فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 256 ـ 270
(256)
المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، فإذا لم تجب الموافقة القطعية للعسر والحرج لم تحرم المخالفة القطعية. أو مبنى على ما ذهب إليه : من أن العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف لا يقتضي التنجيز مطلقا ، سواء كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده ، وسواء كان الاضطرار إلى المعين أو غير المعين ، بدعوى : أن الاضطرار لما كان من حدود التكليف وقيوده ، فلا يحصل العلم بالتكليف المطلق ليقتضي التنجيز والاجتناب عما عدا المضطر إليه.
    والإنصاف : أنه لا يمكن المساعدة على شيء مما ذكره.
    أما ما أفاده أخيرا : من عدم الوجه لوجوب التبعيض في الاحتياط بعد تسليم حكومة أدلة نفي العسر والحرج على الاحتياط العقلي ، فقد عرفت الوجه فيه (1) وحاصله : لزوم رعاية التكاليف بالمقدار الممكن عقلا ، لأن الضرورات تتقدر بقدرها ، ودعوى الملازمة بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية أو دعوى عدم اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز مع الاضطرار إلى بعض الأطراف ، فضعيفة غايته ، فان الملازمة ممنوعة (2) إذ للشارع الاكتفاء عن الواقع
1 ـ أقول : ما أفاده « الأستاذ » في الاضطرار إلى الغير المعين وإن لم يكن تماما ، ونحن أيضا أوردنا عليه بما أشرنا إليه في الحاشية السابقة ، ولكن ما أفيد في وجه التبعيض أيضا لا يتم ، خصوصا في الاضطرار إلى المعين ، كما أن في غير المعين بعد تعيين العقل الحرج في الأبعد واقتضائه الترخيص على الإطلاق كان بحكم المعين في مضادته مع العلم بالتكليف الفعلي إجمالا ، ومع ذلك كيف ينتج ما أفيد من التبعيض في الاحتياط ولزوم العمل بالظن والرخصة في ترك غيره مطلقا ؟.
2 ـ أقول : قد تقدم سابقا : أن الترخيص في مخالفة المعلوم بجعل البدل والمفرغ جار في المقامين ، وإنما الكلام في جريان أدلة الترخيص في أحد طرفي العلم بلا تعيين مفرغ للمعلوم ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي أيضا ، إذ لم نقل فيه بجريان أدلة الترخيص ـ ولو مثل حديث رفع الوجوب ـ المشكوك عند الشك فيها مع توارد الحالتين الغير الجاري فيه الاستصحاب ، وحينئذ فكمال مجال لمقايسة الترخيص بعنوان جعل المفرغ مع الترخيص بلا جعله في العلم التفصيلي ، فكذلك في المقام.
    وكما أن هذا المقدار من الترخيص بعنوان المفرغ لا ينافي علية العلم التفصيلي للاشتغال وإثبات التكليف ، كذلك نقول به في العلم الإجمالي ، وحينئذ لا مجال لاستفادة اقتضاء العلم الإجمالي وجواز الترخيص في بعض أطرافه ـ بلا جعل بدل وتعيين مفرغ للمعلوم ـ من صرف جواز الترخيص ببركة جعل البدل في المقام أو في


(257)
بترك بعض الأطراف في الشبهات التحريمية أو فعله في الشبهات الوجوبية ، فان العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي ، وللشارع الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية في العلم التفصيلي ـ كما هو مفاد الأصول الجارية في مرحلة الفراغ ـ والاضطرار إلى بعض الأطراف لا يزيد حكمه عن تلف بعض الأطراف بعد العلم الإجمالي (1) فكما أن تلف البعض لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التأثير بالنسبة إلى الباقي ، كذلك الاضطرار إلى البعض. ومجرد أن الاضطرار إلى متعلق التكليف يكون من قيود التكليف وحدوده دون تلف المتعلق لا يصلح فارقا في نظر العقل الحاكم بالاستقلال في باب الامتثال والخروج عن عهدة التكليف في موارد العلم الإجمالي. وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال.
    وأما ما أفاده أولا : من أنه لا حكومة لأدلة نفي العسر والحرج على الحكم العقلي بالاحتياط.
    ففيه أولا : أن عدم وجوب الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة ووجوب التبعيض فيه لا يبتني على حكومة أدلة نفي العسر والحرج على الحكم العقلي بوجوب الاحتياط ، بل ليس حال لزوم العسر والحرج من الجمع بين المحتملات في المظنونات والموهومات والمشكوكات إلا كحال الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف أو فعل بعضها في موارد العلم الإجمالي (2) بل العسر
باب العلم التفصيلي ، وألتمس منك أن لا تكرر هذا المطلب في كلماتك. وتكتفي بما ذكرنا من الجواب ، وسيأتي في مبحث الاشتغال أيضا شرح هذه الجهة ( إن شاء الله تعالى ).
1 ـ أقول : ما أفيد : من أن الاضطرار إلى بعض الأطراف ولو معينا كتلف بعض الأطراف المعين بعد العلم في غاية المتانة إذا كان طرو الاضطرار بعد العلم ، وفي المقام الاضطرار مقارن للعلم ، فحق المقام أن نقيس بالتلف المقارن ، فهل ترى أحدا يلتزم بمنجزية العلم بالنسبة إلى الطرف الباقي ؟ حاشا منك ومن غيرك !.
2 ـ أقول : لو فرض ورود جميع إشكالات الدنيا عليه لا يكاد يرد عليه هذا الإشكال إلا بعد تسليم التبعيض في باب الاضطرار ، وهو أول شيء ينكره فيه أيضا ، فقياس الحرج بباب الاضطرار في مقام رده غير مستقيم ، كما أن الوجه الذي أفيد للتبعيض خصوصا في المعين أوضح بطلانا ، كيف ! وما قيل في شرح توسط


(258)
والحرج من أفراد الاضطرار ، فإنه لا يعتبر في الاضطرار عدم القدرة التكوينية على الاحتياط في جميع الأطراف. والاضطرار إلى بعض الأطراف المعين يوجب التوسط في التكليف ـ ونعني بالتوسط في التكليف هو ثبوت التكليف على تقدير كون المضطر إليه غير متعلق التكليف أو موضوعه وعدم ثبوته على تقدير كونه نفس متعلق التكليف أو موضوعه ـ وإلى بعض الأطراف الغير المعين يوجب التوسط في التنجيز على أحد الوجهين ، أو التوسط في التكليف أيضا على الوجه الآخر ، ذكرناهما في تنبيهات الاشتغال.
    ففي المقام حيث كان يتعين الأخذ بالمظنونات وترك المشكوكات والموهومات إن كان يلزم من الأخذ بهما كلا أو بعضا العسر والحرج كان حكمه حكم الاضطرار إلى المعين تكون النتيجة التوسط في التكليف ، بمعنى سقوط التكاليف إن كانت في المشكوكات والموهومات وثبوتها إن كانت في المظنونات فتأمل (1).
    وثانيا : أنه يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على نفس الحكم العقلي بالاحتياط ، بتقريب : أن حكم العقل بالاحتياط إنما هو لأجل رعاية الأحكام الشرعية ، فإذا كان رعايتها في حال انسداد باب العلم والعلمي موجبا للعسر والحرج فأدلة نفيهما تقتضي عدم إلزام العقل بالاحتياط بمقدار يلزم منه العسر والحرج ، فتكون حكومتها على حكم العقل بالاحتياط من شؤون حكومتها على الأحكام الشرعية ، فان انتشار الأحكام الشرعية بين المظنونات
التكليف عين احتمال وجود التكليف في غير مورد الاضطرار ، وهل هذا غير الشك البدوي ؟ نعم : لو لم يسرى الاضطرار إلى الواقع واختص بموضوع وجوب العمل حال الشك به كان لبقاء العلم وجه ، وعلى فرض اقتضاء تأثيره أمكن الترخيص على خلافه ، ولك حينئذ أن تثبت توسطا في التنجيز لا في نفسه ، ولكن أنى لك باثبات المقدمتين ! فتدبر.
1 ـ أقول : لهذا التأمل في كلامه مجال ، والحق وقع في محله ، إذ لعله إشارة منه إلى بطلان ما ادعاه ، لا إلى الدقة باعتقاده.


(259)
والمشكوكات والموهومات مع وجوب التعرض لها وعدم جواز إهمالها هو الذي أوجب العسر والحرج ، فالعسر والحرج ينتهى بالأخرة إلى الأحكام الشرعية ولو لمكان الجهل بها وانتشارها في الوقايع المشتبهة.
    والحاصل : أنه حيث وجب الاحتياط عقلا في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات رعاية للتكاليف المعلومة بالإجمال وكان الاحتياط في الجميع موجبا للعسر والحرج ، فلو كانت التكاليف في الموهومات كان الحرج مستندا إليها ، فلابد وأن تكون منفية بأدلة العسر والحرج ، وكذا الحال في المشكوكات لو كان الاحتياط فيها مع المظنونات موجبا للعسر والحرج ، فلا محيص عن التبعيض في الاحتياط بمقدار لا يوجب العسر والحرج لو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ولزوم الاحتياط فيها هو العلم الإجمالي ، ليكون الاحتياط في الأطراف عقليا.
    فان قلت : ما الفرق بين الاحتياط العقلي والاحتياط الشرعي ؟ حيث تقدم : أن أدلة نفي العسر والحرج لا تكون حاكمة على الاحتياط المنصوب شرعا طريقا إلى امتثال التكاليف في الوقايع المشتبهة إذا كان المستند في عدم جواز إهمالها هو الإجماع أو الخروج عن الدين.
    قلت : الفرق بين الاحتياط العقلي الاحتياط الشرعي في غاية الوضوح ، فان الاحتياط الشرعي من أول الأمر ورد على موضوع يوجب العسر والحرج دائما ليس له حالة لا توجب ذلك ، نظير الأمر بالجهاد ، فيكون الاحتياط الشرعي أخص مطلق من أدلة نفي العسر والحرج. والسر في ذلك : هو أن الوقايع المشتبهة لوحظت قضية واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط ، لأن الإجماع أو الخروج عن الدين إنما كان دليلا على عدم جواز إهمال مجموع الوقايع المشتبهة من حيث المجموع ، لا على كل شبهة شبهة (1) فان
1 ـ أقول : إذا كان المحذور في إهمال المجموع من حيث المجموع ، فنفى هذا المحذور بالإتيان بواحد ، إذ

(260)
إهمال كل شبهة مع قطع النظر عن انضمام إهمال ساير الشبهات إليها لا يوجب الخروج عن الدين ولا قام الإجماع على عدم جوازه ، بل معقد الإجماع ولزوم الخروج عن الدين إنما هو إهمال مجموع المحتملات : من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، وذلك يقتضي نصب الشارع طريقية الاحتياط في المجموع ، فيكون حكما خاصا ورد على موضوع خاص يلازم العسر والحرج دائما ، ومعه لا يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على إلزام الشارع بالاحتياط ورافعة لوجوبه. وهذا بخلاف الاحتياط العقلي ، فان العقل في كل واقعة واقعة تكون طرفا للعلم الإجمالي يحكم بالاحتياط ويلزم به ، وكل واقعة واقعة مع قطع النظر عن انضمام ساير الوقايع إليها لا تقتضي العسر والحرج ، بل العسر والحرج يلزم من الاحتياط في مجموع الوقايع : مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ، وفي كل من المظنونات والمشكوكات والموهومات يستقل العقل بالاحتياط لكونها من أطراف العلم الإجمالي ، فيكون حكم العقل بالاحتياط في الوقايع المشتبهة بمنزلة أحكام متعددة يلزم من رعاية جميعها العسر والحرج ، ولابد حينئذ من التبعيض في الاحتياط ، لأن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها (1).
    فتحصل ما ذكرنا : أنه لو كان المستند في المقدمة الثانية هو العلم الإجمالي ـ وكان الوجه في بطلان الاحتياط هو لزوم العسر والحرج ـ كان المتعين
نقيض ترك المجموع هو الإتيان بواحد منها ، لا إتيان المجموع ، وحينئذ هذا الوجه لا يقتضي وجوب اتيان المجموع بما هو مجموع ، بل غاية ما يقتضيه حرمة إهمال مجموع الوقايع وجوب الإتيان بمقدار يرفع المحذور ، ولازمه التخيير بين تعرض المظنونات أو المشكوكات أو الموهومات بلا انتهاء النوبة إلى لزوم تعرض مجموع المحتملات ، إلا بتبديل هذا السر بسر آخر من دعوى الإجماع أولا بوجوب الاحتياط في المجموع ، لا من جهة محذور الخروج عن الدين ، ودون إثباته خرط القتاد ، فتدبر في هذه الأسرار وكن من الشاكرين !.
1 ـ أقول : قد ذكرنا كرارا بأن ما أفيد تمام لو لم ينتهى الأمر بحكم بقية المقدمات إلى جعل الترخيص الحرجي في خصوص الموهومات بقول مطلق ، وإلا لا يبقى العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي بحاله ، للجزم بأن الحرج المتوجه إليها بخصوصياتها يسرى إلى التكليف في ضمنها قهرا ، ومع فرض رفع الحرج فعلية التكليف الواقعي من أين يبقى العلم الإجمالي بحاله ؟ كي يحكم العقل بالتبعيض في الاحتياط !.


(261)
هو التبعيض في الاحتياط بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج ، لحكومة أدلة نفيهما على التكاليف المعلومة بالإجمال المنتشرة في الوقايع المشتبهة التي يلزم من رعايتها في حال الجهل وانسداد باب العلم والعلمي بها العسر والحرج.
    وأما ما أفاده ( قدس سره ) من أن مفاد أدلة نفي العسر والحرج والضرر إنما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع وأن التوفيق العرفي يقتضي تقديمها على أدلة الأحكام من دون أن تكون حاكمة عليها لعدم كونها بمدلولها اللفظي شارحة لها ومفسرة لما أريد منها ، فلتفصيل الكلام فيه محل آخر ، وإجماله : هو أنه لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من الدليل الآخر بمثل كلمة « أي » أو « أعني » وما أفاد معنى ذلك ـ وإن كان يوهمه ظاهر عبارة الشيخ ( قدس سره ) في مبحث التعادل والتراجيح ـ فإنه لم يوجد فيما بأيدينا من الأدلة ما يكون بهذه المثابة ، إلا بعض ما ورد في أخبار تنصيف المهر في موت الزوجة وطلاقها (1) وإلا فأغلب الحكومات لا يكون دليل الحاكم بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من دليل المحكوم ، بل الذي يعتبر في الحكومة ، هو أن يكون مفاد دليل الحاكم النتيجة المتحصلة من تحكيم قرينة المجاز على ذيها ، أو تحكيم الخاص على العام والمقيد على المطلق.
    والضابط الكلي في ذلك : هو أن يكون أحد الدليلين متكفلا لبيان ما لا يتكفله دليل المحكوم. وبذلك تفترق الحكومة عن التخصيص وإن كانت النتيجة واحدة ، فان مفاد دليل المخصص نفي ما أثبته العام أو إثبات ما نفاه مع اتحاد الموضوع والمحمول فيهما وكان الاختلاف بينهما في مجرد السلب والايجاب ، كما في مثل قوله : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من العلماء » وهذا بخلاف الحاكم والمحكوم ، فان الاختلاف بينهما ليس بمجرد السلب والايجاب ، بل دليل
1 ـ راجع الوسائل الباب 58 من أبواب المهور لعلك تجد ، فانى لم أجد في أخبار الباب شاهدا صريحا لما أشار إليه ولعله ( قدس سره ) عنى بذلك الحديث 24 من الباب ( المصحح )

(262)
الحاكم يتكفل معنى لا يتكفله دليل المحكوم ولا يرد السلب والايجاب فيهما على محل واحد ، ولذلك لا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل يقدم دليل الحاكم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه أو كان ظهوره أضعف من ظهور دليل المحكوم ، فان ملاحظة النسبة وقوة الظهور فرع التعارض ولا تعارض بينهما ، لأن دليل الحاكم قد يتعرض عقد وضع دليل المحكوم بإدخال ما ليس داخلا فيه ، كقوله « زيد عالم » عقيب قوله : « أكرم العلماء » أو إخراج ما ليس خارجا عنه كقوله : « زيد ليس بعالم » عقيب قوله ذلك ، وهو الغالب في باب الحكومات ، سواء كانت الحكومة واقعية ، كحكومة قوله : « لا شك لكثير الشك » على قوله : « من شك من الثلاث والأربع فليبن على الأربع » أو حكومة ظاهرية كحكومة الأمارات على الأحكام الواقعية ، وبعضها على بعض وعلى الأصول على ما بيناه في خاتمه الاستصحاب.
    وقد يكون دليل الحاكم متعرضا لعقد حمل دليل المحكوم ، كما هو مفاد أدلة نفي الضرر والعسر والحرج ، فان الضرر والعسر والحرج من العناوين الثانوية التي تتصف بها نفس الأحكام الشرعية : من الوضعية والتكليفية ـ كما أوضحناه بما لا مزيد عليه ـ في رسالة لا ضرر ـ فهي بمدلولها المطابقي تنفى الأحكام الواقعية عن بعض حالاتها ، وهي حالة كونها ضرورية أو حرجية ، فمفاد أدلة نفي الضرر والعسر والحرج نفي تشريع الأحكام الضررية والحرجية ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما وبين الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية بعناوينها الأولية ، فان شمول أدلة الأحكام لحالة الضرر والعسر والحرج إنما يكون بالإطلاق المتأخر رتبة عن أصل الجعل والتشريع ، فان الإطلاق والتقييد من الحالات والأوصاف اللاحقة للأحكام بعد فرض وجودها وجعلها وتشريعها ، فلا يمكن أن يكون في مرتبة الجعل والتشريع الدليل متكفلا لبيان وجود الأحكام في حال كونها ضررية أو حرجية حتى يعارض ما دل على نفي الجعل والتشريع للأحكام الضررية والحرجية.


(263)
    وأما حديث كون مفاد أدلة نفي العسر والحرج والضرر نفي الحكم بلسان نفي الموضوع (1) فهو بمعزل عن الصواب.
    لما فيه أولا : أن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنما يكون فيما إذا كان مدخول النفي موضوعا ذا حكم ، إما في الشرايع السابقة ، وإما في زمان الجاهلية ، وإما في هذه الشريعة ، ليرد النفي على الموضوع بلحاظ نفي حكمه ، كما في مثل قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « لا رهبانية في الاسلام » (2) و « لا ضرورة في الاسلام » (3) وقوله تعالى « فلا رفث ولا فسوق في الحج » (4) وقوله ـ عليه السلام ـ « لا شك لكثير الشك » (5) و « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » (6) وغير ذلك من القضايا يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. وفي مثل نفي الضرر والعسر والحرج لا يمكن ذلك ، فان الحكم المترتب على الضرر مع قطع النظر عن ورود النفي عليه ليس هو إلا الحرمة ، فيكون مفاد
1 ـ أقول : إن ما أفيد أولا في إثبات الحكومة وشرحه في باب « لا ضرر والحرج » في غاية المتانة ، ونحن أيضا أوردنا عليه ، وأما ما أفيد أخيرا من إبطال كونه من باب نفي الموضوع : فهو مبنى على كون المراد من الموضوع نفس عنوان « الحرج » و « الضرر » وأما لو كان العنوانان حاكيان عن العناوين الضررية والحرجية ـ كما هو مقصوده ـ فلا يرد عليه ما أفيد.
    نعم : لك أن تمنع هذه الجهة ، لا أنه على فرضه تورد عليه بما أفيد.
    وما أفيد في وجه المنع : من كون النفي واردا على الدين وهو عبارة عن الأحكام ، غير تام ، إذ المراد من الدين مطلق الخطابات الواردة حكما وموضوعا ، فيصح أن يقال حينئذ : ما جعل الله في خطاباته موضوعا حرجيا ، وتخصيص الدين بخصوص الأحكام لا وجه له ، كما لا يخفى.
    نعم : ما أفيد بأنه على فرض كونه من باب نفي الحكم بنفي الموضوع لا ينافي الحكومة في غاية المتانة ، ونحن أيضا مستشكلين عليه ، فتدبر.
2 ـ لم نجد حديثا بهذه العبارة في كتب الأخبار وما أورده في الوسائل « ليس في أمتي رهبانية » راجع الوسائل أبواب آداب السفر إلى الحج الباب 1 الحديث 4 ( المصحح ).
3 ـ سنن أبي داود كتاب المناسك الباب 3
4 ـ سورة البقرة الآية : 197
5 و 6 ) ولا يخفى أن هذين التعبيرين أيضا ليسا عين ما نقل عن المعصوم ( عليه السلام ) راجع الوسائل أبواب الخلل الباب 16 و 24 ( المصحح ).


(264)
قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ لا ضرر ( بناء على أن يكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ) هو نفي حرمة الضرر ، وهو كما ترى يلزم منه عكس المقصود ، فان المقصود منه عدم وقوع الضرر لا عدم حرمته والترخيص فيه ، وأما العسر والحرج فليس له حكم حتى يكون النفي بلحاظه.
    وثانيا : أن توهم كون المفاد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنما يكون له سبيل في مثل قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « لا ضرر ولا ضرار » وأما قوله تعالى : « وما جعل عليكم في الدين من حرج » فهو مما لا سبيل إليه ، فان النفي فيه ورد على « الدين » وهو عبارة عن الأحكام والتكاليف الشرعية ، فمعنى قوله تعالى : « وما جعل عليكم في الدين من حرج » هو أنه لم يجعل في الأحكام حكما حرجيا ، فالنفي من أول الأمر ورد على الأحكام ، لا على الموضوع حتى يتوهم أنه من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.
    وثالثا : أن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أيضا يكون من أحد أقسام الحكومة إذا كان من النفي التركيبي بمفاد « ليس الناقصة » كقوله ـ عليه السلام ـ « لا شك لكثير الشك » و « لا سهو في السهو » ونحو ذلك ، فمجرد كون مفاد الدليل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع لا ينافي الحكومة.
    وليس الغرض في المقام تفصيل الكلام في أقسام الحكومات فإنه قد استقصينا الكلام في ذلك في رسالة مفردة ، بل المقصود مجرد التنبيه إلى أن الوجه في تقديم أدلة نفي العسر والحرج على أدلة الأحكام إنما هو الحكومة ، ولولا ذلك لم يكن وجه للجمع بينهما بتقديمها عليها عرفا ، فان الجمع العرفي لابد وأن يكون عن منشأ : من الحكومة أو قوة الظهور ونحو ذلك مما يأتي البحث عنه في مبحث « التعادل والتراجيح » ولا سبيل إلى دعوى أظهرية أدلة نفي العسر والحرج من أدلة الأحكام ، مع أن النسبة بينها وبين آحاد أدلة الأحكام العموم من وجه ، فلا وجه لتقديمها عليها إلا الحكومة. وقد عرفت : أنه بعد تسليم الحكومة لا محيص عن التبعيض في الاحتياط فيما نحن فيه إذا كان المستند في


(265)
المقدمة الثانية « وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة » العلم الإجمالي واقتضائه الاحتياط في المظنونات والمشكوكات والموهومات ، فان الاحتياط في الجميع مستلزم للعسر والحرج ، وبعد ضم أدلة نفيهما إلى ما يستقل العقل به ـ من الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ـ تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط بترك الاحتياط في الموهومات إذا لم يلزم من الاحتياط في المظنونات والمشكوكات العسر والحرج ، وإلا فيجب الاحتياط في المظنونات فقط أو مع بعض المشكوكات ، إلا أن يقوم إجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ولو لم يستلزم الاحتياط فيها العسر والحرج ، وإلا كان اللازم الاحتياط في المظنونات فقط إذا كان مفاد الإجماع مجرد عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فان حال المظنونات يكون في حال أحد الإنائات الثلاثة التي علم بنجاسة أحدها مع الاضطرار إلى الاقتحام في أحدها المعين وقيام الدليل على جواز الاقتحام على الآخر (1) فإنه يجب الاجتناب عن الثالث مخافة أن يكون هو النجس المعلوم بالإجمال في البين ، ففي المقام يجب الاحتياط في المظنونات بعد قيام الإجماع بجواز ترك الاحتياط في المشكوكات وكان الاحتياط في الموهومات
1 ـ أقول : مع فرض احتمال كون النجاسة في المحتمل المعين ومقارنا مع العلم كان المحتمل المزبور مضطرا إليه ، فهل هذا الاضطرار لم يكن قائما بموضوع المحتمل على الإطلاق ؟ ومع قيامه فهل فيه قصور في نفي التكليف عن المضطر إليه بالخصوص ؟ ومع عدم قصوره فمن أين يبقى علم إجمالي بتكليف فعلى بعده ؟ وحينئذ من أين يجئ التبعيض وإلزام العقل بلزوم حفظ البقية ؟.
    فان قلت : أن المصلحة إذا كان معلوما في كل واحد من الطرفين ، فمع الشك في طرو المانع عن هذه المصلحة في تأثيره فالعقل يحكم في مثله بالاحتياط لا البراءة ، ، نظير الشك في القدرة.
    قلت : ما أفيد تمام لو كان الطرف الآخر مما كان المقتضى فيه محرزا وأن الشك كان ممحضا في المانع وأما إذا فرضنا بأن الشك في الطرف الآخر شك في أصل المصلحة وإنما علم إجمالا بتكليف فعلى في كل طرف بمعنى احتمال انطباقه في كل طرف ، فمع فرض ذهاب العلم المزبور بواسطة الاضطرار في المعين ، فلا يبقى مجال لجريان الاحتياط في الطرف الآخر مع فرض الشك في أصل اقتضائه ، ومن هذه الجهة نقول : إنه لو فرض خروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء فضلا عن القدرة مقارنا بالعلم وكان معينا لا مجال للاحتياط في الطرف الآخر ، كما هو ظاهر على من يرجع كلماتهم في الشبهة المحصورة ، فتدبر.


(266)
موجبا للعسر والحرج ولو مع ضم الاحتياط في المظنونات والمشكوكات ، فإنه قد تقدم : أنه يتعين دفع العسر والحرج بترك الاحتياط في خصوص الموهومات ، لأنها أبعد عن الواقع من المظنونات والمشكوكات ، فيكون حالها حال الاضطرار إلى الاقتحام في أحد الإنائات الثلاثة المعين ، فإذا ضممنا إلى ذلك الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات يتعين الاحتياط في المظنونات فقط ، فان صادف كون التكاليف المعلومة بالإجمال في المظنونات فهو ، وإن صادف كونها في الموهومات والمشكوكات فهي منفية بأدلة نفي العسر والحرج وبالإجماع. هذا إذا كان مفاد الإجماع مجرد عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات من باب أنها من أحد أطراف العلم الإجمالي.
    وإن كان مفاده عدم وجوب الاحتياط فيها من باب أن مبنى الشريعة ليس على امتثال التكاليف بنحو الاحتمال ، بل لابد وأن يكون امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص من الوجوب والحرمة ، فهذا الإجماع بضميمة انسداد باب العلم والعلمي يكشف لا محالة عن جعل الشارع حجية الظن وطريقيته إلى التكاليف الواقعية ، فيكون العمل بالمظنونات من باب أن الظن محرز للواقع ، لا من باب التبعيض في الاحتياط.
    فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن نتيجة المقدمة الثانية مع ضم المقدمة الثالثة إليها تختلف حسب اختلاف المستند في المقدمة الثانية مع اختلاف المستند في بطلان الاحتياط ، فلو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع أو الخروج عن الدين ـ وكان الوجه في بطلان الاحتياط هو الإجماع على عدم وجوب الجمع بين جميع المحتملات أو لزوم اختلال النظام من الاحتياط في الجميع ـ كان اللازم هو التبعيض في الاحتياط ، ولكن هذا الاحتياط إنما يكون بجعل شرعي وليس من الاحتياط العقلي ، لما عرفت : من أن الإجماع أو الخروج عن الدين يقتضي جعل الشارع الاحتياط طريقا إلى امتثال التكاليف ، وأقصى ما يقتضيه الإجماع على وجوب الجمع بين جميع


(267)
المحتملات أو اختلال النظام هو نفي جعل الشارع الاحتياط في الجميع طريقا ، وأما جعل الطريقية في البعض فلا ينفيه ، ولا سبيل إلى دعوى نصب الشارع الظن طريقا ، لما عرفت : من أن الطريق الواصل بنفسه ليس هو إلا الاحتياط. هذا إذا كان الوجه في بطلان الاحتياط الشرعي هو الإجماع أو اختلال النظام. وإن كان الوجه فيه لزوم العسر والحرج ، فقد عرفت : أن أدلة نفيهما لا تكفى في بطلانه ، لان الاحتياط الشرعي يكون أخص مطلق من أدلة نفيهما.
    ولو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة العلم الإجمالي ـ وكان بطلان الاحتياط لأجل الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات أو لأجل اختلال النظام أو لزوم العسر والحرج ـ فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط أيضا ، ولكن لزوم الاحتياط في البعض على هذا يكون لأجل استقلال العقل به إرشادا ، لا لأجل ايجابه شرعا ، فهذا الوجه مع الوجه السابق وإن كان يشترك في كون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، إلا أنه في الوجه السابق يكون الاحتياط في البعض من الاحتياط الشرعي ، وفي هذا الوجه يكون من الاحتياط العقلي.
    ولو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي والإتيان بمتعلقات التكاليف على وجه الاحتمال ، فالنتيجة تكون حجية الظن شرعا على جميع التقادير ، سواء كان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة لأجل الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي ، فإنه لا يمكن المنع عن الامتثال الاحتمالي بلا نصب طريق إلى إحراز التكاليف مع انسداد باب العلم بها (1) والطريق الذي يمكن نصبه شرعا
1 ـ أقول : قد تقدم سابقا بأنه لو فرض قيام الإجماع على عدم الامتثال الاحتمالي ، لا يلازم ذلك أيضا مع حجية الظن بمعنى الوسطية ، بل كما يناسب ذلك مع الإجماع المزبور يناسب أيضا مع جعل وجوب العمل بالظن شرعا من باب المقدمية لتنجيز الواقع في ضمن ظنونه ، نظير ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية ، إذ حينئذ لا يكون الامتثال احتماليا ، بل الحكم الشرعي الطريقي دعاه على الامتثال.

(268)
بحسب الدوران العقلي منحصر بالظن ، إذ لا طريق يمكن إحراز الواقع به على وجه لا يكون الامتثال احتماليا سوى الظن ، فيتعين هو للنصب.
    فظهر : أن العمل بالمظنونات مع الوقايع المشتبهة لا يخلو عن أحد وجهين لا ثالث لهما ، وإما لكونه من التبعيض في الاحتياط في أطراف الشبهة ، وإما لكونه محرزا للواقع بجعل الظن حجة شرعا.
    ومن ذلك يظهر : أن مقدمات الانسداد ، إما أن تكون عقيمة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة ( إذا كان بطلان الاحتياط في المقدمة الثالثة من جهة لزوم العسر والحرج ، وكان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة في المقدمة الثانية من جهة العلم الإجمالي ) وإما أن تكون النتيجة الكشف وحجية الظن شرعا ، إذا وصلت النوبة إلى المقدمة الرابعة ( وذلك إنما يكون إذا كان بطلان الاحتياط لأجل قيام الإجماع على أن مبنى الشريعة ليس على امتثال التكاليف بالاحتمال ) فجعل النتيجة الحكومة بمعنى الامتثال الظني مما لا أساس له ، ولا يمكن أن تكون النتيجة ذلك ، مع أن العمل بالمظنونات لا يلازم الامتثال الظني ، على ما سيأتي بيانه عن قريب ( إن شاء الله تعالى ).
    فما اختاره ( قدس سره ) من الحكومة وأن نتيجة مقدمات الانسداد هي كفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة مما لا يمكن المساعدة عليه.
    قال ( قدس سره ) بعد الاعتراف بأنه يجب التبعيض في الاحتياط بترك الاحتياط في الموهومات بأدلة نفي العسر والحرج ووجوبه في المظنونات
نعم : لو كان مفاد الإجماع وجوب التعرض للأحكام عن طريق وكاشف عنها ولو تعبدا كان للنتيجة المزبورة وجه ، ومرجع ذلك إلى العلم الإجمالي بجعل طريق في الأحكام الموكول تعينها بيد العقل ، ولكن أنى له باثباته !.
    كما أن الإجماع بالمعنى الأول ـ الذي عبارة عن وجوب تعرض الأحكام عن وجوب شرعي ظاهري ـ أيضا ثبوته أول الكلام ، والله العالم.


(269)
والمشكوكات ما لفظه : ( اللهم إلا ان يدعى قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا ، وحاصله : دعوى أن الشارع لا يريد الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعية المشتبهة بين الوقايع ، فيكون حاصل دعوى الإجماع دعوى انعقاده على أنه لا يجب شرعا الإطاعة العلمية الإجمالية في الوقايع المشتبهة مطلقا ، لا في الكل ولا في البعض ، وحينئذ يتعين الانتقال إلى الإطاعة الظنية.
    لكن الإنصاف : أن دعواه مشكلة جدا وإن كان تحققه مظنونا بالظن القوى ، لكنه لا ينفع ما لم تنته إلى حد العلم ».
    ثم عقب ذلك بقوله : « فان قلت : إذا ظن بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات فقد ظن بأن المرجع في كل مورد منها إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ، فتصير الأصول مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة ، فالمظنون في تلك المسائل عدم وجوب الواقع فيها على المكلف وكفاية الرجوع إلى الأصول ، وسيجيء أنه لا فرق في الظن الثابت حجيته بدليل الانسداد بين الظن المتعلق بالواقع وبين الظن المتعلق بكون الشيء طريقا إلى الواقع وكون العمل به مجزيا عن الواقع وبدلا عنه ولو تخلف عن الواقع ».
    ثم أجاب عن قوله : « إن قلت » بقوله : « قلت : مسألة حجية الظن بالطريق موقوف على هذه المسألة الخ ».
    وحاصل ما أفاده في الجواب عن ذلك بقوله : « قلت » على طوله يرجع إلى أن نتيجة مقدمات الانسداد وإن كانت أعم من الظن بالواقع والظن بالطريق ، إلا أن ذلك فرع سلامة المقدمات ووصول النوبة إلى أخذ النتيجة ، والكلام بعد في سلامة المقدمة الثالثة ، فإنه لم يثبت بطلان الاحتياط رأسا في جميع الوقايع لينتقل إلى المقدمة الرابعة ، لتكون النتيجة اعتبار الظن مطلقا سواء تعلق بالواقع أو بالطريق.


(270)
    ولا يخفى ما في هذا الجواب من الإشكال (1) فإنه بعد تسليم عدم وجوب الاحتياط في الموهومات بأدلة نفي العسر والحرج ووجوبه في المظنونات سواء تعلق الظن بالواقع أو بالطريق ـ فان الظن بالطريق يلازم الظن بالواقع ولو من حيث الأثر ـ لا يبقى موقع لهذا الجواب ، فان قيام الإجماع ـ ولو ظنا ـ على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات يلازم الظن باعتبار الأصول النافية للتكليف في موارد الشك ، كما اعترف به ( قدس سره ) فتكون التكاليف في المشكوكات موهومة ولو من حيث الأثر ، فان الظن باعتبار الطريق وإن لم يلازم الظن بالواقع ، إلا أنه يلازم الظن بالخروج عن عهدة الواقع عند العمل به ، فيكون التكليف في مورد الأصل النافي له ـ الذي فرض الظن باعتباره بسبب قيام الإجماع الظني على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ـ موهوما من حيث الأثر ، والمفروض عدم وجوب الاحتياط في الموهومات ـ فتأمل ـ فبنفس المقدمة الثالثة يثبت اعتبار الظن بالطريق بمقتضى الإجماع الظني ونحتاج إلى المقدمة الرابعة ، ولعله لذلك ضرب على قوله : « قلت : مسألة حجية الظن موقوف على هذه المسألة الخ » وتبديله ـ على ما في النسخ المصححة ـ بقوله : « قلت : مرجع الإجماع قطعيا أو ظنيا على الرجوع في المشكوكات إلى الأصول هو الإجماع على وجود الحجية الكافية في المسائل التي انسد فيها باب العلم حتى تكون المسائل
1 ـ أقول : بعد ما كان الغرض أن النوبة إنما تصل إلى مثبتية الظن للتكليف بعد إبطال مثبت آخر من العلم أو العلمي إجماليا أم تفصيليا ، فمع عدم ابطال العلم الإجمالي ولو من جهة إمكان التبعيض في الاحتياط ـ لا يكاد وصول النوبة إلى حجية الظن في إثبات التكليف ، وحينئذ في رفع اليد عن العلم بمقدار العسر إذا اكتفى في خصوص الموهومات لا يرخص العقل ترك المشكوك ، ولو كان مما هو مظنون الخروج عن عهدة الواقع وكان موهوما من حيث الأثر ، كيف ! ولو فرض في رفع العسر رفع اليد عن خصوص موهوم الواقع أو موهوم الأثر ، ربما يقدم العقل الأول في الترخيص على الأخير ، ولو فرض عدم ترجيح العقل بينهما ، فلابد بمقتضى تأثير العلم الإجمالي من التبعيض بين نحوي الموهومين لا الأخذ بجميع الموهومات ، إذ ليس في البين نص مخصوص يرفع به اليد عن كل موهوم حقيقة أم أثرا ، بل عمدة ما في البين حكم العقل بالجمع بين تأثير العلم في إثبات معلومه وبين عمومات العسر المقتصر فيها بمقدار رفع العسر ، ولو عن بعض الموهومات دون بعض ، كما لا يخفى.
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس