فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 436 ـ 450
(436)
المتصلة المتبادلة ويكون كل آن جزء من الليل أو النهار لا جزئي ، إلا أنه لكل من الليل والنهار وحدة عرفية محفوظة بتبادل الآنات وتصرمها ، ويكون وجود الليل والنهار عرفا بوجود أول جزء منهما ويبقى مستمرا إلى آخر جزء منهما ، فبلحاظ هذه الوحدة الاتصالية العرفية التي تكون لليل والنهار يصح استصحابهما عند الشك في الارتفاع ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.
    بل ربما يقال : باتحاد القضيتين حقيقة ، لاتصال آنات الليل وكذا آنات النهار وعدم تخلل العدم بينهما. وعلى كل حال : المنع عن الاتحاد الحقيقي لا يضر بصحة الاستصحاب بعد الاتحاد العرفي الذي عليه المدار في باب الاستصحاب ، فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب عند الشك في حدوث الزمان أو بقائه بمفاد كان وليس التامتين ، ويترتب عليه كل أثر شرعي مترتب على وجود الليل أو النهار ، فعند الشك في الحدوث يجري استصحاب العدم ، وعند الشك في البقاء يجري استصحاب الوجود.
    نعم : يبقى الاشكال في أن استصحاب وجود الليل أو النهار هل يثبت وقوع متعلق التكليف أو موضوعه في الليل والنهار ؟ أو أنه لا يثبت ذلك إلا على القول بالأصل المثبت ؟.
    وتوضيح الاشكال : هو أنه يعتبر في الموقتات إحراز وقوعها في الزمان الذي اخذ ظرفا لامتثالها ، فإنه لا يحصل العلم بالفراغ مع عدم إحراز ذلك ، فيعتبر في الصلاة اليومية وقوعها في اليوم وفي الصلاة الليلية وقوعها في الليل ، ويعتبر في الصوم وقوعه في رمضان ، وهكذا في سائر الموقتات ، فإنه يعتبر إحراز وقوعها فيما اخذ ظرفا لها من الزمان ، وباستصحاب وجود الليل والنهار لا يمكن إثبات الظرفية ، فإنها كحكاية الحال من العناوين التي لا يثبتها الاستصحاب إلا على القول بالأصل المثبت ، بل غاية ما يمكن إثباته بالاستصحاب بضم الوجدان إليه هو وجود الفعل أو الموضوع عند وجود الليل أو النهار ، وأما كونهما واقعين في


(437)
الليل والنهار فلا يكاد يثبته الاستصحاب.
    وحاصل الكلام : أن استصحاب الزمان لا يقتضي أزيد من وجود الزمان ليلا كان أو نهارا رمضانا كان أو شعبانا ، وأما كون هذا الزمان الحاضر من الليل أو النهار فلا يثبته الاستصحاب ، ومع عدم إثبات ذلك لا يصدق على الفعل كونه واقعا في الليل أو النهار الذي اخذ ظرفا لوقوعه ، كما هو ظاهر أدلة التوقيت.
    اللهم إلا أن يدعى : أن أدلة التوقيت لا تقتضي أزيد من اعتبار وقوع الفعل عند وجود وقته وإن لم يتحقق معنى الظرفية ولم يصدق على الفعل كونه واقعا في الزمان الذي اخذ ظرفا له شرعا ، بل يكفي مجرد صدق وقوع الفعل عند وجود وقته.
    هذا ، ولكن الظاهر أنه لا سبيل إلى هذه الدعوى ، فإنه لا يمكن إنكار دلالة أدلة التوقيت على اعتبار الظرفية ووقوع الفعل في الزمان المضروب له ، وعلى هذا تقل فائدة استصحاب الزمان ، فان الأثر المهم إنما يظهر في باب الموقتات ، والمفروض : أن استصحاب بقاء الوقت لا يثبت وقوع الفعل في الوقت ، فلا يظهر لاستصحاب بقاء الوقت أثر إلا إذا كان الزمان شرطا للتكليف ، فان الظرفية لا تعتبر فيه بل يكفي إحراز وجود الوقت ولو بالأصل ، ويترتب عليه الوجوب ، كما في وجوب الامساك والافطار وغير ذلك من الاحكام المشروطة بأوقات خاصة ، فلو شك في بقاء رمضان يجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه وجوب الامساك وإن لم يثبت كون الامساك في رمضان ، بل يكفي في وجوب الامساك مجرد العلم بوجود رمضان ، فإنه متى تحقق رمضان وجب الامساك ولا يحتاج إلى إحراز معنى الظرفية ، وهذا بخلاف ما إذا كان الزمان شرطا للواجب ، فان الظاهر من أخذ الزمان قيدا للامتثال هو اعتبار الظرفية ، فلا يعلم بالخروج عن عهدة التكليف إلا بعد إحراز وقوع الفعل المأمور به في الزمان


(438)
الذي اخذ ظرفا له ، وقد عرفت أنه باستصحاب وجود الزمان لا يمكن إثبات الظرفية.
    ففي مثل الصلاة الذي اخذ ما بين الزوال والغروب ظرفا لايقاعها لا يكفي مجرد استصحاب بقاء الوقت في إثبات وقوعها فيما بين الحدين ، وكذلك غير الصلاة مما اعتبر الزمان ظرفا لامتثاله.
    ومن ذلك يتولد إشكال ، وهو أنه لو شك في بقاء وقت وجوب الصلاة فالاستصحاب يجري فيه ويترتب عليه بقاء الوجوب ، ومع هذا لا يتحقق الامتثال لو أوقع المكلف الصلاة في الوقت المستصحب ، لعدم إحراز الظرفية وكون الصلاة واقعة في الوقت المضروب لها ، لما عرفت : من أن استصحاب بقاء الوقت لا يثبت الظرفية ، فيلزم التفكيك بين استصحاب وقت الوجوب واستصحاب وقت الواجب.
    ولا يندفع الاشكال باستصحاب نفس الحكم ـ كما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام ـ فإنه إن أريد من الاستصحاب الحكمي إثبات بقاء بنفس الحكم ، فالاستصحاب الموضوعي ـ وهو استصحاب بقاء وقت الحكم ـ يجري ويترتب عليه بقاء الحكم ولا يكون من الأصل المثبت ، وإن أريد من استصحاب الحكم إثبات وقوع الفعل المأمور به في وقته ، فهذا مما لا يثبته استصحاب بقاء وقت الوجوب ، فضلا عن استصحاب بقاء نفس الوجوب ، فالاستصحاب الحكمي لا أثر له ، فان الأثر الذي يمكن إثباته فبالاستصحاب الموضوعي يثبت ، والأثر الذي لا يمكن إثباته فبالاستصحاب الحكمي لا يثبت ، فلا فائدة في الرجوع إلى الاستصحاب الحكمي.
    فالعمدة في المقام : هو دفع الاشكال الذي يلزم من جريان استصحاب بقاء وقت الوجوب المثبت لوجوب الصلاة مع أنه لا يتحقق الامتثال عند إيقاع الصلاة في الوقت المستصحب ، فتأمل. وليكن هذا الاشكال على ذكر منك


(439)
لعله يأتي بعد ذلك ما يمكن الذب عنه (1) فان شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ تعرض للاشكال في المقام وأوعد الجواب عنه.

    المقام الثاني :
    في استصحاب الزمانيات التدريجية المبنية على التقضي والتصرم ، كالحركة والتكلم وجريان الماء وسيلان الدم الماء ونحو ذلك.
    وخلاصة الكلام فيه : هو أن الشك في بقاء الزماني
    تارة : يكون لأجل الشك في بقاء المبدأ الذي اقتضى وجود الزماني بعد إحراز مقدار استعداد بقائه ، كما إذا أحرز انقداح الداعي في نفس المتكلم للتكلم مقدار ساعة وشك في بقاء التكلم لاحتمال وجود صارف زماني عن الداعي أوجب قطع الكلام ، وكما لو أحرز مقدار استعداد عروق الأرض أو باطن الرحم لنبع الماء وسيلان الدم وشك في بقاء النبع والسيلان لاحتمال وجود مانع عن ذلك.
    وأخرى : يكون الشك في بقاء الزماني لأجل الشك في مقدار اقتضاء استعداد المبدأ لوجود الزماني ، كما إذا شك في مقدار انقداح الداعي للتكلم
1 ـ أقول : في لسان أدلة الموقتات التي أعظمها الصلاة ليس إلا قوله : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » وقوله : « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل » ومثل هذه الألسنة لا تقتضي كون عنوان « الوقوع في الوقت المضروب » شرطا شرعا ، بل إنما هو من لوازمه عقلا المترتب على الأعم من الواقع والظاهر ، نظير بقية الروابط في المشروطات بشروطها. وعلى فرض كونه من اللوازم الواقعية فليس شأن الاستصحاب إلا تطبيق ما هو مأخوذ في لسان الدليل شرعا ، كما هو واضح. مع أنه على فرض أخذ الوقوع في الزمان الخاص شرطا شرعيا ، فلا يعنى من وقوعه فيه إلا اعتبار إضافة إلى زمان اتصف بالليلية أو النهارية ، ولو بنينا على استصحاب الليلية والنهارية للآنات التدريجية بنحو التدرج صدق حينئذ وقوع صلاته في زمان وجدانا ، وهذا الزمان ليل أو نهار بالأصل ، ولقد مر منا أنه لا قصور في استصحاب الليلية والنهارية التدريجية للآنات التدريجية ، كما أسلفناه في الحاشية السابقة ، فتدبر.

(440)
ومقدار استعداد عروق الأرض وباطن الرحم لجريان الماء وسيلان الدم ، بحيث احتمل أن يكون انقطاع التكلم والماء والدم لأجل عدم اقتضاء المبدأ لبقاء ذلك ، لا لوجود صارف أو مانع زماني.
    وثالثة : يكون الشك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدء آخر مقام المبدء الأول بعد العلم بارتفاعه ، كما إذا شك في بقاء التكلم والماء والدم لأجل احتمال انقداح داع آخر في نفس المتكلم يقتضي التكلم بعد القطع بارتفاع الداعي الأول أو احتمال قيام مبدء آخر مقام المبدء الأول يقتضي جريان الماء أو احتمال عروض أمر في باطن الرحم يقتضي سيلان الدم بعد القطع بارتفاع ما كان في باطن الرحم أولا ، فهذه جملة ما يتصور من الوجوه التي يمكن أن يقع عليها الشك في بقاء الزمانيات المتدرجة في الوجود.
    أما الوجه الأول : فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب فيه ، فان ما يتحقق من الكلام خارجا عند اشتغال المتكلم به وإن كان ذا أفراد متعاقبة ولا يتحقق فرد إلا بعد انعدام الفرد السابق ويكون كل كلمة بل كل حرف فرد مستقلا من الكلام ، إلا أنه عرفا يعد فردا واحدا من الكلام وإن طال مجلس التكلم وأن ما يوجد منه في الخارج بمنزلة الاجزاء لكلام واحد ، فيكون للكلام حافظ وحدة عرفية ، ووجوده عرفا إنما يكون بأول جزء منه ويبقى مستمرا إلى انقطاع الكلام وانتهاء مجلس التكلم ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.
    وبالجملة : الشك في بقاء التكلم وإن كان حقيقة يرجع إلى الشك في وجود فرد آخر مقارن لانعدام الفرد السابق فيندرج في الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي ـ الذي قد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه ـ إلا أنه لما كان جميع ما يوجد من الكلام في الخارج مع وحدة الداعي ومجلس التكلم يعد عرفا كلاما واحدا ، فالشك في بقائه يرجع


(441)
بتقريب إلى القسم الأول أو الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، وبتقريب آخر إلى الوجه الثالث من القسم الثالث من تلك الأقسام ، وهو ما إذا كان الشك في بقاء القدر المشترك لأجل احتمال تبدل الحادث إلى مرتبة أخرى من مراتبه بعد القطع بارتفاع المرتبة السابقة ، وقد تقدم : أن الأقوى جريان الاستصحاب فيه.
    فالأقوى : جريان الاستصحاب في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتصورة في الشك في بقاء الزمانيات المتصرمة.
    ويلحق به الوجه الثاني ، وهو ما إذا كان الشك في بقائها لأجل الشك في مقدار استعداد بقاء المبدء ، فان الشك في بقاء الزماني فيه أيضا يرجع إلى الشك في بقاء ما وجد ، فإنه لا فرق في صدق وحدة الكلام والماء والدم بين أن يكون المبدء يقتضي وجودها ساعة من الزمان أو ساعتين ، فيجري الاستصحاب في الساعة الثانية عند الشك في اقتضاء المبدء للوجود فيها ، مع قطع النظر عن كونه من الشك في المقتضي إلي لا نقول بجريان الاستصحاب فيه.
    وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا كان الشك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدء آخر يقتضي وجوده مقام المبدء الأول الذي علم بارتفاعه ، فالأقوى : عدم جريان الاستصحاب فيه ، لأنه يرجع إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، فان وحدة الكلام عرفا إنما يكون بوحدة الداعي ، فيتعدد الكلام بتعدد الداعي ، فيشك في حدوث فرد آخر للكلام مقارن لارتفاع الأول عند احتمال قيام داع آخر في النفس بعد القطع بارتفاع ما كان منقدحا في النفس أولا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وكذا الحال في الماء والدم ونحو ذلك من الأمور التدريجية (1) فتأمل.
1 ـ أقول : على فرض تسليم ما أفيد في التكلم : من مساعدة العرف على تغير التكلم من فرد إلى فرد آخر حسب اختلاف الدواعي في الكلام ـ مع أنه لا كلية فيه أيضا وإنما العرف يساعد في صورة تغير عنوان الكلام من مثل القرآن والدعاء على اختلاف الأدعية والسور أيضا ـ لا مجال لتسليمه في

(442)
    تذييل :
    قد ذكر الشيخ ـ قدس سره ـ للشك المتعلق بالزمان والزماني أقساما ثلاثة :
    الأول : الشك في بقاء الزمان. واختار فيه جريان الاستصحاب بالبيان المتقدم.
    الثاني : الشك في بقاء الزماني المتصرم ، كالتكلم والحركة. وقد أطلق جريان الاستصحاب فيه ، ولكن كان الأنسب أن يذكر فيه التفصيل المتقدم.
    الثالث : الشك في بقاء الزماني المقيد بالزمان الخاص ، كما إذا وجب الجلوس إلى الزوال ثم شك في وجوب الجلوس بعد الزوال. وقد جزم بعدم جريان الاستصحاب فيه.
    والحق فيه أيضا التفصيل بين كون الزمان قيدا للجلوس مكثرا للموضوع بحيث كان الجلوس بعد الزوال مغايرا للجلوس قبله وبين كون الزمان ظرفا له ، ففي الأول لا يجري الاستصحاب ، وفي الثاني يجري. ومجرد أخذ الزمان الخاص في دليل الحكم لا يقتضي القيدية الموجبة لتكثر الموضوع ، بل يمكن فيه الظرفية أيضا.
    ومن الغريب ! ما حكاه الشيخ ـ قدس سره ـ عن الفاضل النراقي ـ رحمه الله ـ من القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي في الاحكام ، كما لو علم بوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال وشك في وجوبه بعد الزوال ، فاستصحاب بقاء الوجوب الثابت قبل الزوال يعارض استصحاب بقاء عدم الوجوب الأزلي للجلوس بعد الزوال ، فان المتيقن من
جريان الماء والدم إلا بتغير خصوصيتها المتقومة عرفا ، وإلا فمثل اختلاف المبدء في هذه الأمور كمثل اختلاف عمود الخيمة بالنسبة إلى بقاء هيئة الخيمة بحالها ، كما لو شك في بقاء عمود آخر مقام العمود السابق المنتفي قطعا ، فإنه لا قصور في استصحاب بقاء هيئة الخيمة بحالها ، كما لا يخفى.

(443)
انتقاض العدم الأزلي هو وجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال ، فكما يصح استصحاب بقاء الوجوب إلى ما بعد الزوال ، كذلك يصح استصحاب بقاء عدم الوجوب الأزلي إلى ما بعد الزوال ، وليس الحكم ببقاء أحد المستصحبين أولى من الحكم ببقاء الآخر.
    ثم أورد على نفسه بما حاصله : أن الشك في بقاء العدم الأزلي بعد الزوال ليس متصلا باليقين لفصل اليقين بالوجوب الثابت قبل الزوال بين اليقين بالعدم الأزلي وبين الشك في بقائه بعد الزوال ، وهذا بخلاف الشك في بقاء الوجوب بعد الزوال ، فإنه متصل بيقينه.
    وأجاب عن ذلك : بأنه يمكن فرض حصول الشك في يوم الخميس ببقاء عدم الوجوب بعد زوال يوم الجمعة ، فيتصل زمان الشك بزمان اليقين ، فإنه في يوم الخميس يعلم بعدم وجوب الجلوس ويشك في وجوبه بعد الزوال من يوم الجمعة ، فيجتمع زمان اليقين والشك في يوم الخميس ويتصل أحدهما بالآخر.
    ثم ذكر أمثلة اخر لتعارض الاستصحابين :
    منها : ما إذا حصل الشك في بقاء وجوب الصوم والامساك في أثناء النهار ، كما إذا عرض للمكلف مرض أوجب الشك في وجوب الامساك عليه ، فيعارض استصحاب بقاء وجوب الصوم الثابت قبل عروض المرض مع استصحاب بقاء عدم وجوب الصوم الأزلي في الزمان الذي يشك في وجوب الصوم فيه.
    ومنها : ما إذا شك في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو بقاء النجاسة بعد الغسل بالماء مرة واحدة ، فيعارض استصحاب بقاء الطهارة الحدثية والخبثية مع استصحاب عدم إيجاب الشارع الوضوء عقيب المذي (1) وتشريع النجاسة
1 ـ لا يخفى عليك ما في هذه العبارة من الخلط ، والصحيح أن يقال : « مع استصحاب عدم جعل

(444)
عقيب الغسل مرة واحدة.
    ففي جميع هذه الأمثلة يقع التعارض بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم الأزلي. نعم : في خصوص مثال الوضوء والمذي يكون استصحاب عدم جعل الشارع المذي رافعا للطهارة حاكما على استصحاب عدم جعل الوضوء المتعقب بالمذي موجبا للطهارة. هذا حاصل ما حكاه الشيخ ـ قدس سره ـ عن الفاضل النراقي.
    وقد أورد عليه بقوله : وفيه أولا وثانيا وثالثا. وحاصل ما ذكره في الامر الأول : هو أن الزمان في مثال وجوب الجلوس إلى الزوال ، إما أن يؤخذ قيدا للحكم أو الموضوع ، واما أن يؤخذ ظرفا له ، فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب الوجود لارتفاع الوجود قطعا بعد الزوال ، فلو ثبت وجوب الجلوس بعده فهو فرد آخر للوجوب والجلوس مباين لما كان قبل الزوال ، فان التقييد بالزمان يقتضي تعدد الموضوع وكون الموجود بعده غير الموجود قبله ، فأخذ الزمان قيدا يقتضي عدم جريان استصحاب الوجود ، بل يجري فيه استصحاب العدم الأزلي فقط ، لان العدم الأزلي وإن انتقض بالوجود ، إلا أنه انتقض بالوجود المقيد بزمان خاص ، وانتقاضه إلى المقيد لا يلازم انتقاضه المطلق ، فيستصحب عدمه المطلق فيما بعد الزوال.
    هذا إذا اخذ الزمان قيدا للحكم أو الموضوع. وإن اخذ ظرفا له : فلا يجري فيه استصحاب العدم الأزلي ، لانتقاض العدم إلى الوجود المطلق الغير المقيد بزمان خاص ، والشيء المنتقض لا يمكن استصحابه ، بل لابد من استصحاب الوجود ، ففي المورد الذي يجري فيه استصحاب العدم لا يجري فيه استصحاب الوجود ، وفي المورد الذي يجري فيه استصحاب الوجود لا يجري فيه استصحاب
الوضوء المتعقب للمذي موجبا للطهارة » ( المصحح )

(445)
العدم ، فكيف يعقل وقوع التعارض بينهما مع كون التعارض فرع الاجتماع ؟.
    هذا حاصل ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ بقوله : « أما أولا ».
    ولكن للنظر فيما أفاده مجال ، فان الظاهر عدم جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا ، وإن اخذ الزمان قيدا للحكم أو الموضوع ، لان العدم الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كل حادث مسبوقا به ، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كل حادث إنما يكون بحدوث الحادث وشاغليته لصفحة الوجود ، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده فهذا العدم غير العدم الأزلي ، بل هو عدم آخر حادث بعد وجود الشئ.
    وبعبارة أوضح : العدم المقيد بقيد خاص من الزمان أو الزماني إنما يكون متقوما بوجود القيد ، كما أن الوجود المقيد بقيد خاص إنما يكون متقوما بوجود القيد ، ولا يعقل أن يتقدم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاص عنه ، فلا يمكن أن يكون لعدم وجوب الجلوس في يوم السبت تحقق في يوم الجمعة.
    وحينئذ نقول : إنه إذا وجب الجلوس إلى الزوال فالعدم الأزلي انتقض إلى الوجود قطعا (1) فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لاخذ الزوال قيدا
1 ـ أقول : مرجع أخذ الزمان قيدا ومفردا للموضوع كون الوجوب الثابت له وجوبا آخر غير ما يثبت للفرد الآخر ، فقهرا يصير المجعول في المقام فردين من الوجوب ، غاية الامر يكون الفردان تدريجيان حسب تدريجية موضوعاته المقيدات بالزمان. فعند ذلك نقول : إن كل واحد من هذه الافراد هل من الحوادث الملازم لسبقه بالعدم أم لا ؟ لا سبيل إلى الثاني. كما أن مرجع حدوث الشيء إلى سبقه بعدم نفسه ، لا بعدم الطبيعة الجامعة بينه وبين غيره ، فإذا كان الفرد الثاني أيضا حادثا فلا محيص من أن يكون وجوده مسبوقا بعدم نفسه ، ومرجعه إلى سبقه بالعدم المضاف إلى المقيد لا بالعدم المقيد ، إذ العدم المقيد لا يكون نقيض الوجود المقيد ، كيف ! وبارتفاع القيد يلزم ارتفاع النقيضين ، وهو كما ترى ! بل الوجود والعدم طاريان على الماهية المقيدة بنحو يكون القيد في مثلها مأخوذا في مرتبة ذاتها السابقة في اللحاظ عن مرتبة طرو الوجود والعدم عليه ، فالوجود والعدم في عالم طروهما على المقيد مرسلتان عن القيد ، كيف ! والقيد مأخوذ في معروض الوجود فكيف يرجع هذا القيد إلى نفسه ؟ نعم : هو مانع عن إطلاق الوجود ،

(446)
للوجوب ، فعدم الوجوب بعد الزوال لا يكون هو العدم الأزلي ، لأنه مقيد بكونه بعد الزوال ، والعدم المقيد غير العدم المطلق المعبر عنه بالعدم الأزلي ، فالمستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المطلق ، بل هو العدم المقيد بما بعد الزوال ، فإنه لو قطعنا النظر عن قيد كونه بعد الزوال ولاحظنا العدم المطلق فهو مقطوع الانتقاض لوجوب الجلوس قبل الزوال ، فلابد وأن يكون المستصحب هو العدم بعد الزوال ، والعدم المقيد بما بعد الزوال كالوجود المقيد به قوامه وتحققه إنما يكون بما بعد الزوال ولا يكون له تحقق قبل الزوال ، فلا يمكن استصحاب العدم بعد الزوال إلا إذا آن وقت الزوال ولم يثبت الوجود ، ففي الآن الثاني يستصحب العدم.
    وأما إذا فرض أنه في أول الزوال شك في الوجود والعدم ـ كما هو مفروض الكلام ـ فلا مجال لاستصحاب العدم ، بل لابد من الرجوع إلى البراءة والاشتغال.
    وحاصل الكلام : وجوب الجلوس بعد الزوال وإن كان حادثا مسبوقا بالعدم ، إلا أن العدم المسبوق به ليس هو العدم الأزلي ، لانتقاض العدم الأزلي بوجوب الجلوس قبل الزوال (1) فلابد وأن يكون العدم المسبوق به هو العدم آن الزوال أو بعد الزوال لو فرض أن آن الزوال كما قبل الزوال يجب الجلوس فيه ،
لا أنه موجب لتقيده ، كما هو الشأن في كل قيد مأخوذ في الموضوع أو الحكم بالقياس إلى غيره من حكمه أو موضوعه ، وحينئذ فقهرا العدم المضاف إلى هذا الفرد المقوم لحدوثه لا محيص من كونه أزليا ، وما ليس أزلي هو العدم المقيد ، بحيث يكون القيد راجعا إلى العدم لا إلى المعدوم ، ولإن تأملت ترى هذه المغالطة دعاه إلى انكار الاستصحاب في كلية الاعدام الأزلية في موارد الشك في مقارنة الموجود الخاص بوصف ، كقرشية المرأة وأمثاله ، كما شرحه في رسالة مستقلة ، ونحن أيضا كتبنا شرح مغالطته في رسالة مستقلة ، فراجع الرسالتين ، ولا تنظر إلى الرعد والبرق منه ومن أصحابه المتعبدين بمسلك أستاذهم !!!.
1 ـ أقول : بعد الاعتراف بأنه حادث مسبوق بالعدم ، فأين عدم سبقه الوجوب من حين الزوال ؟ فان لم يكن له عدم فكيف يكون حادثا ؟ وإن كان حادثا فعليك بتعيين عدمه ! وليس لك أن تقول


(447)
فقبل الزوال ليس الوجب المقيد بما بعد الزوال متحققا ولا عدم الوجوب المقيد بذلك متحققا ، إلا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.
    نعم : جعل الوجوب بعد الزوال وإنشائه إنما يكون أزليا كعدم الجعل والانشاء ، فإنه لا مانع من إنشاء وجوب الجلوس يوم الجمعة من يوم الخميس أو قبله ، بل إنشاء الأحكام الشرعية كلها أزلية ، فإذا شك في جعل وجوب الجلوس بعد الزوال أزلا فالأصل عدم الجعل ، لان كل جعل شرعي مسبوق بالعدم ، من غير فرق بين أخذ الزمان قيدا أو ظرفا ، غايته أنه إن أخذ الزمان قيدا لوجوب الجلوس لم يعلم انتقاض عدم الجعل بالنسبة إلى ما بعد الزوال ، لأنه بناء على القيدية يحتاج وجوب الجلوس بعد الزوال إلى جعل آخر مغاير لجعل الوجوب قبل الزوال ، وحيث إنه يشك في جعل الوجوب بعد الزوال فالأصل عدمه.
    ولعل مراد الشيخ ـ قدس سره ـ من استصحاب العدم الأزلي بعد الزوال إذا كان الزمان قيدا هو عدم الجعل ، لا عدم المجعول ، لما عرفت : من أن عدم المجعول بعد الزوال لا يكون أزليا ، بخلاف عدم الجعل ، ولكن قد تقدم بما لا مزيد عليه في مباحث الأقل والأكثر أنه لا أثر لاستصحاب عدم الجعل إلا باعتبار ما يلزمه : من عدم المجعول ، وإثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت.
    هذا ، مضافا إلى ما عرفت أيضا في مباحث الأقل والأكثر : من أن استصحاب البراءة الأصلية ـ المعبر عنه باستصحاب حال العقل ـ لا يجري مطلقا ، لان العدم الأزلي ليس هو إلا عبارة عن اللاحكمية واللاحرجية ، وهذا المعنى بعد وجود المكلف واجتماع شرائط التكليف فيه قد انتقض قطعا ولو إلى الإباحة ، فان اللاحرجية في الإباحة بعد اجتماع شرائط التكليف غير
بأن عدم الحكم بعدم موضوعه ، إذ الوجوب لابد وأن يكون في ظرف عدم الموضوع ، إذ بوجوده يسقط الوجوب ، وحينئذ لا محيص إلا من الاعتراف بما ذكرناه ، فتدبر.

(448)
اللا حرجية قبل وجود المكلف ، إذا الأول يستند إلى الشارع والثاني لا يستند إليه ، فراجع ما سبق منا في بعض مباحث الأقل والأكثر.
    فتحصل مما ذكرنا : أنه لا مجال لما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ من استصحاب العدم الأزلي إذا كان الزمان قيدا لوجوب الجلوس قبل الزوال (1) بل لابد في ذلك من الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال. نعم : لا إشكال فيما افاده : من استصحاب الوجوب الثابت قبل الزوال إذا كان الزمان ظرفا للموضوع أو الحكم.
    وعلى كل تقدير : لا يستقيم ما ذكره الفاضل المتقدم : من تعارض استصحاب الوجود والعدم في مثال وجوب الجلوس قبل الزوال مع الشك في وجوبه بعده ، فإنه إن اخذ الزمان ظرفا فلا يجري إلا استصحاب الوجوب ، وإن أخذ قيدا فلا يجري استصحاب الوجوب ولا استصحاب عدم الوجوب ، بل لابد من الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال.
    وأما ما ذكره من مثال الصوم : ففيه أولا : أنه لابد من فرض الصحة والمرض من حالات الموضوع والمكلف الذي يجب عليه الصوم لا من القيود المأخوذة فيه ، بداهة أنه لو كان المريض والصحيح موضوعين مستقلين يجب على أحدهما الافطار وعلى الآخر الامساك كالمسافر والحاضر ، فالشك في عروض المرض المسوغ للافطار يوجب الشك في بقاء الموضوع ، فلا مجال لاستصحاب الحكم ، لعدم اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.
    ودعوى : كون المرض والصحة من الحالات لا القيود المقومة للموضوع واضحة الفساد (2).
1 ـ أقول : ولعمري ! إنك بعد الاعتراف بكون كل فرد من الوجوبات الثابتة للمقيدات بالأزمنة أفرادا حادثة تدريجية لطبيعة الوجوب ، لا محيص لك من الالتزام بسبق كل فرد حادث بعدم نفسه ، فيستصحب حينئذ هذا العدم ، وإلا فلابد وأن ننكر حدوث كل فرد وحادثيته بشخصه ، وهو كما ترى.
2 ـ أقول : لا نرى وضوح فساده إذا كان المدار على العرف.


(449)
    وثانيا : ما تقدم من أنه لا يجرى استصحاب عدم الوجوب ، بالتقريب المتقدم.
    وأما ما ذكره من مثال الوضوء والمذي والنجاسة والغسل مرة واحدة : ففيه مضافا إلى ما تقدم أن رتبة جعل المذي رافعا لاثر الطهارة أو غير رافع له إنما تكون متأخرة عن رتبة جعل الوضوء سببا للطهارة ، فلا يعقل أخذ عدم رافعية المذي قيدا في سببية الوضوء للطهارة ، فتأمل جيدا.

    قد تقدم : أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون الدليل المثبت للمستصحب هو العقل أو الكتاب والسنة. وقد خالف في ذلك الشيخ ـ قدس سره ـ فذهب إلى عدم جريان الاستصحاب إذا كان الدليل هو العقل ، وقد عرفت ضعفه. ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول : إن البحث عن جريان الاستصحاب في باب المستقلات العقلية يقع في مقامات ثلاث :
    الأول : في استصحاب نفس الحسن والقبح العقلي عند الشك في بقائه لأجل حصول الغاية أو وجود الرافع.
    الثاني : في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة.
    الثالث : في استصحاب الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه والشارع بوجوبه أو حرمته.
    أما المقام الأول : فلا أثر للبحث عنه ، إذ لا يترتب على استصحاب الحسن والقبح العقلي أثر إلا إذا أريد من استصحابه إثبات الحكم الشرعي : من الوجوب أو الحرمة (1) ولا يمكن إثبات ذلك إلا على القول بحجية الأصل
1 ـ أقول : الأولى أن يقال : إن الحسن والقبح بعدما كان من الاحكام العقلية الوجدانية بحيث يكون دركه إياه مقوم وجوده وليس من الاحكام العقلية الاستكشافية التي يكون دركه لها طريقا عليها

(450)
المثبت ، فان جريان الأصل في أحد المتلازمين لاثبات اللازم الآخر يكون من أوضح مصاديق الأصل المثبت ، وذلك واضح.
    وأما المقام الثاني : فالحق جريان الاستصحاب فيه ، سواء كان الشك في الغاية أو الرافع ، وسواء كان الرافع والغاية شرعيين أو عقليين ، فإنه لا موجب لتوهم عدم جريان الاستصحاب فيه إلا تخيل كون الاحكام العقلية مما لا يعرضها الاجمال والاهمال فلا يمكن أن يدخلها الشك ، فان الشك في بقاء الحكم أو الموضوع لابد وأن يكون لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يكون الحكم أو الموضوع واجدا لها ، فإنه مع بقاء الشيء على ما هو عليه لا يمكن أن يدخله الشك. ومن المعلوم : أن العقل لا يستقل بحسن شيء أو قبحه إلا بعد تشخيص الموضوع وتبينه لديه بتمام ما له دخل في الموضوع ، فكل خصوصية أخذها العقل في الموضوع فلابد وأن يكون لها دخل في ملاك حكمه ، فلا يمكن الشك في بقاء حكم العقل ، فإنه إن كان واجدا للخصوصية التي اعتبرها العقل فيه فلا محالة يقطع ببقاء الحكم ، وإن كان فاقدا لها فيقطع بارتفاع الحكم ، ولا يعقل الشك من نفس الحاكم خصوصا مثل العقل الذي لا يستقل بشيء إلا بعد الالتفات إليه بجميع ما يعتبر فيه ، فإذا كان كان الحكم العقلي مما لا يتطرق إليه الشك فالحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أيضا لا يتطرق إليه الشك ، لان الحكم الشرعي تابع للحكم العقلي في الموضوع والملاك ، فلا يمكن أن يدخله الشك ، فالاستصحاب لا يجري ، لا في الحكم العقلي ولا في الحكم الشرعي المستكشف منه بقاعدة الملازمة.
ـ كاستحالة اجتماع النقيضين أو الضدين ـ فلا يتصور فيها الشك ، إذ بمجرد عروض ما يوجب زوال دركه يقطع بعدم دركه الحسن. نعم : ما هو مشكوك حينئذ هو ملاك حسنه من المصالح الواقعية الغير المرتبطة بعالم الاحكام العقلية ، وحينئذ فلا ينتهي النوبة إلى ابتناء المسألة بالأصول المثبتة ، كما لا يخفى. ثم إن المقرر خلط بين نحوي الحكمين فيما يأتي ، وننتظر لسان خلطه في محله.
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس