فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 271 ـ 285
(271)
الخالية عنها موارد للأصول ، ومرجع هذا إلى دعوى الإجماع على حجية الظن بعد الانسداد » انتهى (1).
    وهذا الكلام وإن لم يكن منه ( قدس سره ) بل هو لبعض الأعاظم من تلامذته وهو السيد الكبير الشيرازي ( قدس سره ) إلا أن المحكى أن ذلك كان برضى من الشيخ ( قدس سره ) وإمضائه. والمقصود من تبديل الجواب عن « إن قلت » إلى ذلك ، هو أن قيام الإجماع على جواز الرجوع في المشكوكات إلى الأصول النافية يكشف لا محالة عن جعل الشارع حجة كافية لينحل ببركتها العلم الإجمالي في الوقايع المشتبهة لتجري الأصول النافية للتكليف في المشكوكات ، فان مجرد الترخيص في المشكوكات لا يكفي في اعتبار الأصول النافية ما لم يثبت التكليف في المظنونات ، وثبوته فيها إنما يكون بجعل الظن حجة محرزا للتكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، فمرجع الإجماع على الرجوع إلى الأصول النافية في المشكوكات إلى الإجماع على جعل الشارع حجية الظن ليثبت به التكليف في المظنونات ، فتجري الأصول النافية في المشكوكات.
    وبذلك يظهر : أن استكشاف حجية الظن إنما يكون بأحد وجهين :
1 ـ أقول : يا ليت لم يضرب الكلام الأول ولم ينتهى الأمر إلى الجواب الثاني ، كيف ! وقد تقدم وجه الجواب المضروب خال عما أورد عليه ، كما أن الجواب الثاني الذي هو منسوب إلى بعض الأعاظم من تلامذته أيضا مخدوش بان قيام الإجماع على الترخيص في المشكوكات إذا كان قطعيا إنما يلازم جعل البدل أو الانحلال ـ بناء على المختار من علية العلم الاجمالي للتنجيز ـ وإلا فبناء على مختارك من الاقتضاء ـ الذي تنسبه إلى بعض الأعاظم أيضا ـ فلا يقتضي الترخيص المزبور لجعل البدل ولا الانحلال ، إذ لازمه جواز الترخيص في أحد طرفي العلم ولو بلا معارض ، وحينئذ من أين يكشف عن وجود حجة كافية في البين كي ينتهى إلى الظن ؟.
    ثم إن هذا أيضا إذا كان الإجماع قطعيا ، وإلا فلو كان ظنيا فلا شبهة في أنه توجب الظن بالترخيص ، فعلى فرض الملازمة يوجب ذلك الظن بوجود حجة كافية ، وبمثل هذا الظن لا مجال لرفع اليد عن تأثير العلم الإجمالي ، لأن الظن بالانحلال لا يوجب الانحلال ، وحينئذ كيف يصير النتجية حجية الظن بمقدار الكفاية ؟ فتدبر فيما قلت ، ولا يغرنك صدور الكلام ممن لا يستأهل رده ، لان الجواد قد يكبو والإنسان قد يساوق السهو والنسيان.


(272)
    أحدهما : قيام الإجماع على أن مبنى الشريعة ليس على الإتيان بالمحتملات وامتثال التكاليف على سبيل الاحتمال ليبطل بذلك الاحتياط من أصله كلا وبعضا ، فان قيام الإجماع على ذلك لا يمكن إلا بجعل طريق شرعي محرز للتكاليف ليتمكن المكلف ببركته على امتثال التكاليف بعنوانها الخاص.
    ثانيهما : قيام الإجماع على اعتبار الأصول النافية في المشكوكات (1) فان قيام الإجماع على ذلك يكشف أيضا عن وجود حجة كافية في المسائل محرزة للتكاليف ، وتلك الحجة بحسب الدوران العقلي منحصرة في الظن ، إذ ليس في البين ما يصح جعله محرزا للواقع سواه. وعلى كل تقدير : تكون النتيجة الكشف ، ولا يبقى مجال للحكومة.
    ولا يكاد ينقضي تعجبي من الشيخ ( قدس سره ) من البناء على الحكومة وجعل النتيجة هي حكم العقل بكفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة والخروج عن عهدة التكاليف المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، مع أن مفاد قوله ( قدس سره ) : « قلت مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ » ليس إلا الكشف وحجية الظن شرعا.
    ومن ذلك يظهر : ما في الوجوه الثلاثة التي ذكرها لإبطال الكشف في التنبيه الثاني من تنبيهات دليل الانسداد ـ المتكفل لبيان كلية النتيجة أو إهمالها ـ قال ( قدس سره ) : « الحق في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني وأن التقرير على وجه الكشف فاسد ، أما أولا : فلأن المقدمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع الظن ـ مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصة ـ حجة ، لجواز أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذر العلم أصلا الخ ».
    وحاصل ما أفاده في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة يرجع إلى دعوى
1 ـ أقول : هذا الإجماع باعتراف مدعيه ظني ، فكيف يكفي للكشف عن وجود الحجة ؟.

(273)
إمكان اكتفاء الشارع بما هو طريقة العقلاء : من العمل بالظن في التكاليف الصادرة من الموالى العرفية مع القطع بعدم نصب المولى طريقا إليها ، ولا يجب عقلا على المولى نصب الطريق عند انسداد باب العلم بالتكاليف على العبد ، بل يصح له إحالة العبد إلى ما يستقل العقل به من العمل بالظن. نعم : يجب على المولى الرضاء بما يستقل به العقل ، وليس له مؤاخذة العبد على العمل بالطريق العقلي ، هذا.
    ولا يخفى ما فيه ، فان الحكم العقلي إنما يقع في سلسلة الإطاعة ، والعقل يستقل أولا بالإطاعة العلمية تفصيلا مع الإمكان ، أو إجمالا بالاحتياط مع عدم الإمكان : أو مطلقا ـ على التفصيل المتقدم في باب العلم الإجمالي ـ فإذا تعذرت الإطاعة العلمية تفصيلا وإجمالا يستقل العقل حينئذ بلزوم الإطاعة الظنية والخروج عن عهدة التكاليف ظنا (1) فلابد أولا من إبطال الاحتياط
1 ـ أقول : مرجع حجية الظن في مقام الإثبات ـ كما هو مقصود القائل بالحكومة في باب الانسداد ـ ليس إلا منجزية. الظن للأحكام ، وهذا المعنى منوط بعدم وجود منجز آخر : من علم أو علمي تفصيلي أو إجمالي ، وإلا فلا ينتهى النوبة إلى منجزية الظن به ، وحينئذ الذي ينوط به حجية الظن هو عدم وجود مثبت آخر ، لا عدم لزوم تحصيل العلم في مقام الإسقاط والفراغ ، كيف ! والقائل بحجية الظن من باب الحكومة همه تحصيل الجزم بالفراغ عما اشتغلت الذمة به بالعمل بظنه ، وحينئذ ليس معنى إناطة حجية الظن عقلا على بطلان الاحتياط بمعنى تحصيل الجزم بالفراغ بأي وجه ، بل منوط بعدم وجوب الاحتياط من قبل منجز آخر : من علم إجمالي أو ايجاب احتياط شرعي مثلا ، وعدم هذا الوجوب غير منوط بالإجماع المزبور بكلا تقريريه ، بل يكفي فيه منع منجزية العلم الإجمالي ومنع ايجاب الاحتياط الشرعي ، ويكفي في الأول نفس قيام الإجماع والضرورة على بطلان الخروج من الدين ولو فرض لم يكن في البين علم إجمالي ، إذ مثل هذا الإجماع التقديري يكفي في الجزم بوجود منجز آخر غير العلم الإجمالي وهو كاف في انحلاله ، كما أن منع الإيجاب الشرعي أيضا يكفي فيه أنه لو لم يكن من قبل الشارع جعل حكم شرعي طريقي العقل يحكم حكما بتيا بلزوم تعرض الأحكام ، ومع هذا الحكم العقلي لا يبقى مجال للكشف غير الجعل الشرعي ، لاحتمال ايكاله إلى حكم العقل ، وببقية المقدمات يثبت دائرة هذا الحكم في الظن ، فيحكم العقل بمثبتية الظن وحجيته حكومة لا كشفا.
    نعم : لو لم يحكم العقل بشيء أصلا لا محيص عن كشف الجعل ، ولو بمثل ايجاب الاحتياط شرعا ، ولو في دائرة الظنون بضم بقية المقدمات ، ولكن منع حكم العقل لولا الجعل الشرعي خارج عن الإنصاف ، كما أشرنا إليه سابقا ، كما أن دعوى الإجماع المزبور بكل من تقريريه ـ المستلزم لعدم إمكان تحصيل الجزم بالفراغ بنحو


(274)
رأسا لتصل النوبة إلى الإطاعة الظنية (1) وإلا كان اللازم هو الاحتياط ولو في المظنونات إذا كان الاحتياط في المشكوكات والموهومات موجبا للعسر والحرج. والعمل بالمظنونات من باب التبعيض في الاحتياط غير الإطاعة الظنية ، إذ لا ملازمة بينهما ـ على ما سيأتي بيانه ـ فما لم يثبت بطلان الاحتياط كلا وبعضا في المقدمة الثالثة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة.
    وقد عرفت : أن بطلان الاحتياط كلا وبعضا يتوقف على قيام الإجماع على أحد الوجهين السابقين : أحدهما قيامه على أن بناء الشريعة ليس على الإتيان بالتكاليف على سبيل الاحتمال. ثانيهما : قيامه على اعتبار الأصول النافية للتكليف في المشكوكات ليرجع إلى جعل حجة كافية في المسائل ، فإنه لولا قيام الإجماع بأحد الوجهين كان المتعين هو التبعيض في الاحتياط ، ومفاد هذا الإجماع ـ بكلا وجهيه ـ ليس هو إلا الكشف.
    والحاصل : أن العمل بالمظنونات من باب الاحتياط ليس من الكشف والحكومة ، بل هو من التبعيض في الاحتياط ، فان الكشف معناه : حجية الظن شرعا وجعله مثبتا ومحرزا لمتعلقه لا مجرد العمل بالظن. والحكومة عبارة عن الامتثال الظني والظن بالخروج عن عهدة ما اشتغلت الذمة به من التكاليف ، وهو قد يحصل من العمل بالمظنونات وقد لا يحصل.
آخر ـ أول شيء ينكر ، كما أشرنا كرارا.
    وبعبارة أخرى : لا وجه لبطلان الاحتياط ـ بمعنى لزوم تحصيل الجزم بالفراغ ـ مقدمة لحجية الظن كي يلازم مع الإجماع المزبور بأحد تقريريه ، بل غاية ما هو مقدمة لحجية الظن هو بطلان الاحتياط من قبل منجز آخر : من علم إجمالي أو ايجاب احتياط شرعي ، ولا أظن في معقد الإجماع في كلماتهم أزيد من ذلك ، كما لا يخفى.
1 ـ أقول : إن الذي يحتاج إليه في حجية الظن إنما هو إبطال مثبت آخر للتكليف تفصيلا أو إجمالا الموجب للاحتياط كلا أو بعضا ، وإبطالها غير منوط بالإجماع المزبور ، كما أشرنا إليه.


(275)
    وكون نتيجة مقدمات الانسداد الكشف أو الحكومة يتوقف على إبطال الاحتياط ولو في المظنونات ، وإبطاله إنما يكون بالإجماع بأحد وجهيه ، وكل من الوجهين لا ينتج إلا الكشف. فمن أين صارت النتيجة الحكومة ؟ فما افاده في الوجه الأول ـ من الوجوه الثلاثة التي أقامها لإبطال الكشف ـ ضعيف غايته.
    ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثاني ، وهو ما أفاده بقوله « وأما ثانيا : فلأنه إذ بنى على كشف المقدمات المذكورة عن جعل الظن على وجه الإهمال والإجمال صح المنع الذي أورده بعض المتعرضين لرد هذا الدليل ، وقد أشرنا إليه سابقا. وحاصله : أنه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظن أو الظن في الجملة المردد بين الكل والبعض المردد بين الأبعاض ، كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجة من دون اعتبار إفادته الظن ، لأنه أمر ممكن غير مستحيل ، والمفروض عدم استقلال العقل بحكم في هذا المقام ، فمن أين يثبت جعل الظن في الجملة دون شيء آخر ؟ ».
    وأنت خبير بما في هذا الوجه ، فان قيام الإجماع على أحد الوجهين المتقدمين يكشف عن أن الشارع قد جعل للعباد طريقا واصلا إليهم ليتمكنوا بسببه من الإتيان بالتكاليف بعناوينها الخاصة من الوجوب والحرمة (1) فان الطريق الغير الواصل لا يزيد حكمه عن أصل التكليف الذي انسد باب العلم
1 ـ أقول : لو تم الإجماع المزبور كان لما أفيد وجه ، وإنما الكلام في هذا الإجماع ، إذ غاية الأمر قيام الإجماع على بطلان الاحتياط الكلي ، وهذا لا يقتضي شيئا ، ولذا لا يفيد ذلك لإثبات حجية الظن ، بل المفيد له عدم منجزية العلم رأسا ، فتصل النوبة إما إلى حكم العقل أو الجعل الشرعي ، بعد الإجماع على بطلان الخروج عن الدين ، فعلى الأول : : لا يبقى مجال للكشف عن أمر شرعي ، لاحتمال ايكال الشرع إلى العقل ، وإليه النظر في الجواب الأول. وعلى الثاني : لابد وأن تكون النتيجة مهملة قابلة لجعل طريق غير الظن ، وعدم قابلية غير الظن لتتميم الكشف والطريق كلام ظاهري ، إذ كل محتمل قابل لتتميم كشفه الناقص ، كالظنون النوعية وغيرها ، وإلى هذا يرجع الجواب الثاني.

(276)
به ، والطريق الواصل ليس إلا الظن ، فان ما عداه يكون باب العلم به منسدا ، مع أنه لابد في الطريق المجعول من أن يكون له جهة كشف وإرائة عن الواقع ليمكن تتميم كشفه بجعله ونصبه طريقا ، وبحسب الدوران العقلي ينحصر ذلك بالعلم والظن ، والمفروض انسداد باب الأول ، فلم يبق إلى الثاني ، فلا مجال لاحتمال نصب غير الظن طريقا.
    ومن ذلك يظهر ضعف ما أفاده في الوجه الثالث لإبطال الكشف بقوله : « وأما ثالثا : فلأنه لو صح كون النتيجة مهملة مجملة لم ينفع أصلا إن بقيت على إجمالها ، وإن عينت ، فإما أن تعين في ضمن كل الأسباب وإما أن تعين في ضمن بعضها المعين ، وسيجيء عدم تمامية شيء من هذين الوجهين إلا بضميمة الإجماع ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى دعوى الإجماع على حجية مطلق الظن بعد الانسداد ، فتسميته دليلا عقليا لا يظهر له وجه عدا كون الملازمة بين تلك المقدمات الشرعية ونتيجتها عقلية ، وهذا جار في جميع الأدلة السمعية ، كما لا يخفى » انتهى.
    قلت : الوجه في تسميته بالدليل العقلي ، هو أن الكاشف عن جعل الشارع الظن حجة إنما هو العقل ، فان الإجماع بوجهيه لا يفيد أزيد من أنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد يتوصلون به إلى التكاليف ، وأما كون المنصوب الشرعي خصوص الظن فليس هو مفاد الإجماع ، بل تعيين ذلك إنما يكون بحسب الدوران العقلي ، من جهة أنه لا أقرب من الظن في الإصابة والايصال بعد العلم.
    وبالجملة : مجرد كون بعض مبادئ الدليل شرعيا لا يوجب خروج الدليل عن كونه عقليا بعد ما كان الحاكم بالنتيجة هو العقل ، مع أن مجرد عدم صحة تسمية الدليل بالدليل العقلي لا يقتضي البناء على الحكومة بعد ما كانت نتيجة مقدمات الدليل الكشف.
    فالإنصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ ( قدس سره ) البناء على


(277)
الحكومة (1) خصوصا بعد قوله ـ في الجواب عن الإشكال المتقدم ـ قلت : مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ.
    فالتحقيق : أن القول بالحكومة مما لا أساس له ولا ينبغي المصير إليه (2) لما فيه :
    أولا : أن الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة لا يمكن إلا بعد قيام الإجماع على أن الشارع لا يريد من المكلف فعل متعلقات التكاليف على سبيل الاحتمال ، فان هذا الإجماع هو الذي يوجب الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة ، إذ لولاه كان اللازم التبعيض في الاحتياط إذا لم يمكن في الكل لعسر ونحوه ، فلابد في بطلان التبعيض في الاحتياط من قيام الإجماع على ذلك ، ولازم قيام الإجماع على ذلك هو أن الشارع جعل للعباد طريقا محرزا للواقع يتوصلون به إلى التكاليف الواقعية ليتمكنوا من امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص ، وليس في البين طريق محرز إلا الظن ، فتكون النتيجة حجية الظن شرعا.
    وثانيا : أن الحكومة بمعنى الامتثال الظني مما لا مسرح لها في المقام (3)
1 ـ أقول : لو تأملت فيما قلنا ، لا مجال لك في دعوى الكشف إلا بناء على ابطال طرق اخر مثبت للتكليف بالتقريب السابق ، ومثل هذا البيان هو المأمول من « شيخنا الأعظم » لا مثل ما أفيد المبنى على دعوى الإجماع على معنى لم يخطر ببال أحد من أهل الانسداد ، فتدبر في أطراف ما ذكرنا وكن من الشاكرين.
2 ـ أقول : لو انتهى الأمر إلى مثبتية الظن المبنى على إبطال مثبت آخر من التفصيلي والإجمالي لا محيص إلا من الحكومة بلا مجال للكشف أصلا ، خصوصا لو كان الغرض كشف حجية الظن بمعنى الوسطية ، فان دون إثباته خرط القتاد ، كما أشرنا إليه كرارا.
3 ـ أقول : مرجع حكومة العقل بحجية الظن بعد ما كان بمعنى مثبتيته للتكليف ، فالقائل بالحكومة يقول بالتنزل في عالم الإثبات من العلم مطلقا إلى الظن ، ففي الحقيقة يلتزم بالمراتب ويتنزل من مرتبة إلى مرتبة في عالم الإثبات لا في مقام الإطاعة والإسقاط ، وحينئذ أمكن له أن يدعى أن المقدمات من انسداد باب العلم والعلمي وعدم منجزية العلم الإجمالي بالإجماع التقديري الحاصل من بطلان الخروج من الدين إلى وجوب مثبت آخر غير العلم الإجمالي الموجب لانحلاله ، وحكم العقل بمنجزية شيء لولا جعل شرعي بمقتضى المقدمة الرابعة بأن ما هو الأقرب إلى الواقع هو المنجز ، ولازمه انحصار الحجية بالظن ولولا يظن بانحصار التكليف في المظنون ،


(278)
فان الامتثال الظني عبارة عن الإتيان بالمحتملات بمقدار يحصل معه الظن بالفراغ والخروج عن عهدة ما اشتغلت الذمة به من التكاليف ، كما في باب قضاء الفوائت اليومية ، فإنه عند العلم بفوات جملة من الفرائض اليومية مع عدم العلم بعددها يجب على المكلف أولا تكرار قضاء الصلوات بمقدار يحصل معه العلم بالفراغ ، ولو تعذر ذلك عليه أو تعسر يجب عليه التكرار بمقدار يحصل معه الظن بالفراغ ، وهذا المعنى من الامتثال الظني أجنبي عن وجوب العمل بالمظنونات في مقابل المشكوكات والموهومات كما هو المقصود في المقام ، فإنه ـ مضافا إلى أن الإتيان بالمظنون لا يكاد يحصل الامتثال الظني مع ترك الاحتياط في المشكوكات والاقتصار على فعل المظنونات فان المشكوكات مع المظنونات سيان في كونهما من أطراف العلم الإجمالي ـ مجرد تعلق الظن بالتكاليف في جملة من الوقايع المشتبهة لا يلازم الظن بانحصار التكاليف في المظنونات ليحصل الامتثال الظني بالعمل بالمظنونات ، فالامتثال الظني لا يحصل إلا بالاحتياط في المشكوكات أيضا ، ولو فرض قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ـ كما هو المدعى ـ والاقتصار في الاحتياط بالعمل بالمظنونات ، فمعناه كفاية الامتثال الاحتمالي.
    والحاصل : أن الامتثال الظني إنما يحصل بفعل ما يحصل معه الظن بالفراغ بتكرار العمل في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي مقدارا يوجب الظن بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال ، كما في تكرار الصلاة عند الجهل بالقبلة أو بعدد الفوائت ونحو ذلك ، فلو أريد حصول الامتثال الظني في المقام فلابد من الاحتياط في المظنونات والمشكوكات ، وإلا لا يكاد يحصل
إذ ليس هم العقل حينئذ تحصيل الظن بالفراغ ، كي يحتاج إلى حصر التكليف في دائرة الظنون ، بل تمام همه حصر مثبت التكليف بالظنون ويرجع في غيره إلى البراءة ، ويكفي في إثبات هذا المقدار حكم العقل بالأخذ بمقدار خروجه عن محذور الخروج من الدين ، وبمقتضى المقدمة الرابعة يتعين في الظن بلا احتياج إلى ضم المشكوك.

(279)
الامتثال الظني ، والمفروض عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فكيف صارت النتيجة الحكومة ؟.
    وثالثا : المقصود من ترتيب مقدمات دليل الانسداد إنما هو لاستنتاج حجية الظن المطلق على وجه يصلح لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات وغير ذلك مما يكون من لوازم الحجة (1) وهذه الآثار إنما تترتب على الكشف ، لأن الظن يكون حينئذ حجة محرزا للواقع كالعلم. وأما الظن بمعنى الحكومة : فهو بمعزل عن هذه الآثار ، لأنه ليس محرزا للواقع حتى يصلح للتقييد والتخصيص ، وإنما يستقل العقل به في مقام الطاعة والامتثال عند تعذر الامتثال العلمي.
    وما في بعض الكلمات : من أن الظن بناء على الحكومة يكون حجة عقلية ، فهو بمكان من الفساد ، فان الحكومة عبارة عن الامتثال الظني ، وأين هذا من كونه حجية محرزا يقع وسطا لإثبات متعلقه ؟ وليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، وليست وظيفة العقل إلا الحكم بكفاية الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي.
    فتحصل : أنه لا محيص عن القول بالكشف إن تم الإجماع المتقدم بأحد وجهيه (2) وإلا فلابد من التبعيض في الاحتياط ، فتأمل في أطراف ما
1 ـ أقول : قد تقدم الجواب على هذه الشبهة ، فراجع.
2 ـ أقول : لو تأملت في ما ذكرنا ، ترى بأنه لا محيص لك بناء على انتهاء النوبة إلى مثبتية الظن في حال الانسداد من الالتزام بحكومة العقل ، حيث لا طريق لك إلى الكشف إلا دعوى الإجماع المزبور الذي لم يلتزم به أحد من أرباب الانسداد القائلين بالحكومة ـ كما هو الغالب ـ خصوصا تقريبه الثاني الذي هو لدى مدعيه ظني لا قطعي.
    نعم : لنا شبهة على مسلك المشهور المعينين المرجعية بالظن من جهة المقدمة الرابعة ، وملخصه ، أن هذا التعيين بحكم العقل إن كان بحكم تنجيزي ، فيشكل إخراج الظن القياسي ، خصوصا إذا فرض في مورد أقوى من غيره.
    وتوهم : أن الظن القياسي لكثرة مخالفته للواقع خارج عن محط حكم العقل بمناط الأقربية ، خلاف الوجدان ، وفي ظرف أقربيته عن غيره يرى العقل شخص هذا الفرد من الظن من الأفراد النادرة ويرى فيه الملاك من الأقربية.


(280)
ذكرناه جيدا واغتنمه ، فإنه مما لم يسبق إليه أحد (1) هذا تمام الكلام في أصل ترتيب مقدمات الانسداد.
بقى التنبيه على أمور
    الأمر الأول :
    اختلفت الأقوال في النتيجة التي يقتضيها دليل الانسداد.
    فقيل : إن مقدمات دليل الانسداد إنما تقتضي اعتبار الظن في خصوص المسألة الأصولية ، وهي « كون الشيء طريقا » ذهب إليه صاحب الفصول
وإن كان حكم العقل بتعيين الأقرب بمقتضى المقدمة الرابعة حكما تعليقيا ، فخروج الظن القياسي لا إشكال فيه ، ولكن يرد عليه : بأن مقتضى إطلاق دليل الترخيص في ترك الاحتياط الكلي ـ مثل عمومات الحرج والاضطرار مثلا ـ جواز ترك العمل بكل واحد من المحتملات عن بدل ، من دون فرق بين الظن وغيره ، وهذا الإطلاق يكفي لمنع حكم العقل بتعين الظن بمقتضى المقدمة الرابعة ، لفرض تعليقية حكمه ، وحينئذ من أين يتعين العمل بالظن بواسطة المقدمة الرابعة ؟.
    نعم : لو لم يكن في البين إطلاق مثل ما تقدم وكان الحكم بالتخيير عند التساوي من جهة حكم العقل بالترجيح بلا مرجح لا من جهة إطلاق في دليل كان للاتكال إلى المقدمة الرابعة في تعيين الظن مجال ، ولكن مع وجود إطلاقات أدلة الحرج والاضطرار لا يبقى مجال لهذا الكلام ، وحينئذ فلو سلمنا ما ادعى من الإجماع المزبور من المقرر لا يكاد وصول النوبة إلى مرجعية الظن.
    ولذا كان لنا مسلك آخر في تعيين مرجعية الظن ، بحيث لا يحتاج إلى المقدمة الرابعة ، وهو أن مدرك بطلان الخروج من الدين ـ ولو لم يكن علم إجمالي في البين ـ حكم العقل بوجوب الأخذ باحتمال تكليف نقطع على فرض وجوده اهتمام الشارع به بنحو لا يرضى بتركه في ظرف الجهل ، وأن مثل هذا الشك خارج عن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ حينئذ لنا أن ندعي أن مراتب الاهتمام بعد ما كانت مختلفة فالمتيقن من الاهتمام المحرز هو الاهتمام بحفظ الواقع في ضمن المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، فهي على الشك في أصل الاهتمام بحفظها باقية ، ولذلك يختص حكم العقل بمناط الاهتمام بحفظه بالمظنونات ، وبذلك يبطل الاحتياط الكلي ويتعين مرجعية الظن بلا احتياج إلى المقدمة الرابعة ، فتدبر في مسلكنا هذا وتتميم الانسداد و مرجعية الظن بالحكومة العقلية بهذا البيان ، لا بنحو المشهور من الاحتياج إلى المقدمة الرابعة. وعلى مسلكنا أيضا لا يبقى مجال الإشكال ، لخروج الظن القياسي ولا الظن الممنوع ، فتدبر.
1 ـ أقول : الذي لم يسبق إليه أحد هو دعوى الإجماع المزبور ، وإلا فما أتيت بشيء جديد !


(281)
تبعا لأخيه المحقق صاحب الحاشية.
    وقيل : إن مقدمات دليل الانسداد تقتضي اعتبار الظن في خصوص المسألة الفقهية ، وهي « كون الشيء واجبا أو حراما » ذهب إليه غير واحد من المشايخ.
    وقيل : إن المقدمات تقتضي عموم النتيجة واعتبار الظن في كل من الطريق والحكم الفرعي. وهو الأقوى.
    وقد استدل للقول الأول بوجهين :
    أحدهما : ما ذكره « صاحب الفصول » مقتصرا عليه ، تبعا للمحقق أخيه ، قال ما لفظه « إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين نقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره ، وكذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة وكلفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى الطرق المخصوصة ، وحيث لا سبيل لنا غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا طريق نقطع من السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك ولو بعد تعذره ، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن العقلي الذي لا دليل على عدم حجيته ، لأنه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع مما عداه » انتهى موضع الحاجة من كلامه.
    ولعل الذي دعاه إلى اختيار اعتبار خصوص الظن بالطريق ، هو ما زعمه : من أن الوجوه التي استدل بها على حجية الخبر الواحد لو لم تفد القطع بحجيته بالخصوص فلا أقل من كونها تفيد الظن بها ، فيكون الخبر الواحد مما ظن اعتباره طريقا ، ومع تعذر العلم بكون الشيء طريقا يتنزل إلى الظن بكونه طريقا ، لأنه أقرب إلى العلم.


(282)
    والذي يرشد إلى ما ذكرناه : من أن الذي دعاه إلى القول باعتبار خصوص الظن بالطريق ذلك ، هو أنه قد جعل دليل الانسداد من جملة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد.
    قال ( قدس سره ) في ذيل كلامه المتقدم : « ولا ريب أن الخبر الواحد إن لم يكن من الطرق القطعية فهو من الطرق الظنية ، للوجوه التي ذكرناها ، فيجب العمل به ، وهو المطلوب » انتهى.
    والظاهر : أن يكون مراده من « الطرق » في قوله : « كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة » هي الطرق العقلائية التي قد أمضاها الشارع ولم يردع عنها. وليس غرضه من الجعل الشرعي تأسيس الشارع طرقا مخصوصة مخترعة من قبله ليس لها عند العقلاء عين ولا أثر ، فان ذلك بعيد غايته لا ينبغي دعواه.
    كما أن الظاهر أن يكون مراده من قوله : « ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى الطرق المخصوصة » هو انحلال العلم الإجمالي المتعلق بالأحكام الشرعية إلى العلم التفصيلي بما تضمنته تلك الطرق والشك البدوي بما عداها إذا كانت مؤديات الطرق بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام ـ كما هو المفروض ـ لأن الطرق المنصوبة إلى الأحكام لابد وأن تكون وافية بها. وليس غرضه تقييد الأحكام الواقعية إلى مؤديات الطرق أو صرفها إليها ، فان ذلك من التصويب الباطل الذي يخالف المذهب ، فلا يليق ب‍ « صاحب الفصول » الالتزام به ، فلابد وأن يكون مراده من التكليف بالعمل بمؤدى الطرق هو العمل بالأحكام الواقعية التي تؤدى إليها الطرق بحسب دليل الحجية وجعلها محرزة لها ، فيرجع حاصل كلامه بعد توجيهه ـ وإن كانت خلاف ظاهره ـ إلى أنا وإن علمنا بثبوت الأحكام الواقعية الفعلية ، إلا أنه علمنا أيضا بنصب طرق مخصوصة ـ تأسيسية كانت أو إمضائية ـ وافية بالمعلوم بالإجمال من الأحكام ، فالواجب علينا امتثال


(283)
تلك الأحكام بتلك الطرق ، لانحلال العلم الإجمالي ببركتها ، وإذا لم يكن لنا تحصيل العلم بالطرق المنصوبة ، فلابد من التنزل إلى الظن بها ، لأنه أقرب إلى العلم.
    ولا يخفى : أنه على ما وجهنا به كلامه يندفع غالب ما أورد عليه الشيخ ( قدس سره ) بقوله : « وفيه أولا : إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعية وافية بها ، وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار الخ ».
    وأنت خبير بأن ذلك إنما يرد عليه لو كان مراده من « الطرق المنصوبة » طرقا مخترعة أسسها الشارع من دون أن يكون لها عند العرف والعقلاء عين ولا أثر ، فإنها هي التي تتوفر الدواعي إلى نقلها وكانت من الوضوح كالشمس في رابعة النهار ، كما أفاده ( قدس سره ) ولكن دعوى « صاحب الفصول » لا تتوقف على ذلك ، بل يكفي في صحة دعواه إمضاء ما بيد العرف والعقلاء من الطرق مع انسداد باب العلم بها ، بمعنى أنه يعلم إجمالا إمضاء بعض الطرق العقلائية الوافي بالأحكام الشرعية ، وقد خفى علينا ما أمضاه وانسد باب العلم به ، بل قد تقدم سابقا : انه لا يحتاج إلى الإمضاء ويكفي عدم الردع عما بيد العقلاء من الطرق (1) ودعوى ذلك قريبة جدا لا سبيل إلى المنع عنها.
1 ـ أقول : تخصيص الإمضاء أو عدم الردع ببعض دون بعض ليس بأقل من جعل شيء مستقل في توفر الدواعي على نقله ، وحينئذ لو اكتفينا في الحجية لدى الشارع بصرف عدم الردع يلزم مع عدم ثبوت التخصيص حجية جميع الطرق العقلائية ، إذ حينئذ يصدق عدم ردع الشرع عنها ، وإنما يصحح الردع عن بعضها بثبوت تخصيص ردعه ببعض دون بعض ، ودون إثباته خرط القتاد ! وعليه فإثبات جعل الطريق في بعض الطرق العقلائية دون بعض مع عدم ثبوت تخصيص ردعه بالبعض دونه خرط القتاد ! إذ ما لم يصل الردع عن البعض يكفي ذلك في إمضائه ، كما لا يخفى ، وحينئذ كيف يمكن حمل كلام « الفصول » على صورة عدم ردعه عن الطريق العقلائية في دعواه العلم بجعل طرق مخصوصة ، إذ ذلك مبنى على العلم بردعه عن بعض دون بعض ، ولو كان ذلك لبان واشتهر لدى الأعيان ، ولا أظن دعواه العلم بردع الشارع عن بعض دون بعض ، كما هو ظاهر ، وحينئذ ليس نظره في جعل الطرق وعلمه به إلى إمضائه بمقدمات عدم الردع ولو لعدم تمامية هذه المقدمات لديه ، فتدبر.

(284)
    نعم : لو كان مراده ما هو ظاهر كلامه : من اختراع الشارع وتأسيسه طرقا مخصوصة ، كان للمنع عن ذلك مجال واسع ، بل كان ينبغي القطع بعدمه ، لأن عدم نقلها كاشف قطعي على العدم.
    إلا أن الإنصاف : أن كلام « صاحب الفصول » ليس بمثابة لا يمكن حمله على ما ذكرنا ، فلا يرد عليه ما ذكره ( قدس سره ) بقوله : « وفيه أولا ».
    وكذا لا يرد عليه ما ذكره بقوله : « وثانيا : سلمنا نصب الطريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ، بيان ذلك : أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل ، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور الذي كان كثيرا في الزمان السابق الخ » فان المدعى هو أن الشارع قد نصب طريقا وافيا بالأحكام على وجه يوجب انحلال العلم الإجمالي بها ، والخبر المفيد للاطمئنان ليس بتلك المثابة من الكثرة بحيث يفي بالأحكام الشرعية حتى في الزمان السابق التي كانت قرائن الصدق فيه كثيرة ، فان كثرة قرائن الصدق لا تقتضي كثرة الخبر الذي عليه قرائن الصدق على وجه يوجب الاطمئنان بحيث يفي بالأحكام المعلومة بالإجمال لينحل به العلم الإجمالي ، فلا بد من أن يكون الطريق المنصوب غير الخبر المفيد للاطمئنان وقد انسد باب العلم به علينا.
    ومن ذلك يظهر : ما في قوله : « وثالثا : سلمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية : من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والاستقراء والأولوية الظنية ، إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه ، فان وفي بغالب الأحكام اقتصر عليه وإلا فالمتيقن من الباقي الخ » إذ فيه : أن ما هو المتيقن في النصب من هذه الطرق هو ما ذكره بقوله : « وثانيا » وهو الخبر المفيد للاطمئنان ، وقد عرفت : أنه قليل لا يفي بالأحكام الشرعية ، والطرق الاخر ليس فيها ما هو متيقن الاعتبار ، بل احتمال النصب في كل واحد منها على حد سواء. ودعوى : أن مطلق الخبر أو الإجماع


(285)
المنقول متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره ـ مما لا شاهد عليها ، إذ لا مزية له على سائر الطرق الظنية ، فيتردد الطريق المنصوب بينها ، ولابد حينئذ من التنزل إلى تعيينه بالظن.
    وأما ما أفاده بقوله : « ورابعا : سلمنا عدم وجود القدر المتيقن ، لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط ، فإنه مقدم على العمل بالظن الخ » ففيه : أن الاحتياط في الطرق ـ مع أنه لا يمكن لمعارضة بعضها مع بعض وغير المعارض منها قليل لا يفي بالأحكام ـ يرجع إلى الاحتياط في الأحكام ، فان الاحتياط بالطريق إنما يكون باعتبار المؤدى والطرق إنما تؤدى إلى الأحكام ، فالاحتياط فيها يلازم الاحتياط في الأحكام ، بل هو هو ، والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه. وهذا بخلاف الظن بطريقية الطريق ، فإنه لا يلازم الظن بالحكم حتى يتوهم : أن اعتبار الظن بالطريق يرجع إلى اعتبار الظن بالحكم.
    فالإنصاف : أن هذه الوجوه الأربعة قابلة للدفع عن « صاحب الفصول ».
    نعم : يرد عليه ما أفاده بقوله : « وخامسا : سلمنا العلم الإجمالي بوجود الطرق المجعولة وعدم المتيقن وعدم وجوب الاحتياط ، لكن نقول : إن ذلك لا يوجب تعين العمل بالظن في مسألة تعيين الطريق فقط ، بل هو مجوز له ، كما يجوز العمل بالظن في المسألة الفرعية الخ ».
    وتوضيح ذلك : هو أنه قد تقدم في الدليل العقلي الذي أقيم على حجية الخبر الواحد أن مجرد العلم الإجمالي بنصب طريق لا يقتضي انحلال العلم الإجمالي بالأحكام الشرعية الواقعية ، فإنه لا يترتب عيه آثار الحجية : من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة ، فان هذه الآثار إنما ترتب على الطريق الواصل إلى المكلف تفصيلا لتجري فيه الأصول اللفظية والجهتية ، بداهة أن الطريق ما لم يكن محرزا لدى المكلف وواصلا إليه موضوعا وحكما لا يجرى فيه الأصل اللفظي : من أصالة إرادة الظهور والأصل الجهتي : من أصالة
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس