك إلا على نحو التشريع المحرم ، فحال المصلحة في العبادات حال العقاب في عدم الملازمة بين الظن بالحكم وبين الظن بها ، فالظن بالأحكام العبادية لا يندرج في صغرى حكم العقل بلزوم
1 ـ أقول : ذلك يصح على فرض احتياج العبادة إلى القربة الجزمية ، ومعه ينسد باب الاحتياط في العبادات ، خصوصا في الشبهات البدوية ، ولا أظن التزامه ممن كان خالي الذهن من الشبهات ، كيف وهو ديدن الصلحاء والعباد في الاحتياط في قضاء صلاتهم وغيرها.
    ولئن سلمنا ما أفيد ، لنا أيضا أن نقول : إنه في فرض تمكنه من تحصيل العلم لو ترك ذات العبادة فقد احتمل فوت المصلحة الملزمة ، ومع تسليم كون فوات المصلحة من الضرر يحتمل إقدامه على الضرر.


(221)
دفع الضرر المظنون على فرض تسليم كون فوات المصلحة من الضرر.
    وإن لم يكن الحكم المظنون من العبادات ، فان كان من الأحكام النظامية : فالظن بها لا يلزم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، فان الأحكام النظامية تبتنى على المصالح والمفاسد النوعية ، والضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه هو الضرر الشخصي لا الضرر النوعي ، فلو سلم أن فوت المصلحة والوقوع في المفسدة يندرج في الضرر فإنما هو في المصلحة والمفسدة الشخصية ، فالظن بالأحكام النظامية لا يلازم الظن بالضرر الشخصي الذي يستقل العقل بقبح الإقدام عليه.
    وإن كان من الأحكام الشخصية : فالظن بها يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، ولا يصغى إلى ما قيل : من « أنه يمكن أن تكون المصلحة والمفسدة في نفس الأمر لا في المأمور به ، فالظن بالحكم لا يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية » لما عرفت : من أن دعوى كون المصلحة في الأمر مما لا سبيل إليها ، بل المصالح والمفاسد إنما تكون في نفس المتعلقات.
    فان قلنا : إن فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر ، فلا محالة يلزم التحرز عنه بفعل ما ظن وجوبه وترك ما ظن حرمته.
    ولكن للمنع عن كون فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر مجال واسع ، فان أقصى ما يقتضيه فوات المصلحة هو عدم النفع ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على ما يقطع منه فوات النفع فضلا عن الظن ما لم يلزم منه محذور آخر من معصية المولى ومخالفة أمره. وأما الوقوع في المفسدة : فكذلك أيضا ، لأنه ليس كل مفسدة ضررا حتى يجب عقلا التحرز عن الوقوع فيها ، إلا أن يدعى أن دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلا وإن لم تكن المفسدة من أفراد الضرر.
    ولكن لو صحت هذه الدعوى فهي جهة أخرى لا دخل لها بما رامه المستدل لحجية مطلق الظن بقاعدة قبح الإقدام على الضرر المظنون ، مع أنه


(222)
سيأتي ( في مبحث البراءة ) ما يظهر منه فساده هذه الدعوى.
    فالتحقيق : ان الظن بالحكم لا يلازم الظن بالضرر.
    والشيخ ( قدس سره ) بعد أن سلم الملازمة بين الظن بالحكم والظن بالضرر واعترف أن المفسدة من أفراد الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه سلك مسلكا آخر في منع الصغرى.
    وحاصل ما أفاده في وجه المنع هو : أن المفسدة المظنونة مما يقطع أو يظن بتداركها ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على المفسدة المظنونة مع القطع أو الظن بتداركها ، بيان ذلك هو : أن أدلة الأصول الشرعية ـ من الاستصحاب والبرائة ـ في المورد الذي لم يثبت التكليف به ، إما أن تكون مقطوعة الصدور عنهم ( صلوات الله عليهم ) كما هو ليس ببعيد وإما أن تكون مظنونة الصدور عنهم ، وعلى كلا التقديرين : إما أن يقطع أو يظن بتدارك المفسدة المظنونة عند الظن بالتكليف مع عدم قيام الدليل على اعتبار الظن ، فإنه إما يقطع بالبرائة الشرعية عن التكليف المظنون إن كانت أدلتها قطعية وإما أن يظن بها إن كانت أدلتها ظنية ، ويلزمه القطع أو الظن بتدارك المفسدة المظنونة حتى لا يلزم ايقاع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، فإنه مع عدم إحراز التكليف لابد للشارع : إما من ايجاب الاحتياط ليتحرز المكلف عن الوقوع في المفسدة وإما من تداركها ، وحيث لا يجب الاحتياط عند الظن بالتكليف ـ إما علما وإما ظنا ـ فلا يظن بالمفسدة الغير المتداركة ، بل يعلم أو يظن بالتدارك ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على المفسدة المتداركة.
    هذا حاصل ما أفاده ( قدس سره ) في وجه المنع عن الصغرى إن كان المراد من « الضرر » فيها المفسدة لا العقاب.
    وأنت خبير بما فيه ، أما أولا : فلأن تدارك الضرر والمفسدة إنما يجب إذا كان الشارع أوقع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، وذلك ينحصر بالتعبد بالأمارات في مورد انفتاح باب العلم وتمكن المكلف من الوصول إلى


(223)
الواقع وإدراك المصالح والمفاسد الواقعية ، فان التعبد بالأمارة مع مخالفتها للواقع يكون قبيحا إلا بأن يتدارك بالمصلحة السلوكية ما فات من المكلف بسبب العمل بالأمارة من مصلحة الواقع ـ كما تقدم بيانه ـ وأما الأصول العملية : فالتعبد بها إنما يكون في مورد انسداد باب العلم وعدم التمكن من الوصول إلى الواقع ، لأن الأصول العملية لا اعتبار بها في الشبهات الحكمية إلا بعد الفحص واليأس عن الوصول إلى الواقع بالعلم أو العلمي ، فلا يكون الوقوع في الضرر والمفسدة الواقعية مستندا إلى الشارع ، لأنه لولا التعبد بالأصول كان المكلف يقع في ذلك إلا إذا وجب عليه الاحتياط عقلا أو شرعا. وقد لا تكون مصلحة الواقع بمثابة يلزم رعايتها بجعل المتمم وايجاب الاحتياط (1) فتأمل.
    وأما ثانيا : فلأن العموم في كل مورد إنما يشمل الأفراد التي لا يتوقف شمول العام لها إلى مؤنة زائدة من إثبات أمر آخر (2) إلا إذا بقى العام بلا مورد لولا تلك المؤنة الزائدة ـ كما أوضحناه في محله ـ وشمول عموم أدلة الأصول لمورد الظن بالحكم يتوقف على إثبات تدارك الضرر والمفسدة ، وإذا توقف على ذلك فمن أول الأمر العموم لا يشمل مورد الظن بالحكم ، ولا يلزم من عدم شموله بقاء العموم بلا مورد ، لأن المشكوكات والموهومات تبقي تحت العموم.
    وأما ثالثا : فلأنه بعد تسليم كون الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر على تقدير ترك العمل بالظن لا يبقى موقع للبرائة والاستصحاب ، لاستقلال العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر المستتبع للحكم الشرعي
1 ـ أقول : إذا فرضنا أن كل مفسدة ضرر ويجب على الشارع عدم إلقاء المكلف في الضرر ، فأي اهتمام أعظم من ذلك ، بل لابد له من متمم الجعل بمقتضى كلامه. نعم : ذلك صحيح في فرض عدم الملازمة بين المصلحة والضرر ، فإنه حينئذ في متمم الجعل يدور مدار الاهتمام وعدمه.
2 ـ أقول : أصالة العموم متبع في كل مورد يشمله العام ، ولو كان شموله ملازما لخصوصية زائدة ، فبأصالة العموم يحرز الخصوصية المزبورة أيضا ولو كان من اللوازم العادية. ودعوى عدم الشمول عهدته على مدعيه ، فتأمل.


(224)
بحرمته ، سواء كان الحكم العقلي موضوعيا أو طريقيا ، فإنه على كل تقدير هذا الحكم العقلي يكون واردا أو حاكما على البراءة العقلية والشرعية وعلى الاستصحاب (1) كما تقدم بيانه في الأمور المتقدمة.
    والعجب من الشيخ ( قدس سره ) حيث أفاد ( في مبحث البراءة ) أن الظن بالضرر غير العقاب قد جعل طريقا شرعيا إلى الضرر الواقعي ولا تجرى فيه البراءة كسائر موارد الطرق الشرعية ، وفي المقام التزم بجريان البراءة مع اعترافه بأن الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر (2). ولا يمكن الجمع بين كلاميه.
    والحق هو ما أفاده ( في مبحث البراءة ) من أنه لا تجري البراءة العقلية والشرعية في موارد الظن بالضرر الدنيوي وتجري في موارد الظن بالضرر الأخروي ( لو سلم أن الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر الدنيوي والأخروي معا ) فان جريان البراءة في أحد اللازمين لا يلازم جريان البراءة في اللازم الآخر إذا كان لكل من اللازمين مناط يخصه غير مناط الآخر ، فلو كان الظن بالحكم يلازم الظن بالعقاب والظن بالمفسدة معا ، فمن حيث العقاب تجرى البراءة العقلية ، لأن الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ليس بيانا ولا يكون منجزا للتكليف ، فيندرج في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. ومن حيث الظن بالضرر غير العقاب لا تجري البراءة العقلية لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ويستتبعه الحكم الشرعي بوجوبه ، فلا يكون العقاب عليه بلا بيان.
1 ـ أقول : بعد فرض كون موضوع حكم العقل الضرر الغير المتدارك ، فالأصول الشرعية الكاشفة عن التدارك رافع لهذا الموضوع بالورود بلا عكس ، كما هو ظاهر.
2 ـ أقول : جملة من كلمات « شيخنا الأعظم » في البراءة صريحة في عدم مانعية الظن بالضرر لجريان أصالة الحلية ، لكشفه عن تداركه بالمصلحة ، فراجع الشبهة الموضوعية من الشبهة التحريمية وغيرها ، وما رأيت في كلماته ما أفيد حتى أتأمل في أطرافه.


(225)
    والتحقيق : أن الظن بالحكم لا يلازم الظن بالعقاب ولا الظن بالضرر ، بل إنما يلازم الظن بالمفسدة وهي لا تلازم الضرر ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه.

    الوجه الثاني :
    من الوجوه التي استدلوا بها لحجية مطلق الظن ـ ما ذكره السيد المجاهد (ره) : من أنا نعلم بوجود واجبات ومحرمات في الشبهات ، ومقتضى القاعدة وإن كان هو الاحتياط بالأخذ بالمظنونات والمشكوكات والموهومات ، ولكن يلزم من الاحتياط في الجميع العسر والحرج المنفى في الشريعة ، فلابد من الأخذ بالمظنونات فقط وترك المشكوكات والموهومات ، فإنه لا يلزم العسر والحرج من الأخذ بها.
    وفيه : أن ذلك لا يتم إلا بعد ضم ساير مقدمات دليل الانسداد ، فان ما ذكر من الوجه إنما هو بعض المقدمات ، ولابد من ضم البقية إليه : من انسداد باب العلم والعلمي وعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وغير ذلك مما سيأتي بيانه.
    ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثالث ( من وجوه حجية الظن المطلق ) وهو أنه لولا العمل بالمظنونات يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا.
    إذ فيه : أن ذلك إنما يلزم إذا وجب الأخذ بالمظنونات أو المشكوكات ، ولمانع أن يمنع عن وجوب الأخذ بها إلا بعد ضم سائر مقدمات الانسداد. فهذه الوجوه ضعيفة ولا تستحق إطالة الكلام فيها.
    فالأولى عطف عنان الكلام إلى البحث عن الوجه الرابع المعروف بدليل الانسداد وهو من المباحث التي ينبغي أن يشكر عليها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) فإنه قد حرر البحث عن دليل الانسداد على وجه لم يسبقه إليه
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس