فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 256 ـ 270
(256)
خصوص الكل المركب من الاجزاء ولا يشمل الكلي. ولكنه ضعيف ، فإنه لا موجب لاختصاص الموصول بالكل ، بل يعم الكلي أيضا.
    فدلالة الخبرين على وجوب ما عدا القيد المتعذر مما لا ينبغي الاشكال فيها ، وهما المدرك لقاعدة الميسور.

    إيقاظ :
    يعتبر في القاعدة أن يكون الباقي المتمكن منه مما يعد عرفا ميسور المتعذر ، بأن يكون الباقي ركن المركب وما به قوامه (1) وكان المتعذر من الخصوصيات الخارجة عن الحقيقة وإن كانت معتبرة فيه شرعا أو عرفا ، إذ لولا ذلك لم يصدق على الباقي أنه ميسور المتعذر ، بل كان أمرا مباينا له ، فكل ما صدق على المتمكن منه أنه ميسور المتعذر يندرج في القاعدة ، ولابد من إحراز ذلك ولا يكفي الشك فيه ، وهذا مما لا إشكال فيه.
    إنما الاشكال في تشخيص كون الباقي ميسور المتعذر في الموضوعات الشرعية ، فإنه في الموضوعات العرفية يمكن تشخيص ذلك ، فان القيام مثلا الذي اخذ جزء للصلاة له معنى عرفي وهي الهيئة المقابلة لهيئة الجلوس والمشي والاضطراب الفاحش ، وله خصوصيات اخر اعتبره الشارع فيه : من الاستقرار
1 ـ أقول : لا يبعد أن يكون المراد من ميسور الشيء ما يعد عرفا من سنخ الشيء وغير مبائن معه ، وفي تشخيص السنخية المزبورة لدى العرف لا يفرق بين الموضوعات الشرعية والعرفية ، فان كون الموضوع شرعيا لا ينافي كون تشخيص ما هو من سنخه وغير مبائن معه ـ ولو صورة ـ بيد العرف. نعم : حسب الوفاء بسنخ المصلحة القائمة بالمجموع غير مرتبط بفهم العرف ، من غير فرق في ذلك بين الموضوعات الشرعية والعرفية ، وحينئذ ربما يجعل السنخية الصورية التي كان تشخيصه بيد العرف طريقا إلى سنخية المصلحة ، وحينئذ فمهم لم يكن للشارع تخطئة لهم فيؤخذ بفهمهم ، ومهما كان في النص مثل هذه التخطئة فلا يؤخذ بفهمهم ، وأما كون المدار في صدق ميسور الشيء على الركنية الواقعية بحيث يقصر فهم العرف عن تشخيصه في الشرعيات ، فهو أيضا ليس إلا مصادرة محضة.

(257)
والاعتماد على الأرض والانتصاب وغير ذلك ، فلو تعذر الاعتماد على الأرض أو الاستقرار يصدق على الباقي المتمكن منه أنه ميسور المتعذر ، فلا ينتقل الفرض إلى الجلوس أو المشي للتمكن من تلك الهيئة التي يتقوم بها حقيقة القيام عرفا.
    وأما لو فرض تعذر تلك الهيئة ودار الامر بين الجلوس والمشي ، ففي تقديم المشي على الجلوس بدعوى : أنه أقرب إلى القيام ، إشكال ، إذ لا أثر للأقربية ما لم يصدق على المشي أنه ميسور المتعذر ، ولا يصدق ذلك ، لان العرف يعد المشي مباينا للقيام ، وكذا الكلام في الركوع والسجود ونحو ذلك من الموضوعات العرفية ، فإنه يمكن فيها تشخيص كون الباقي ميسور المتعذر بالنسبة إلى بعض المراتب ، وبالنسبة إلى بعضها الآخر يقطع بعدم الصدق ، وقد يشك أيضا ، إذ الشك في الموضوعات العرفية ليس بعزيز الوجود ، فلابد في ذلك من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصول العملية ، هذا في الموضوعات العرفية.
    وأما الموضوعات الشرعية : فتشخيص الركن عن غيره والميسور عن المباين في غاية الاشكال ، فان كون الركعتين أو الثلاث ميسور الأربع عند تعذر الأربع مما لا طريق إلى إحرازه ، إذ من المحتمل أن تكون خصوصية الأربع ركنا لصلاة الظهر ومقومة لحقيقتها ، وكذا كون الغسلات الثلاث بلا مسح عند تعذر المسح ميسور الوضوء مما لا يكاد يعلم ، إذ من المحتمل أن يكون للمسح دخل في حقيقة الوضوء
    ولذا اختلف الأصحاب عند تعذر المسح ببلل الماسح على أقوال ثلاث : فقيل : إنه ينتقل إلى التيمم ، وقيل : إنه يمسح من غير بلة ، وقيل إنه يأخذ من بلل سائر الأعضاء أو من ماء آخر ، وليس هذا الاختلاف إلا لأجل عدم تشخيص الركن في قوله ـ عليه السلام ـ « امسح ببلة يمناك » (1) فإنه يحتمل أن
1 ـ الوسائل : الباب 15 من أبواب الوضوء ، الحديث 2 وفيه : « وتمسح ببلة يمناك ».

(258)
يكون الركن هو السمح باليمنى وكون المسح بالبلة من الخصوصيات الخارجة المعتبرة فيه ، ويحتمل أيضا أن يكون الركن هو المسح بالبلة وكون البلة من اليمنى من الخصوصيات المعتبرة ، ويحتمل أيضا أن يكون الركن مجموع الأمرين ، وهذه الاحتمالات صارت منشأ للأقوال الثلاثة.
    وبالجملة : معرفة الميسور في الموضوعات الشرعية في غاية الاشكال ، ولأجل ذلك قيل : « إن التمسك بقاعدة الميسور في العبادات يتوقف على عمل الصحابة » فان الحاجة إلى عمل الأصحاب ليس لجبر السند أو الدلالة ، فان السند لا يحتاج جبره إلى العمل بالرواية في جميع الموارد ، بل يكفي في الجبر العمل بالرواية في الجملة ولو في مورد واحد ، وأما الدلالة فالعمل غير جابر لها ـ كما حققناه في محله ـ فالحاجة إلى العمل في المقام إنما هو لأجل تشخيص الركن في العبادة ليكون الباقي ميسور المتعذر ، فان من عمل الصحابة بالقاعدة في مورد يستكشف أن الباقي كان عندهم ركنا وأنهم أخذوا ذلك من أئمتهم ـ عليهم السلام ـ فتأمل جيدا.
    ثم إنه لا فرق في القاعدة بين الاجزاء والشرائط ، إذ رب شرط يكون ركنا للمركب كالطهارة للصلاة ، ورب شرط لا يكون ركنا كالاستقبال ، فالتفصيل بين الاجزاء والشرائط بدخول الاجزاء في القاعدة دون الشرائط مما لا وجه له ، هذا كله في التمسك بالقاعدة على وجوب الباقي المتمكن منه.
    وأما التمسك بالاستصحاب على وجوبه ، فيعتبر في جريانه كل ما يعتبر في القاعدة ، لأنه يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة عرفا ، وبقاء الموضوع إنما يكون ببقاء أركانه المقومة لحقيقته وكان منشأ الشك انتفاء بعض الخصوصيات الخارجة عن الحقيقة التي لا يضر انتفائها ببقاء الموضوع عرفا ، وسيأتي تفصيل ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في مبحث الاستصحاب.


(259)
    وإجماله : أن الوصف العنواني الذي اخذ موضوعا في ظاهر الدليل تارة : يكون تمام الموضوع للأثر الذي رتب عليه. وأخرى : يكون معرفا لما هو الموضوع من دون أن يكون له دخل في حقيقة الموضوع ، واستظهار أحد الوجهين إنما يكون من الخارج أو من مناسبة الحكم والموضوع ، فان مناسبة الحكم والموضوع في مثل « قلد المجتهد الحي » أو « أعط الزكاة للفقير » تقتضي أن يكون لوصف الاجتهاد والفقر دخل في جواز التقليد وإعطاء الزكاة ويكون هو الموضوع لذلك ، بحيث يدور بقاء الموضوع وارتفاعه ببقاء الوصف العنواني وارتفاعه ، كما أن مناسبة الحكم والموضوع في مثل نجاسة الماء المتغير تقتضي أن يكون الموضوع هو ذات الماء لا وصف التغير بل يكون الغير علة لعروض النجاسة على الماء ، فلا يدور بقاء الموضوع مدار بقاء وصف التغير ، بل الموضوع باق عرفا ولو زال التغير.
    وقد يشك في دخل الوصف العنواني وعدمه ، والاستصحاب إنما يجري فيما علم عدم مدخلية الوصف في الموضوع وكان منشأ الشك احتمال أن يكون التغير علة للحدوث والبقاء فيرتفع الحكم بارتفاع علته لا بارتفاع موضوعه ، وأما إذا علم بأن للوصف العنواني دخلا في الموضوع أو شك في ذلك ، فالاستصحاب لا يجري ، للعلم بارتفاع الموضوع في الأول والشك في بقائه في الثاني ، فلم يحرز اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة. هذا إجماله وتفصيله موكول إلى محله.
    إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه يصح التمسك بالقاعدة لما نحن فيه : من وجوب الباقي المتمكن منه عند تعذر بعض الشرائط والاجزاء التي لا تعد من الأركان ، من غير فرق بين أن يكون لدليل القيد إطلاق أو لم يكن ، إذ إطلاق دليل القيد لا يقتضي أزيد من ثبوت القيد حتى عند العجز عنه ، وهذا لا ينافي قيام دليل آخر على وجوب الخالي عن القيد عند تعذره ، إذ ليس لدليل القيد مفهوم ينفي الحكم عما عداه حتى يقع التعارض بينه وبين ما يدل على وجوب الباقي ،


(260)
فقاعدة الميسور تقتضي وجوب الفاقد للقيد المتعذر ، ولا مجال للبراءة مع القاعدة ، وذلك واضح.
    وأما التمسك بالاستصحاب : فالأقوى فيه التفصيل بين إجمال دليل القيد وإطلاقه ، فإنه لا مجال للاستصحاب مع إطلاق دليل القيد ، لان إطلاقه يقتضي بقاء القيدية عند تعذر القيد ، ولازم ذلك هو ارتفاع ذلك الشخص من الوجوب المتعلق بالكل عند تعذر بعض أجزائه ، فلا معنى لاستصحابه ، للقطع بارتفاعه ، إلا بناء على اعتبار القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وهو ما إذا شك في حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، وسيأتي عدم اعتبار هذا القسم من الاستصحاب إلا على بعض الوجوه. هذا إذا كان لدليل القيد إطلاق.
    وأما إذا لم يكن له إطلاق يعم صورة التعذر ، فالاستصحاب يجري ـ لولا حكومة القاعدة عليه ـ للشك في ارتفاع ذلك الشخص من الوجوب ، لاحتمال أن تكون القيدية مقصورة بصورة التمكن من القيد ، فيبقى وجوب الباقي على حاله.
    هذا ، ولكن شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ كان يميل إلى عدم التفصيل بين إطلاق دليل القيد وعدمه وأن الاستصحاب يجري في كلا الصورتين ـ لولا حكومة القاعدة عليه ـ ولم يذكر لذلك وجه يمكن الاعتماد عليه ، فتأمل جيدا.

    فرعان :
    الأول : إذ دار الامر بين سقوط الجزء أو الشرط بأن تعذر جمعهما في الامتثال ، ففي وجوب صرف القدرة في الجزء وفعل المركب فاقدا للشرط ، أو التخيير في صرف القدرة في أحدهما إن لم يكن في البين أحد مرجحات باب التزاحم وإلا تعين صرف القدرة في الراجح منهما ، وجهان بل قولان : أقواهما الثاني


(261)
    وربما يقال : إنه يتعين صرف القدرة في الجزء ، بتوهم : أن تقدم رتبة الجزء على الشرط في مقام تأليف الماهية ـ حيث إن نسبة الجزء إلى الأثر المقصود نسبة المقتضي المقدم طبعا على الشرط ـ يقتضي تقدم الجزء على الشرط في مقام الامتثال أيضا.
    وفيه : منع الملازمة ، فان تقدم لحاظ الجزء في مقام التأليف لا يقتضي ترجيحه على الشرط عند وقوع التزاحم بينهم ، بل لابد من ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فربما يقدم الشرط على الجزء إذا كان في الشرط أحد موجبات التقديم من الأهمية وغيرها. ويظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ تقديم الجزء مطلقا ، ولا وجه له.
    الفرع الثاني : إذا كان للمركب بدل اضطراري ـ كالوضوء ـ وتعذر بعض الاجزاء أو الشرائط التي لا تكون من الأركان ، ففي وجوب الناقص وعدم الانتقال إلى البدل الاضطراري وعدمه وجهان : أقواهما الأول ، إذ لا موجب للانتقال إلى البدل الاضطراري (1) لان الانتقال إليه يتوقف على عدم التمكن من المركب الذي هو الواجب بالأصالة ، وقاعدة الميسور تقتضي تعين الباقي المتمكن منه ، ويصير الواجب هو الخالي عن المتعذر ، فيكون بمنزلة الواجب الأصلي ، فلا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري ، فتأمل جيدا.

    لو دار الامر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، فالأقوى فيه الاحتياط بتكرار العبادة ، لأنه يكون من دوران الامر بين المتباينين مع التمكن من الموافقة
1 ـ أقول : بعدما لم يكن مفاد القاعدة تنزيل الباقي منزلة الكل ، فتقديمه على البدل الاضطراري فرع نظر دليل البدل إلى صورة الاضطرار عن الشيء بجميع مراتبه ، وإلا فلو كان نظره إلى الاضطرار عن المرتبة الكاملة ، فتقديم القاعدة عليه ممنوع أشد المنع.

(262)
القطعية ، وليس من الأقل والأكثر ـ كما يظهر من كلام الشيخ قدس سره أخيرا ـ لأن الشك في المقام يرجع إلى حقيقة المأمور به وأنه متشخص بقيد وجودي أو بقيد عدمي ، ولا جامع بينهما.
    وبعبارة أخرى : يرجع الشك إلى أن المأمور به « بشرط شيء » أو « بشرط لا » هذا لا ربط له بباب الأقل والأكثر ، لأن الشك فيه يرجع إلى كون المأمور به « لا بشرط » أو « بشرط شيء » فتوهم اندراج المقام في مسألة الأقل والأكثر ضعيف غايته.
    وأضعف من ذلك توهم اندراج المقام في باب دوران الامر بين المحذورين ، بتخيل عدم التمكن من المخالفة القطعية بالنسبة إلى المشكوك فيه ، لان الفعل إما أن يكون واجدا للمشكوك وإما أن يكون فاقدا له ، وعلى كلا التقديرين لا يعلم بالمخالفة ، فلا مانع من جريان البراءة عن كل من الشرطية والمانعية ، لأنه لا يلزم من ذلك مخالفة عملية ، فيكون المكلف مخيرا بين الفعل الواجد للمشكوك والفاقد له ، كما هو الشأن في جميع موارد دوران الامر بين المحذورين.
    وجه الضعف : هو أن التخيير عند دوران الامر بين المحذورين إنما هو لأجل عدم التمكن من الموافقة القطعية لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك بحسب الخلقة ، ولذا كان التخيير فيه من التخيير العقلي التكويني وليس من التخيير الشرعي ، وأين هذا مما نحن فيه ؟ فان المكلف يتمكن من الموافقة القطعية ولو بتكرار العبادة ، واجدة للمشكوك تارة وفاقده له أخرى ، واعتبار الامتثال التفصيلي والجزم بالنية إنما هو فيما إذا تمكن المكلف منه ، لا فيما إذا تعذر عليه ، فان العقل يستقل حينئذ بحسن الامتثال الاجمالي.
    فظهر : أنه لا محيص في المقام من الاحتياط بتكرار العبادة ، من غير فرق بين أن يكون الشك في الشرطية والمانعية لأجل الشك في المكلف به وتردده بين القصر والاتمام ، أو لأجل الشك في كون الشيء شرطا للصلاة أو مانعا ، أو


(263)
لأجل الشك في كونه شرطا للجزء أو مانعا ، ففي جميع الأقسام المتصورة في دوران الامر بين الشرط والمانع يجب الاحتياط بتكرار العمل.
    هذا تمام الكلام في مباحث الشك في المكلف به بأقسامه.

    تتمة :
    بقي من أقسام الشك في المكلف به ما إذا اشتبه الواجب بالحرام ، كما إذا علم بوجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر واشتبه الواجب بالحرام ، وقد أطلق الشيخ ـ قدس سره ـ الحكم بالتخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر ، وذكر في وجهه : ان الموافقة الاحتمالية لكل من التكليفين أولى من الموافقة القطعية لأحدهما والمخالفة القطعية للآخر بعد عدم تمكن المكلف من الموافقة القطعية لكل منهما.
    هذا ، ولكن الحكم بالتخيير بقول مطلق لا يخلو عن إشكال ، بل ينبغي ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فيقدم الموافقة القطعية للأهم منهما وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للآخر ، فان المقام يندرج في صغرى التزاحم ، وإن كان بين التزاحم في المقام وبين غيره فرق ، لان التزاحم في غير المقام يرجع إلى ناحية القدرة التي هي شرط الخطاب ، لعدم القدرة على الجمع بين المتعلقين ، والتزاحم في المقام يرجع إلى ناحية تأثير العلم الاجمالي ، لان العلم الاجمالي بكل من الواجب والحرام يقتضي تنجيز التكليف بمتعلقه وتأثيره في الخروج عن عهدته والقطع بامتثاله ، وحيث لا يتمكن المكلف من الجري على ما يقتضيه كل من العلمين والخروج عن عهدة الامتثال القطعي لكل من التكليفين لجهله بمتعلق الوجوب والحرمة ، فلا محالة يقع التزاحم في تأثير العلم للامتثال القطعي لكل منهما ، وينبغي تأثير ما هو الأقوى منهما بحسب أقوائية الملاك القائم بمتعلقه ، فيقتضي الموافقة القطعية له ويسقط الآخر عن التأثير ، فلو


(264)
كان الحرام أقوى ملاكا قدم امتثاله القطعي وإن استلزم مخالفة الواجب ، وإن كان الواجب أقوى ملاكا قدم امتثاله القطعي وإن استلزم مخالفة الحرام.
    فظهر الفساد القول بالتخيير بقول مطلق. نعم : لو لم يكن أحدهما أقوى ملاكا من الآخر صح القول بالتخيير ، على الوجه الذي أفاده فتأمل (1)

خاتمة
في بيان ما يعتبر في الاخذ بالبراءة والاحتياط
    والبحث عن ذلك يقع في مقامين :
المقام الأول
في ما يعتبر في العمل بالاحتياط
    والأقوى : أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا أزيد من تحقق موضوعه : سواء كان الاحتياط حقيقيا محرزا للواقع على ما هو عليه ، أو إضافيا أقرب إلى الواقع ، كالاخذ بأحوط القولين أو الأقوال بين المجتهدين الاحياء ، وسواء كان على خلافه حجة معتبرة شرعية من أمارة أو أصل أو لم يكن.
1 ـ وجهه : هو أنه لو جعلنا المقام من باب التزاحم في تأثير العلم الاجمالي في الموافقة القطعية لكل من التكليفين لكان ينبغي أن يكون الحكم فيه التخيير في الامتثال القطعي لأحدهما والمخالفة القطعية للآخر عند فقد المرجح ، وهذا غير التخيير الذي أفاده الشيخ ( قدس سره ) فتأمل ( منه ).

(265)
    نعم : يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجة شرعية أن يعمل المكلف أولا بمؤدى الحجة ثم يعقبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجة إحرازا للواقع ، وليس للمكلف العمل بما يخالف الحجة أولا ثم العمل بمؤدى الحجة ، إلا إذا لم يستلزم رعاية احتمال مخالفة الحجة للواقع استيناف جملة العمل وتكراره ، كما إذا كان مفاد الحجة عدم وجوب السورة في الصلاة ، فان رعاية احتمال مخالفتها للواقع يحصل بالصلاة مع السورة ولا يتوقف على تكرار الصلاة وإن كان يحصل بالتكرار أيضا.
    وهذا بخلاف ما إذا كان مفاد الحجة وجوب خصوص صلاة الجمعة مع احتمال أن يكون الواجب هو خصوص صلاة الظهر ، فان رعاية احتمال مخالفة الحجة للواقع لا يحصل إلا بتكرار العمل ، وفي هذا القسم لا يحسن الاحتياط إلا بعد العمل بما يوافق الحجة ولا يجوز العكس.
    والسر في ذلك : هو أن معنى اعتبار الطريق : إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملا وعدم الاعتناء به ، والعمل أولا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاء احتمال الخلاف (1) فان ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهذا بخلاف ما إذا قدم العمل بمؤدى الطريق ، فإنه حيث قد أدى المكلف ما هو الوظيفة وعمل بما يقتضيه الطريق ، فالعقل يستقل بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع ، هذا مضافا إلى أنه يعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم التمكن من الطاعة التفصيلية ـ كما سيأتي بيانه ـ وبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلف متمكنا من الطاعة والامتثال التفصيلي بمؤدى الطريق ، فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي لصلاة الظهر (2).
1 ـ أقول : معنى إلغاء احتمال الخلاف إلغائه في مقام التعبد بالعمل ، لا في مقام تحصيل الواقع رجاء كما هو واضح.
2 ـ في النفس من كلا الوجهين شيء ، خصوصا في الوجه الأخير ، فان اعتبار الامتثال التفصيلي إنما هو في


(266)
    ثم إن وجوب تقديم العمل بمؤدى الحجة على الاحتياط إنما هو فيما إذا كانت الحجة محرزة للواقع : من امارة أو أصل تنزيلي.
    وأما إذا كانت غير محرزة ـ كالأصول الغير التنزيلية ـ فلا يجب تقديم العمل بمؤداها على الاحتياط : إذ ليس مفاد الأصل الغير المحرز ثبوت المؤدى واقعا ولا إلقاء احتمال الخلاف ، بل مفاد اعتباره مجرد تطبيق العمل على مؤداه والجري على ما يقتضيه ، وتطبيق العمل على المؤدى لا ينافي رعاية احتمال الخلاف والعمل بما يوجب إحراز الواقع ، قدمه على العمل بمؤدى الأصل أو أخره.
    هذا كله في الحجة التي قام الدليل على اعتبارها بالخصوص. وأما إذا كان اعتبارها بدليل الانسداد المستنتج منه حجية مطلق الظن ، فان قلنا بالكشف فحكمه حكم الامارة والأصل المحرز : من وجوب تقديم العمل بمؤدى الظن على العمل بالاحتياط ، وإن قلنا بالحكومة فحكمه حكم الأصل الغير المحرز : من عدم وجوب ذلك ، ولا يخفى وجهه.
    إزاحة شبهة :
    قد خالف في حسن الاحتياط في العبادات جملة من الفقهاء تبعا لقاطبة المتكلمين ، بتوهم : أن الاحتياط فيها يستلزم الاخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة ، وعلى هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والعمل
صورة التمكن منه في العمل الذي يأتي به بداعي الاحتمال ، وأما العمل الذي لا يمكن أن يأتي به إلا بداعي الاحتمال ، فلا ينبغي الاشكال في حسن الاتيان بداعي الاحتمال ، وفي المثال بعد قيام الطريق على وجوب صلاة الجمعة لا يمكن فعل الظهر إلا بداعي الاحتمال ، قدمها على صلاة الجمعة أو أخرها ، وتمكنه من الامتثال التفصيلي في صلاة الجمعة لا يوجب التمكن من ذلك في صلاة الظهر ، فالمقام أجنبي عن مسألة اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاحتمالي ، فتأمل جيدا ( منه ).

(267)
بالاحتياط مع التمكن منهما ، وقد حكي عن بعض : عدم كفاية قصد الوجه ، بل لابد مع ذلك من قصد الجهة التي اقتضت وجوب العبادة أو استحبابها. وفي المسألة أقوال اخر : من وجوب قصد التمييز والعلم بواجبات الاجزاء ومستحباتها ، وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع.
    والتحقيق : أنه لا يعتبر شيء من ذلك في صحة العبادة ، بل القدر اللازم هو قصد امتثال أمرها الواقعي ، ولا يعتبر العلم بوجوبه أو استحبابه ، ولا العلم بواجبات الاجزاء ومستحباتها ، فضلا عن قصد ذلك ، فضلا عن قصد الجهة ، فان اعتبار هذه الأمور في العبادة ، إما لأجل توقف صدق الطاعة عقلا وتحقق الامتثال عرفا عليها ، وإما لأجل قيام الدليل بالخصوص على اعتبارها ، ولا سبيل إلى دعوى أحدهما في المقام.
    أما الأول : فللقطع بحصول الطاعة والامتثال بقصد الامر الواقعي وإن لم يعلم بوجوبه واستحبابه ، بل يكفي مجرد العلم بتعلق الطلب بالعبادة ، ولا يتوقف قصد الامر على قصد وجهه : من الوجوب أو الاستحباب.
    وتوهم : أنه لا وجود للقدر المشترك بين الوجوب والاستحباب واقعا بل الامر الواقعي لابد وأن يكون واجدا لاحد الوصفين فلو لم يقصد المكلف خصوصية الوجوب أو الاستحباب وقصد الامر المشترك بينهما فقد قصد أمرا لا وجود له واقعا ، فاسد ، فان عدم وجود القدر المشترك واقعا لا دخل له في ذلك ، فان المدعى كفاية قصد الامر الواقعي بما له من الوصف إجمالا وإن لم يعلم به تفصيلا. فدعوى : توقف صدق الطاعة وقصد الامر على قصد الوجه ، ضعيف غايته.
    وأضعف منه اعتبار قصد الجهة : من المصلحة التي اقتضت وجوب العبادة ، فإنه لم يتعلق الطلب بالمصلحة ، كما أوضحناه سابقا. مع أنه لا وجه لتخصيص ذلك بالعبادات ، بل ينبغي التعميم للتوصليات أيضا ، لابتناء جميع الأوامر على


(268)
المصالح بناء على أصول العدلية.
    وأما الثاني : فلانه لم نعثر فيما بأيدينا من الاخبار على ما يدل على اعتبار شيء من ذلك في العبادة ، مع أن المسألة مما تعم به البلوى ويتكرر الحاجة إليها ليلا ونهارا ، وليست من المرتكزات في أذهان العامة حتى يصح للشارع الاتكال على ذلك ، بل هي من المسائل المغفول عنها غالبا ، وما هذا شأنه يلزم على الشارع التأكيد في بيانه ، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم. ويصح لنا دعوى القطع بعدم اعتبار هذه الأمور في العبارة.
    ثم إنه لو سلم عدم حصول القطع من ذلك فلا أقل من الشك فيه ، فتجري فيه أصالة البراءة ـ كالشك في أصل التعبدية والتوصلية ـ خلافا للشيخ ـ قدس سره ـ حيث منع عن جريان البراءة في المقام جريا على مبناه : من أصالة الاشتغال في كل ما شك في دخله في العبادة مما لا يمكن أخذه في متعلق الامر. ولكن هذا خلاف التحقيق عندنا ، فان قصد القربة بفروعها ـ من قصد الوجه ونحوه ـ وإن لم يكن أخذه في المتعلق ، إلا أنه لابد من أن ينتهي اعتباره إلى الشارع ولو بنتيجة التقييد ، وبالآخرة يرجع الشك في التعبدية والتوصلية بفروعها إلى الأقل والأكثر.
    وتوهم : الفرق بين قصد القربة وبين فروعها برجوع الشك فيها إلى الشك في المحصل لاحتمال أن يكون لقصد الوجه مثلا دخل في حصول القربة عقلا فلا تتحقق الطاعة والامتثال بدونه ، فاسد ، فان أقصى ما يمكن أن يدعى هو أن يكون قصد الوجه قد اعتبر قيدا في حصول القربة وتحقق الامتثال ، إلا أن اعتباره على هذا الوجه إنما يكون بجعل من الشارع ، وليس من المجعولات العقلية بحيث يستقل العقل باعتبار قد الوجه في حصول الطاعة ، إذ ليس من وظيفة العقل اعتبار شيء قيدا أو جزء في المأمور به بل ذلك من وظيفة الشرع ، فيرجع الشك بالآخرة إلى أخذ الشارع قصد الوجه قيدا في المأمور به وتجري فيه


(269)
البراءة.
    فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا عدم قصد الوجه والتمييز ونحو ذلك.
    نعم : يعتبر في حسن الاحتياط عقلا عدم التمكن من إزالة الشبهة ، فان مراتب الامتثال عقلا أربعة : الأول : الامتثال التفصيلي. الثاني : الامتثال الاجمالي. الثالث : الامتثال الظني. الرابع : الامتثال الاحتمالي. ولا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللاحقة إلا بعد تعذر المرتبة السابقة ، فإنه فيما عدا المرتبة الأولى لا يمكن قصد امتثال الامر التفصيلي حال العمل ، ويعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم القدرة على الطاعة التفصيلية ، ولا يحسن من المكلف في مقام الطاعة قصد الامر الاحتمالي مع التمكن من قصد الامر القطعي التفصيلي ، لان حقيقة الطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعا لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه وتحركه عن تحريكه ، وهذا يتوقف على العلم بتعلق البعث والتحريك نحو العم ، ولا يمكن الانبعاث بلا توسيط البعث الواصل إلى المكلف ، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثا (1) فلا يكاد يتحقق حقيقة الطاعة والامتثال إلا بعد العلم بتعلق البعث نحو العمل ليكون الانبعاث عن البعث.
    نعم : الانبعاث عن البعث المحتمل أيضا مرتبة من العبودية ونحو من الطاعة
1 ـ أقول : هذا البرهان يقتضي عدم صحة الامتثال والإطاعة الاحتمالية مطلقا ، لان الانبعاث عن الامر المحتمل ليس حقيقة انبعاثا ، مع أنه لم يلتزم به ، فلا محيص من أن يقال : إنه لا قصور في صدق الانبعاث من قبل الامر ، تارة جزما وأخرى رجاء ، ومرجع الأخير إلى جعل أمره المحتمل داعيا له في الحقيقة لان يتحرك الشخص من قبل أمره ، غاية الامر تحريك أمره إياه بواسطة مجرد احتماله ، كما هو الشأن في أمره الجزمي. وبعبارة أخرى : شرط محركية الامر إياه التفاته إليه بنحو التعين أو بنحو الاحتمال ، فالتعين والاحتمال واسطتان لتحريك الامر ، ففي الصورتين لا يكون انبعاثه إلا من قبل بعثه ، وعليه فلا يصلح هذا البرهان للترتب المزبور ، ولا وجه آخر غير المصادرة ، فتدبر.

(270)
والامتثال ، إلا أنه يتوقف حسن ذلك على عدم التمكن من الانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة العبادة والطاعة ، فمع التمكن من الامتثال التفصيلي لا يحسن من العبد الامتثال الاحتمالي ، والمفروض : أن الامتثال في جميع موارد الاحتياط لا يكون إلا احتماليا حتى في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، لعدم العلم بتعلق العبث في كل طرف من أطرافه وإن كان يعلم بتعلق البعث في أحد الأطراف على سبيل الاجمال. والعبرة في الامتثال التفصيلي هو العلم بتعلق البعث بالعمل حال صدوره من العامل ، وكل طرف من أطراف المعلوم بالاجمال مما لا يعلم تعلق البعث به حال الصدور ، فلا يكون الامتثال فيه تفصيليا ، وقد عرفت : أنه مع التمكن من الامتثال التفصيلي لا يحسن الامتثال الاحتمالي ، فيتوقف حسن الاحتياط مطلقا على عدم التمكن من الامتثال التفصيلي بإزالة الشبهة ، وعلى ذلك جرت طريقة العقلاء في مقام الطاعة ، ولا يكاد يشك في تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتمالي عندهم.
    وعلى فرض التشكيك في ذلك وانتهاء الامر إلى الأصول العملية ، فالمرجع هي قاعدة الاشتغال لا البراءة لان الامر يدور بين التخيير والتعيين ، إذ يحتمل أن يكون الامتثال التفصيلي مع التمكن منه هو المتعين على المكلف ولا يكون مخيرا بينه وبين الامتثال الاحتمالي ، وقد تقدم في مبحث البراءة : أنه مهما دار الامر بين التخيير والتعيين فالأصل يقتضي التعيينية.
    وليس الشك في المقام كالشك في اعتبار قصد الوجه ، حيث قلنا : إنه تجري فيه البراءة لرجوع الشك فيه إلى الأقل والأكثر ، فإنه لا جامع بين الامتثال التفصيلي والامتثال الاحتمالي ، فلا يجري عليه حكم الشك بين الأقل والأكثر بل يجري عليه حكم الشك بين المتباينين ، فتأمل.
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس