فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 286 ـ 300
(286)
الموافقة للطريق بلا استناد إليه إذا كان الجهل عن تقصير (1).
    ويترتب على ما ذكرنا : أنه لو عمل الجاهل عملا ثم بنى على التقليد أو الاجتهاد ، فان وافق عمله رأي من يجب عليه تقليده فعلا أو وافق اجتهاده الفعلي كان عمله مجزيا وتبرء ذمته ولو خالف رأي من كان يجب عليه تقليده حال العمل ، وإن انعكس الفرض وكان عمله مخالفا لرأي من يجب تقليده فعلا وموافقا لرأي من كان يجب تقليده حال العمل لم يجز ولزمه الإعادة والقضاء ، لان اعتبار الظن الاجتهادي أو قول المقلد إنما هو لمحض الطريقية والكاشفية من دون أن يكون فيه شائبة السببية والموضوعية. ومن المعلوم : أن الطريق إنما هو يقتضي المعذورية إذا وقع العمل عن استناد واعتماد إليه ، ولا يكفي مجرد موافقة العمل للطريق وإن لم يكن عن استناد إليه. فلا عبرة بموافقة العمل الصادر حال الجهل لفتوى من كان يجب عليه تقليده في ذلك الحال بعد عدم وقوعه عن استناد واعتماد على ذلك ، وكما لا عبرة بموافقته لذلك لا عبرة بمخالفته أيضا ، بل العبرة بالموافقة والمخالفة إنما هو على الطريق الذي يستند إليه فعلا ، سواء في ذلك الظن الاجتهادي أو فتوى الغير ، فتأمل جيدا.
    هذا حكم الجاهل العامل قبل التقليد والاجتهاد. وكذا الكلام في حكم المقلد أو المجتهد الذي تبدل تقليده أو اجتهاده إلى الخلاف ، فان القاعدة الأولية
1 ـ أقول : بل ومع الاستناد إليه قبل الفحص عن معارضاته وسائر جهاته تقصيرا. نعم : في مقام الاجزاء وعدم الإعادة يكفي موافقة عمله للطريق المعلوم حجيته في حقه حين العمل وإن لم يكن عن استناد إليه ، إذ يكفي في عدم الإعادة وصول الطريق إليه بعد عمله ، لمكان الامر بالمعاملة معه معاملة الواقع بلحاظ الأثر الفعلي من حيث الإعادة والقضاء ، كما أنه لو انكشف الخلاف ولو لقيام طريق أقوى عن الطريق السابق يجب إعادة ما عمل على طبق الطريق الفعلي وإن كان عمله السابق عن استناد على الطريق السابق حين عمله ، وحينئذ فقضية الاستناد بالطريق حين العمل في مقام الاجتزاء به وعدمه ملقى بالمرة.

(287)
تقتضي إعادة كل عمل خالف تقليده اللاحق أو اجتهاده ، لان التقليد والاجتهاد السابق كان طريقا وقد انكشف خلافه حسب ما أدى إليه تقليده اللاحق أو اجتهاده ، غايته أنه كان معذورا قبل انكشاف الخلاف ، فلابد من العمل على ما يقتضيه التقليد والاجتهاد اللاحق.
    هذا ، ولكن قد حكي الاجماع (1) على الاجزاء وعدم الإعادة والقضاء في خصوص العبادات. وأما المعاملات بالمعنى الأعم فلم ينقل الاجماع فيها على الاجزاء والصحة ، وقد عرفت : أن القاعدة تقتضي الفساد.
    ويترتب على ذلك وجوب تجديد العقد على المرأة المعقودة بالفارسية باعتقاد الصحة تقليدا أو اجتهادا ثم قلد من يقول بفساد العقد بالفارسية أو تبدل اجتهاده إلى ذلك. وكذا الكلام فيمن كان اعتقاده تقليدا أو اجتهادا حلية الذبيحة بفري الودجين ثم تبدل تقليده أو اجتهاده إلى وجوب فري الأربع ، فإنه يجب مع بقاء الذبيحة ترتيب آثار الميتة عليها : من النجاسة وحرمة الاكل والبيع ووجوب الاجتناب عن ملاقيها ورد ثمنها إلى المشتري ، لأنه ثمن ميتة فلا يحل له أكله ، وهكذا ما يترتب على الميتة من الاحكام. وقد توقف شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ في بعض الفروع والاحكام. ولكن القاعدة تقتضي ما ذكرناه ، إلا أن يقوم دليل على الخلاف.

    بقي التنبيه على أمور :
ـ الأول ـ
    لا إشكال في أن التارك للفحص يستحق العقوبة إن خالف عمله لكل
1 ـ لم أعثر على حكاية الاجماع ولابد من التتبع التام ( منه ).

(288)
من الواقع والطريق المنصوب إليه الموجود فيما بأيدينا من الكتب بحيث لو تفحص لعثر عليه ، كما لا إشكال في عدم استحقاقه للعقوبة إن وافق عمله لكل من الواقع والطريق المنصوب إليه كذلك. وأما لو خالف العمل لأحدهما ووافق الآخر ، ففي استحقاقه للعقوبة وجهان : أقواهما استحقاقه للعقوبة لو خالف الواقع وإن وافق الطريق ، وعدم استحقاقه لها لو وافق الواقع وإن خالف الطريق.
    أما في الصورة الأولى : فلانه قد ارتكب الحرام الواقعي بلا مؤمن عقلي أو شرعي ، ولا أثر لموافقة العمل للطريق مع عدم العلم به والاستناد إليه والاعتماد عليه ، لما تقدم : من أن مجرد مطابقة العمل للطريق لا يوجب العذر ، بل الموجب له هو الاخذ به والاستناد إليه.
    وأما في الصورة الثانية : فلانه لم يرتكب الحرام الواقعي ، ولا أثر لمخالفة العمل للطريق بعد ما كان اعتبار الطريق لمحض الكاشفية من دون أن يوجب تقييد الواقع وصرفه إلى مؤداه ، فلا موجب لاستحقاقه العقوبة.
    فان قلت : أليس قد فاتت منه المصلحة السلوكية القائمة بالطريق ؟ إذ لو تفحص لعثر على الطريق وكان في سلوكه مصلحة لازمة الاستيفاء ، فبتركه للفحص فاتت منه تلك المصلحة ويستحق العقوبة لذلك.
    قلت : قوام المصلحة السلوكية بالسلوك الموقوف على العلم بالطريق والعمل على طبقه ، إذ ليس في نفس جعل الطريق مصلحة لازمة الاستيفاء ، بل المصلحة في سلوك الطريق ، ومع عدم العلم بالطريق والعمل به لا سلوك ولا مصلحة حتى يلزم من ترك الفحص تفويتها (1) وذلك واضح. هذا كله إذا
1 ـ أقول : والأولى أن يقال : إن المصلحة السلوكية منوطة بوصول الطريق ، وقبل وصوله لا مصلحة في السلوك ، كيف ! ويستحيل أن يكون هذه المصلحة أيضا في اقتضائه الامر به منوطا بالعمل وبوجوده ، كما هو الشأن في سائر المصالح ، بل الأولى منع المصلحة حتى في سلوك الطريق ، بل المصلحة في أوامر الطرق ليس إلا في نفس الامر الكاشف عن الترخيص على خلاف المرام عند المخالفة وموجب

(289)
كان فيما بأيدينا من الكتب طريق موافق أو مخالف.
    وأما لو ترك الفحص وخالف عمله الواقع ولم يكن عليه طريق منصوب يمكن العثور عليه بالفحص لا موافق ولا مخالف ، في استحقاقه للعقاب إشكال ، من مخالفة العمل للواقع ، ومن قبح العقاب على ما لايمكن الوصول إليه ولا إلى طريقه. والأقوى استحقاقه للعقاب ، لان العلم الاجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة يوجب تنجز تلك الأحكام على ما هي عليها ، إلا أن ينحل العلم الاجمالي بالفحص والعلم بمقدار من الاحكام يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليه ، ومع الفحص يلزمه الاحتياط بفعل كل ما يحتمل وجوبه وترك كل ما يحتمل حرمته ، فلا قبح في عقاب التارك للاحتياط والفحص معا ، فتأمل.
    فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن العقاب وعدمه يدور مدار مخالفة الواقع وموافقته ، لا مخالفة الطريق وموافقته ، ولا مخالفة أحد ما وموافقته ، وبذلك يظهر ضعف الوجوه التي ذكرها الشيخ ـ قدس سره ـ في المقام ، فراجع.

    قد تبين مما سبق الملازمة بين استحقاق العقاب وبطلان العمل ، وكذا الملازمة بين صحة العمل وعدم استحقاق العقاب ، بناء على ما هو المشهور والمختار : من أن ترك التعلم بما هو لا يوجب العقوبة. وقد استثنى الأصحاب من هذه الملازمة موردين ، وأجمعوا فيهما على صحة العمل المأتي به حال الجهل مع استحقاق الجاهل للعقاب.
    أحدهما : الجهر بالقراء في موضوع وجوب الاخفات وبالعكس جهلا بالحكم.
لايصال المرام إليه عند الموافقة.

(290)
    ثانيهما : الاتمام في موضع وجوب القصر ولا عكس ، إلا عن بعض في بعض الفروض ، وهو ما إذا قصر المقيم بتخيل أن حكمه حكم المسافر لجهله بالحكم. فقد أفتى بعض الأصحاب بصحة الصلاة تمسكا برواية صحيحة دلت على ذلك (1). ولكن المحكي عن المشهور عدم العمل بالرواية والاعراض عنها ، وذهبوا إلى بطلان الصلاة في الفرض كسائر صور القصر في موضع التمام. والمتسالم عليه بينهم في الصحة هو الاتمام في موضع القصر. فالمتيقن خروجه عن الملازمة المذكورة هو الجهر في موضع الاخفات وبالعكس والاتمام في موضع القصر دون العكس ، وقد تظافرت الأدلة على الصحة في الموردين وأجمع الأصحاب على ذلك مع استحقاق العقوبة إذا كان الجهل عن تقصير.
    ولأجل ذلك وقع الاشكال في تصوير الجمع بين الصحة واستحقاق العقاب ، لان لازم الصحة هو أن يكون العمل المأتي به في حال الجهل مأمورا به ، إذ معنى الصحة هي موافقة الامر ، ولازم استحقاق العقاب هو عدم الامر به وكون المأمور به هو العمل الذي تركه المكلف في حال الجهل ، فيلزم الامر بالضدين في ذلك الحال.
    هذا ، وقد تفصي عن الاشكال بوجوه :
    منها : ما أفاده المحقق الخراساني ـ قدس سره ـ وحاصله : منع الملازمة بين صحة العمل والامر به ، بل القدر اللازم في صحة العمل هو أن يكون العمل واجدا لمقدار من المصلحة لازمة الاستيفاء في حال الجهل ، ولا يلزم من ذلك الامر بالعمل المأتي به في ذلك الحال ، لان ضد المأتي به ـ من الاخفات أو الجهر أو القصر ـ واجد للمصلحة الأكمل والغرض الأهم ، ولازم ذلك هو صحة
1 ـ الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر الحديث 3.

(291)
الجهر في موضع الاخفات عند الجهل بالحكم واستحقاق العقاب على ترك الاخفات. أما الصحة : فلاشتمال الجهر في ذلك الحال على مقدار من المصلحة لازمة الاستيفاء في حد نفسها. وأما استحقاق العقاب : فلتفويته المصلحة الأكمل والغرض الأهم القائم بالاخفات ، ولا يلزم أن يكون العمل المأتي به في حال الجهل واجدا للمصلحة في غير ذلك الحال ليلزم صحة العمل عند العلم بالحكم أيضا ، لامكان أن تكون لصفة الجهل بالحكم دخل في المصلحة ، كما لا يلزم وجوب العمل الواجد للمصلحة الأكمل عند زوال صفة الجهل ، لامكان عدم اجتماعها مع تلك المصلحة المستوفاة في حال الجهل.
    هذا ، ولا يخفى عليك ما في هذا الوجه من الضعف (1) فان الخصوصية
1 ـ أقول : ملخص توضيح ما أفاده : هو أنه من الممكن قيام المصلحة التامة بما هو واجب واقعا وقيام مرتبة منها في ظرف المخالفة عن جهل بالفاقد عن الخصوصية الواقعية من حيث الجهرية والاخفاتية ، وكانت هذه المرتبة بنحو لو استوفت لا يبقى المجال لتحصيل المرتبة الكاملة اللازمة تحصيلها ، وحينئذ يصح المأتي به لوفائه بمرتبة من المصلحة الملزمة الموجب لتوجه مرتبة من الامر بالجامع بين الفردين ، وحينئذ فصح كون المأتي به في حال الجهل مأمورا به أيضا ، ويستحق العقوبة أيضا من جهة تفويته المرتبة الأخرى اللازمة تحصيلها.
    وتوهم : أن الجهرية مثلا إن كان دخيلا في المصلحة فلا معنى لحصولها بالفاقد وإن لم يكن دخيلا فيها فلا معنى للعقوبة ، مدفوع بأنه له دخل في كمال المصلحة لا في نفسها ولو بمرتبة منها ولذا يحصل بالفاقد ويستحق العقوبة على تفويت الزائد.
    ولئن قلت : لازم عدم دخله في هذه المرتبة حصولها بالفاقد حتى في حال العلم أيضا ، لاستحالة صيرورة العلم بالشئ موجبا لانقلابه عما هو عليه ، كما سيجيء توضيحه أيضا.
    قلت : ما أفيد صحيح لو كانت فردية الفاقد غير مختص بحال الجهل ، وإلا فيستحيل تحقق المصلحة ولو بمرتبة منه بغير الواجد ، لانحصار الفرد في حال العلم به. ومن التأمل فيما ذكرنا ترى فيما أفيد مواقع النظر :
    منها : قوله « إن الخصوصية الزائدة الخ » إذ لنا دعوى دخلها ، ومع ذلك استيفاء مرتبة منه مفوت لها. ومنها : قوله « فان القدرة على الصلاة الخ » فان الملازمة بين القدرة على صورة الصلاة والقدرة على


(292)
الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتي به في حال الجهل إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب ، فلا يعقل سقوطه بالفاقد لتلك الخصوصية ، خصوصا مع إمكان استيفاء تلك الخصوصية في الوقت ، كما لو علم بالحكم في الوقت.
    ودعوى : عدم إمكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء لان استيفاء إحداهما يوجب سلب القدرة عن استيفاء الأخرى ، واضحة الفساد ، فان القدرة على الصلاة المقصورة القائمة بها المصلحة الكاملة حاصلة ، ولا يعتبر في استيفاء المصلحة سوى القدرة على متعلقها ، إلا إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطا بعدم سبق الصلاة التامة من المكلف ، وهذا خلف ، إذ يلزم من ذلك خلو الصلاة المقصورة عن المصلحة في حال الجهل ، فلا موجب لاستحقاق العقاب.
    هذا إذا كان للخصوصية الزائدة دخل في الواجب وبها قوامه. وإن لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام ، غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير لاشتماله على الخصوصية الزائدة ، ولا وجه لاستحقاق العقاب. هذا كله ، مضافا إلى أن الظاهر من أدلة الباب كون المأتي به في حال الجهل مأمورا به ، فراجع أدلة الباب.
    ومنها : ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ من الالتزام تارة : بعدم تعلق الامر بالصلاة المقصورة عند الجهل بالحكم والعقاب إنما يكون على ترك التعلم. وأخرى : بعدم تعلق الامر بالمأتي به في حال الجهل ، بل هو مسقط للواجب ، والمأمور به إنما هو الصلاة المقصورة ، والعقاب يكون على ترك المأمور به.
    وهذا الوجه يتلو سابقه في الضعف ، بل الوجه الأخير منه يرجع إلى الوجه
استيفاء مصلحته ليس إلا المصادرة. ومنها : قوله « إلا إذا كان مصلحته الخ » فان المشروط بعدم السبق القدرة على استيفائها ، لا أصل اتصافها بكونها مصلحة ، ولزوم التالي الفاسد على الثاني لا الأول ، وكان المقام من قبيل تفويت شرط الواجب ، لا الوجوب ، فتدبر.

(293)
السابق الذي تقدم الجواب عنه. وقد اعترف ـ قدس سره ـ بأن ذلك خلاف ظاهر الأدلة وكلمات الأصحاب.
    ومنها : ما أفاده الشيخ الكبير ـ قدس سره ـ في مقدمات كتابه : من الالتزام بالامر الترتبي وكون الواجب على المكلف أولا هو القصر ، وعند العصيان وترك الصلاة المقصورة ولو لجهله بالحكم يجب عليه الاتمام ، كما هو الشأن في جميع موارد الامر الترتبي في الضدين ، حيث يكون الامر بأحدهما مشروطا بعصيان الآخر.
    هذا ، وفيه : أن المقام أجنبي عن الخطاب الترتبي ولا يندرج في ذلك الباب ، لأنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون كل من متعلق الخطابين واجدا لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك ، ويكون المانع عن تعلق الامر بكل منهما هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين في الامتثال لما بين المتعلقين من التضاد ، والمقام لا يكون من هذا القبيل ، لعدم ثبوت الملاك في كل من القصر والتمام ، وإلا لتعلق الامر بكل منهما لامكان الجمع بينهما ، وليسا كالضدين اللذين لا يمكن الجمع بينهما ، فعدم تعلق الامر بكل منهما يكون كاشفا قطعيا عن عدم قيام الملاك فيهما. هذا مع أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطا بعصيان خطاب الأهم ، وفي المقام لا يمكن ذلك ، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان « العاصي » فإنه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم ، ولو التفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل ولا تصح منه الصلاة التامة ، فلا يندرج المقام في صغرى الترتب. والشيخ ـ قدس سره ـ كأنه سلم اندراج المقام في صغرى الترتب ومنع عن الكبرى ، حيث قال : « وفيه إنا لا نعقل الترتب » ولكن الحق منع الصغرى وتسليم الكبرى (1) كما أوضحناه في محله.
1 ـ أقول : لا نعني من الترتب الذي هو معركة الآراء إلا اجتماع الامر المطلق بشيء والمشروط

(294)
    ومنها : ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ بما حاصله : أن الاشكال إنما وقع في مسائل ثلاث :
    الأولى : الجهر بالقراءة في موضع وجوب الاخفات وبالعكس. الثانية : القصر في موضع وجوب التمام ، بناء على القول بالصحة فيه وإن كان خلاف المشهور والمختار ، كما تقدم. الثالثة : الاتمام في موضع وجوب القصر.
    وينبغي إفراد كل مسألة من هذه المسائل الثلاث بالجواب عن الاشكال ، إذ لعله يختلف طريق التخلص عن الاشكال حسب اختلاف المسائل. وليعلم أولا : أن الاشكال إنما كان مبنيا على تسليم مقدمتين :
    الأولى : أن يكون العمل المأتي به حال الجهل مأمورا به ، كما يستكشف ذلك من أدلة صحة العمل والاجتزاء به ولو بعد زوال صفة الجهل وبقاء الوقت.
    الثانية : استحقاق الجاهل العامل للعقاب وأن استحقاقه له لأجل تفويت ما كان واجبا عليه في حال الجهل.
    ومع المنع عن إحدى المقدمتين يرتفع الاشكال من البين ـ كما لا يخفى ـ والمقدمة الأولى مسلمة لا سبيل للمنع عنها ، إذ لا ينبغي الاشكال في استكشاف
بمخالفة شيء آخر في زمان واحد ، من دون فرق بين أن يكون طولية الأمرين من جهة طولية المصلحتين ـ كما في المقام ـ أو من جهة طولية القدرة على الاستيفاء بلا طولية مصلحتها ، وتخصيص البحث بالثانية غير وجيه ، وليس إلا مجرد المصادرة ، وحينئذ عمدة الكلام في المقام أيضا في كبرى الترتب لا في صغراه. ومن الممكن دعوى آخر في المقام : من جعل المقام من باب طولية الفردين لا المصلحتين أيضا وأن المصلحة بمرتبة منها قائمة بالجامع وبمرتبة أخرى قائمة بالخصوصية وأن المقام من باب تعدد المطلوب ، غاية الامر الاتيان بالفاقد مفوت للزائد ، وانحصار الفرد لهذه المرتبة الجامعة أيضا في حال العلم ، لا اختصاص فردية الفاقد بحال الجهل ، وفي هذه الصورة أيضا ربما يتشكل الأمران الطوليان : مطلقا بالفرد الواقعي ومقيدا بتركه بالفرد حين الجهل. ولا يعقل في هذه الصورة أيضا تشكيل أمرين عرضيين متعلق بالفرد وبالجامع الساري في غيره فعلا ، كي يكون من باب تعدد المطلوب الخارج عن حريم النزاع ، فتأمل.

(295)
تعلق الامر بالعمل من أدلة الصحة.
    وأما المقدمة الثانية : فللمنع عنها مجال ، إذ استحقاق العقاب وعدمه ليس من المسائل الفقهية الشرعية التي ينعقد عليها الاجماع ، وليس في أدلة الباب ما يدل على العقاب ، مع أنه لو سلم انعقاد الاجماع على استحقاق العقاب ، ففي اعتبار مثل هذا الاجماع إشكال ، خصوصا إذا كان من المجمعين من يرى العقاب على نفس ترك التعلم لا على مخالفة الواقع ويذهب إلى استحقاق المتجري للعقاب.
    وبالجملة : مجال المنع عن المقدمة الثانية واسع ، ومعه لا يبقى إشكال في المقام حتى نحتاج إلى التخلص عنه ، ولكن حيث كان مبنى الاشكال على تسليم المقدمتين ، فينبغي التخلص عن الاشكال بعد فرض صحتهما.
    فنقول :
    أما في مسألة الجهر بالقراءة في موضع وجوب الاخفات وبالعكس : فيمكن أن يكون الواجب على عامة المكلفين هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات ، سواء في ذلك العالم والجاهل ، ويكون الجهر والاخفات بالقراءة في موارد وجوبهما واجبان مستقلا نفسيان في الصلاة ، فيكون المجعول جزء للصلاة أولا وبالذات هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات ، من دون أن يكون لأحدهما دخل في حصول الجزء الصلاتي ، بل الصلاة تكون ظرفا لامتثالهما ـ كسائر موارد وجوب الشيء في ظرف واجب آخر ـ ولكن وجوبهما الاستقلالي عند العلم به ينقلب إلى وجوب الغيري ويصير قيدا للصلاة ، ولا مانع من أن تكون صفة العلم موجبة لتبدل صفة الوجوب من النفسية إلى الغيرية ومن الاستقلالية إلى القيدية ، فيرتفع الاشكال بحذافيره ، لان العقاب إنما يكون على ترك الواجب النفسي في حال الجهل مع كون المأتي به هو المأمور به في ذلك الحال ، لأن المفروض : أن المأمور به هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات وقد اتي به ،


(296)
ولا يلزم من ذلك صحة العمل عند زوال صفة الجهل ، لما عرفت : من أنه بالعلم يتبدل الاستقلالي النفسي إلى الغيري القيدي ، فيصح العمل من الجاهل ولا يصح من العالم.
    وتوهم : أنه كيف يمكن تبدل وصف الاستقلالية إلى الغيرية مع وضوح التنافي بين الوصفين فاسد ، فان التنافي بينهما يمنع عن اجتماعهما في محل واحد ، وليس المدعى هذا ، بل المدعى أن زوال صفة الجهل بالحكم يوجب زوال وصف الاستقلالية عن وجوب الجهر أو الاخفات والتلبس بوصف الغيرية ، هذا مع بقاء ملاك الاستقلالية ، لان التنافي إنما هو بين وصف الاستقلالية والغيرية ، لا بين الملاكين.
    والحاصل : أن وصف الاستقلالية والغيرية كوصف الوجوب والاستحباب مما لا يمكن أن يجتمعا ، لتنافيهما ذاتا ، إلا أنه يمكن أن يطرء على الاستقلالية ملاك الغيرية ، فيكون الشيء واجبا بالغير بعدما كان واجبا بالاستقلال ، وتندك جهة الاستقلالية في الجهة الغيرية (1) كما تندك جهة الاستحباب في جهة الوجوب.
1 ـ أقول : الوجوب الذي تعلق به العلم قهرا يكون في الرتبة السابقة عن العلم ، فكيف يعقل اندكاكه بما يتحصل في الرتبة اللاحقة ؟ بل لا محيص من وجود كل منهما في رتبة نفسه ، ويستحيل صيرورة العلم بالشئ للانقلاب عما هو عليه في مرتبة وجوده ، غاية الامر أمكن أن يحدث العلم وجودا آخر في الرتبة المتأخرة عن نفسه ، فلا جرم يبقى المعلوم في رتبة معلوميته بحاله ، ولازمه عند ترك الجهر في الصلاة الجهرية مع العلم بوجوب جهره العقابين : عقاب بترك الجهر المعلوم وجوبه نفسيا ، وعقاب لترك الصلاة المقيد به في الرتبة المتأخرة.
    ولئن قيل : بأن الوجوب النفسي ظرفه الصلاة الصحيح ولو اتي في الرتبة المتأخرة. نقول : إن أريد من الظرف ما هو من قبيل الشرط لوجوبه ، فيلزم أن يكون وجوبه النفسي المعلوم مشروطا بوجوده ، وهو أفحش فسادا ! وإن أريد مجرد الظرفية لامتثاله مع إطلاق وجوبه ، فيلزم التالي المزبور : من تعدد العقوبة ، ولو ترى بالنظر الانصافي تجد أن هذا الوجه غير قابل للتفوه به.


(297)
    فان كان نظر المتوهم راجعا إلى عدم إمكان انقلاب الواجب الاستقلالي إلى الواجب الغيري ، فهو مما لا محذور فيه.
    وإن كان راجعا إلى أن الواجب الاستقلالي لا يكون واجبا غيريا مع بقائه على الواجب الاستقلالي ، فهو حق ، إلا أنه ليس المدعى ذلك.
    وإن كان راجعا إلى أن وصف العلم وزوال صفة الجهل لا يوجب الانقلاب المذكور ، فهو مما لا شاهد عليه (1) وأي محذور في أن تكون صفة العلم موجبة للانقلاب المذكور ؟ وكم له من نظير ! فان أخذ العلم في موضوع حكم آخر بمكان من الامكان (2).
    فالانصاف : أن هذا الوجه سالم عن الاشكال (3) ولا يرد عليه شيء سوى أنه يلزم أن يكون العقاب على ترك وصف الجهر أو الاخفات الذي كان واجبا نفسيا لا على ترك الصلاة الجهرية أو الصلاة الاخفاتية ، وهذا بعيد عن كلام الأصحاب (4) إلا أن ذلك مجرد استبعاد لا يضر بالمدعى ، فتأمل جيدا. هذا كله في المسألة الأولى من المسائل الثلاث التي صارت محلا للاشكال.
    وأما المسألة الثانية : وهي القصر في موضع وجوب الاتمام ـ على القول بالصحة فيها ـ فيمكن التقصي عن الاشكال فيها بما ذكرناه في المسألة السابقة ،
1 ـ أقول : أي شاهد أعظم من اختلاف الرتبة بين معروض العلم ومعلوله ! فهل اتحادهما في الوجود معقول ؟ كلا إلا بانقلاب العلم إلى علم آخر ، ولازمه دخل حدوث العلم في الانقلاب بلا دخل بقائه في بقائه ، ويتلوه حينئذ عدم صحة الصلاة الفاقدة حين الجهل الطاري ، لأنه بحدوث العلم نقطع بالانقلاب أبدا ولو طرء الجهل بعده ، وذلك أفحش فسادا !.
2 ـ أقول : وذلك في غاية البداهة ، ولكن هل في مورد صار العلم بحكم منشأ لانقلاب معلومه ؟ كلا وحاشا.
3 ـ أقول : هذا عند من لم يكن له نظر قويم وفكر مستقيم !.
4 ـ أقول : لو التزمت بما شرحنا كلام الأستاذ لا يلزم عليك هذا المحذور.


(298)
بتقريب أن يقال : إن وجوب الركعتين الأخيرتين اللتين تركهما الجاهل بوجوب التام عليه إنما يكون نفسيا استقلاليا (1) وبالعلم بالحكم ينقلب الوجوب من النفسية إلى الغيرية على حذو ما سمعته في الجهر والاخفات ، ولا بعد في أن تكون الركعتان الأخيرتان واجبتين بالوجوب النفسي ، بل ربما يدعى ظهور الأدلة في ذلك ، فان الركعتين الأخيرتين مما فرضهما النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والأولتين مما فرضهما الله ( تعالى ) كما ورد بذلك عدة من الروايات (2).
    وغاية ما يقتضيه فرض النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو الوجوب النفسي ، وأما الارتباطية وكونهما قيدا لما فرضه الله ( تعالى ) من الركعتين الأولتين فلا يقتضيه ذلك ، بل لولا الاجماع على بطلان الصلاة المقصورة في موضع وجوب الاتمام مع العلم بالحكم لكان القول بالوجوب النفسي للركعتين الأخيرتين قريبا جدا حتى في صورة العلم بالحكم ، إلا أن الاجماع انعقد على البطلان في صورة العلم بالحكم ، وتبقى صورة الجهل بالحكم على ما تقتضيه ظاهر الأدلة : من الوجوب النفسي الاستقلالي (3).
    وأما المسألة الثالثة : وهي الاتمام في موضع وجوب القصر ، فيمكن أن يقال في مقام التفصي عن الاشكال فيها : بأن الواجب على المسافر الجاهل بالحكم
1 ـ أقول : ولازمه فساد الصلاة لو أتى الجاهل تماما بقصد التقرب بالامر بالصلاة وحدانيا ارتباطيا مقتصدا في قصده ، بحيث لا يدعوه غير ذلك الامر ، ولا أظن التزامه من أحد وكذا عكسه ، ولقد أجاد المقرر حيث تعرض هذا الاشكال.
2 ـ الوسائل الباب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث 1 و 2 و 9.
3 ـ أقول : وإن التزم بما ذكرنا : من اقتضاء الجهل بوفاء غير الواجب بمرتبة من المصلحة بلا وفاء الواجب لهذه المرتبة مستقلا ، يرتفع الاشكال بحذافيره ، بلا احتياج إلى الالتزام بوجوب نفسي لشيء في الواجب الواقعي ، كي يصير العلم به موجبا لانقلابه ، كي يرد عليه ما ذكرناه.


(299)
خصوص الركعتين الأولتين ، لكن لا بشرط عدم الزيادة ، بل لا بشرط عن الزيادة ، فلا تكون الركعتان الأخيرتان مانعتين عن صحة الصلاة ، إلا أن العلم بالحكم يوجب الانقلاب ويصير الواجب على المسافر خصوص الركعتين الأولتين بشرط عدم الزيادة ، فتصح الصلاة التامة عند الجهل بالحكم وتفسد عند العلم به.
    ويبقى إشكال العقاب ، ويمكن أن يكون العقاب لأجل ترك السلام بعد التشهد الثاني ، بأن يكون أصل التسليم في الصلاة جزء لها ، ولكن وقوعه عقيب التشهد الثاني واجب نفسي ، فيكون المتمم في موضع القصر قد أخل بهذا الواجب النفسي ، فيعاقب عليه مع صحة صلاته.
    وهذا الوجه وإن كان في حد نفسه لا محذور فيه ، إلا أنه لا يساعد عليه كلمات الأصحاب ، بل لا ينطبق عليه بعض الفروع المتسالم عليها بينهم ، فان الظاهر : تسالمهم على أن الجاهل لو نوى التمام وأتم صلاته بهذا العنوان صحت صلاته بعنوان ما نواها ، وهذا لا يمكن إلا أن يكون المأمور به في هذا الحال هو الاتمام ، إذ لو كان المأمور به في هذا الحال هو خصوص الركعتين الأولتين ـ ولولا بشرط عن الزيادة ـ كان اللازم هو فساد صلاة من نوى التمام ، لعدم نية المأمور به. وكذا الظاهر : تسالمهم على أن الجاهل لو نوى القصر من باب الاتفاق وتمشى منه قصد التقرب وأتم الصلاة قصرا صحت صلاته ، وهذا لا يستقيم إلا إذا كانت الصلاة المقصورة مأمورا بها ولو في حال الجهل بالحكم ، فيلزم تعلق الامر بكل من الصلاة التامة والمقصورة مع استحقاق العقاب على ترك القصر.
    هذا ، ولكن مع الالتزام بذلك كله يمكن أيضا التفصي عن الاشكال ، بأن يقال : إن الواجب على المسافر أحد الأمرين من القصر والتمام تخييرا ، ولكن في القصر خصوصية تقتضي تعينه لا على وجه القيدية بل على وجه الوجوب النفسي ، وبالعلم بالحكم تصير تلك الخصوصية قيدا للصلاة ومما لها دخل في


(300)
الصحة ، وتلك الخصوصية وإن لم يعلم بها تفصيلا ، إلا أنه من ترتب العقاب على ترك القصر في حال الجهل يستكشف إنا أن هناك واجبا نفسيا فات من المكلف ، كما أنه من صحة كل من القصر والاتمام في حال الجهل يستكشف أن الواجب عليه أحد الأمرين تخييرا ، ومن بطلان القصر في حال العلم يستكشف القيدية والارتباطية ، ولا بعد في ذلك كله ، إذ من الممكن أن تلحق خصوصية لاحد فردي الواجب تقتضي تعينه لا على وجه القيدية ، كما لو نذر الصلاة في المسجد ، فان خصوصية النذر تقتضي تعين وقوع الصلاة في المسجد ، ومع ذلك لو خالف وأوقع الصلاة في غير المسجد صحت صلاته واستحق العقاب على مخالفة النذر ، كما أنه من الممكن أن تنضم خصوصية لاحد فردي الواجب تقتضي تعينه على وجه القيدية بحيث لا يصح من المكلف غيره ، كما لو عقد صلاة الجمعة من له الولاية على عقدها ، فإنه لا تصح من المكلف غير صلاة الجمعة ، مع أن الواجب في عصر الحضور إحدى الصلاتين تخييرا حسب ما يستفاد من مجموع الأدلة.
    فليكن المقام من هذا القبيل ، بأن يكون الواجب هو القصر أو التمام تخييرا ، وخصوصية العلم بالحكم توجب تعين القصر وعدم صحة التمام ، ويرتفع الاشكال بحذافيره.
    أما صحة التمام في حال الجهل : فلانه أحد فردي الواجب التخييري. وأما العقاب : فلان المكلف ترك ما هو واجب عليه من الخصوصية. وأما بطلان التمام في حال العلم : فلانه بالعلم تصير تلك الخصوصية قيدا للصلاة.
    هذا حاصل ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ في هذا المقام ، ولكن عدل عن ذلك كله في مبحث الفقه (1) والتزم بأن الواجب على المسافر الجاهل إنما
1 ـ أقول : فياليت لم يرجع عما أفاده القوم : من إطلاق كلماتهم على استحقاق الجاهل المقصر
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس