فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 271 ـ 285
(271)
    تذييل :
    الاحتياط ، إما أن يكون في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، وإما أن يكون في الشبهات البدوية.
    وعلى الثاني : فتارة : تكون الشبهة من الشبهات الحكمية الالزامية ، كما إذا احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال. أخرى : تكون من الشبهات الحكمية الغير الالزامية ، كما إذا احتمل استحباب الدعاء في المثال. وثالثة : تكون من الشبهات الموضوعية.
    وما تقدم : من عدم حسن الاحتياط مع التمكن من إزالة الشبهة إنما كان في الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية.
    وأما الشبهات البدوية : فلا ينبغي الاشكال في حسن الاحتياط إذا كانت الشبهة موضوعية أو حكمية غير إلزامية ولو مع التمكن من إزالة الشبهة ، لعدم وجوب الفحص فيهما وجواز الاقتحام فيها اعتمادا على الأصل ، فلا مجال لتوهم عدم حسن الاحتياط فيها ، فان الوجدان يأبى عن المنع عن حسن الطاعة الاحتمالية مع جواز ترك الطاعة رأسا ، فلا إشكال في حسن الاحتياط في الشبهة البدوية الموضوعية والحكمية الغير الالزامية ، بل لا ينبغي الاشكال في حسن الاحتياط في الشبهة الحكمية الغير الالزامية مطلقا ولو كانت مقرونة بالعلم الاجمالي ، لعين ما ذكرناه في الشبهة البدوية.
    وأما الشبهة الحكمية الالزامية : ففي جواز الاحتياط فيها وترك الفحص إشكال ، والأقوى : عدم جواز الاحتياط إلا بعد الفحص واليأس عن زوال الشبهة لكي يتعذر الامتثال التفصيلي (1) فإنه بعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي في
1 ـ أقول : قد تقدم عدم تمامية البرهان على هذا الترتيب ، كما أن العقل الوجداني أيضا قاصر عن

(272)
صحة العبادة وأخذه قيدا في المأمور به ولو بنتيجة التقييد يكون حكمه حكم سائر الأجزاء والشرائط المعتبرة في المركب ، فكما أنه لو شك في وجوب ما يكون مركبا من عدة من الاجزاء والشرائط لا يجوز الاتيان بذلك المركب فاقدا لبعض أجزائه وشرائطه ولا يكون الفاعل معذورا لو كان المركب واجبا واقعا ، كذلك لا يجوز الاتيان بما يشك في وجوبه فاقدا للامتثال التفصيلي إلا بعد الفحص واليأس عما يوجب زوال الشك ، فإنه يسقط حينئذ وجوب الامتثال التفصيلي وتصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي ، فوجوب الامتثال التفصيلي لا يختص بصورة ما إذا لزم من الامتثال الاحتمالي تكرار العبادة ـ كما كان ذلك مختار شيخنا الأستاذ مد ظله قبل هذا ـ بل يجب الامتثال التفصيلي حتى فيما لم يلزم فيه التكرار ، كما في الشبهة الحكمية الالزامية البدوية.
    نعم : لايجب الامتثال التفصيلي في خصوص اجزاء العبادة ، يل يجوز العمل بالاحتياط فيها بفعل كل ما احتمل جزئيته و لو مع التمكن من رفع الشك ، لان الامتثال التفصيلي انما يجب بالنسبة الي جملة العمل لا كل جزء منه. وكذلك لايجب الامتثال التفصيلي في التوصليات ، بل يجوز فيها الاحتياط و لو لزم منه التكرار ، فتامنل في اطراف ما ذكرناه جيدا.

    وينبغي التنبيه علي امرين :
    الاول : لو دار الامر بين سقوط جزء او شرط من العبادة و الاتيان بها بداعي الامتثال التفصيلي والاتيان بها بداعي الامتثال الاحتمالي واجدة للشرط او الجزء ، ففي سقوط الجزء والشرط او سقوط الامتثال التفصيلي او التخيير بينهما ، وجوه.
    ويظهر من المحكي عن الحلي ـ رحمة الله ـ في مسألة اشتباه الثوب الطاهر
الحكم بالترتيب المزبور.

(273)
بالنجس تقديم الامتثال التفصيلي على الشرط ، حيث ذهب إلى وجوب الصلاة عاريا وعدم جواز تكرارها في الثوبين المشتبهين.
    ولا يخفى ما فيه ، فان اعتبار الامتثال التفصيلي مشروط بالتمكن منه ، ومع عدم التمكن يسقط ، فلا يزاحم الشرط أو الجزء المتمكن منه ، كالمثال ، لتمكن المكلف من الساتر الطاهر ولو بتكرار الصلاة ، ولا ينتقض ذلك بالتمكن من الامتثال التفصيلي بالصلاة عاريا ، لان التمكن من الامتثال التفصيلي يتوقف على سقوط الشرط ، وسقوطه يتوقف على اعتبار الامتثال التفصيلي ، واعتباره يتوقف على التمكن منه ، والتمكن منه يتوقف على سقوط الشرط ، فيلزم الدور (1) فتأمل.
    فالأقوى : سقوط الامتثال التفصيلي عند دوران الامر بينه وبين سقوط الجزء أو الشرط.
    الامر الثاني : لو عرض في الأثناء ما يوجب الترديد وإتمام العبادة بداعي الاحتمال ، فلو كان ذلك في ضيق الوقت ، فلا إشكال في وجوب الاتمام بداعي الاحتمال وسقوط الامتثال التفصيلي ، لعدم التمكن منه مع ضيق الوقت. ولو عرض ذلك في سعة الوقت ، ففيه وجوه.
    وينبغي فرض الكلام في غير ما إذا كان الترديد لطرو ما يحتمل المانعية أو القاطعية ، فإنه لا إشكال في عدم جواز إتمام الصلاة بداعي الاحتمال بناء على اعتبار الامتثال التفصيلي ، ولا موقع للتمسك باستصحاب الصحة ، لعدم جريان استصحاب الصحة التأهلية (2) ولا بقوله تعالى : « ولا تبطلوا
1 ـ أقول : لنا تشكيل دور آخر ، وهو أن سقوط الامتثال التفصيلي فرع الشرط على شرطيته ، وهو منوط بسقوط الامتثال التفصيلي. والتحقيق في أمثال المقام أنه من باب التزاحم وملازمة وجود كل واحد مع عدم الآخر ، فيكون الدور من الطرفين معيا ، فلا يضر ، وحينئذ ففي قوة سقوط الامتثال التفصيلي على فرض اعتباره نظر ، ولكن عمدة الكلام فيه ، فتدبر.
2 ـ أقول : لو كانت الشبهة حكمية تحتاج الاستصحاب المزبور أيضا إلى الفحص ، فلا يجري من


(274)
أعمالكم » (1) لان الشبهة في المقام مصداقية ، ولا يجوز التمسك فيها بالعموم. فلابد من فرض الكلام فيما إذا كانت العبادة قبل عروض الترديد مقطوعة الصحة مطابقة للواقع ، ثم عرض ما يوجب الشك في كيفية الاتمام ، كما إذا شك في فعل من أفعال الصلاة في الأثناء وتردد بين كونه قبل تجاوز المحل حتى يجب فعل المشكوك أو بعده حتى يمضي في الصلاة ، فان الصلاة قبل عروض الشك كانت مقطوعة الصحة ، بل هي كذلك حتى في حال الشك ، غايته أنه عرض في الأثناء ما يوجب الترديد والاتمام بداعي الاحتمال إن لم يتمكن المكلف من السؤال ومعرفة حكم الشك في الأثناء.
    وبالجملة : محل الكلام إنما هو فيما إذا لم تكن الشبهة مصداقية وكان العمل مفروض الصحة حتى في حال عروض ما أوجب الترديد. والوجوه المحتملة في ذلك أربعة :
    الأول : وجوب إتمام العبادة بداعي الاحتمال وعدم جواز القطع الاستيناف ، لحرمة إبطال العمل المفروض صحته إلى حال الشك ، واعتبار الامتثال التفصيلي إنما يكون مشروطا بالتمكن منه ، والمفروض عدم التمكن منه في الأثناء.
    فان قلت : نعم ، وإن كانت المكلف لا يتمكن من الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى ما بيده من الفرد ، إلا أنه متمكن منه بالنسبة إلى أصل الطبيعة المأمور بها بقطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي بعد معرفة حكم الواقعة.
    قلت : حرمة قطع العمل توجب تعيين المأمور به بالفرد الذي بيده على تقدير مصادفته للواقع ، فلا يتمكن من الامتثال التفصيلي. وبعبارة أخرى : محل
هذه الجهة لو تمكن منه ، وإلا فقد تقدم بأنه لا بأس باستصحاب الصحة الفعلية التدريجية.
1 ـ سورة محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الآية : 33.


(275)
حرمة القطع هو الفرد المأتي به على وجه الصحة ، ومحل اعتبار الامتثال التفصيلي هي الطبيعة المأمور بها ، وبعد فرض حرمة قطع الفرد الذي بيده يتعذر عليه الامتثال التفصيلي وينتقل إلى بدله : من الامتثال الاحتمالي.
    الوجه الثاني : وجوب قطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي ، للتمكن من ذلك ، وحرمة قطع العمل مشروطة بالتمكن من إتمامه صحيحا ، وبعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي لا يمكن إتمام العمل صحيحا ، فان حكم الامتثال التفصيلي حكم الاجزاء والشرائط المأخوذة في متعلق الامر : فكما يجب قطع الصلاة لو عرض للمصلي في الأثناء ما يوجب تعذر التشهد عليه مثلا ولا يجوز له إتمام الصلاة بلا تشهد ، كذلك يجب قطع العمل لو عرض له في الأثناء ما يوجب تعذر الاتمام بداعي الامتثال التفصيلي ، وليس له الاتمام بداعي الاحتمال. ومجرد كون التشهد مما يمكن أخذه في متعلق الامر والامتثال التفصيلي لا يمكن لكونه من الانقسامات اللاحقة للامر ، لا يصلح فارقا فيما نحن فيه بعدما كان الامتثال التفصيلي قيدا لصحة العمل ولو بنتيجة التقييد ، فلا يبقى موضوع لحرمة الابطال.
    الوجه الثالث : التخيير بين القطع والاستيناف بداعي الامتثال التفصيلي وبين الاتمام بداعي الاحتمال بالبناء على أحد طرفي الشك وبعد الاتمام إن صادف المأتي به للواقع فهو وإلا استأنف العمل ، لوقوع المزاحمة بين حرمة الابطال وبين شرطية الامتثال التفصيلي ، لعدم قدرة المكلف على الجمع بين التكليفين في هذه الصلاة ولم يحرز أهمية أحد التكليفين ، فلا محيص عن التخيير في امتثال أحدهما ، كما في موارد تزاحم الحكمين الاستقلاليين ، وقد حكي اختيار هذا الوجه عن الميرزا الرشتي ـ رحمه الله.
    الوجه الرابع : وجوب الجمع بين الاتمام بداعي الاحتمال والإعادة ولو في صورة المصادفة ، للعلم الاجمالي بأحد التكليفين : من حرمة الابطال ومن وجوب


(276)
الامتثال التفصيلي ، ولم يعلم تفصيل ما هو الوظيفة في هذا الحال ، ولازم ذلك هو الجمع بين الوظيفتين.
    هذا ، وأقوى الوجوه هو الوجه الثاني : من وجوب قطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي ، لما عرفت : من أن حرمة قطع العمل مشروط بالتمكن من إتمامه بوجه شرعي ، واشتراط الامتثال التفصيلي يقتضي عدم التمكن من إتمام العمل كذلك (1) ولا يعقل إثبات التمكن من إتمامه بحرمة قطع العمل ، لان إمكان الاتمام على الوجه الشرعي اخذ قيدا في موضوع حرمة القطع والحكم لا يتكفل وجود موضوعه ، فلا يمكن إثبات التمكن من الاتمام بنفس الحكم بحرمة قطع العمل ، وذلك واضح.
    هذا ، مع ما في الوجهين الأخيرين من الضعف مالا يخفى. أما في وجه التخيير : فلان الحكم في باب التزاحم وإن كان هو التخيير مع عدم المرجح لأحدهما ، إلا أن ذلك مقصور بالتكاليف الاستقلالية ، وأما القيود والتكاليف الغيرية فلا تصل النوبة فيها إلى التخيير ، لامكان الجمع بين القيدين المتزاحمين ولو بتكرار العمل ، فتأمل.
    وأما الوجه الرابع : فلان الجمع بين الاتمام والإعادة لا أثر له ، بل هو كر على ما فر منه ، إذ لا يمكن الإعادة بداعي الامتثال التفصيلي خصوصا مع تبين مصادفة المأتي به للواقع ، بل غاية ما يمكن هو الإعادة بداعي الاحتمال ،
1 ـ أقول : كما أن حرمة القطع فرع التمكن من الاتمام والحكم لا يحرز موضوعه ، كذلك وجوب الامتثال التفصيلي فرع التمكن من الفحص ، ولا يحصل ذلك إلا بسقوط حرمة القطع ، ولا يسقط ذلك إلا بعدم تمكنه المنوط ببقاء شرطية الامتثال التفصيلي بحاله ، وهو لا يكون إلا بسقوط حرمة القطع ، وحينئذ فوجوب الامتثال التفصيلي أيضا لا يصلح لاحراز شرطه من التمكن على الفحص ، وحينئذ لا محيص من جعل المقام أيضا من باب التزاحم المنتهي إلى التخيير ، كما أفاده آية الله الرشتي ـ أعلى الله مقامه ـ.

(277)
فلا يمكن الجمع بين الوظيفتين.
    ثم إنه لا فرق فيما ذكرناه من الوجوه الأربعة بين كون المسألة التي ابتلي بها في الأثناء مما تعم بها البلوى أولا ، لان تلك الوجوه إنما كانت في الحكم الوضعي : من الصحة والفساد ، ولا أثر لعموم البلوى وعدمه في ذلك ، لأن المفروض أن المكلف قد ابتلي بالمسألة في الأثناء ، فلابد له من علاج الشبهة على كل حال ، كانت المسألة مما تعم به البلوى أو لم تكن.
    نعم : تظهر الثمرة بين عموم البلوى وعدمه في الحكم التكليفي والعقاب ، فإنه يجب تعلم ما تعم به البلوى ، فلو لم يتعلم وخالف عمله الواقع استحق العقاب ، لتنجز الواقع عليه بمجرد الالتفات في المسائل التي تعم بها البلوى ، دون مالا تعم ، كما سيأتي بيانه.
    فما يظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ في المقام : من الميل إلى التفصيل بين ما تعم به البلوى ومالا تعم لا يخلو عن مناقشة. هذا كله فيما يعتبر في العمل بالاحتياط.

    واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي البحث عن جهات ثلاث : الأولى : في اعتبار الفحص وعدمه. الثانية : في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه. الثالثة : في صحة العمل المأتي به قبل الفحص وفساده.

    أما البحث عن الجهة الأولى :
    فحاصله : أنه في الشبهات الموضوعية يجوز الاخذ بالبراءة والعمل على طبقها


(278)
بلا فحص ، وقد ادعي الاجماع على ذلك مضافا إلى إطلاق الأدلة ، وسيأتي أن ذلك على إطلاقه ممنوع.
    وأما في الشبهات الحكمية : فلا يجوز العمل بالبراءة فيها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفها. وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة : من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، وهو العمدة ، لاستقلال العقل باستحقاق عقاب من ترك التعلم مع القدرة عليه بعد الالتفات إلى الشريعة وأن بنائها على تبليغ الاحكام على النحو المتعارف بين العقلاء في تبليغ مقاصدهم ، فمن ترك التعلم والحال هذه كان عند العقل كتارك التكاليف عن عمد وعلم في استحقاق العقاب ، بل وجوب الفحص عن الأحكام الشرعية يكون من صغريات وجوب الفحص عن معجزة من يدعي النبوة بعد التفاته إلى المبدأ الاعلى ، ولا إشكال في استقلال العقل بذلك ، وإلا لزم إفحام الأنبياء ، كما لا يخفى وجهه.
    فما يظهر من بعض الأعاظم : من أن وجوب الفحص عن الاحكام ليس من صغريات وجوب النظر في معجزة من يدعي النبوة ، لا يخلو عن مناقشة. وقد يقرر حكم العقل في المقام بوجه آخر ، وحاصله : أن كل من التفت إلى المبدأ والشريعة يعلم إجمالا بثبوت أحكام فيها ، ومقتضى العلم الاجمالي هو الفحص عن تلك الأحكام.
    وقد نوقش في هذا الوجه :
    أولا : بأنه أخص من المدعى ، فان المدعى هو وجوب الاستعلام عن حكم كل مسألة تعم بها البلوى ، وهذا الوجه إنما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من الاحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ، لانحلال العلم الاجمالي بذلك.
    وثانيا : بأنه أعم من المدعى ، لان المدعى هو الفحص عن الاحكام في


(279)
خصوص ما بأيدينا من الكتب ، والمعلوم بالاجمال معنى أعم من ذلك ، لان متعلق العلم هي الاحكام الثابتة في الشريعة واقعا ، لا خصوص ما بأيدينا ، والفحص فيما بأيدينا من الكتب لا يرفع أثر العلم الاجمالي ، بل العلم باق على حاله ولو بعد الفحص التام عما بأيدينا.
    هذا ، ولا يخفى ما في كلا وجهي المناقشة من الضعف.
    أما في الأول : فلان استعلام مقدار من الاحكام يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، إذ متعلق العلم تارة : يتردد من أول الامر بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بأن في هذا القطيع من الغنم موطوء وتردد بين كونه عشرة أو عشرين. وأخرى : يكون المتعلق عنوانا ليس بنفسه مرددا بين الأقل والأكثر من أول الامر ، بل المعلوم بالاجمال هو العنوان بما له في الواقع من الافراد ، كما لو علم بموطوئية البيض من هذا القطيع وترددت البيض بين كونها عشرا أو عشرين. ففي الأول ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ، كما لو علم تفصيلا بموطوئية هذه العشرة من القطيع. وفي الثاني لا ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه (1) بل لابد من الفحص التام عن كل ما يحتمل انطباق العنوان المعلوم بالاجمال عليه ، لان العلم الاجمالي يوجب تنجيز متعلقه بما له من العنوان ، ففي المثال العلم الاجمالي تعلق بعنوان البيض بما له من الافراد
1 ـ أقول : لو قيل بحرمة شرب الماء من كأس زيد وتردد بين الأقل والأكثر وكذا لو ورد في الخطاب حرمة إكرام العالم السني وتردد السني بين الأقل والأكثر ، فأنشدك بالله ! بأنه مع فرض انحلالية التكليف وتردده بين الأقل والأكثر من يقول بالاحتياط ؟ فما أدري من أين جئ بهذه المصادرات ؟ أما مسألة الطومار في الذهن فإنما هو من جهة أن إطلاق أدلة البراءة بل وحكم العقل بالقبح إنما ينظر إلى صورة كون الجهل من جهة قصور في المحل من حيث عدم تهيئة أسباب العلم قبل الفحص ، فلا يشمل ما كان أسباب العلم موجودا وإنما الجهل من جهة عدم نظره إلى الأسباب باختياره.

(280)
في الواقع ، فكل ما كان من أفراد البيض واقعا قد تنجز التكليف به ، ولازم ذلك هو الاجتناب عن كل ما يحتمل كونه من أفراد البيض ، والعلم التفصيلي بموطوئية عدة من البيض يحتمل انحصار البيض فيه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، لان المعلوم بالاجمال في المقام هي الاحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب ، فقد تنجزت جميع الأحكام المثبتة في الكتب ، ولازم ذلك هو الفحص التام عن جميع الكتب التي بأيدينا (1) ولا ينحل العلم الاجمالي باستعلام جملة من الاحكام يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها ، ألا ترى أنه ليس للمكلف الاخذ بالأقل لو علم باشتغال ذمته لزيد بما في الطومار وتردد ما في الطومار بين الأقل والأكثر ، بل لابد له من الفحص التام في جميع صفحات الطومار ، كما عليه بناء العرف والعقلاء ، وما نحن فيه يكون بعينه من هذا القبيل.
    وأما في الوجه الثاني : فلانه وإن علم إجمالا بوجود أحكام في الشريعة أعم مما بأيدينا من الكتب ، إلا أنه يعلم إجمالا أيضا بأن فيما بأيدينا من الكتب أدلة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحل العلم الاجمالي العام بالعلم الاجمالي الخاص ويرتفع الاشكال بحذافيره ويتم الاستدلال بالعلم الاجمالي لوجوب الفحص ، فتأمل جيدا. هذا كله في أصل اعتبار الفحص.

    الجهة الثانية :
    في استحقاق التارك للفحص العقاب وعدمه. والأقوال في ذلك ثلاثة :
1 ـ أقول : لازم ما أفيد وجوب الفحص التام إلى أن يحصل القطع بالعدم ، وإلا مجرد الفحص عن الحكم بمقدار يوجب الاطمينان بالعدم وخروج المورد عن معرضية الوجود لا يكفي لنفي العقوبة عن المحتمل الضعيف ولو في غاية الضعف ، مع أنه ليس بنائهم في وجوب الفحص بأزيد من هذا المقدار ، كما لا يخفى.

(281)
    أحدها ـ ما نسب إلى المدارك : من استحقاقه للعقاب مطلقا ، سواء صادف عمله للواقع أو لم يصادف.
    ثانيها ـ ما نسب إلى المشهور : من عدم استحقاقه للعقاب ، وإنما العقاب على مخالفة الواقع.
    ثالثها ـ ما اختاره شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ من استحقاقه للعقاب ، لكن لا مطلقا ، بل عند أدائه إلى مخالفة الواقع.
    والفرق بين هذا وسابقه ، هو أن في الأخير يكون العقاب على نفس ترك التعلم عند مخالفة العمل للواقع ، وفي سابقه يكون على نفس مخالفة الواقع لا على ترك التعلم. والظاهر أن البحث بين أرباب القولين الأخيرين علمي لا يترتب عليه أثر عملي.
    ثم إن هذه الأقوال الثلاثة تأتي أيضا في التارك للاحتياط في موارد وجوبه. ومبنى الأقوال ، هو أن وجوب التعلم والاحتياط نفسي أو طريقي ؟ فعلى الأول : يكون العقاب على نفس ترك التعلم والاحتياط. وعلى الثاني : يكون على ترك الواقع أو ترك التعلم والاحتياط المؤدي إلى ترك الواقع.
    وينبغي أولا أن يعلم : أن مناط وجوب التعلم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها ، ولا يقاس أحدهما بالآخر ، وإن كان يظهر من كلام الشيخ ـ قدس سره ـ في المقام الخلط بين البابين ، حيث قاس وجوب التعلم على وجوب السير إلى الحج عند توجيه كلام المدارك.
    ولكن الظاهر : أن بين البابين فرق (1) فان القدرة مما يتوقف عليها فعل
1 ـ أقول : في كثير من المقامات يوجب ترك الفحص الغفلة عن العمل في مورد ابتلائه ، ففي هذه المقامات يكون من باب تفويت القدرة ، كما أنه لو أوجب ترك فحصه الابتلاء بين المحذورين ، فحين الابتلاء أيضا يصدق عدم قدرته على تحصيل الجزم بالامتثال ، بل وعلى مختاره في العبادات : من اعتبار الامتثال التفصيلي ، فهو منوط بالفحص ، بحيث تركه يوجب تفويت قدرته على تحصيل القيد المزبور ،

(282)
المأمور به خارجا ومن المقدمات الوجودية له ، ولا يتمكن المكلف من فعل الواجب عند تفويت القدرة ، فان ترك الغسل للصوم قبل الفجر أو السير للحج عند خروج الرفقة أو الطهارة للصلاة قبل الوقت يوجب عدم التمكن من إيجاد الصوم والحج والصلاة المأمور بها ويتحقق عصيان خطاب ذي المقدمة بمجرد ترك هذه المقدمات الوجودية ويستحق التارك العقاب على تفويت الواجب من زمان ترك المقدمة ، إذ بتركها يفوت الواجب لا محالة ويمتنع عليه بالاختيار ويصدق أنه فات منه الواجب ، وإن كان بعد لم يتحقق زمانه لكونه مشروطا بزمان متأخر ، ولا يكون وجوب المقدمات المفوتة مقدميا مترشحا من وجوب ذي المقدمة حتى يتوقف ذلك على الالتزام بالواجب المعلق ـ كما يظهر من بعض ـ بل وجوب المقدمات المفوتة قبل مجيء زمان الواجب إنما يكون بخطاب مستقل ، ولكن لا عن ملاك يخصه ، بل من متممات الخطاب بذي المقدمة ، على ما بين المقدمات من الاختلاف.
    فان إيجاب الغسل للصوم قبل الفجر إنما هو لأجل عدم إمكان تطبيق الخطاب بالصوم على الواجد للملاك إلا بايجابه قبل الفجر ، إذ المفروض : أن للطهارة من الحدث الأكبر دخل في صحة الصوم والملاك الذي اقتضى إيجابه ، وليس الصوم إلا عبارة عن الامساك من الطلوع إلى الغروب واجدا للشرائط ، فلابد من إيجاب الغسل قبل الفجر ، ليكون الخطاب بالصوم بضميمة الخطاب بالغسل منطبقا على الواجد للملاك ، فوزان الخطاب المتعلق بالغسل قبل الفجر
وحينئذ كيف لا يكون وجوب الفحص في هذه المقامات بمناط آخر ؟ وأما في غير هذه المقامات مع التمكن من الاحتياط في الواجبات التوصلية لا دليل على وجوب الفحص ، بل العقل مستقل بجواز تركه والاخذ بالاحتياط ، وحينئذ صح لنا دعوى أن مناط تفويت القدرة جار في موارد وجوب الفحص ، كما لا يخفى. نعم : لنا أن نقول : إن وجوب الفحص في الأخذ بأدلة الاحكام أو أصولها النافية شرطي لا نفسي ولا مقدمي ولا طريقي ، كما سيجيء ( إن شاء الله تعالى ).

(283)
وزان الخطابات بأجزاء العبادة وشرائطها ليس خطابا طريقيا بل متمم للخطاب بذي المقدمة ، وحاله ـ من هذه الجهة ـ حال الخطاب المتعلق بقصد التقرب والامتثال ونحو ذلك من الانقسامات اللاحقة للامر التي لا يمكن أخذها في متعلق الامر.
    وأما إيجاب السير للحج قبل الموسم : فإنما هو لأجل عدم إمكان استيفاء الملاك إلا بايجاب السير قبل الموسم ، من دون أن يكون للسير دخل في الملاك أصلا ، بل الخطاب بالحج بلا ضميمة إيجاب السير يكون منطبقا على الواجد للملاك ، إلا أن استيفاء الملاك يتوقف على إيجاب السير قبل الموسم ، لاستحالة فعل الحج في موسمه للبعيد بدون إيجاب السير ، والمفروض : أن نفس خطاب الحج لا يقتضي إيجابه ، لكونه مشروطا ، فلابد من إيجاب السير بخطاب مستقل ليمكن استيفاء الملاك من خطاب الحج بضميمة هذا الخطاب.
    وأما وجوب حفظ الطهارة للصلاة قبل الوقت : فهو تابع لقيام الدليل عليه من عقل أو شرع ، ونفس الخطاب بالصلاة في الوقت لا يقتضي ذلك. والتقريب الذي ذكرناه في إيجاب السير للحج لا يتمشى هنا ، لأن المفروض في باب الحج وجوبه على النائي مع استحالة إيجاده في الموسم بدون السير ، وفي باب الصلاة ليس كذلك ، لامكان القول بعدم وجوب الصلاة مع الطهارة على من لم يتمكن من فعل الطهارة في الوقت ، ولا موجب لوجوب حفظ الطهارة قبل الوقت بعد ما كان للوقت دخل في الملاك ، فايجاب الطهارة قبل الوقت يحتاج إلى قيام الدليل ، وبعد قيام الدليل عليه يكون حاله حال وحوب السير ، والغسل ليس خطابه طريقيا ، بل لمكان توقف الواجب خارجا عليه.
    وهذا بخلاف التعلم والاحتياط ، فإنه لا يتوقف فعل الواجبات وترك المحرمات عليهما ، إذ ليس للعلم دخل في القدرة ليكون حاله حال المقدمات المفوتة ، وليس لهما دخل في الملاك أيضا ، فلا يكون لايجاب التعلم والاحتياط


(284)
شائبة النفسية والاستقلالية ، بل الغرض من إيجاب التعلم مجرد الوصول إلى الاحكام والعمل على طبقها ، ومن إيجاب الاحتياط التحرز عن مخالفة الواقع ، من دون أن يكون للتعلم والاحتياط جهة موجبة لحسنهما الذاتي المستتبع للخطاب المولوي النفسي ، بل الخطاب المتعلق بهما يكون لمحض الطريقية ، ووجوبهما يكون للغير لا نفسيا ولا بالغير (1).
    فان قلت : الوجوب للغير لا ينافي الوجوب النفسي ، فان غالب الواجبات النفسية يكون وجوبها للغير بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.
    قلت : الغير الذي يجب الشيء لأجله يختلف ، فتارة : يكون هو ملاكات الاحكام التي اقتضت وجوب الشيء ، وأخرى : يكون هو الخطابات الواقعية. ففي الأول : لا يدور وجوب الشيء مدار وجود الملاك ، بل الملاك يكون حكمة لتشريع وجوب الشيء ، كاختلاط المياه في وجوب العدة على النساء.
    وفي الثاني : يدور وجوب الشيء مدار وجود الخطاب الواقعي ويكون علة للحكم لا حكمة للتشريع ، كوجوب ذي المقدمة بالنسبة إلى وجوب المقدمة ، فان وجوبها يدور مدار وجوب ذيها.
    والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلم والاحتياط تكون كوجوب
1 ـ أقول : إذا لم يكن العلم المزبور إلا دخيلا في تحصيل الجزم بالامتثال لا نفسه ، فلا يكون إلا واجبا عقليا محضا ، وذلك أيضا كان تخييريا بينه وبين الاحتياط ، كما في التوصليات بمختاره ، ومرجعه إلى حكم العقل بالبرائة اليقينية عند الاشتغال بحكم ، وهو لا يحصل إلا بالاحتياط أو الفحص ، بل ولئن دققت النظر ترى حكم العقل بتحصيل الجزم المزبور أيضا إرشاديا إلى الفرار عن العقوبة المحتملة مهما أمكن ، لا نفسيا ولا طريقيا. نعم : بالنسبة إلى العمل بأدلة الاحكام أو أصولها النافية شرطي من جهة عدم حجيتها قبل الفحص ، فالفحص شرط لحجية الأدلة ، كما لا يخفى. ومن هنا ظهر أن العقاب أيضا لا يترتب إلا على نفس الواقع بلا دخل للعلم فيه ، ولعمري ! ان ما اختاره أردء المذاهب. نعم : في مورد كان للعلم دخل في القدرة ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ كان حال التعلم حال المقدمات المفوتة ، كما أشرنا ، فتدبر.

(285)
ذي المقدمة علة للحكم لا حكمة للتشريع ، فوجوب التعلم والاحتياط يكون من هذه الجهة كوجوب المقدمة ، وإن كان يفترق من جهة أخرى وهي : أن وجوب المقدمة يترشح من وجوب ذيها ، بخلاف وجوب التعلم والاحتياط ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في مبحث الظن.
    وبما ذكرنا ظهر ضعف ما ينسب إلى المدارك : من كون العقاب على نفس ترك التعلم ، فان المستتبع للعقاب إنما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي. ويتلو ذلك في الضعف ما ينسب إلى المشهور : من كون العقاب على ترك الواقع لا على ترك التعلم ، فان العقاب على الواقع المجهول قبيح وإيجاب التعلم لا يخرجه عن الجهالة.
    فالأقوى : أن يكون العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواقع ، لا على ترك التعلم وإن لم يؤد إلى ذلك لينافي وجوبه الطريقي ، ولا على ترك الواقع لينافي جهالته ، فتأمل جيدا.

    الجهة الثالثة :
    في صحة العمل المأتي به في حال الجهل وفساده.
    ومقتضى أصول المخطئة أن يكون المدار في الصحة والفساد على موافقة العمل للواقع ومخالفته ، لا على موافقته للطريق المنصوب ومخالفته.
    وعلى هذا لو وافق عمل الجاهل التارك للفحص للواقع كان مجزيا ، ويترتب عليه الأثر المقصود منه ، سواء في ذلك العبادات والمعاملات وإن خالف الطريق المنصوب.
    ولو خالف عمله للواقع لم يجز ولا يترتب عليه الأثر المقصود منه وإن وافق الطريق المنصوب ، غايته أنه لو أوقع العمل عن استناد إلى الطريق كان معذورا ما دام الطريق قائما عنده ، ولا يكفي في المعذورية مجرد
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس