فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 61 ـ 75
(61)
مورد الابتلاء مما يعلم بخروجه عن عمومات أدلة المحرمات ـ كالخمر الموجود في أقصى بلاد الهند ، فإنه يعلم بخروجه عن مورد الابتلاء واستهجان النهي عنه وبعض مراتب الخروج عن مورد الابتلاء مما يشك في استهجان النهي عنه وخروجه عن العمومات ، والشك في ذلك لا يوجب إجمالها ولا يمنع عن التمسك بها ، فتأمل.
    فإن قلت : التمسك بالاطلاقات والعمومات اللفظية إنما يصح بعد الفراغ عن صحة الاطلاق والعموم النفس الأمري وإمكان تشريع الحكم على وجه يعم المشكوك فيه ، فحينئذ يجوز التمسك بالعمومات اللفظية في موارد الشك في التخصيص ، وأما لو فرض الشك في إمكان تشريع الحكم ثبوتا على وجه يعم المشكوك فلا يجوز التمسك بالعمومات اللفظية عند الشك في التخصيص ، والشك في المقام يرجع إلى الشك في صحة الاطلاق النفس الأمري وإمكان التشريع على وجه يعم المشكوك خروجه عن مورد الابتلاء ، لان إمكان الابتلاء بموضوع التكليف من الشرائط المعتبرة ثبوتا في أصل تشريع التكليف لاستهجان التكليف واقعا بما لا يمكن الابتلاء به ، فالشك في إمكان الابتلاء بالخمر الموجود في البلد الكذائي مثلا يرجع إلى الشك في إمكان تشريع النهي عن الخمر على وجه يعم ذلك الفرد منه في الواقع ونفس الامر ، وهذا لا ربط له بناحية الاثبات والكشف حتى يصح التمسك بالعمومات والمطلقات اللفظية.
    قلت : هذا الكلام بمكان من الغرابة (1) فان إطلاق الكاشف بنفسه يكشف عن إمكان الاطلاق النفس الأمري وصحة تشريع الحكم على وجه يعم المشكوك فيه. ولو كان التمسك بالمطلقات والعمومات اللفظية مشروطا بإحراز إمكان الاطلاق النفس الأمري لا نسد باب التمسك بالمطلقات بالكلية ، إذ ما من
1 ـ أقول : قد مر شرح مرام الأستاذ ، وأن سوء تعبيره أوقع الطرف في الوهم ، والامر فيه سهل.

(62)
مورد يشك في التقييد إلا ويرجع إلى الشك في إمكان التقييد والاطلاق النفس الأمري ، خصوصا على مذهب العدلية : من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، فان الشك في كل قيد يلازم الشك في ثبوت المصلحة الموجبة للتقييد ، وعلى تقدير ثبوتها في الواقع يمتنع الاطلاق النفس الأمري ، فالشك في كل قيد يرجع بالآخرة إلى الشك في إمكان الاطلاق الواقعي ، فلو اعتبر في التمسك بالاطلاقات اللفظية إحراز صحة الاطلاق في عالم الجعل والتشريع يلزم عدم صحة التمسك بها في شيء من الموارد.
    والحاصل : أن كل خطاب لفظي كما أنه يكشف عن ثبوت الملاك والمناط ، كذلك كل إطلاق لفظي يكشف عن ثبوت الاطلاق النفس الأمري ، ففيما نحن فيه القدر الثابت من تقييد أدلة المحرمات هو ما إذا كان النهي عن الشيء مستهجنا بنظر العرف لخروجه عن مورد الابتلاء ، وفيما عدا ذلك من الموارد المشكوكة يؤخذ بظاهر الاطلاق ويستكشف منه إنا عدم استهجان التكليف في مورد الشك ، كما يستكشف من إطلاق قوله ـ عليه السلام ـ « اللهم العن بني أمية قاطبة » عدم إيمان من شك في إيمانه من هذه الطائفة الخبيثة (1) مع أن حكم العقل بقبح لعن المؤمن لا ينقص عن حكمه بقبح تكليف من لا يتمكن عادة ، فكما يجوز التمسك بإطلاق اللعن لاخراج من شك في إيمانه عن كونه مؤمنا ، كذلك يجوز التمسك بإطلاق أدلة المحرمات لادخال ما شك في خروجه عن مورد الابتلاء فيه.
    فان قلت : التمسك بالمطلقات إنما يصح في القيود والانقسامات السابقة على
1 ـ أقول : من التأمل فيما ذكرنا ظهر عدم المجال لمقايسة المقام بمثل « لعن الله بني أمية » إذ المخصص العقلي بقبح لعن المؤمن إنما يقيد الحكم الواقعي ، وأين هذا مع القدرة التي هي شرط للحكم الظاهري أيضا ، ومع الشك فيها لا يبقى مجال القطع بحجية الخطاب كي به يحرز الواقع واجدا للقيد ، كما هو ظاهر.

(63)
الخطاب التي يمكن أخذها في المتعلق ، وأما القيود اللاحقة للخطاب الحادثة بحدوثه فلا يصح التمسك بها في نفي ما شك في اعتباره ، لأنه لا يمكن لحاظها في المرتبة السابقة على الخطاب حتى يمكن إطلاق الخطاب أو تقييده بالنسبة إليها ، خصوصا في القيود التي تكون شرطا لتنجز التكاليف ـ كالعلم بالتكليف وكالابتلاء بموضعه ـ فان رتبة وجود هذه القيود متأخرة عن رتبة التكليف ، فكيف يمكن أخذها قيدا في المتعلق ؟.
    قلت : هذا الكلام أوضح فسادا من الكلام السابق ، لما فيه :
    أولا : من أن الابتلاء بالموضوع ليس من القيود المتأخرة عن التكليف وجودا ، بل هو من الانقسامات السابقة عليه ، لان القدرة العادية كالقدرة العقلية من الأوصاف العارضة على المكلف قبل توجه التكليف إليه ، حيث إن المكلف ينقسم إلى القادر على إيجاد المتعلق والعاجز عنه ولو لم يكن هناك تكليف بالمتعلق ، كما هو الشأن في سائر القيود التي يمكن لحاظها في المرتبة السابقة على التكليف ، كالطهارة والستر والاستطاعة وغير ذلك من القيود الشرعية المعتبرة في التكاليف ، غايته أن الحاكم باعتبار القدرة بكلا قسميها هو العقل والحاكم باعتبار تلك القيود هو الشرع ، وهذا لا يوجب تفاوتا فيما نحن فيه : من أن لحاظ اعتبارها يكون سابقا على التكليف ، فدعوى أن الابتلاء من العناوين الحادثة بحدوث الخطاب المتأخر وجودها عن وجوده ، واضحة الفساد.
    وثانيا : سلمنا أن الابتلاء وعدمه من الانقسامات اللاحقة للخطاب بعد وجوده ، فدعوى أنه يكون من الشرائط الموجبة للتنجيز مما لا سبيل إليها ، بل شرط التنجيز ينحصر مصداقا بالعلم وما يقوم مقامه من الطرق والامارات والأصول المحرزة (1).
1 ـ أقول : معنى تنجيز الخطاب وصوله بمثابة يوجب استحقاق العقوبة على مخالفته ، ومنشأ

(64)
    والسر في ذلك : هو أن تنجز التكاليف إنما يكون بوصولها إلى المكلفين ، لأنها بوجوداتها الواقعية قاصرة عن أن تصير داعيا لحركة العضلات ، فان الشيء بوجوده الواقعي غير قابل لتحريك الإرادة وانقداحها في النفس ، بل المحرك للإرادة هو الوجود العلمي ، من غير فرق في ذلك بين الأمور التكوينية والتشريعية ، فالتكاليف الشرعية ما لم تصل إلى المكلف لا تصلح للداعوية ، فكل ما أوجب وصول التكاليف تكوينا أو تشريعا يكون شرطا لتنجيزها ، لان التنجيز إنما يكون بالوصول ، والموجب للوصول ليس هو إلا العلم أو ما يقوم مقامه ، وأما سائر الانقسامات المتأخرة عن الخطاب الحادثة بحدوثه فليس شيء منها توجب الوصول (1) ومنها إمكان الابتلاء وعدمه على فرض تسليم كونه من الانقسامات المتأخرة (2).
    والحاصل : أن مجرد كون الابتلاء من القيود المترتبة على الخطاب لا يقتضي أن يقع في عداد شرائط التنجيز ، وإلا كان كل قيد مترتب على الخطاب شرطا للتنجيز ، وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به ! لما عرفت من أنه يعتبر في شرط
الاستحقاق المزبور ليس مجرد الوصول محضا ، بل كما للوصول دخل فيه كذلك للقدرة عليه أيضا دخل في فعليته ، فلا معنى لحصر أسباب التنجيز بخصوص الوصول بعد فرض جعل القدرة خارجة عن شرائط أصل الخطاب ، بشهادة جعلها من الانقسامات اللاحقة الغير الموجبة لتقيد الخطاب به.
1 ـ أقول : ولعمري ! ان هذا البرهان أشبه شيء بما هو المعروف بأنه لم يرفع المؤذن يديه ويضعهما في اذنه ؟ فأجيب بأنه لو وضع يديه على فمه لم يقدر أن يؤذن ، إذ تمام الكلام في إخراج القدرة عن شرائط التنجز وحصره بالوصول ، فهل يناسبه بيان أنه لولا الوصول لا يتنجز وأن بقية الأمور الاخر ليس مما يوجب الوصول ؟.
2 ـ لا يخفى أنه لا مجال للتمسك بالاطلاقات اللفظية بعد تسليم كون الابتلاء من القيود المتأخرة عن الخطاب وإن لم يكن من شرائط التنجيز ، فإنه لا ملازمة بين عدم كونه شرطا للتنجيز وبين صحة التمسك بالاطلاقات ، إذ يكفي في المنع عن التمسك بالاطلاقات مجرد كونه من الانقسامات المترتبة على الخطاب ، كما لا يخفى ، فالأولى منع كونه من الانقسامات المترتبة ( منه ).


(65)
التنجيز مضافا إلى كونه من القيود المتأخرة عن الخطاب أن يكون موجبا لوصول التكليف ، وقيد الابتلاء بموضوع التكليف ليس مما يوجب وصول التكليف ، لأنه أجنبي عن ذلك ، كما لا يخفى.
    فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا مانع من التمسك بإطلاق أدلة المحرمات لاثبات حرمة ما شك في إمكان الابتلاء به على تقدير أن يكون هو الحرام المعلوم بالاجمال ، وحينئذ يجب الاجتناب عن الطرف الآخر المتيقن دخوله في مورد الابتلاء ، فان حال المشكوك خروجه عن مورد الابتلاء حال المتيقن دخوله في مورد الابتلاء من جريان الأصل النافي للتكليف فيه ومعارضته بالأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر الذي هو متيقن الدخول في مورد الابتلاء ، والمرجع بعد سقوط الأصول النافية للتكليف إلى قاعدة الاشتغال ، وهي تقتضي وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف. فقد ظهر ضعف القول بعدم وجوب الاجتناب عما هو داخل في مورد الابتلاء عند الشك في خروج الآخر عن مورد الابتلاء ، فتأمل جيدا.

    تكملة :
    خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء كما يكون لعدم القدرة العادية على التصرف فيه مثل ما إذا كان أحد طرفي المعلوم بالاجمال في أقصى بلاد المغرب ، كذلك يكون لعدم القدرة الشرعية عليه ، كما إذا كان أحد الانائين المعلوم نجاسته ملكا للغير الذي يبعد بحسب العادة ابتلاء المكلف باستعماله ولو بالشراء من صاحبه أو استعارته أو هبته وغير ذلك من الأسباب المجوزة شرعا للتصرف فيه. وقد يكون أيضا لبعد اتفاق الابتلاء به عادة ، كما إذا كان أحد الطرفين الذي تعلق العلم الاجمالي بنجاسته تراب الطريق الذي يبعد بحسب العادة الابتلاء به من السجود عليه أو التيمم به. ولا إشكال في أن عدم القدرة الشرعية على


(66)
التصرف في بعض الأطراف في حكم عدم القدرة العادية على التصرف فيه : من عدم تأثير العلم الاجمالي فيه ، فان النهي الشرعي عن التصرف في ملك الغير يوجب سلب القدرة عنه ، فلا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لعدم إمكان تطبيق العمل على مؤدى الأصل شرعا ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا معارض.
    نعم : لو فرض أن ملك الغير في معرض البيع والشراء وكان المكلف بصدد شرائه منه ، فلا يبعد تأثير العلم الاجمالي وعدم جريان الأصول النافية في كل من الطرفين ، لان ملك الغير وإن حرم التصرف فيه قبل الشراء إلا أنه حيث كان في معرض الانتقال إلى المكلف ، فلا يقبح التكليف بالاجتناب عنه على تقدير وقوع النجاسة فيه ، وهذا بخلاف ما إذا لم يمكن الانتقال إليه عادة كالإناء الموجود في حرم السلطان فان التكليف بالاجتناب عنه لغو مستهجن ولو فرض حصول القدرة العادية على التصرف فيه ولو بالسرقة (1).
    هذا إذا كان عدم الابتلاء ببعض الأطراف لعدم القدرة الشرعية على التصرف فيه.
    وأما إذا كان لبعد اتفاق الابتلاء به كتراب الطريق ، ففي تأثير العلم الاجمالي وعدمه وجهان مبنيان على أن المناط في استهجان التكليف الموجب لعدم تأثير العلم الاجمالي هل هو عدم اتفاق الابتلاء بالموضوع أو عدم إمكانه ؟ فعلى الأول : يكون بعد اتفاق الابتلاء في حكم عدم القدرة العادية عليه ، وهو الذي يظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ وعلى الثاني : يكون في حكم الابتلاء به ، وقد تأمل في ذلك
1 ـ أقول : يكفي لصحة الخطاب مجرد القدرة العادية على الاستيلاء خارجا ، ولا يكفي فيه مجرد حرمة التصرف شرعا كنذر أو غصبية ، وحينئذ لا مجال لدعوى صدق الخروج عن الابتلاء ولو بعد السرقة ، ونظيره في المنع بعد الاحتياج إليه مع كونه تحت استيلائه كتراب الطريق لتيممه : فتدبر.

(67)
شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ في ابتداء الامر ، إلا أنه أخيرا وافق الشيخ وجعل المناط في الاستهجان عدم اتفاق الابتلاء لا عدم إمكانه ، فتأمل جيدا.

    الامر الرابع :
    لا يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ، إلا إذا قلنا بأن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس إنما هو لأجل سراية النجاسة من الملاقى ( بالفتح ) إلى الملاقي ( بالكسر ) (1).
1 ـ أقول : الذي يقتضي تحقيق المقام مقدمة لشرح المرام أن يقال : أولا : ان ما يتصور في وجه نجاسة ملاقي النجس أمور :
    أحدها : الالتزام بأنه حكم تعبدي ومجعول مستقل قبال جعل النجاسة للملاقي ( بالفتح ) وأن مثل هذا الحكم في ظرف ملاقاته النجس بحيث يكون مثل هذه الجهة مأخوذا في موضوعه بنحو التعليل والشرطية.
    الثاني : أن يكون نجاسة الملاقي ( بالكسر ) جائية من قبل نجاسة الملاقى ( بالفتح ) وأنه من شؤونه ، كمجئ حركة المفتاح من قبل حركة اليد ، وأن الملاقاة سبب هذا النشو ، ومرجعه إلى كون نجاسة الملاقي ( بالكسر ) معلول نجاسة الملاقى ( بالفتح ) وكان هو مؤثرا فيه ، لا أنه حكم مجعول مستقل في قباله ، نظير نجاسة الكلب في قبال الخنزير ، غاية الامر مشروطا بالملاقات لا مطلقا.
    الثالث : كون نجاسة الملاقي ( بالكسر ) مرتبة من مراتب نجاسة الملاقى ( بالفتح ) وكونه مقام سعة هذه النجاسة بلا اعتبار سببية ومسببية بينهما ، وأن اختلاف مراتب النجاسة سعة وضيقا بازدياد معروضه وقلته الناشئة من اتصال أحد الجسمين بالآخر وعدمه.
    ولكن لا يخفى أن الوجه الآخر لا أظن التزامه من أحد ، إذ مع التزامهم بأن الشك في أحدهما مسبب عن الشك في الآخر ـ كما يشهد لذلك التزامهم بعدم معارضة أصالة الطهارة في الملاقي ( بالكسر ) مع استصحاب النجاسة في الملاقى ( بالفتح ) لان التعبد بالنجاسة لا يقتضي السراية التي من اللوازم العادية الواقعية ـ لا يناسب مثل هذا الوجه ، إذ مرجعه إلى كون نجاسة الملاقي ( بالكسر ) من مراتب نجاسة الملاقى ( بالفتح ) سعة وضيقا ، وهذا المعنى يناسب وحدة نجاستهما مرتبة ، مع أنه لا يناسب التعبير في النصوص بأنه « ينجسه » أو لا « ينجسه » إذ الظاهر من هذا التعبير نظير التعبير بقوله : « يحركه العواصف » كونه منشأ له ، لا أنه من مراتب وجوده كطول الحظ بالنسبة إلى ذاته ، فإنه لا يكون إلا في رتبة نفسه لا في رتبة


(68)
    وتفصيل ذلك : هو أنه لا إشكال في وجوب ترتيب كل ما للمعلوم بالاجمال من الآثار والأحكام الشرعية على كل واحد من الأطراف تحصيلا للقطع بالامتثال والفراغ عما اشتغلت الذمة به ، فكما لا يجوز شرب كل واحد من الانائين اللذين يعلم بخمرية أحدهما ، كذلك لا يصح بيع كل واحد منهما ، للعلم بعدم السلطنة على بيع أحد الانائين ، فلا تجري أصالة الصحة في بيع أحدهما ، لأنها معارضة بأصالة الصحة في بيع الآخر ، وبعد سقوط أصالة الصحة من الجانبين لابد من الحكم بفساد البيع في كل منهما ، لأنه يكفي في الحكم بالفساد عدم ثبوت الصحة.
متأخرة عنه ، كما أنه لا مجال أيضا من الالتزام بأنه مجعول مستقل قبال نجاسة الملاقى ( بالفتح ) بتعبد من الشرع ، إذ هو أيضا خلاف ارتكاز أذهانهم في التنجيسات العرفية وقذاراتهم ، بل خلاف ظاهر النص من قوله ـ عليه السلام ـ « لا ينجسه » أو « ينجسه » إذ الظاهر منه أن نجاسة المتنجسات من قبل ما لاقاها ، لا أنه موضوع مستقل كالكلب في قبال الخنزير ، وكلماتهم أيضا في وجه عدم سراية النجاسة إلى الماء العالي الوارد أيضا يأبى عن ذلك ويناسب مع ما ذكرناه ، فحينئذ المتعين من مجموع الكلمات والنصوص هو الوجه الثاني.
    والظاهر أيضا ان غرضهم من السراية أيضا هذا المعنى ، نظير تعبيرهم من سراية حركة اليد إلى المفتاح ، لا أن الغرض من السراية انبساط وجود النجاسة في الموضوعين في رتبة واحدة ، وحيث كان الامر كذلك ، فليس مبنى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) منحصرا بجعل النجاسة حكما مجعولا مستقلا تعبدا ، قبال جعل نجاسة الملاقى ( بالفتح ) بل لو بنينا على السراية بالمعنى الثاني ـ نظير سراية الحركة من اليد إلى المفتاح ـ كان للسراية وجه. نعم : لو بنينا على السراية بالمعنى الأخير لا مجال للسراية ، وذلك أيضا لا لما أفيد : من أن العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) وطرفه يكفي في وجوب الاجتناب عن ملاقيه كيف ! ومن قبل هذا العلم لا يترتب إلا ما علم وجوده وتنجز معلومه لا شيء آخر ، بل من جهة كونه طرف العلم بوجود التكليف في طرف وتكليفين عرضيين في طرف آخر.
    ولكن قد عرفت : أن السراية بهذا المعنى مما لم يلتزم به أحد ، بل كلماتهم مشحونة على السراية بالمعنى الذي نحن شرحناه ، إذ حينئذ لا مجال لتنجز التكليف بالملاقي ( بالكسر ) لان علمه في طول العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) وهذا العلم غير صالح للتنجز باعترافه ، كما لا يخفى ، فتدبر.


(69)
    فان قلت : العلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب ترتيب الاحكام على كل واحد من الأطراف إذا كان المعلوم بالاجمال تمام الموضوع لها ، وأما إذا كان المعلوم بالاجمال جزء الموضوع لحكم فما لم يثبت الجزء الآخر لا يجب ترتيب ذلك الحكم ، كما هو واضح ، ففي المثال الخمر المعلوم في أحد الانائين لا يكون تمام الموضوع لفساد البيع ، بل إنما هو جزء الموضوع ، وجزئه الآخر وقوع البيع خارجا ، إذ الصحة والفساد من الأوصاف والاحكام اللاحقة للبيع بعد فرض صدوره في الخارج ، فلا وجه للحكم بفساد بيع أحد الانائين ، للشك في وقوعه على الخمر ، فتجري فيه أصالة الصحة ولا يعارضها أصالة الصحة في بيع الآخر ، لأن المفروض عدم وقوع البيع على الطرف الآخر ، فلا موضوع لأصالة الصحة فيه حتى تعارض أصالة الصحة في البيع الواقع على أحد الطرفين فقط.
    قلت : لا وقع لهذا الاشكال ، فان الخمر المعلوم بالاجمال تمام الموضوع لعدم السلطنة على بيعه ، وعدم السلطنة على البيع يلازم فساده بل هو عينه ، لأنه ليس المجعول الشرعي إلا حكما واحدا (1) غايته أنه قبل البيع يعبر عنه بعدم السلطنة وبعد البيع يعبر عنه بالفساد ، فعدم السلطنة على البيع عبارة أخرى عن فساده ، كما أن السلطنة على البيع عبارة أخرى عن صحته (2) فأصالة الصحة في بيع
1 ـ أقول : لا معنى لارجاع الفساد إلى السلطنة المسلوبة ، بل أحدهما مسبب عن الآخر لا عينه. وحينئذ لا معنى للصحة والفساد إلا في ظرف وجود البيع ، وإلا فقبله لا معنى لصحته أو فساده. نعم : قبل البيع لا معنى إلا لأصالة عدم السلطنة على البيع أو عدم ما هو سبب السلطنة : من الملكية وأمثالها ، وبعد فرض عدم جريان الأصل المزبور ، ـ لأنها من الأصول التنزيلية الغير الجارية في طرفي العلم ـ فلا يبقى في البين إلا أصالة الصحة التي لا مجرى له إلا بعد البيع أو مقارنه ، وحينئذ لو فرض وقوع البيع على أحد الطرفين لا مانع لجريان أصالة الصحة في أحد الطرفين بلا معارض ، والفرض أن الأصول النافية لا مانع من جريانها إلا المعارضة على مختاره ، فلا وجه لالتزامه بالتساقط ، كما لا يخفى.
2 ـ أقول : وفيه ما فيه ، ولا يكفيه التوجيه ، إذ القدرة على إيجاد شيء مقدمة عليه رتبة ، فنقيض القدرة الذي عبارة عن عدم السلطنة أيضا مقدم على عدم إيجاد البيع بسببه الذي هو عبارة عن


(70)
كل من الانائين من أول الامر ولو قبل صدور البيع تجري وتسقط بالمعارضة ، ولا يتوقف جريانها على وقوع البيع خارجا.
    وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن عدم السلطنة على بيع الخمر وفساده كحرمة شربه من الآثار المترتبة على نفس المعلوم بالاجمال ، وقد عرفت : أن كل ما للمعلوم بالاجمال من الاحكام يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف (1)
فساد السبب.
1 ـ أقول : لما كان شأن العلم الاجمالي تنجيز الواقع المعلوم فالعقل يحكم بلزوم ارتكاب الطرفين أو تركه مقدمة للفرار عن العقوبة المحتملة ، ولازمه عدم مشاركة الطرفين للمعلوم إلا من حيث لوازم التكليف إطاعة أم عصيانا لمحض إرشاد العقل إلى الفرار عن العقوبة المحتملة ، وإلا فليس لنا دليل تعبدي على شركة الطرفين للمعلوم بالاجمال في جميع الآثار وضعا أم تكليفا ، ولذا نقول أيضا : إن العلم بالوضع لا يؤثر في الطرف شيئا إلا بملاحظة انتهائه إلى التكليف ، كما لا يخفى.
    وحيث كان الامر كذلك نقول أيضا : إن شأن العلم الاجمالي في الموضوعات ليس إلا إحراز صغرى الخطاب التكليفي ولو بواسطة إحراز حكم وضعي مستتبع لتكليف في البين ، كي ببركة هذا الصغرى المحرزة بالعلم يتنجز الكبرى المترتبة على موضوعه المحرز بالعلم ، وحيث عرفت ذلك ، فنقول :
    إن كل تكليف مترتب على المعلوم فلا شبهة في تنجزه باحراز صغراه ، ونتيجة تنجزه ليس إلا حكم العقل إرشادا بلزوم العمل عليه بارتكاب طرفيه أو تركه ، ولا فرق في ذلك أيضا بين كون التكليف المحرز واحدا في الطرف ومتعددا في طرف آخر ، من دون أن يكون التكليف الآخر مسببا عن الخطاب المعلوم موضوعا أم حكما.
    وأما لو كان مسببا عن شيء مضاف إلى موضوع الخطاب أو نفسه ، فان أحرز هذا السبب أيضا بنحو الاجمال نظير ارتكاب العصيان في الفسق وكالكفارة المترتب على ارتكاب الحرام شرعا أو الحد المترتب على شرب الخمر الحرام ، فلا إشكال أيضا في إحراز صغراه ولو إجمالا ، كأصل الخطاب الأولي ، فالعقل أيضا يحكم بوجوب مقدمة العلمية فعلا أو تركا ، خصوصا لو كان العلم الاجمالي بتحقق السبب موجبا للعلم التفصيلي بالمسبب ، كما هو الشأن في الكفارة والحد ، فيجب إقامتهما. وأما لو فرض عدم إحراز هذا السبب ولو بأن لا يرتكب إلا لاحد الطرفين أو لا يشرب إلا أحد الانائين أو لا يقدم إلا على أحد المحتملين ، فلا شبهة في عدم إحراز صغرى الخطاب الثاني ، والفرض أن هذا الخطاب في طول الخطاب الأول أيضا ، بحيث يكون طرفيته للعلم في طول العلم بالخطاب الأول ، فحينئذ بأي وجه يحكم


(71)

بوجوب الاجتناب عن الخطاب الثاني ؟ بعد فرض عدم إحراز صغراه وعدم طرفيته للعلم المنجز لفرض سبقه ولو رتبة بعلم آخر ، وبعد أن علمت ما ذكرنا ، فنقول :
    بعد الجزم بأن الملاقاة للنجس سبب لنجاسة الملاقي ( بالكسر ) قد عرفت في الحاشية السابقة بأنها واسطة لاكتساب الملاقي النجاسة من الملاقى ( بالفتح ) نظير اكتساب المفتاح الحركة من اليد ، كما يشهد له التعبير بتنجيسه الظاهر في المنشأية ، لا أنه حكم تعبدي مستقل ولا أنه مرتبة أخرى في عرض نجاسة الملاقى ( بالفتح ) مرتبة ، وحينئذ يصير نجاسة الملاقي ( بالكسر ) معلول نجاسة الملاقى ( بالفتح ) فلا جرم تصيران في التكليف أيضا طوليتين ، وحينئذ لا مجال لتنجز التكليف في الملاقي ( بالكسر ) لطولية علمه لعلم سابق منجز ، ومن هنا أيضا ظهر حال الثمرة للشجرة.
    وتفصيل القول فيه أيضا أن يقال : إن ملك النماء والمنفعة تارة يقال : إنه من آثار ملكية العين بحيث اخذ ملكية العين علة لملك النماء ، فلا شبهة في أن التكليف المتولد من هذه الملكية أيضا يصير في طول التكليف المتولد من ملكية العين ، وأخرى يقال : بأن ملكية المنفعة والعين في عرض واحد وإنما النماء من تبعات العين وجودا لا ملكية ، بل هما في عروض الملكية في عرض واحد ، فعلى الأخير : لا يكون الحكم التكليفي المتولد من ملكيتهما إلا عرضيا ، لعدم اقتضاء في طوليتهما ، وحينئذ فمهما وقع غصبية العين طرفا للعلم الاجمالي يصير غصبية النماء في عرضه أيضا طرفا ، فيصير المقام من صغريات العلم الاجمالي بتكليفين في طرف وتكليف واحد أو تكليفين في الطرف الآخر ، وفي هذه الصورة يصير جميع التكاليف منجزة في عرض واحد ، وفي هذا المقام لا فرق في وجوب الاجتناب عن ثمرة الشجرة المحتمل غصبيته بين أن يكون من طرف واحد أو من طرفين ، كلتا الثمرتين محل الابتلاء أو أحدهما بعد فرض الابتلاء بذات الشجرة من الطرف الآخر. وأما على الأول : فلا شبهة في إن التكليف المتوجه إلى الثمرة في طول التكليف المتوجه إلى الشجرة ، وفي مثله لا يكون العلم الاجمالي بين الثمرة والشجرة الأخرى إلا في طول علم آخر بين الشجرتين ، فمع فرض عدم الابتلاء بثمر شجرة أخرى لا وجه للاجتناب عن هذه الثمرة ، لان الثمرة متعلق تكليف مستقل غير تكليف الشجرة ، مع عدم إحراز موضوعه ، لان موضوعه ملك الغير المشكوك فعلا ، بعد فرض عدم جريان أصالة عدم ملكيته ، لمعارضته بأصالة عدم ملكية أخرى ، حسب اعترافه في الأصول التنزيلية ولو كانت مثبتة. وعلى أي حال : لا مجال لتوهم أن التكليف بحرمة التصرف في الثمرة من تبعات التكليف بعدم جواز التصرف في الشجرة المغصوبة وشئونه ويكفي في تنجزه تنجز التكليف بحرمة التصرف في الشجرة المغصوبة ، إذ الغرض من كونه من تبعاته وشئونه أنه تكليف آخر من تبعات التكليف بحرمة الغصب في


(72)
سواء كان الحكم من مقولة الوضع أو من مقولة التكليف (1) وسواء قارن زمان الابتلاء بالتصرف في أحد الأطراف لزمان العلم أو تأخر عنه. فلو فرض أن أحد الأطراف لم يأت زمان الابتلاء به بل كان الابتلاء به متأخرا عن زمان العلم ، ففي ظرف مجيء زمان الابتلاء به يلزم ترتيب ما للمعلوم بالاجمال عليه وإن خرج الطرف الآخر عن مورد الابتلاء بفقد وتلف ونحوه ، فان المدار في وجوب ترتيب الاحكام على كل واحد من الأطراف إنما هو على فعلية الاحكام وتنجزها ،
الشجرة ، فمرجعه إلى اختيار الاحتمال الأول : من طولية تكليفهما ، ومع هذا الاختيار لا معنى لاقتضاء تنجز التكليف السابق رتبة بعلمه ، لتنجز هذا التكليف المشكوك موضوعه وجدانا ، مع فرض عدم كونه أيضا طرف العلم المنجز ، لسبقه بعلم آخر.
    وإن أريد أنه من تكليف آخر ، ولكن بملاحظة تبعية ذات المنفعة أو النماء للعين يحسب من تبعاته ، وإلا فهو تكليف آخر في عرض التكليف بالشجرة ، فمرجعه إلى الاحتمال الثاني : من منجزية العلم له أيضا ، لكونه من باب العلم بتكليف في طرف وتكليفين في طرف ، لا أن منجزه مجرد العلم بغصبية الشجرة ، إذ لا يكون علمه إلا منجزا لتكليفه لا لتكليف آخر ، فالمنجز للتكليف الآخر ليس إلا وقوعه طرفا للعلم الآخر المنجز.
    وإن أراد التكليف بالاجتناب عن الثمرة عين التكليف بالاجتناب عن الشجرة المغصوبة فبداهة فساده غني عن بيانه. نعم : الذي يسهل الخطب في هذا الباب إمكان ترجيح الاحتمال الثاني ، لعدم مقتض لطولية التكليفين في الثمرة والشجرة ، لان طولية أحدهما للآخر وجودا لا يقتضي طوليتهما حكما ، كما أنه لو بنينا على الطولية أيضا ـ لمكان جريان الأصول المثبتة للتكليف في الطرفين ، كما أوضحناه ـ لا يبقى مجال جريان البراءة عن الثمرة ، وهو العمدة في أصالة الحرمة في الأموال أيضا ، فتدبر تعرف.
    كما أن في مسألة الملاقاة قد عرفت أن ما هو المرتكز في الأذهان ومعقد كلمات الأصحاب والتعبير بتنجس الشيء للشئ في النصوص كون نجاسة ( الملاقي ) بالكسر ناشئة عن نجاسة الملاقى ( بالفتح ) بحيث يكون منشئه سرايتها من الملاقى ( بالفتح ) إلى الملاقي ( بالكسر ) ولذا يكون التكليف بأحدهما مسببا عن التكليف بالآخر ولو قلنا بالسراية بنحو ذكرنا ، كما هو المرتكز في الأذهان ، كما يشهد له كلماتهم في عدم تنجس العالي الوارد على النجس ، فتدبر.
1 ـ أقول : لو تمت هذه الكبرى لزم الحكم بنجاسة الطرف بمحض العلم بالبولية ، لأنه تمام الموضوع للنجاسة ، وحينئذ كيف يحكم بطهارة ملاقيه ؟.


(73)
ولا دخل لزمان الابتلاء في ذلك.
    وعلى هذا يتفرع وجوب الاجتناب عما للأطراف من المنافع والتوابع المتصلة والمنفصلة ، كما لو علم بمغصوبية إحدى الشجرتين ، فإنه كما يجب الاجتناب عن نفس الشجرتين كذلك يجب الاجتناب عما لهما من الأثمار ، من غير فرق بين أن يكون كل من الشجرتين من ذوات الأثمار أو كانت أحدهما من ذوات الأثمار دون الأخرى ، ومن غير فرق بين وجود الثمرة حال العلم وعدم وجودها ، ومن غير فرق بين ثمرة هذه السنة وثمرة السنين الآتية ، ومن غير فرق بين بقاء الطرف الآخر حال وجود الثمرة وبين تلفه ، بل من غير فرق بين بقاء نفس الأصل وعدمه ـ كما لو فرض أن الشجرة المثمرة بعدما أثمرت وقطف ثمرها تلفت بحرق أو غرق ونحو ذلك ـ فإنه في جميع هذه التقادير يجب الاجتناب عن الثمرة كما يجب الاجتناب عن أصلها والطرف الآخر ، لان وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن نفس المغصوب ، فان النهي عن التصرف في المغصوب نهي عنه وعن توابعه ومنافعه ، فيكفي في وجوب الاجتناب عن المنافع المتجددة فعلية وجوب الاجتناب عن ذي المنفعة وتنجزه بالعلم التفصيلي أو الاجمالي (1) فلو فرض أن الشجرة المثمرة كانت هي المغصوبة فوجوب الاجتناب عن ثمرها المتجدد وإن لم يكن فعليا لعدم وجود موضوعه ، إلا أنه يكفي في وجوب الاجتناب عنها فعلية وجوب الاجتناب عن نفس الشجرة بما لها من المنافع والتوابع (2) وحينئذ تسقط أصالة الحل عن الثمرة بنفس سقوطها عن ذي الثمرة بالمعارضة لأصالة الحل في الطرف الآخر وهي الشجرة الغير المثمرة ، فلا تجري صالة الحل في الثمرة بعد وجودها وفقدان طرف العلم الاجمالي. وقس على ذلك
1 ـ أقول : قد تقدم شرح فساد هذه الجهة في الحاشية السابقة ، فراجع بطولها.
2 ـ أقول : لولا التزام بمنجزية العلم التدريجي لما يتم ما أفيد في وجه المنجزية ، كما يظهر مما ذكرنا في الحاشية السابقة الطويلة ، فتدبر.


(74)
الدار ومنافعها ، والحمل وذا الحمل ، وساير ما كان لاحد الأطراف منافع متجددة دون الآخر.
    فان قلت : فرق بين منافع الدار وبين ثمرة الشجرة وحمل الدابة ، فان تبعية الثمرة للشجرة والحمل لذي الحمل إنما يكون في الوجود ، والتبعية في الوجود لا تستلزم التبعية في الحكم ، وكيف يعقل أن يكون الحكم في الثمرة والحمل تابعا لحكم الشجرة ودي الحمل ؟ مع أن كلا من الثمرة والحمل موضوع من الموضوعات الخارجية له وجود استقلالي ويدخل تحت اليد بنفسه في مقابل الشجرة وذي الحمل ، فلا يمكن أن يكون الحكم فيهما تابعا لحكم الأصل ، بل لكل من الأصل والفرع حكم يستقل به عند وجوده ، ولا يعقل أن يتقدم حكم الثمرة على وجودها ، كما لا يعقل أن يتقدم حكم الشجرة على وجودها ، بل كل حكم تابع لوجود موضوعه ، فعند وجود الشجرة المغصوبة لا حكم إلا وجوب الاجتناب عن نفسها ، وبعد وجود الثمرة يثبت حكم آخر وهو وجوب الاجتناب عنها ، لان الشجرة المغصوبة ثمرها أيضا يكون مغصوبا ، هذا إذا علم تفصيلا بغصبية الشجرة المثمرة.
    وأما إذا كانت الشجرة طرفا للعلم الاجمالي ، فقبل وجود الثمرة لا يجب الاجتناب إلا عن الشجرة والطرف الآخر من باب المقدمة العلمية ، وأما بعد وجود الثمرة ، فإن كان الطرف الآخر موجودا يجب الاجتناب عن الثمرة أيضا ولو فقد الأصل ، لان الثمرة بعد وجودها تقع طرفا للعلم الاجمالي كالأصل ، وإن كان الطرف الآخر مفقودا أو خارجا عن محل الابتلاء عند وجود الثمرة فلا يجب الاجتناب عن الثمرة ولو كان الأصل موجودا ، لان الثمرة بعد وجودها لا تكون طرفا للعلم الاجمالي ، لفقدان ما يصلح أن يكون طرفا لها ، فتكون الشبهة بالنسبة إلى الثمرة بدوية تجري فيها أصالة الحل بلا معارض.
    نعم : يجب الاجتناب عن الأصل إذا كان موجودا ، لسقوط أصالة الحل فيه


(75)
عند وجود الطرف الآخر وفقدانه بعد ذلك لا أثر له ، هذا كله بالنسبة إلى الثمرة والحمل ونحو ذلك من المنافع المستقلة في الوجود. وأما مثل منافع الدار فهي تابعة للدار وجودا وحكما لعدم استقلالها في الوجود وعدم دخولها تحت اليد بنفسها فحكمها يتبع حكم الدار ، فلو علم بغصبية إحدى الدارين يجب الاجتناب عن المنافع المتجددة ولو كان أحد طرفي المعلوم خربة لا منفعة له (1).
    قلت : ليس المقصود من تبعية حكم الثمرة للشجرة والحمل لذي الحمل هو فعلية وجوب الاجتناب عنهما قبل وجودهما ، فان امتناع فعلية الحكم قبل وجود موضوعه غير قابل للانكار حتى في منافع الدار ، إذ من المستحيل فعلية وجوب الاجتناب عن منافع السنة المقبلة ، بل المقصود من التبعية هو أن النهي عن التصرف في الشجرة المغصوبة بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في الثمرة عند وجودها ، وكذا الدابة المغصوبة ، فلا يحتاج حرمة التصرف في الثمرة والحمل في ظرف وجودهما إلى تعبد وتشريع آخر غير تشريع حرمة الأصل بمنافعه ، فحرمة التصرف في المنافع من شؤون حرمة التصرف في ذي المنفعة (2) من غير فرق في ذلك بين الثمرة والحمل وبين منافع الدار. والاستقلال في الوجود والدخول تحت اليد وعدمه لا يصلح أن يكون فارقا بينهما فيما نحن فيه ، فان تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الثمرة والحمل ومنافع الدار إنما هو نفس المعلوم بالاجمال ، وقد
1 ـ أقول : ما معنى التبعية في الحكم ؟ فان كان ترتب أحد الحكمين على الآخر مع الالتزام بوجود الحكمين ، فكل واحد في منجزيته يحتاج إلى قيام الطريق إليه ، ولا يكفي طريق أحدهما لتنجز الآخر بلا كونه طرف العلم مستقلا ، فيحتاج في تنجزه إلى علم آخر ، ثم يلاحظ بأنه إن كان في طول غيره فلا تنجز ، وإلا فينجز بالعلم الاجمالي القائم بينه وبين غيره.
2 ـ أقول : ما المراد من الشؤون ؟ فان كان الغرض وحدة الحكمين فهو غلط ، وأنت معترف بتعدد
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس