فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 196 ـ 210
(196)
به هو الأقل ، وأما الأكثر فيشك في تعلق الطلب به ، والأصل البراءة عن وجوبه ، ومجرد الشك في صدق المفهوم على المأتي به لا يقتضي المنع عن جريان البراءة ، لما عرفت : من أن المأمور به ليس هو العنوان المفهوم لكي يلزم إحراز انطباق المفهوم والعنوان على المأتي به ، ولا فرق في ذلك بين أن نقول : بوضع ألفاظ العبادات للصحيح أو للأعم ، فإنه في الرجوع إلى الأصول العملية لا يتفاوت الحال بين الوضع للصحيح (1) أو للأعم.
    وإنما تظهر الثمرة بين القولين في الرجوع إلى الأصول اللفظية : من أصالة العموم والاطلاق ، فإنه على القول بالوضع للصحيح يحصل الاجمال في المعني ، لاحتمال أن يكون لما شك في اعتباره دخل في الصحة ، فلم يحرز موضوع العام لكي يرجع إليه ، وأما على القول بالوضع للأعم فيصح التمسك بالعام لنفي ما شك في اعتباره إذا لم يكن له دخل في التسمية عرفا وكان المتكلم في مقام البيان ، على ما أوضحناه في محله.
    فتحصل : أن إجمال النص في باب الأقل والأكثر الارتباطي كإجماله في ساير الأبواب لا يمنع عن الرجوع إلى البراءة ، بل لولا إطلاق أدلة التخيير في
بتمامه يجيء الاشكال المزبور بأن المأتي به يشك في كونه مأمورا به ، وحينئذ لابد من علاج هذا الاشكال على المسلكين. وحله بان القطع بتعلق الامر بواقع الصلاة أو بعنوانه لا يقتضي إلا الخروج عن تبعات إضافة الامر إليه ، لا تحصيل الجزم بكون المأتي به هو الصلاة المأمور به بعنوانها أو معنونها ، كما لا يخفى.
1 ـ لا يخفى أن جريان البراءة عن الأكثر إنما يتوقف على أن يكون بين الافراد الصحيحة جامع خطابي ، ويكون ذلك الجامع من الافعال الصادرة عن المكلف ابتداء من دون أن يكون الفعل الصادر سببا توليديا له ، وإلا كان مجرى الاشتغال لا البراءة ، ولا يكفي الجامع الملاكي ، فان الملاك غير قابل لان يتعلق التكليف به ، كما تقدم. وفي تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة على وجه لا يرجع إلى الملاك ولا إلى المسبب التوليدي إشكال * وتفصيله موكول إلى محله ( منه ).
    * أقول : لا قصور فيه لو كان الجامع قابلا لان يشار إليه بتوسط الملاك.


(197)
باب تعارض الاخبار كان الحكم عند تعارض النصين في وجوب الأكثر هو التساقط والرجوع إلى البراءة ، إلا أن إطلاق أدلة التخيير تعم مورد تعارض النصين في وجوب الأكثر ، فللمجتهد الفتوى على طبق أحدهما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الأصولية ، وللمقلد العمل على طبق أحدهما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الفقهية ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) في محله.
    نعم : هنا بحث آخر قد تعرض له الشيخ ـ قدس سره ـ في المقام وفي باب التعادل والتراجيح ، وهو أن التخيير في الاخذ بأحد المتعارضين هل يختص بما إذا لم يكن في البين إطلاق أو عموم موافق لأحدهما ؟ بحيث كان المرجع بعد التساقط لولا أدلة التخيير هو الأصول العملية ، فلو كان هناك عام موافق فالعمل لابد وأن يكون على طبق العام لا التخيير (1) أو أن التخيير في الاخذ
1 ـ أقول : بعدما كان مفاد أدلة التخيير في المتعارضين الوجوب التخييري لا صرف الارشاد إلى التخيير في العمل ، كيف ! وهو خلاف ظاهر أمره بالتخيير بقوله : « إذن فتخير » فلا محيص حينئذ من تطبيقه على مورد يمكن مخالفة هذا الامر ، وهو لا يكون إلا في صورة التمكن عن مخالفة مفاد المتعارضين ، وبعد فرض انتهاء الامر في تعارض الخبرين إلى النفي والاثبات اللتين هما من النقيضين يستحيل تصور الوجوب التخييري في مثله ، كي ينتهي الامر إلى التخيير في المسألة الفرعية ، بل التخيير المتصور فيه هو مجرد التخيير العملي الذي هو مفاد البراءة ، أو التخيير في المسألة الأصولية الراجع إلى الامر بأخذ كل واحد في استطراقه إلى الواقع ، كي ينتج بعد الاخذ تعين الحجة والطريق له ، فإذا كان كذلك ، فنقول ، إن المتعين بظاهر الامر في المولوية هو الأخير ، لا الأوليين ، وبعد ذلك نقول :
    إن من المعلوم : أن حجية كل واحد قبل الاخذ به محال ، ولازمه تحير المكلف قبل الاخذ بواحد منهما ، غاية الامر أمكن للمكلف رفع تحيره بواحد منهما بعد أخذه ، وحينئذ لو بنينا على قصر اقتضاء حجية العام على طرف لم يرد على خلافه حجة أقوى صدق هذا المعنى قبل الاخذ بواحد منهما ، وعليه فلو كان الامر بالتخيير مختصا بالمتحير العقلي فلا يشمل المقام ، لوجود العام في رفع تحيره ، وإن قلنا بعدم اختصاصه يشمل المقام ، فيسقط العام بعد الاخذ بالمخالف عن الحجية لوجود الحجة الأقوى على خلافه ، ولا معنى حينئذ لمرجحية العام.
    نعم : لو بنينا على اقتضاء العموم للحجية وأن الحجة الأقوى من باب وجود الأقوى في المتزاحمين


(198)
بأحدهما لا يختص بذلك ؟ بل يعم صورة وجود المطلق أو العام الموافق لأحدهما ـ كما إذا تعارض الخبران في وجوب إكرام زيد العالم مع قيام الدليل على وجوب إكرام مطلق العالم ـ أو يفصل بين أن يكون التخيير في المسألة الفقهية فالمرجع هو العام الموافق لأحدهما وبين أن يكون التخيير في المسألة الأصولية فالمرجع هو إطلاق أدلة التخيير ؟ ولا يرجع إلى العام الموافق إلا إذا قلنا : بأن العام يصلح لان يكون مرجحا لما وافقه من الدليلين المتعارضين فيرجع إلى العام ، لكن لا لكونه مرجعا كما في الوجه الأول ، بل لكونه مرجحا للدليل الموافق له كسائر المرجحات الاخر.
    فقد يتوهم : أن إطلاق أدلة التخيير يعم صورة وجود العام أو المطلق الموافق لاحد المتعارضين. ولكن يضعف : بأن الموضوع في أدلة التخيير هو « المكلف المتحير الذي لم يقم عنده دليل اجتهادي يصح التعويل عليه » والعام الموافق لأحدهما صالح لان يعول عليه ، فان قوله : « أكرم العلماء » يعم زيد العالم ولم يثبت تخصيصه بقوله : « لا تكرم زيدا العالم » لأنه معارض بقوله : « أكرم زيدا العالم » والمخصص المبتلى بالمعارض وجوده كعدمه غير قابل لان يمنع عن أصالة العموم ، بل أصالة العموم تبقى سليمة عن المانع ويصح التعويل عليها ، فلا يبقى موضوع لأدلة التخيير.
    هذا حاصل ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ في وجه المنع عن إطلاق أدلة التخيير وعدم شمولها لمورد وجود العام الموافق لاحد المتعارضين.
    وقد عدل عنه بعد ذلك بقول : « ولكن الانصاف » واختار (1) التفصيل
أمكن أن يقال : مع إمكان الاخذ بظهور العام ـ ولو بالأخذ بما يوافقه العقل ـ يحكم بالأخذ بظهور العام وترجيح ما يوافق في الاخذ على وجود الاخذ المخالف للعام ، لاقوائيته ، وهذا هو الأقوى.
1 ـ لا يخفى : أن عبارة الشيخ ( قدس سره ) في المقام لا تخلو عن اضطراب فان صدر كلامه يعطي عدم الفرق بين القول بالتخيير في المسألة الأصولية أو الفقهية ، لان الظاهر من قوله : « ولكن الانصاف أن أ


(199)
بين القول بالتخيير في المسألة الفقهية والقول بالتخيير في المسألة الأصولية.
    وحاصل ما أفاده في وجه التفصيل ـ بتحرير منا ـ هو أن القول بالتخيير في المسألة الفقهية يرجع إلى سقوط كل من المتعارضين عن الحجية رأسا وفرض المسألة خالية عن الحجة ، فيكون التخيير في تطبيق العمل على أحدهما من جهة عدم قيام الدليل على تعيين كيفية العمل وما هو وظيفة المكلف ، ومع وجود العام الموافق لاحد المتعارضين لا يبقى مجال للتخيير في العمل ، لان المسألة لم تخلو عن الحجة ، لان العام حجة معين لكيفية العمل من دون أن يكون له مزاحم ، لسقوط مزاحمه بالمعارضة ، فلا محيص عن الرجوع إلى العام.
    وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الأصولية ، فان التخيير في المسألة الأصولية يرجع إلى التخيير في أخذ أحد المتعارضين حجة وجعله طريقا ووسطا لاثبات الواقع ، كما إذا كان وحده ولم يكن له معارض ، فالمسألة لم تخلو عن الحجة رأسا ، بل لكل من المتعارضين حظ من الحجية ولو في صورة اختياره والاخذ به ، فالمخصص يزاحم العام في الحجية ولو في الجملة (1) ولم يسقط عن الحجية رأسا ، ومعه لا يبقى مجال للرجوع إلى العام ، بل لابد من التخيير في الاخذ بأحد المتعارضين ، لسقوط أصالة العموم عن الحجية ، فتأمل ، ولتفصيل الكلام محل آخر.
خبار التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الأصولية » هو الاطلاق بقرينة « إن » الوصلية ، وظاهر ذيل كلامه يعطي التفصيل بين القولين ، فراجع العبارة وتأمل فيها ( منه )
1 ـ أقول : قد تقدم أنه لو بنينا على اختصاص أدلة التخيير بالتخيير العقلي ، فقبل الاخذ بواحد منهما كان العام حجة ، فلا تحير في البين ، فلا تخيير. نعم : لو لم يكن دليل التخيير مختصا بالمتحير كان لما أفيد وجه ، ولكن ذلك أيضا على فرض قصر اقتضاء حجية العام بعدم وجود الأقوى ، وإلا فعلى فرض فعلية حجيته لا اقتضائه فلا يبقى مجال لسقوط العام عن الحجية ، بل كان موجبا للقوة ومرجحا للموافق ، كما لا يخفى.


(200)
    وقد تقدم : أن الشيخ ـ قدس سره ـ أرجع الشبهة الموضوعة في باب الأقل والأكثر الارتباطي إلى ما يرجع إلى الشك في المحصل ، كما يظهر من تمثيله للشبهة الموضوعية بالشك في جزئية شيء للطهور الرافع للحدث ، ومن التزامه بأصالة الاشتغال فيها على خلاف ما التزم به في المسائل الثلاث المتقدمة في الشبهة الحكمية ، فإنه قال فيها بأصالة البراءة.
    ولكن كان الأنسب بترتيب المباحث إفراد كل من الشك في المحصل والشبهة الموضوعية بالبحث ، لتكون مسائل الشك في باب الأقل والأكثر على طبق مسائل الشك في باب المتباينين ، ويبحث في المسألة الرابعة عن حكم تردد متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الاشتباه في الموضوع الخارجي ، وكأنه ـ قدس سره ـ غفل عن ذلك أو تخيل عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية.
    والتحقيق : أنه يمكن فرض الشبهة الموضوعية في باب الأقل والأكثر الارتباطي ، وذلك إنما يكون في التكاليف التي لها تعلق بالموضوعات الخارجية.
    وتوضيح ذلك : هو أن التكليف بما يكون له تعلق بالموضوع الخارجي ـ كالتكليف بإكرام العالم وإهانة الفاسق ـ يختلف متعلقه سعة وضيقا على حسب ما يفرض من أفراد الموضوع خارجا ، فان دائرة الاكرام تتسع بمقدار ما للعلماء من الافراد خارجا ، لان زيادة أفراد العلماء في الخارج توجب زيادة في


(201)
الاكرام الواجب ، فكلما كثرت أفراد العلماء خارجا اتسعت دائرة الاكرام.
    ومن المعلوم : أن الشك في عالمية بعض الافراد يستتبع الشك في وجوب إكرامه ، فلو علم بمقدار من أفراد العلماء خارجا وشك في عالمية بعض ، فالاكرام الواجب يتردد بين الأقل والأكثر ، لأنه يعلم بوجوب مقدار من الاكرام على حسب مقدار ما علم من أفراد العلماء ويشك في وجوب الاكرام الزائد ، للشك في موضوعه.
    وهذا من غير فرق بين لحاظ العلماء في قوله : « أكرم العلماء » مجموعيا أو استغراقيا ، فإنه على كلا التقديرين يتردد الاكرام الواجب بين الأقل والأكثر عند العلم بمقدار من أفراد العلماء والشك في عالمية بعض (1).
1 ـ أقول : إن الشبهة في المصداق تارة : من جهة الشك في اتصاف الموجود بعنوان الكبرى ، وأخرى : من جهة الشك في وجود ما اتصف به ، فعلى الأول ـ فتارة : يكون دليل الكبرى معينة من حيث الحدود المأخوذ في موضوع الكبرى نظير عنوان عشرة عالم وأمثاله ، وأخرى : مبهمة قابلة للانطباق على الأقل والأكثر ، فعلى الثاني ـ لا شبهة في أن الشبهة لمصداقية موجب للترديد في مقدار إرادة المولى من الكبرى ، لان إبهامه موجب للشك في أن مقدار إرادة المولى قائم بالأقل أو الأكثر ، ففي هذه الصورة صدق الترديد في سعة الحكم وضيقه من جهة نفس الخطاب وإبهامه ، غايته هذه الجهة من الترديد جاء من الخارج لا من ناحية المولى ، بل ربما لا يدري المولى أيضا مقدار إرادته في خطابه ، ولعمري ! ان مثل هذه الجهة من الشبهة المصداقية أجنبية عن محل كلام شيخنا العلامة ، إذ محط كلامه إنما هو في صورة تمحض الشك في مقدار الإرادة من غير جهة الخطاب وإبهامه ، فلابد من فرضه في صورة تعين مقدار الإرادة من ناحية الخطاب ، وإنما كان الشك في وجوب الأقل والأكثر في عالم التطبيق محضا فيحمل بين الهلالين أو الشك في المحقق ، وإلا فالصورة المقرر في المثال كالنار على المنار. وجفاء نسبة الغفلة فيه إلى خريط هذه الصنعة.
    وبعد ذا نقول : لا مجال لهذين المثالين أيضا ، إذ بين الهلالين أيضا من حيث الحد مبهمة ككلي عالم. وأما الشك في المحقق : ففي السبب شبهة حكمية وفي المسبب شبهة موضوعية لأمر بسيط لا الأقل والأكثر ، كما أن في الشبهة المصداقية للعشرة مع انحصار الامر بالمشكوك فالأقل غير معلوم الوجوب ، ومع عدم انحصاره وإن يتصور الشك في الأقل والأكثر ، إلا أن الأكثر طرف الشك في الايجاب تخييرا ،


(202)
    غايته أنه إن لوحظ العلماء على نحو العام الاستغراقي يرجع الشك في ذلك إلى الشك بين الأقل والأكثر الغير الارتباطي ، لان وجوب إكرام ما شك في كونه من أفراد العلماء واقعا لا ربط له بوجوب إكرام ما علم من أفراد العلماء خارجا ، لانحلال التكليف إلى تكاليف متعددة حسب تعدد أفراد العلماء ، ويكون لكل تكليف إطاعة وعصيان يخصه ، كما هو الشأن في كل عام استغراقي ، فلا دخل لاكرام أحد الافراد بإكرام الفرد الآخر.
    وإن لوحظ على نحو العام المجموعي يرجع الشك في عالمية بعض إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، فإنه لم يتعلق التكليف الاستقلالي بإكرام ما يشك في كونه من أفراد العلماء على تقدير أن يكون من أفراد العلماء واقعا ، لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد تعلق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع ، فيكون إكرام كل فرد من العلماء بمنزلة الجزء لاكرام ساير العلماء ـ كجزئية السورة للصلاة ـ فان الاخلال بإكرام أحد الافراد يوجب الاخلال بإكرام الجميع ، ويتحقق عصيان التكليف بذلك ، لان معنى العام المجموعي هو لحاظ الافراد المتباينة مرتبطة بعضها ببعض يقوم بها ملاك واحد ، فيكون كل فرد من أفراد العلماء بمنزلة الجزء لساير الافراد يتوقف امتثال التكليف على إكرام الجميع ، فالشك في وجوب إكرام بعض الافراد يكون كالشك في وجوب السورة يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، غايته أن التكليف
وهو خارج عن محل الفرض ، كما أن في الشبهة الموضوعية من جهة الشك في الوجود ، فمع الشك في أصل الوجود لا يكون أقل معلوم الوجوب وأكثر مشكوك ، ومع الاتيان بمقدار منه والشك في وجود البقية لا يكون الأقل معلوم الوجوب ، بل يقطع بسقوطه ، فلا يتصور في هذه المقامات الشك في وجوب الأقل أو الأكثر في مقام المصداق زائدا عن مرحلة الكبرى ، إلا في موارد دوران الامر في تحصيل الفراغ عما هو الواجب بين وجوب تمام الصلاة أو إتمامه من جهة الشك في فوت ركن أو غيره مع عدم أصل يحرز أيهما ، فتدبر في مباحث الخلل.

(203)
بالسورة ليس له تعلق بالموضوع الخارجي ، فلا يمكن أن تتحقق الشبهة الموضوعية فيها ، بل لابد وأن تكون حكمية ، بخلاف الشك في وجوب إكرام من يشك في كونه من أفراد العلماء ، فان الشبهة فيه موضوعية.
    فظهر : أن تردد نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية أمر بمكان من الامكان ، وأمثلته في الفقه كثيرة :
    منها : ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره ، فان مانعية غير المأكول تختلف سعة وضيقا على حسب ما لغير المأكول من الافراد خارجا ويكون كل فرد منه مانعا برأسه ، فان الأصل في باب النواهي النفسية والغيرية هي الانحلالية ، فكما أن النواهي النفسية كقوله : « لا تشرب الخمر » ينحل إلى النواهي المتعددة بعدد ما للخمر من الافراد خارجا ، كذلك النواهي الغيرية كقوله : « لا تصل فيما لا يؤكل » ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من الافراد خارجا ، ويكون عدم كل فرد قيدا للصلاة فتتكثر القيود العدمية بمقدار ما للغير المأكول من الافراد ، ويكون قوله : « لا تصل فيما لا يؤكل » بمنزلة قوله : « لا تصل في هذا الفرد ولا تصل في ذلك الفرد » وهكذا.
    فلو شك في اتخاذ اللباس من غير المأكول يرجع الشك إلى الشك في مانعية ذلك اللباس وأخذ عدمه قيدا في الصلاة ، فيؤول الامر إلى الشك بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية ، للعلم بمانعية ما علم اتخاذه من غير المأكول وتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه والشك في مانعية ما يشك في اتخاذه من غير المأكول وتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه.
    والكلام فيه عين الكلام في الاجزاء والشرائط ، من حيث جريان البراءة الشرعية في القيدية الزائدة المشكوكة وعدم جريان البراءة العقلية فيها ، إذ لا فرق بين الاجزاء والشرائط والموانع في مناط جريان البراءة.
    نعم : في الاجزاء لا يمكن أن تتحقق الشبهة الموضوعية ، لان التكليف بها


(204)
ليس له تعلق بالموضوع الخارجي ، وفي الشرائط وإن كان يمكن تحقق الشبهة الموضوعية فيها ، إلا أنه لا يرجع الشك فيها إلى الشك بين الأقل والأكثر ، لان الشرطية لا تنحل إلى شروط متعددة بمقدار ما للموضوع من الافراد خارجا ، فان التكليف في باب الشروط إنما يتعلق بالوجود ، ولا يمكن التكليف بايجاد المتعلق في كل ما يفرض من أفراد الموضوع خارجا ، فلو فرض أن كون اللباس من مأكول اللحم شرط في الصلاة لا أن غير المأكول مانع ، فلا يمكن التكليف بايجاد الصلاة في كل فرد من أفراد اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، بل ليس هناك إلا تكليف واحد تعلق بإيجاد الصلاة في فرد ما من اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، ولابد من إحراز وقوع الصلاة في ذلك ـ كما هو الشأن في كل شرط حيث إنه يلزم إحرازه ـ فلا تجوز الصلاة فيما شك في كونه من مأكول اللحم بناء على شرطية اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، ولا تجري في ذلك البراءة ، لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد يجب الخروج عن عهدته ، فالشبهة الموضوعية في باب الشروط لا ترجع إلى الأقل والأكثر.
    وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية في باب الموانع فإنها ترجع إلى الأقل والأكثر ، لان التكليف فيها إنما يتعلق بالعدم ، ويمكن أن يكون عدم كل فرد من أفراد اللباس المتخذ من غير المأكول قيدا في الصلاة وأخذ وجوده مانعا عنها ، فتجوز الصلاة في ما شك في أخذه من غير المأكول.
    وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في رسالة مفردة ، ولهذا طوينا البحث في هذا المقام اعتمادا عليها ، ومن أراد تفصيل ذلك فليرجع إليها ، فإنها قد تضمنت من التحقيقات مالا تصل إليها ذوي الافهام السامية ، فشكر الله مساعي شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ فلقد أودع في أذهاننا من نفائس الآراء ما تحير في دركه الأفكار ! وتقف دونه الأنظار.


(205)
    والمراد من المركب التحليلي : هو ما إذا لم يتوقف اعتبار الخصوصية الزائدة المشكوكة على مؤنة زائدة ثبوتا واثباتا. ويقابله المركب الخارجي : وهو ما إذا توقف اعتبار الخصوصية المشكوكة على مؤنة زائدة ثبوتا وإثباتا.
    وتوضيح ذلك : هو أن الخصوصية الزائدة المشكوكة
    تارة : تحتاج في مقام اعتبارها وأخذها في متعلق التكليف أو في موضوعه إلى لحاظ يخصها في عالم الجعل والثبوت ، وإلى بيان زائد في عالم الايصال والاثبات ، سواء كان اعتبارها على وجه الجزئية أو الشرطية ، وسواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا مباينا للمشروط خارجا غير متحد معه وجودا ـ كاشتراط الطهارة في الصلاة ـ أو كان منشأ الانتزاع أمرا داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود ـ كاشتراط الايمان في الرقبة ـ ففي جميع هذه الوجوه تحتاج الخصوصية الزائدة إلى لحاظها ثبوتا وإلى بيان زائد يخصها إثباتا.
    بداهة أن أخذ السورة جزء في الصلاة والطهارة شرطا لها والايمان قيدا في الرقبة يتوقف على تصور السورة والطهارة والايمان في مقام الامر بالمركب وتأليف أجزائه ، ولا يمكن أن تكون السورة والطهارة والايمان جزء أو قيدا للمركب بلا لحاظها مستقلا ، هذا في عالم الجعل والثبوت. وكذا في عالم الاثبات يتوقف بيان اعتبارها في المأمور به على تأديتها بمؤنة زائدة ، ولو بمثل قوله : « صل مع السورة » أو « مع الطهارة » أو « أعتق رقبة مؤمنة ».


(206)
    وأخرى : لا تحتاج الخصوصية المشكوكة في مقام اعتبارها وأخذها في المتعلق أو الموضوع إلى لحاظ يختص بها ثبوتا ، وإلى بيان زائد إثباتا ، وذلك كما لو تردد متعلق التكليف أو موضوعه بين الجنس والنوع ـ كالحيوان والانسان ـ فان النوع وإن اشتمل على خصوصية زائدة يكون الجنس فاقدا لها وهي الصورة النوعية التي تقوم بها حقيقة الشيء ، إلا أنه في عالم الثبوت لا يحتاج إلى لحاظين : لحاظ الجنس ولحاظ الصورة النوعية بلحاظ مستقل مغاير ، بل يكفي لحاظ النوع بماله من المعنى البسيط ، وكذا في مقام الاثبات لا يحتاج إلى بيان كل من الجنس والصورة ببيان على حدة ، بمثل قوله : « أكرم حيوانا ناطقا » بل يمكن تأدية المأمور به ببيان واحد ، بقوله : « أكرم إنسانا » (1) وتركب الانسان من
1 ـ أقول : لازم ما أفيد أنه لو فرض كون لسان الدليل وجوب إكرام حيوان الناطق مع احتمال كون ذكر الناطقية من باب كونه أكمل أفراده بلا خصوصية فيه أو أنه من باب دخل الناطقية في مطلوبيته ، لابد وأن يلحق مثل هذه الصورة أيضا بالشرط والمشروط ، غاية الامر كان المقيد متحدا مع قيده في الوجود ، ومجرد التمكن من أداء غرضه بعنوان آخر لا يخرج المثال عن الأقل والأكثر ، بل لابد وأن يفصل بين صورة كون لسان الدليل عنوانا مركبا كما ذكرنا ، أو عنوانا بسيطا مثل الانسان والحيوان ، ولا أظن أحدا يفصل بين الصورتين ، وذلك يكشف عن أن وجه الاحتياط ليس مجرد تباين العنوانين عرفا ، كيف ؟ والعرف لا يرى بين الحيوان والحيوان الناطق إلا من باب الأقل والأكثر بل عمدة النكتة في وجه الاحتياط في الفرضين هو أن من المعلوم : أن النوع سواء كان بعنوانه البسيط أو بعنوانه المركب التحليلي ليس نسبته من الجنس المطلق القابل للانطباق على فرد آخر من قبيل الأقل والأكثر ، إذ ميزان الأقل والأكثر كون الأقل بجميع حدوده غير حد القلة في ضمن الأكثر ، ومن البديهي أن ما هو في ضمن النوع ليس الحيوان على الاطلاق ، بل ليس في ضمنه إلا حصة منه المبائن مع الحصة في ضمن فرد آخر ، وما هو من قبيل الأقل والأكثر هو النوع مع هذه الحصة لا مع الطبيعة القابلة للانطباق على حصص متباينة ، فلا جرم ينتهي الامر في مثل المقام بحسب الدقة العقلية إلى العلم الاجمالي بين حرمة ترك الفرد الآخر مقرونا بترك النوع أو حرمة تفويت خصوصية النوع ، ومثله يكون العلم بالدقة من العلم بين المتبائنين ، لا الأقل والأكثر ، وحينئذ لا يلزم على مثل الشيخ القائل بالبرائة العقلية أن يقول بالبرائة في المقام.

(207)
الجنس والفصل إنما يكون عقليا من باب أن كل ما به الاشتراك يحتاج إلى ما به الامتياز ، وليس الانسان مركبا خارجيا نظير التركب من العرض والمعروض.
    إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه كان الأنسب في مقام تحرير الأقسام هو أن يبحث عن الشرط والمشروط في ضمن البحث عن الجزء والكل ، ويعمم المركب الخارجي إلى ما يشمل الشرط والمشروط لاتحادهما في الحكم ، ويختص البحث في المركب التحليلي بما إذا كان من قبيل الجنس والنوع ، ولكن الشيخ ـ قدس سره ـ حيث أهمل هذا القسم ولم يتعرض لحكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع جعل المركب الخارجي مختصا بما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وأما الشرط والمشروط فقد جعله من المركب التحليلي ، وقد أطال الكلام في كون الشرط والمشروط ملحقا بالجزء والكل في الحكم وأنه تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك فيه ، سواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا مباينا للمشروط في الوجود أو متحدا معه وإن كان جريان البراءة في الأول أوضح.
    هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا حاجة إلى تطويل الكلام في إلحاق الشرط بالجزء ، فإنه لا موجب لتوهم الفرق بينهما بعدما كان نسبة حديث الرفع إلى كل منهما على حد سواء ، لان كلا من الشرط والجزء مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، على ما تقدم توضيحه.
ثم إن ما أفيد في وجه عدم جريان البراءة النقلية بحكم العرف بالتباين بين العنوانين أن يلزم علاوة عما أوردنا : من أن لازمه المصير في المقام بين كون لسان الدليل إنسانا أو حيوانا ناطقا ـ إذ العرف لا يرى بين الحيوان والحيوان الناطق فرقا ـ يرد عليه أيضا ان لازمه التفصيل بين كون العنوان الآخر في قبال الرقبة « الرقبة المؤمنة » أو « المؤمنة » محضا ، فان العرف بين الرقبة والمؤمنة يرى مثل ما يرى بين الحيوان والانسان ، فتدبر.

(208)
    فالأولى : عطف عنان الكلام إلى بيان حكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع. والأقوى : أنه يجب فيه الاحتياط ولا تجري البراءة عن الأكثر ، فان الترديد بين الجنس والنوع وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقل والأكثر ، إلا أنه خارجا بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين ، لان الانسان بماله من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفا ، فلو علم إجمالا بوجوب إطعام الانسان أو الحيوان ، فاللازم هو الاحتياط باطعام خصوص الانسان ، لان نسبة حديث الرفع إلى كل من وجوب إطعام الانسان والحيوان على حد سواء ، وأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الأخرى ، فيبقى العلم الاجمالي على حاله ولابد من العلم بالخروج عن عهدة التكليف ، ولا يحصل ذلك إلا بإطعام خصوص الانسان ، لأنه جمع بين الأمرين ، فان إطعام الانسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا.
    نعم : بناء على مختار الشيخ ـ قدس سره ـ من جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر وانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، ينبغي أن لا يفرق في ذلك بين ما كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل أو من قبيل الجنس والنوع ، لان النوع في التحليل العقلي مركب من الجنس والفصل فينحل العلم الاجمالي في نظر العقل ، لان نظره هو المتبع في الانحلال ، فتأمل. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث الأقل والأكثر.

    بقي التنبيه على أمور :
ـ الأول ـ
    لو شك في ركنية جزء للعمل ، فهل الأصل يقتضي الركنية ؟ فيبطل العمل بالاخلال به أو بزيادته ولو نسيانا ، أو لا ؟.


(209)
    وتحقيق ذلك يستدعي تمهيد مقدمة وهي : أنه قد اختلفت كلمات الأصحاب في معنى الجزء الركني وما هو المايز بينه وبين غيره.
    فقيل : إن الجزء الركني هو ما أوجب الاخلال به سهوا بطلان العمل من دون أن توجب زيادته ذلك.
    وقيل : إن الجزء الركني هو ما أوجب كل من الاخلال به وزيادته سهوا بطلان العمل.
    فعلى التفسير الأول : يختص الفرق بين الجزء الركني وغيره في طرف النقيصة فقط ، فان نقص الجزء الركني ولو سهوا يقتضي البطلان ونقص غيره سهوا لا يقتضي البطلان. وأما في طرف الزيادة فلا فرق يبنهما ، لان زيادة كل من الجزء الركني وغيره لا يوجب البطلان.
    وعلى التفسير الثاني : يحصل الفرق بينهما في كل من طرف الزيادة والنقيصة ، كما لا يخفى.
    وهذا بعد الاتفاق منهم على أن الاخلال بالجزء عمدا يوجب البطلان ، وليس ذلك من لوازم ركنية الجزء ، بل هو من لوازم نفس الجزئية ، فان الاخلال العمدي بالجزء لو لم يقتض البطلان يلزم عدم كونه جزء ، فبطلان العمل بالاخلال العمدي بالجزء لا يلازم ركنيته.
    وأما بطلان العمل بزيادة الجزء عمدا فهو مما لا تقتضيه الجزئية ، بل الزيادة العمدية كالزيادة السهوية تجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، إلا إذا اعتبر الجزء بشرط لا ، فزيادته أيضا تقتضي البطلان ، إلا أن ذلك في الحقيقة يرجع إلى الاخلال بالجزء ، لا إلى الزيادة ، كما سيأتي ( إن شاء الله تعالى ) بيانه.
    فتحصل مما ذكرنا : أن نقصان الجزء عمدا لا يجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، وأما نقصان الجزء سهوا فهو يجتمع مع الصحة. كما أن زيادة الجزء عمدا أو سهوا تجتمع مع الصحة.


(210)
    فالكلام يقع في مقامين :
    المقام الأول : في اقتضاء نقص الجزء سهوا للبطلان وعدمه.
    المقام الثاني : في اقتضاء زيادة الجزء عمدا أو سهوا للبطلان وعدمه.

    فالكلام فيه يقع من جهات ثلاث :
    الأولى : في أنه هل يمكن ثبوتا التكليف بما عدا الجزء المنسي من سائر الأجزاء ؟ أو لا يمكن ؟.
    الثانية : في أنه لو فرض إمكان ذلك في مقام الثبوت ، فهل يكون في مقام الاثبات ما يقتضي التكليف بالمأتي به في حال نسيان الجزء : من دليل اجتهادي أو أصل عملي ؟ أو أنه ليس في مقام الاثبات ما يقتضي ذلك ؟.
    الثالثة : في أنه لو فرض عدم صحة التكليف بما عدا الجزء المنسي ثبوتا أو عدم قيام الدليل على ذلك إثباتا ، فهل هناك دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي الاجتزاء بالمأتي به في حال النسيان وكونه مجزيا عن الواقع وإن لم يكن مأمورا به ؟ أو أنه ليس في البين ما يدل على ذلك ؟.

    أما الجهة الأولى :
    فمجمل الكلام فيها : هو أنه لا إشكال في سقوط التكليف بالجزء المنسي في حال النسيان ، لعدم القدرة عليه في ذلك الحال ، فلا يعقل التكليف به ، كما لا يعقل التكليف بما عدا الجزء المنسي على وجه يؤخذ « الناسي » عنوانا للمكلف ويخاطب بذلك العنوان ، بداهة أن الناسي لا يرى نفسه واجدا لهذا العنوان ولا يلتفت إلى نسيانه ، فإنه بمجرد الالتفات إلى نسيانه يخرج عن عنوان
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس