فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 316 ـ 330
(316)
سواء أريد من « المقتضي » المقتضي التكويني أو الشرعي أو الملاكي ، خصوصا لو أريد منه الأخير ، فإنه لا طريق إلى إحراز المقتضي الملاكي.
    وعلى كل حال : المراد من « المقتضي » الذي ذهب الشيخ ـ قدس سره ـ إلى عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك فيه معنى آخر أجنبي عن هذه الوجوه الثلاثة المذكورة في القاعدة ، وسيتضح المراد منه ( إن شاء الله تعالى ).

    يعتبر في الاستصحاب أمور ثلاثة :
    أحدها : اجتماع اليقين والشك في الزمان ، سواء كان مبدء حدوث اليقين قبل حدوث الشك ، أو تقارن حدوثهما في الزمان ، أو تأخر حدوث اليقين عن حدوث الشك ، كما لو شك في عدالة زيد في يوم السبت واستمر الشك إلى يوم الأحد وفي يوم الأحد حدث اليقين بعدالته في يوم الجمعة ، فالذي يعتبر في الاستصحاب هو اجتماع اليقين والشك في الزمان ، من غير فرق بين تقارن حدوثهما زمانا أو سبق حدوث أحدهما على الآخر ، فإنه مع عدم اجتماع اليقين والشك يلزم تبدل اليقين وسراية الشك إليه ، فيخرج عن موضوع الاستصحاب ، لأنه يعتبر فيه استقرار اليقين بوجود المتيقن في وقت ما ، وبذلك يمتاز الاستصحاب عن « قاعدة اليقين » كما تقدم.
    ثانيها : سبق زمان المتيقن على زمان الشك ، بأن يتعلق الشك ببقاء ما هو متيقن الوجود سابقا ، فلو انعكس الامر وكان زمان المتيقن متأخرا عن زمان الشك ـ كما إذا شك في مبدء حدوث ما هو متيقن الوجود في الزمان الحاضر ـ يرجع ذلك إلى الاستصحاب القهقرى الذي لا دليل على اعتباره ، فان الظاهر من قوله ـ عليه السلام ـ « لا تنقض اليقين بالشك » هو عدم نقض المتيقن بما له من الآثار بالشك في بقائه ، وهذا المعنى يتوقف على سبق زمان المتيقن ، إذ مع


(317)
سبق زمان الشك لا يرتبط الشك في مبدء حدوثه باليقين الحاصل في الزمان الحاضر ، فان عدم البناء على حدوث المتيقن في الزمان السابق على زمان اليقين بوجوده لا يعد نقضا لليقين بالشك ، بل الامر في الاستصحاب القهقرى بالعكس يكون من نقض الشك باليقين ، لا نقض اليقين بالشك.
    وبالجملة : لا إشكال في أن مفاد الأخبار الواردة في الباب يقتضي سبق زمان المتيقن والشك في بقائه ، وهذا المعنى أجنبي عن استصحاب القهقرى ، فالقائل بحجيته لابد له من أن يلتمس دليلا آخر غير روايات الباب.
    ثالثها : فعلية الشك واليقين ، ولا يكفي الشك واليقين التقديري ، فإنه مضافا إلى ظهور لفظ الشك واليقين بل مطلق الألفاظ في فعلية الوصف العنواني وقيام مبدأ الاشتقاق الحقيقي أو الجعلي بالذات فعلا وتلبسها به حال الاطلاق ـ ولذا وقع الاتفاق على عدم حصة إطلاق الانسان والحجر وغير ذلك من الجوامد على ما انقضى عنه الانسانية والحجرية أو لم يتلبس بعد وإن وقع الخلاف في خصوص المشتقات في صحة إطلاقها على وجه الحقيقة بالنسبة إلى من انقضى عنه المبدء ـ أن الحكم المجعول في الاستصحاب بل في مطلق الأصول لا يكاد يتحقق إلا مع فعلية الشك الذي اخذ موضوعا فيها ، بداهة أن الجري العملي على أحد طرفي الشك أو البناء على بقاء الحالة السابقة وترتب آثار ثبوت المتيقن لا يمكن إلا مع فعلية الشك ، بل قد تقدم منا في مبحث الظن أن نتيجة الحكم الظاهري لا يكاد أن تتحقق إلا بعد العلم بالحكم والموضوع ، من غير فرق في ذلك بين الطرق والامارات وبين الأصول العملية. وبذلك تمتاز الاحكام الواقعية عن الاحكام الظاهرية بعد اشتراكهما في عدم توقف الجعل والانشاء على العلم به ، لأنه يلزم الدور ، إلا أن فعلية الاحكام الواقعية لا تتوقف على العلم بالحكم أو الموضوع ، بل فعليتها تدور مدار وجود الموضوع خارجا ولو مع جهل المكلف به ، وربما تكون بوجوداتها الواقعية منشأ للآثار الخاصة وإن لم يكن


(318)
لها وجود علمي. وهذا بخلاف الاحكام الظاهرية ، فإنها بوجوداتها الواقعية لا أثر لها ولا يترتب عليها الآثار المرغوبة منها ـ من كونها منجزة للواقع عند الإصابة والمعذورية عند المخالفة ـ إلا بعد الالتفات إليها والعلم بها حكما وموضوعا ، لوضوح أن مجرد جعل حجية الخبر الثقة أو الاستصحاب لا يقتضي التنجيز والمعذورية إلا بعد العلم بقيام الخبر أو الاستصحاب على وجوب الشيء ومقدار دلالته وما يستفاد منه.
    وبالجملة : لا إشكال في أن نتيجة جعل الطرق والامارات والأصول العملية لا يمكن أن تتحقق إلا بعد العلم بالحكم والموضوع ، لا معنى للمؤاخذة على ترك العمل بخبر لم يعلم به. وكذا الاستصحاب ، فيتوقف جريان الاستصحاب على الالتفات إليه حكما وموضوعا ، وذلك يتوقف على فعلية الشك الذي اخذ موضوعا فيه ، فلا ينبغي التأمل في اعتبار فعلية الشك في الاستصحاب. ويترتب على ذلك فروع مهمة :
    منها : ما إذا تيقن المكلف بالحدث ثم غفل عن حاله وصلى غافلا وبعد الفراغ من الصلاة شك في تطهره قبل الصلاة (1) فبناء على اعتبار فعلية الشك في جريان الاستصحاب ينبغي القول بصحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها ، لأنه يكون من الشك بعد الفراغ ، فتجري في الصلاة « قاعدة الفراغ » ولا أثر لاستصحاب بقاء الحدث الجاري بعد الصلاة عند الالتفات إلى حاله ، لان قاعدة الفراغ حاكمة عليه. نعم : استصحاب بقاء الحدث إنما ينفع بالنسبة
1 ـ أقول : لا إشكال في أن الطرق المنجزة للواقع والمعذرة لها أو أصولها تكون منجزة ومعذرة ما دام موجودا لا بعد انعدامها ، وحينئذ ففي الزمان السابق لو فرض استصحاب الحدث فلا يقتضي ذلك إلا بطلان الصلاة سابقا. وأما في الحال : فلا مرجع فعلا إلا قاعدة التجاوز أو الفراغ الحاكم بالصحة ، فمن هذا الحين لا معنى للحكم ببطلان الصلاة السابقة ، وإنما يحكم به سابقا ، ولا أثر له عملي فعلا ، فما أفيد من الأساس لا نتيجة له عملا في المقام ، كما لا يخفى.

(319)
إلى الصلوات المستقبلة. هذا بناء على اعتبار فعلية الشك.
    وأما بناء على كفاية الشك التقديري ، فينبغي القول ببطلان الصلاة في الفرض المذكور ، لأنه بمجرد تيقن الحدث كان الحكم المجعول في حقه هو البناء على بقاء الحدث إلى أن يعلم بالرافع ولا أثر لغفلته بعد ذلك ، لأنه يكون بمنزلة من صلى محدثا بحكم الاستصحاب ، فهو كمن دخل في الصلاة مع الشك في الطهارة ، فتأمل جيدا.

    الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب والدليل الدال عليه ومنشأ الشك في بقائه كثيرة.
    أما أقسامه باعتبار المستصحب : فهي أن المستصحب إما أن يكون أمرا وجوديا وإما أن يكون عدميا. وعلى كلا التقديرين : فاما أن يكون حكما شرعيا وإما أن يكون موضوعا ذا حكم. وعلى الأول : فاما أن يكون حكما كليا وإما ان يكون حكما جزئيا. وعلى كلا التقديرين : فإما أن يكون من الأحكام التكليفية وإما أن يكون من الأحكام الوضعية.
    وأما أقسامه باعتبار الدليل : فهي أن الدليل الدال على ثبوت المستصحب إما أن يكون هو الكتاب والسنة ، وإما أن يكون هو الاجماع ، وإما أن يكون هو العقل.
    وأما أقسامه باعتبار منشأ الشك : فهي أن الشك في بقاء المستصحب إما أن يكون لأجل الشك في المقتضي بالبيان الآتي ، وإما أن يكون لأجل الشك في وجود الرافع أو الغاية ـ على ما سيأتي من الفرق بينهما ـ وإما أن يكون لأجل الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية.
    فهذا جملة الأقسام المتصورة في الاستصحاب بالاعتبارات الثلاثة. وقد وقع


(320)
الخلاف في حجية الاستصحاب في كل واحد من هذه الأقسام. والأقوى : حجية الاستصحاب في جميع الأقسام اللاحقة له باعتبار المستصحب والدليل الدال على ثبوته. وأما أقسامه اللاحقة له باعتبار منشأ الشك : فسيأتي الكلام فيه.
    ويظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الدليل الدال على ثبوت المستصحب هو العقل ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك هو : أن الاحكام العقلية لا يكاد يتطرق الاهمال والاجمال فيها ، فان العقل لا يستقل بقبح شيء أو حسنه إلا بعد الالتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من القيود والخصوصيات ، فكل قيد اعتبره العقل في حكمه فلابد وأن يكون له دخل في الموضوع ، ومعه لا يمكن الشك في بقاء الحكم العقلي وما يستتبعه من الحكم الشرعي ـ بقاعدة الملازمة ـ مع بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة الذي لابد منه في الاستصحاب ـ كما سيأتي بيانه ـ فإنه لا يمكن الشك في بقاء الشيء إلا بعد انتفاء بعض الخصوصيات والعوارض المكتنفة به ، بداهة أنه مع بقاء الموضوع على ما هو عليه يقطع ببقاء الحكم ولا يتطرق إليه الشك ، فالشك في بقاء الحكم العقلي لا يكون إلا بعد انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، ومعه يقطع بارتفاع الحكم ، لأن المفروض أن للخصوصية الزائلة دخلا في موضوع حكم العقل.
    وبتقريب آخر : العقل لا يستقل بحسن الشيء أو قبحه إلا بعد الإحاطة بجميع ما له دخل في الحسن والقبح ، فلابد وأن يكون لكل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه مما لها دخل في مناط حكمه ، فعند انتقاء بعض الخصوصيات لا يجري استصحاب بقاء الحكم العقلي ، للعلم بارتفاع المناط. فالحكم العقلي إما أن يكون مقطوع البقاء وإما أن يكون مقطوع الارتفاع ، ولا يتطرق فيه الشك لكي يجري فيه الاستصحاب.


(321)
    وأما الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل بقاعدة الملازمة ، فلا يمكن استصحابه أيضا ، لان المناط للحكم الشرعي هو المناط في الحكم العقلي ، فلا يمكن أن يكون دائرة ما يقوم به مناط الحكم الشرعي أوسع من دائرة ما يقوم به مناط الحكم العقلي ، فان الحكم الشرعي إنما استفيد من حكم العقل ، فلابد من أن يكون للخصوصية الزائلة دخل في مناط حكم الشرع أيضا ، لاتحاد ما يقوم به المناط فيهما ، فالعلم بارتفاع مناط الحكم العقلي يلازم العلم بارتفاع مناط الحكم الشرعي ، فكما لا يمكن استصحاب الحكم العقلي عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، كذلك لا يمكن استصحاب الحكم الشرعي المستفاد منه ، فالحكم الشرعي أيضا إما أن يكون مقطوع الارتفاع وإما أن يكون مقطوع البقاء ، ولا يتطرق الشك فيه أبدا. هذا حاصل ما أفاده الشيخ ، بتحرير منا.
    ولكن للنظر فيه مجال.
    أما أولا : فلان دعوى : كون كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لابد وأن يكون لها دخل في مناط حكمه واقعا ، ممنوعة ، بداهة أنه ربما لا يدرك العقل دخل الخصوصية في مناط الحسن والقبح واقعا ، وإنما أخذها في الموضوع لمكان أن الموضوع الواجد لتلك الخصوصية هو المتيقن في قيام مناط الحسن أو القبح فيه ، مع أنه يحتمل واقعا أن لا يكون لها دخل في المناط ، مثلا يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار الذي لا يترتب عليه نفع للكاذب ولا لغيره إنما هو لأجل أن الكذب المشتمل على هذه الخصوصيات هو القدر المتيقن في قيام مناط القبح فيه ، مع أنه يحتمل أن لا يكون لخصوصية عدم ترتب النفع دخل في القبح ، بل يكفي في القبح مجرد ترتب الضرر عليه وإن لزم منه حصول النفع للكاذب أو لغيره ، والحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل إنما يدور مدار ما يقوم به مناط القبح واقعا ، فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع انتفاء بعض الخصوصيات التي أخذها العقل في الموضوع من باب القدر المتيقن ،


(322)
لاحتمال أن لا تكون لتلك الخصوصية دخل فيما يقوم به الملاك واقعا ، فيكون وزان الحكم الشرعي المستفاد من الحكم العقلي وزان الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب والسنة يصح استصحابه عند الشك في بقائه لأجل زوال بعض خصوصيات الموضوع التي لا تضر بصدق بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة عرفا.
    وثانيا : سلمنا أن كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لها دخل في مناط الحكم بنظر العقل ويكون بها قوام الموضوع ، إلا أنه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي قائما بالأعم من الواجد لبعض الخصوصيات والفاقد لها ، فان حكم العقل بقبح الواجد لجميع الخصوصيات لا ينحل إلى حكمين : حكم إيجابي وهو قبح الكذب الضار الغير النافع ، وحكم سلبي وهو عدم قبح الكذب الفاقد لوصف الضرر ، فإنه ليس للحكم العقلي مفهوم ينفي الملاك عما عدا ما استقل به ، فيمكن أن تكون لخصوصية الضرر دخل في مناط حكم العقل بقبح الكذب من دون أن يكون لها دخل في مناط الحكم الشرعي بحرمة الكذب ، إذ من الممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أوسع من موضوع الحكم العقلي. ودعوى : أنه لا يمكن ذلك ، مما لا شاهد عليها بعد البناء على أن المتبع في بقاء الموضوع وارتفاعه في باب الاستصحاب إنما هو نظر العرف ولا عبرة بالموضوع العقلي.
    والحاصل : أن القيد الذي اخذ في موضوع حكم العقل لا يزيد عن القيد الذي اخذ في موضوع الدليل الشرعي كالكتاب والسنة ، فكما أن اخذ القيد في الدليل كاشف عن دخله في ملاك الحكم الشرعي ومع ذلك يجري الاستصحاب عند انتفاء القيد إذا لم يكن من المقومات للموضوع عرفا ولا يضر بوحدة القضية المتيقنة للمشكوكة بحسب ما يراه العرف من مناسبة الحكم والموضوع ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) كذلك أخذ القيد في حكم


(323)
العقل إنما يكون كاشفا عن دخله في الملاك ثبوتا. ولكن هذا لا يضر بجريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل عند انتفاء القيد إذا لم يكن القيد من مقومات الموضوع عرفا.
    نعم : انتفاء بعض القيود التي اعتبرها العقل في موضوع حكمه يوجب رفع الحكم العقلي ، وليس المقصود استصحاب بقاء الحكم العقلي ، بل المقصود استصحاب بقاء الحكم الشرعي المستكشف منه ، وهو بمكان من الامكان. وبالجملة : الموضوع في حكم العقل وإن كان مقيدا بالخصوصية المنتفية ، إلا أن تقييد الموضوع العقلي بالخصوصية كتقييد الموضوع الشرعي في الكتاب والسنة بها ، كقوله : « الماء المتغير نجس » فان وصف التغير الذي اخذ في موضوع الدليل الشرعي كوصف الضرر الذي اخذ في موضوع الحكم العقلي ، فكما أن زوال وصف التغير عن الماء لا يضر بصدق بقاء موضوع النجاسة عرفا ، لان العرف بمناسبة الحكم والموضوع يرى أن موضوع النجاسة هو الماء ووصف التغير علة لعروض النجاسة على الماء غايته أنه يشك في كونه علة لها حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط ، وهو الموجب لجريان الاستصحاب ـ على ما سيأتي بيانه ـ كذلك عدم ترتب وصف الضرر على الكذب لا يضر بصدق بقاء موضوع الحرمة عرفا ، فان موضوع الحرمة بنظر العرف هو نفس الكذب لا بوصف كونه مضرا.
    نعم : لو كان المدار في اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة على نظر العقل واعتبرنا في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع عقلا ، لكان للمنع عن جريان الاستصحاب عند انتفاء بعض القيود مجال ، إلا أن ذلك لا يختص بالحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، بل يطرد في جميع الأحكام الشرعية ، كما سيأتي توضيحه. فظهر : أنه لا مجال للفرق بين كون الدليل الدال على ثبوت المستصحب هو العقل أو الكتاب والسنة ، فتأمل جيدا. وسيأتي لذلك مزيد توضيح.


(324)
    قد عرفت في الامر السابق : أن الشك في بقاء المستصحب تارة : يكون لأجل الشك في المقتضي ، وأخرى : يكون لأجل الشك في الرافع أو الغاية. وقد اختار الشيخ ـ قدس سره ـ عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي ، وحكي ذلك أيضا عن المحقق الخونساري ـ رحمه الله ـ. فقد يتوهم : أن المراد من المقتضي هو الملاك والمصلحة التي اقتضت تشريع الحكم على طبقها (1) ويقابله الرافع وهو ما يمنع عن تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بأن فيه ملاك التشريع ، فيكون الشك في المقتضي عبارة عن الشك في ثبوت ملاك الحكم عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية دخل في الملاك. والشك في الرافع عبارة عن الشك في وجود ما يمنع عن تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بثبوته ، لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية المنتفية دخل في تأثير الملاك ، فيكون الشك في بقاء علم زيد مثلا من الشك في
1 ـ أقول : ما أظن أحدا يريد من المقتضي في المقام ما هو الملاك لاحداث تشريع الحكم ولو لم يكن مقتضيا لبقائه ، بل عمدة نظره إلى المقتضي لبقائه ، وحينئذ ففي الأحكام التكليفية ليس المقتضي لبقائها إلا ما هو المقتضى لثبوتها من المصالح وبذلك أيضا يحرز استعداد الحكم للبقاء ، إذ يستحيل استعداد للتكاليف بقاء بدون بقاء المصلحة في متعلقه ، وطريق إحرازه ربما يكون بكيفية لسان الدليل : من كونه في مقام إثبات حكم لموضوعه مطلقا ، بلا نظر إلى فعلية الحكم من سائر الجهات. وبعبارة أخرى : كان الخطاب بمادتها الكاشفة عن مصلحة الحكم مطلقا وإن لم يكن من حيث الفعلية مثل هذا الاطلاق ـ كما هو الشأن في الاحكام الاقتضائية كحلية الغنم وحرمة الخمر ـ بل ومع فرض إطلاقنا من حيث الفعلية أيضا ، ولكن خصص مرتبة فعليته بما يشك في مصداقه ، هذا كله في التكليفيات. وأما في الأحكام الوضعية : فلا شبهة في أن المقتضي لاحداثها من أسبابها لا يكون مقتضيا لبقائها ، فهي من هذه الجهة نظير كثير من الأمور الخارجية في أن العلية المحدثة كالبناء والبناء لا يكون علة مبقية ، بل بقائه مستند إلى اقتضاء في ذاته المعبر عنه بالاستعداد ، وحينئذ مرجع الشك في المقتضى بقاء إلى الاستعداد المزبور في جميع المقامات ، ولا أظن من أحد يريد غير هذا المعنى ، كما لا يخفى.

(325)
المقتضي ، وفي فسقه من الشك في الرافع.
    وقد يتوهم أيضا : أن المراد من المقتضي هو المقتضي لوجود الشيء في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل الشرعي تأسيسا أو إمضاء ، والمراد من الرافع هو ما يرفع المسبب شرعا ، كما يقال : إن الوضوء مقتض للطهارة والبول ورافع لها ، والنكاح مقتض للزوجية والطلاق رافع لها ، والبيع مقتض للملكية والفسخ رافع لها ، فيكون الشك في المقتضي عبارة عن الشك في بقاء اقتضاء السبب للمسبب عند انتفاء بعض الخصوصيات. ويقابله الشك في الرافع ، وهو ما إذا شك في بقاء المسبب بعد العلم ببقاء اقتضاء السبب ، ولكن يحتمل أن يكون في البين ما يرفع اقتضائه ويدفع تأثيره. مثلا تارة : يشك في بقاء اقتضاء النكاح أو الوضوء عند قول الزوج للزوجة : أنت خلية أو برية أو عند خروج المذي أو الوذي عقيب الطهارة. وأخرى : لا يشك في بقاء اقتضاء النكاح والوضوء عقيب قول الزوجة : أنت خلية أو برية أو عقيب خروج المذي والوذي ، بل يقطع ببقاء المقتضى ، إلا أنه يحتمل أن يكون ذلك رافعا لتأثير المقتضي لمكان تدافع المقتضيين ، فالأول يكون من الشك في المقتضي ، والثاني يكون من الشك في الرافع.
    هذا ، ولكن التأمل في كلام المحقق والشيخ ـ قدس سرهما ـ يعطي عدم إرادة ذلك من المقتضي ، فان القول بعدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي بأحد الوجهين المتقدمين يساوق القول بعدم حجية الاستصحاب مطلقا ، فإنه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك الحكم أو إحراز بقاء المقتضيات الشرعية في باب الأسباب والمسببات عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع أو طرو بعض ما يشك معه في بقاء الأثر ، إذ العلم ببقاء الملاك أو الأثر يستحيل عادة لمن لا يوحى إليه إلا من طريق الأدلة الشرعية ، فإنه لا يمكن إثبات كون الوضوء أو النكاح المتعقب بالمذي أو بقول الزوج : « أنت خلية » مقتضيا لبقاء


(326)
الطهارة وعلقة الزوجية
    وبالجملة : لو بنينا على عدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي بأحد الوجهين يلزم سد باب جريان الاستصحاب في جميع المقامات ، إذا ما من مورد إلا ويشك في تحقق المقتضي بمعنى الملاك أو بمعنى اقتضاء السبب.
    فالظاهر : أنه ليس مراد الشيخ والمحقق ـ قدس سرهما ـ من المقتضي أحد الوجهين ، بل مرادهما من المقتضي في تقسيم الاستصحاب إلى الشك في المقتضي والشك في الرافع هو مقدار قابلية المستصحب للبقاء في الزمان.
    وتوضيح ذلك : هو أن كل موجود وحادث في العالم لابد وأن يكون له بحسب طبعه مقدار من القابلية والاستعداد لبقائه في سلسلة الزمان ، بحيث لو خلي الشيء وطبعه ولم تلحقه عارضة زمانية لكان يبقى في عمود الزمان بمقدار ما يقتضيه استعداده بحسب ما جرت عليه مشية الله ( تعالى ) ولا إشكال في اختلاف الموجودات في مقدار القابلية والاستعداد ، كما يشاهد بالوجدان اختلاف استعداد ذوات النفوس في بقائها في سلسلة الزمان ، فان منها ما تبقى مأة سنة ومنها ما يزيد عن ذلك ومنها ما ينقص عنه ، حتى أن بين ذوات النفوس ما يبقى ألف سنة ، كما يقال : إن بعض أقسام الحيتان والطيور يعيش ألف سنة ، وبينها أيضا مالا يعيش إلا ساعة ، وكذا الحال في غير ذوات النفوس من الموضوعات الخارجية ، فان الفواكه والحبوبات لها مقدار من استعداد البقاء على ما بينها من الاختلاف ، وكذا الأبنية ، فان البناء الواقع في ساحل البحر أقل بقاء من البناء الواقع في مكان آخر ولو لأجل ما يلحقه من خصوصية المكان والزمان وغير ذلك ، هذا في الموضوعات الخارجية.
    وأما الأحكام الشرعية : فكذلك أيضا ، فان لكل حكم شرعي أمدا وغاية يبقى الحكم إليها مع قطع النظر عن اللواحق والعوارض الطارية ، فيكون مقدار قابلية بقاء الحكم في الزمان على حسب ما ضرب له من الغاية شرعا ، غايته :


(327)
أن الفرق بين الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية هو أن تشخيص مقدار استعداد بقاء الموضوع في الزمان إنما يكون بالامتحان والتجربة ونحو ذلك من الأسباب المشخصة لاستعداد بقاء الموجودات في عمود الزمان ، وأما الأحكام الشرعية فطريق تشخيص مقدار استعداد بقاء الحكم في الزمان إنما يكون من قبل الشارع.
    إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن المستصحب إما أن يكون موضوعا خارجيا وإما أن يكون حكما شرعيا. فان كان موضوعا خارجيا فتارة : يعلم مقدار استعداد بقائه في الزمان ويشك في حدوث زماني أوجب رفع الموضوع وإعدامه عن صفحة الوجود في أثناء عمره واستعداد بقائه ، وأخرى : لا يعلم مقدار عمره واستعداد بقائه ، كما لو شك في أن البق يعيش ثلاثة أيام أو أربعة. فالأول يكون من الشك في الرافع ، والثاني يكون من الشك في المقتضي.
    فضابط الشك في المقتضي : هو أن يكون الشك في بقاء الموجود لأجل الشك في مقدار قابليته للوجود واستعداده للبقاء في عمود الزمان.
    وضابط الشك في الرافع : هو أن يكون الشك في بقاء الموجود لأجل الشك في حدوث زماني أوجب إعدام الموجود في أثناء استعداده للبقاء ، كما إذا احتمل طرو مرض أو قتل أو تخريب أو نحو ذلك من الأسباب الموجبة لرفع الموضوعات الخارجية.
    والظاهر : أن القائل بعدم حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي أراد من المقتضي هذا المعنى ، كما يشهد له التمثيل بالشك في بقاء البلد المبني على ساحل البحر ، فان الشك في بقاء البلد إنما هو لأجل الشك في مقدار استعداده للبقاء ، وهذا المعنى من الشك في المقتضي هو الذي ينبغي النزاع في اعتبار الاستصحاب فيه وعدمه ، فإنه لا يلزم من القول بالتفصيل سد باب الاستصحاب مطلقا ، كما يلزم منه ذلك إن أريد من المقتضي أحد الوجهين


(328)
المتقدمين ، هذا إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجية.
    وإن كان المستصحب من الأحكام الشرعية : فقد عرفت أن الشك في المقتضي فها بالمعنى المتقدم إنما يكون لأجل الشك في الغاية على بعض التقادير
    وتفصيل ذلك : هو أن الحكم الشرعي إما أن يكون قد ضرب له غاية كقوله تعالى : « وأتموا الصيام إلى الليل » بناء على كون الغاية غاية للحكم لا للصيام ، وإما أن لا يكون له غاية. وعلى الثاني : فاما أن يعلم إرسال الحكم في الزمان بحيث يعم جميع الأزمنة ولو بمعونة مقدمات الحكمة ، وإما أن لا يعلم ذلك بل يحتمل أن يكون امتداد الحكم إلى زمان خاص وينقطع بعده.
    فان لم يعلم إرسال الحكم في الزمان : فالشك في بقائه بالنسبة إلى ما عدا القدر المتيقن من امتداده في الزمان يرجع إلى الشك في المقتضي ، لأنه يحتمل أن يكون زمان الشك هو آخر زمان الحكم بحسب ما جعل له من الغاية ، بحيث لا يكون له استعداد البقاء بعد ذلك ، فيكون بعينه كالشك في مقدار استعداد بقاء الموضوع الخارجي في سلسلة الزمان.
    وإن علم إرسال الحكم في جميع الأزمنة : فالشك في بقائه دائما يكون من الشك في الرافع ، فان الشك في بقاء الحكم المرسل لا يمكن إلا من جهة الشك في حدوث امر زماني يقتضي رفع الحكم مع اقتضائه للبقاء ، كما لو شك في طرو أحد العناوين الموجبة لرفع الحكم تفضلا وامتنانا ، فتأمل. هذا إذا لم يضرب للحكم غاية في لسان الدليل.
    وإن كان له غاية ، فتارة : يشك في مقدار الغاية من جهة الشبهة الحكمية كما إذا شك في أن غاية وجوب صلاة المغرب هل هي ذهاب الحمرة المغربية ؟ أو أن غايته انتصاف الليل ؟ وأخرى : يشك في مقدار الغاية من جهة الشبهة المفهومية كما إذا شك في أن الغروب الذي اخذ غاية لوجوب صلاة الظهرين هل هو استتار القرص ؟ أو ذهاب الحرمة المشرقية ؟ وثالثة : يشك في الغاية من


(329)
جهة الشبهة الموضوعية كما إذا شك في طلوع الشمس الذي اخذ غاية لوجوب صلاة الصبح.
    فان شك في مقدار الغاية من جهة الشبهة الحكمية : فالشك في بقاء الحكم فيما وراء القدر المتيقن من الغاية يكون من الشك في المقتضي ، وكذا إذا كان الشك في مقدارها من جهة الشبهة المفهومية ، فان الشك في بقاء وجوب صلاة الظهرين إلى ما بعد استتار القرص يرجع إلى الشك في أمد الحكم ومقدار استعداد بقائه في الزمان ، لاحتمال أن يكون الغروب هو استتار القرص ، فيكون قد انتهى عمر الحكم.
    وإن كان الشك في حصول الغاية من جهة الشبهة الموضوعية : فالشك في ذلك يرجع إلى الشك في الرافع حكما لا موضوعا ، لأن الشك في الرافع هو ما إذا شك في حدوث أمر زماني ، والشك في المقام يرجع إلى حدوث نفس الزمان الذي جعل غاية للحكم ، فالشك في حصول الغاية ليس من الشك في الرافع حقيقة ، إلا أنه ملحق به حكما (1) فان الشك في طلوع الشمس لا يرجع إلى الشك في مقدار استعداد بقاء الحكم في الزمان ، للعلم بأنه يبقى إلى الطلوع ، وإنما الشك في تحقق الطلوع ، فيكون كالشك في حدوث ما يرفع الحكم ، فتأمل.
    فتحصل : أن الشك في المقتضي يباين الشك في الرافع دائما. وأما الشك في الغاية : فقد يلحق بالشك في المقتضي ، وقد يلحق بالشك في الرافع ، بالبيان المتقدم.
    وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الرافع والغاية ، فان الرافع عبارة عن الامر الزماني الموجب لاعدام الموضوع أو الحكم عن وعائه من دون أن يؤخذ عدمه
1 ـ أقول : لا يخلو ذلك عن مصادرة ، لان لسان الغاية في الأدلة كاشفة عن تحديد الاستعداد ، ومع الشك فيه بأي نحو يشك في استعداد الحكم ، ولعل المشار إليه بأمره بالتأمل ذلك.

(330)
قيدا للحكم أو الموضوع ، والغاية عبارة عن الزمان الذي ينتهي إليه أمد الشيء ، فتكون النسبة بين الرافع والغاية نسبة التباين. ولو كانت الغاية أعم من الزمان والزماني تكون النسبة بينهما بالعموم من وجه ، فقد يجمعان كما إذا كان الحكم مغيى بغاية زمانية ، فان الامر الزماني الذي اخذ غاية للحكم كما يكون غاية له يكون رافعا أيضا ، وقد يفترقان ، فيكون الشيء غاية من دون أن يكون وجوده رافعا كما إذا اخذ الزمان غاية للحكم كالليل والنهار ، وقد يكون الشيء رافعا للحكم من دون أن يكون غاية له كالحدث الرافع للطهارة ، فان الحدث ليس غاية للطهارة لعدم أخذ عدمه قيدا للطهارة وإنما كان وجوده رافعا لها.
    وإن ناقشت في بعض ما ذكرناه ، فلا يضر بما هو المدعى في المقام : من أن مراد الشيخ ـ قدس سره ـ من المقتضي في قوله : « إن الاستصحاب لا يجري عند الشك فيه » ليس هو المقتضي بمعنى الملاك ، ولا المقتضي الذي يترشح منه وجود المعلول ، بل المراد منه هو مقدار استعداد بقاء الشيء في سلسلة الزمان ، فكلما رجع الشك في بقاء الشيء إلى الشك في مقدار بقائه في الزمان يكون من الشك في المقتضي ، وفيما عدا ذلك يكون من الشك في الرافع ، حتى أن الشك في انتقاض التيمم (1) بزوال العذر أو بوجدان الماء في أثناء الصلاة يرجع إلى
1 ـ ظاهر كلام الشيخ ـ قدس سره ـ في ذيل استدلال المنكرين لحجية الاستصحاب مطلقا يعطي أن الشك في انتقاض التيمم بوجدان الماء ليس من الشك في الرافع ، بل هو من الشك في الموضوع بتقريب : أن المكلف بالطهارة الترابية هو الفاقد للماء ، فعند وجدان الماء في أثناء الصلاة يشك في بقاء الموضوع ، لاحتمال أن يكون الموضوع هو الفاقد للماء قبل الصلاة لا مطلقا.
    هذا ، ولكن التحقيق : أن مثال التيمم ليس من الشك في المقتضي ، ولا من الشك في الموضوع.
    أما الأول ، فلان الشك في الانتقاض لا يرجع إلى الشك في مقدار استعداد بقاء أثر التيمم في عمود الزمان.
    وأما الثاني : فلان الموضوع هو ذات المكلف لا بوصف كونه فاقدا للماء ، بل فقدان الماء علة لوجوب التيمم على المكلف ، كما هو ظاهر قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » الآية ، فان
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس