فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 451 ـ 465
(451)
    هذا حاصل ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ في وجه المنع عن جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية.
    ولكنه ضعيف ، لما فيه :
    أولا : المنع عن كون كل خصوصية اعتبرها العقل في موضوع حكمه لابد وأن يكون لها دخل في مناط حكم العقل ، إذ من الممكن أن لا تكون للخصوصية دخل في المناط واقعا ، وإنما أخذها العقل في موضوع حكمه لمكان أن الموضوع الواجد لها هو المتيقن في اشتماله على الملاك بنظر العقل ، مع أن العقل يحتمل أن لا يكون لها دخل في الملاك واقعا ، فيكون حكم العقل بحسن الواجد لها أو قبحه من باب الاخذ بالقدر المتيقن.
    ودعوى : أن الاحكام العقلية كلها مبينة مفصلة مما لا شاهد عليها ، إذ من المحتمل أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار الغير النافع من جهة أن الكذب الواجد لهذه الخصوصيات هو المتيقن في قبحه وقيام المفسدة به ، مع أنه يحتمل أن لا يكون لخصوصية الضرر أو عدم النفع دخل فيما هو مناط القبح ، بل يكون نفس العقل شاكا في قبح الكذب الغير الضار.
    وثانيا : سلمنا أن كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه فلابد وأن يكون لها دخل في المناط بنظر العقل ، إلا أن ذلك يمنع عن استصحاب حكم العقل ، وليس المقصود ذلك ، لما عرفت : من أن استصحاب حكم العقل لا أثر له ، بل المقصود استصحاب حكم الشرع ، فيمكن أن لا يكون لبعض الخصوصيات التي أخذها العقل في موضوع حكمه دخل في الموضوع عرفا ، فلا يضر انتفائها ببقاء الموضوع عرفا (1) والمناط في جريان الاستصحاب هو بقاء
1 ـ أقول : بل الأولى أن يقال : ليس كل ما هو دخيل في حكمه العقلي دخيلا في مناطه ولو عقلا ، والحكم الشرعي تابع مناطه ، وإلا فلو كان دخيلا في مناطه عقلا فعدمه يوجب القطع بعدم المناط ، ومع القطع بعدمه يقطع بعدم الحكم الشرعي التابع له ، إلا إذا فرض احتمال أو سعية مناط الحكم

(452)
الموضوع عرفا لا عقلا. فالانصاف : أنه لا مجال للاشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية ، وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا.
    وأما المقام الثالث : وهو استصحاب بقاء الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه والشارع بوجوبه أو حرمته ، فخلاصة الكلام فيه : هو أن الشك في بقاء الموضوع إن كان لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في موضوعية الموضوع (1) فلا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الموضوع إن لم تكن تلك الخصوصية من أركان الموضوع عرفا ولا يضر انتفائها ببقائه في نظر العرف وإن كانت عند العقل من مقومات الموضوع وأركانه ، فان كونها عند العقل كذلك إنما يضر بالاستصحاب إذا بنينا على أخذ الموضوع في باب الاستصحاب من العقل ، وأما إذا بنينا على أخذه من العرف ـ على ما سيأتي بيانه ـ فكونها من مقومات الموضوع عقلا لا يمنع عن الاستصحاب. هذا ، مضافا إلى ما عرفت : من أنه يحتمل أن لا يكون لها دخل في الموضوع عقلا ، بل إنما كان حكم العقل على الواجد لها من باب الاخذ بالقدر المتيقن ، فمنع الشيخ ـ قدس سره ـ عن جريان الاستصحاب في هذا القسم من الشك في الموضوع في غير محله.
الشرعي عن الحكم العقلي عقلا. وعلى أي حال : حكم العرف في المقام ببقاء الموضوع أجنبي عن مرحلة الشك في بقائه ، إذ هو تابع احتمال عدم الدخل عقلا ، كما هو ظاهر.
1 ـ أقول : إن كان الغرض من استصحاب الموضوع في مثل المقام من الشبهات الحكمية استصحاب الموضوع بوصف موضوعيته ، فهو يرجع إلى استصحاب حكمه ، لان وصف الموضوعية منتزع عن حكمه ، فيغني استصحاب الاحكام عن مثله. وإن كان الغرض استصحاب ما هو معروض صفة الموضوعية الذي هو نفس الذات التي عرض عليها الحكم ـ كما هو الظاهر من كلامه ـ فمثل هذا الاستصحاب غير جار في كلية موضوعات الحكم في الشبهات الحكمية ، لان مرجع الشك فيه إلى الشك في أن الأعم من الواجد موضوع أم خصوص الواجد ، ومن البديهي أن ما هو المعروض أمره دائر بين مقطوع البقاء وبين مقطوع الارتفاع وأن الشك إنما تعلق ببقاء ما هو معروض الحكم بنحو الاجمال ، وهو بهذا العنوان لا أثر له ، فيكون حكم استصحابه حكم استصحاب الفرد المردد ، فتدبر.


(453)
    وإن كان الشك في بقاء الموضوع لبعض الأمور الخارجية كالشك في بقاء وصف الاضرار في السم لاحتمال أن يكون قد تصرف الهواء فيه بحيث زال عنه وصف الاضرار ، فظاهر الشيخ ـ قدس سره ـ جريان الاستصحاب فيه إذا بنينا على حجية الاستصحاب من باب إفادته الظن بالبقاء لا من باب التعبد.
    وهذا الكلام من الشيخ ـ قدس سره ـ بمكان من الغرابة ! بداهية أن الظن المعتبر في باب الاستصحاب على القول بإفادته الظن إنما هو الظن النوعي لا الظن الشخصي ، فإنه لم يحتمل أحد اعتبار الظن الفعلي في جريان الاستصحاب ، والظن المعتبر في باب الظن بالضرر إنما هو الضرر الشخصي الفعلي ، فان العقل إنما يستقل بقبح الاقدام على الضرر المظنون فعلا ، واستصحاب بقاء الضرر في السم لا يوجب حصول الظن الفعلي ، وذلك واضح.
    وعلى كل حال : ينبغي في المقام من تحرير الكلام في جميع موارد الشك في موضوعات الاحكام العقلية ، وإن كان قد سبق منا الكلام فيه.
    وقبل ذلك ينبغي التنبيه على أمر :
    وهو أنه ليس في الاحكام العقلية ما يستقل العقل بالبراءة فيها عند الشك في الموضوع الذي يحكم العقل بقبحه (1) بل للعقل حكم طريقي في صورة الشك
1 ـ أقول : قد تقدم منا الإشارة إلى أن الاحكام العقلية سنخان : سنخ منها تابع وجدان العقل ، بحيث يكون دركه مقوم حكمه ، وهذا كحسن شيء لديه أو قبحه ، فان حقيقة الحسن ليس إلا عبارة عن ملائمة الشيء لدى القوة العاقلة ـ كسائر ملايمات الشيء لدى سائر قواه من السامعة والذائقة وغيرهما ـ قبال ما ينافر لدى القوة العاقلة ، فيسمى بالقبح ـ نظير سائر المنافرات لدى سائر القوى ـ وجميع هذه القوى في الحقيقة من آلات درك النفس وجنوده ، فالمدرك هو النفس بتوسيط هذه القوى. وعلى أي حال : بعدما كان قوام حسن الشيء أو قبحه بالدرك المزبور يستحيل تصور الشك في بقائه عند طرو ما يزيل مقدمات دركه. نعم : ما هو قابل للشك هو مناط حكم العقل : من المصالح والمفاسد ، وهو أيضا أجنبي عن الاحكام العقلية ، بل هو مناط أحكامه ، كما أنه ربما يكون مناطا للأحكام الشرعية

(454)

أيضا ، وهذا بخلاف الاحكام الاستكشافية : من مثل استحالة اجتماع الضدين والنقيضين لديه ، فان دركه طريق إلى الاستحالة الواقعية ولا يكون مقوم استحالته ، نعم : تصديقه بالاستحالة طريق فهمه إياه ، وفي مثله ربما يطرء الشك في استحالة الشيء ، ومنه حكمه باستحالة التكليف بما لا يطاق واعتبار القدرة واقعا مع إمكان الشك فيه من جهة احتمال عدم قدرته. وحيث عرفت ما ذكرنا ظهر لك : أنه في صورة احتمال فقدان ما له دخل في حكمه الواجداني يستحيل حينئذ أن يحتمل حكمه المتقوم بدركه ووجد انه بل في هذه الصورة يجزم بعدم الدرك ، إذ يستحيل خفاء الوجدانيات على الوجدان ، إذ مرجعه إلى الشك في تصديق نفسه بشيء ، وهو كما ترى ! ومع الجزم بعدم دركه الحسن التكليف بما لا يطاق واعتبار القدرة واقعا مع إمكان الشك فيه من جهة احتمال عدم قدرته. وحيث عرفت ما ذكرنا ظهر لك : أنه في صورة احتمال فقدان ما له دخل في حكمه الواجداني يستحيل حينئذ أن يحتمل حكمه المتقوم بدركه ووجد انه بل في هذه الصورة يجزم بعدم الدرك ، إذ يستحيل خفاء الوجدانيات على الوجدان ، إذ مرجعه إلى الشك في تصديق نفسه بشيء ، وهو كما ترى ! ومع الجزم بعدم دركه الحسن المساوي لعدم حسنه لديه أين شك فيه كي يبقى مجال حكمه بايجاب الاحتياط في رتبة شكه ؟ غاية ما في الباب ليس إلا احتمال المصلحة المقتضية لحكمه بحسن الشيء عند دركها ، وهذا الاحتمال لو كان موضوع حكم العقل بايجاب الاحتياط ، فيلزم حكمه به في كل شبهة حكمية أو موضوعية بدوية ، لاحتمال وجود ملاكه فيه ، ومرجع هذا الكلام إلى أن الأصل في الأشياء لدى العقل الحذر.
    ولعمري ! إن ذلك مسلك سخيف لا يعتنى به ، إذ العقل مستقل بالرخصة في صورة عدم البيان على الحكم الشرعي ولو مع احتمال ملاك حكمه. نعم : ما أفيد من الشك صحيح في الاحكام الاستكشافية : من مثل استحالة التكليف بغير المقدور ولا يطاق ، ولكن الشك في الاستحالة لا يوجب أيضا حكم العقل ظاهرا على وفقه ، وإلا فيلزم حكمه بعدم التكليف مع الشك في القدرة ، مع أنه ليس كذلك ، بل العقل مستقل بوجوب الاحتياط عند الشك به بملاحظة أن موضوع حكمه بالترخيص إنما هو في صورة الشك في أصل الغرض ، وأما مع العلم به أو الشك في قابلية المحل لاستيفائه فهو داخل في حكم العقل بالاحتياط ، وعمدة النكتة فيه : هو أن هم العقل في باب الامتثال على تحصيل غرض المولى الكاشف عن تمامية المصلحة في عالم القضية فعلية خطابه ، ولذا لم علم من الخارج تمامية غرضه لما يحتاج إلى خطابه في وجوب تحصيله عقلا ، بل لو فرض صدور خطاب عن مولاه اشتباها على خلافه لا يجب اتباعه ، وذلك أقوى شاهد على أن تكاليف المولى طرا طرق إلى ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الاتيان بلا موضوعية لفعلية إرادة المولى فيه ، وحيث كان الامر كذلك ، فمع دلالة الخطاب على تمامية الغرض وعدم قصور في ناحية الملاك في وفائه بغرض مولاه وشك في قصور المورد عن توجيه التكليف ، فقد تم ما على المولى بيانه ، فيخرج المورد عن باب العقاب بلا بيان ، إذ المفروض : أن المصلحة لا قصور في تماميته في عالم الغرضية للمولى ، وإنما القصور لو كان فإنما هو في تمكن العبد على تحصيله ، فمع العلم بعدم القدرة لا يبقى لحكم العقل مجال بتحصيله ، ومع عدم علمه به واحتمال القدرة


(455)
في الموضوع على طبق حكمه الواقعي ، ولا يمكن أن لا يكون للعقل حكم في موارد الشك في الموضوع أو يكون له حكم على خلاف حكمه على الموضوع الواقعي ، بل إذا استقل العقل بقبح الاقدام على شيء فلابد وأن يكون له حكم طريقي آخر بقبح الاقدام على مالا يؤمن أن يكون هو الموضوع للقبح ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فان للشارع أن يجعل في صورة الشك في الموضوع حكما مخالفا للحكم الذي رتبه على الموضوع أولا ، وله أيضا أن يجعل في صورة الشك في الموضوع حكما موافقا لما حكم به أولا ، كما جعل أصالة الاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال وأصالة البراءة فيما عدا هذه الموارد الثلاثة.
    ومنشأ الفرق بين الأحكام الشرعية والاحكام العقلية ، هو أن الأحكام الشرعية إنما تتبع المصالح والمفاسد النفس الأمرية ، وهي تختلف ، فقد تكون المفسدة بمرتبة من الأهمية بحيث لا يرضى الشارع بالاقتحام فيها مهما أمكن ، وقد لا تكون المفسدة بتلك المثابة ، فلو كانت المفسدة على الوجه الأول فعلى
في حقه يحكم حكما طريقيا بالاقدام علي الامتثال ، لتمامية البيان و ان المانع عنه هو العجز الواصل لامجرد الشك فيه ومن هذا الباب ايضا الشك في وجود المزاحم الاهم او المساوي ، اذ مرجع الشك فيه الي الشك في القدرة علي اتيانه ، بل الامر فيه اوضح ، لان الشك في القدرة فرع كون المقتضي للقدرة التكليف بالاهم بوجوده واقعا ، والا فلو كان المقتضي له تنجزه. فيقطع بعدم تنجز الاهم الملازم للقطع بقدرته علي المهم و ان كان التكليف به مشكوكا.
    و من هذا الباب : الشك في كل مزاحم و لو كان وجوده مانعا عن محبوبيته ، كما هو الشأن في باب اجتماع الامر والنهي ، اذ المصلحة في اقتضاء التكليف تام بلا قصور فيه ، و انما القصور في المحل من جهة عدم قابليته للتكليف لوجود المزاحم. ولذا نقول : انه مع الجهل بنهي المولي تكليفا او موضوعا يجب الحركة علي وفق المصلحة مالم يكن ذلك ايضا من جهة في قدرته ، والا فالعقل ايضا يحكم علي طبق المزاحم الاهم. والعجب كل العجب عن المقرر. حيث التزم بسراية هذه الجهة الي كل حكم عقلي ، بخيال ان المناط في حكم العقل بالاحتياط عند الشك في القدرة لمحض الشك في حكم العقل بضميمة تصور الشك في مطلق الاحكام العقلية ، فتدبر تري في كلام المقرر من الخلط العظيم.


(456)
الشارع سد باب الوقوع فيها ولو بإيجاب الاحتياط في موارد الشك ـ كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال ـ وإن كانت المفسدة على الوجه الثاني فللشارع الترخيص في الاقتحام في موارد الشك بجعل أصالة البراءة والحل. وطريق إحراز كون المفسدة على أي من الوجهين إنما يكون بقيام الدليل عليه ، فان قام الدليل على وجوب الاحتياط في موارد الشك فهو ، وإلا كان المتبع عمومات أدلة البراءة والحل.
    وأما الاحكام العقلية : فحكم العقل بقبح شيء إنما يكون على وجه الاطلاق وفي جميع التقادير ، من غير فرق بين العلم والظن والشك ، فإذا استقل العقل بقبح شيء فيستقل أيضا بقبح الاقدام على مالا يؤمن معه من الوقوع في القبيح العقلي ، فالأصل في جميع المستقلات العقلية هو الاشتغال ، ولا مجال للاخذ بالبراءة فيها.
    إذا عرفت ذلك فاعلم : أن العقل إذا استقل بحسن شيء أو قبحه ، فتارة : يكون له حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم بتحقق الموضوع والظن به والشك فيه بل الوهم أيضا ، كحكمه بقبح التشريع ، فان موضوع التشريع وإن كان عبارة عن إدخال ما ليس من الدين في الدين ، إلا أن الذي يستقل العقل بقبحه هو التدين بما لا يعلم أنه من الدين وإسناد شيء إلى الشارع من دون علم بأنه منه ، سواء علم بأنه ليس منه أو ظن أو شك ، فيكفي في القبيح العقلي مجرد احتمال عدم ورود التدين به ، وليس حكم العقل بقبح التشريع في صورة العلم بعدم ورود التدين به في الشريعة بمناط غير مناط حكمه بقبح التشريع في صورة الظن والشك ، بل بمناط واحد يستقل بقبح التدين بما لا يعلم أنه من الدين.
    وأخرى : يكون للعقل حكمان : حكم واقعي مترتب على الموضوع الواقعي عند انكشافه والعلم به ، وحكم آخر طريقي في صورة الظن والشك في تحقق الموضوع ، كحكمه بقبح التصرف في أموال الناس ، فان القبيح العقلي هو


(457)
التصرف فيما كان مال الناس واقعا ، وأما عند الشك في كون المال مال الناس فله حكم طريقي بقبح التصرف في المشكوك مخافة أن يكون مال الناس واقعا ، فحكم العقل بقبح التصرف في المشكوك إنما يكون لمحض الاحتياط والطريقية ، نظير حكم الشارع بالاحتياط في باب الفروج والدماء.
    إذا تبين ذلك ، فنقول : إنه في القسم الأول من الاحكام العقلية لا تجري الأصول العملية في موارد الشك في الموضوع ولا مجال للتعبد بها. لأن الشك بنفسه موضوع لحكم العقل بالقبح ، فيكون الحكم العقلي محرزا بالوجدان ، وذلك واضح.
    وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كان للعقل في مورد الشك حكم طريقي ، فالأصول المحرزة كالاستصحاب تجري ويرتفع بها موضوع الحكم العقلي الطريقي ، سواء كان موافقا لمؤدى الأصل الشرعي أو مخالفا له ، فان حكم العقل بقبح التصرف في المال المشكوك كونه مال الناس إنما هو لمجرد الاحتياط وعدم الامن من الوقوع في مخالفة الواقع ـ نظير حكمه بالاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ـ فيرتفع موضوعه بالاستصحاب المثبت كونه مال الناس أو مال الشخص ، لحصول المؤمن في الثاني واندراج المشكوك في الموضوع الواقعي في الأول ، فلا يبقى مجال للحكم العقلي الطريقي.
    هذا إذا كان في المشكوك أصل موضوعي محرز ومثبت لاحد طرفي الشك. وأما إذا لم يكن في المشكوك أصل موضوعي محرز ووصلت النوبة إلى أصالة البراءة والحل ، فالحكم العقلي الطريقي يكون حاكما ومقدما في الرتبة على أصالة البراءة والحل ، لان موردهما أعم من المستقلات العقلية ، فلو قدم أصالة البراءة والحل يبقى الحكم العقلي الطريقي بلا مورد ، وقد تقدم البحث عن ذلك في مباحث البراءة والاشتغال.


(458)
    قد اصطلح على بعض أقسام الاستصحاب بالاستصحاب التعليقي ، وقيل بحجيته. والأقوى : ان الاستصحاب التعليقي مما لا أساس له إلا على بعض الوجوه المتصورة فيه ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :
    الأول : يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له : من وعاء العين أو وعاء الاعتبار ، إذ لا يعقل التعبد ببقاء وجود مالا وجود له ، وكذا يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي حتى يصح التبعد ببقائه باعتبار حكمه ، وأما الموضوعات التي لا يترتب على بقائها أثر شرعي فلا معنى للتعبد بها ، وذلك كله واضح.
    الامر الثاني : الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام ـ كالحنطة والعنب والحطب ونحو ذلك من العناوين ـ تارة : يستفاد من نفس الدليل أو من الخارج أن لها دخلا في موضوع الحكم ، بحيث يدور الحكم مدار بقاء العنوان ويرتفع الحكم بارتفاعه ولو مع بقاء الحقيقة ، كما إذا علم أن لعنوان الحنطة دخلا في الحكم بالإباحة والطهارة ، فيرتفع الحكم بهما بصيرورة الحنطة دقيقا أو عجينا أو خبزا.
    وأخرى : يستفاد من الدليل أو من الخارج أنه ليس للوصف العنواني دخل في الحكم ، بل الحكم مترتب على نفس الحقيقة والذات المحفوظة في جميع التغيرات والتقلبات الواردة على الحقيقة التي توجب تبدل ما كان لها من العنوان والاسم إلى عنوان واسم آخر مع انحفاظ الحقيقة.
    وثالثة : لا يستفاد أحد الوجهين من الخارج أو من دليل الحكم ، بل يشك في مدخلية العنوان والاسم في ترتب الحكم عليه.


(459)
    ولا إشكال في حكم الوجهين الأولين ، فإنه في الأول منهما يجب الاقتصار في ترتب الحكم على بقاء العنوان ، ولا يجوز ترتيب آثار بقاء الحكم مع زوال الوصف العنواني عن الحقيقة ، وفي الثاني يجوز التعدي إلى غير ما اخذ في ظاهر الدليل عنوانا للموضوع ، بل يجب ترتيب آثار بقاء الحكم في جميع التغيرات والتبدلات الواردة على الحقيقة وإن سلب عنها العنوان والاسم الذي كان لها أولا.
    وبهذين الوجهين يجمع بين قولهم : « الاحكام لا تدور مدار الأسماء » وبين قولهم : « إنها تدور مدار الأسماء » فان المراد من كونها « لا تدور مدار الأسماء » هو ما إذا كان الحكم واردا على نفس الحقيقة والذات بلا دخل للاسم والعنوان فيه ، والمراد من كونها « تدور مدار الأسماء » هو أنه لو كان للعنوان والاسم دخل في الحكم ، فلا يتوهم المناقضة بين القولين. وقد عرفت : أن استفادة أحد الوجهين إنما يكون من الخارج أو من الدليل ، ولا مجال للاستصحاب في كل من الوجهين ، لأنه لا موقع للاستصحاب مع قيام الدليل على أحدهما.
    وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا لم يحصل العلم بأحد الوجهين وشك في كون الوصف العنواني له دخل في الحكم أولا
    فان كانت المراتب المتبادلة والحالات الواردة على الحقيقة متباينة عرفا ـ بحيث تكون الذات الواجدة لعنوان خاص تباين الذات الفاقدة له وكان الوصف العنواني بنظر العرف مقوما للحقيقة والذات ـ كان ارتفاع الوصف عن الذات موجبا لانعدام الحقيقة عرفا ، فلا إشكال أيضا في وجوب الاقتصار على ما اخذ في الدليل عنوانا للموضع ولا يجوز التعدي عنه ، لان الذات الفاقدة للوصف موضوع آخر يباين ما اخذ في الدليل موضوعا للحكم ، ولا يجري فيه الاستصحاب ، لأنه يلزم تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.


(460)
    وأما إذا لم تكن المراتب المتبادلة موجبة لتغير الحقيقة والذات عرفا ، بل كانت المراتب من الحالات التي لا يضر تبادلها في صدق بقاء الحقيقة وكانت الذات عرفا باقية ومحفوظة في جميع التبدلات والتقلبات الواردة عليها أو في بعضها ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب بقاء الحكم ويثبت بقائه في الحالات المتبادلة ، ولا يضر في جريان الاستصحاب عدم صدق العنوان والاسم عند ارتفاع ما اخذ في ظاهر الدليل عنوانا للموضوع بعد بقاء الحقيقة على ما هي عليها.
    فمورد الاستصحاب هو ما إذا كان دليل الحكم غير متكفل لحكم المشكوك فيه ولكن كان المشكوك فيه بنظر العرف عين المتيقن ، سواء صدق على المشكوك اسم المتيقن أو لم يصدق عليه اسم المتيقن.
    ولا يتوهم : أنه مع صدق اسم المتيقن على المشكوك لا يحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب بل يكفي في ثبوت الحكم للمشكوك نفس الدليل الذي رتب الحكم فيه على المسمى بالاسم الكذائي. فإنه يمكن أن لا يكون لدليل الحكم إطلاق يعم صورة تبدل الحالة التي لا تضر ببقاء الاسم والعنوان ، فنحتاج فني إثبات الحكم مع تبدل بعض حالات الموضوع إلى الاستصحاب.
    الامر الثالث : المستصحب إذا كان حكما شرعيا ، فإما أن يكون حكما جزئيا وإما أن يكون حكما كليا ، ونعني بالحكم الجزئي هو الحكم الثابت على موضوعه عند تحقق الموضوع خارجا الموجب لفعلية الحكم ـ على ما تكرر منا من أن فعلية الحكم إنما يكون بوجود موضوعه في الخارج ـ فعند وجود زيد المستطيع خارجا يكون وجوب الحج في حقه فعليا ، وهو المراد من الحكم الجزئي في مقابل الحكم الكلي ، وهو الحكم المنشأ على موضوعه المقدر وجوده على نهج القضايا الحقيقية ، كوجوب الحج المنشأ أزلا على البالغ العاقل المستطيع.
    ثم إن الشك في بقاء الحكم الجزئي لا يتصور إلا إذا عرض لموضوعه


(461)
الخارجي ما يشك في بقاء الحكم معه ، ولا إشكال في استصحابه.
    وأما الشك في بقاء الحكم الكلي : فهو يتصور على أحد وجوه ثلاث :
    الأول : الشك في بقائه من جهة احتمال النسخ ، كما إذا شك في نسخ الحكم الكلي المجعول على موضوعه المقدر وجوده ، فيستصحب بقاء الحكم الكلي المترتب على الموضوع أو بقاء سببية الموضوع للحكم ، على القولين في أن المجعول الشرعي هل هو نفس الحكم الشرعي ؟ أو سببية الموضوع للحكم ؟ وقد تقدم تفصيل ذلك في الأحكام الوضعية ، وعلى كلا الوجهين المستصحب إنما هو المجعول الشرعي والمنشأ الأزلي قبل وجود الموضوع خارجا إذا فرض الشك في بقائه وارتفاعه لأجل الشك في النسخ وعدمه ، ولا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الحكم على موضوعه وعدم نسخه عنه.
    ونظير استصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ استصحاب الملكية المنشأة في العقود العهدية التعليقية ، كعقد الجعالة والسبق والرماية ، فان ملكية العوض المنشأة في هذه العقود غير الملكية المنشأة في عقد البيع والصلح ، إذ العاقد في عقد البيع والصلح إنما ينشأ الملكية المنجزة ، وأما في العقود التعليقية : فالعقد ينشأ الملكية على تقدير خاص ، كرد الضالة في عقد الجعالة وتحقق السبق وإصابة الرمي في عقد السبق والرماية ، فكانت الملكية المنشأة في هذه العقود تشبه الاحكام المنشأة على موضوعاتها المقدرة وجودها ، فلو شك في كون عقد السبق والرماية من العقود اللازمة التي لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين أو من العقود الجايزة التي تنفسخ بفسخ أحدهما يجري استصحاب بقاء الملكية المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبل تحقق السبق وإصابة الرمي ، كما يجري استصحاب بقاء الملكية المنشأة في العقود التنجيزية إذا شك في لزومها وجوازها.
    وقد منع الشيخ قدس سره ـ في مبحث الخيارات من المكاسب ـ عن


(462)
جريان الاستصحاب في العقود التعليقية ، مع أنه من القائلين بصحة الاستصحاب التعليقي في مثل العنب والزبيب ، ويا ليته ! عكس الامر واختار المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي في مثال العنب والزبيب والصحة في استصحاب الملكية المنشأة في العقود التعليقية.
    أما وجه المنع عن جريان الاستصحاب في مثال العنب والزبيب : فلما سيأتي بيانه. واما وجه الصحة في الملكية المنشأة في العقود التعليقية : فلان حال الملكية المنشأة فيها حال الاحكام المنشأة على موضوعاتها ، وكما يصح استصحاب بقاء الحكم عند الشك في نسخه ولو قبل فعليته بوجود الموضوع خارجا ، كذلك يصح استصحاب بقاء الملكية المعلقة عند الشك في بقائها ولو قبل فعليتها بتحقق السبق وإصابة الرمي خارجا.
    الوجه الثاني : الشك في بقاء الحكم الكلي على موضوعه المقدر وجوده عند فرض تغير بعض حالات الموضوع ، كما لو شك في بقاء النجاسة في الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، ولا إشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم في هذا الوجه أيضا ، وهذا القسم من استصحاب الحكم الكلي هو الذي تعم به البلوى ويحتاج إليه المجتهد في الشبهات الحكمية ولا حظ للمقلد فيها.
    والفرق بين هذا الوجه من الاستصحاب الكلي والوجه الأول ، هو أنه في الوجه الأول لا يتوقف حصول الشك في بقاء الحكم الكلي على فرض وجود الموضوع خارجا وتبدل بعض حالاته ، لأن الشك في الوجه الأول إنما كان في نسخ الحكم وعدمه ، ونسخ الحكم عن موضوعه لا يتوقف على فرض وجود الموضوع. وأما الشك في بقاء الحكم الكلي في الوجه الثاني : فهو لا يمكن إلا بعد فرض وجود الموضوع خارجا وتبدل بعض حالاته ، بداهة أنه لولا فرض وجود الماء المتغير بالنجاسة والزائل عنه الغير لا يعقل الشك في بقاء نجاسته ، فلابد من فرض وجود الموضوع ليمكن حصول الشك في بقاء حكمه عند فرض تبدل


(463)
بعض حالاته.
    نعم : لا يتوقف الشك فيه على فعلية وجود الموضوع خارجا ، فان فعلية وجود الموضوع إنما يتوقف عليه حصول الشك في بقاء الحكم الجزئي ، وأما الشك في بقاء الحكم الكلي : فيكفي فيه فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، فهذا الوجه يشارك الوجه الأول من جهة وهي كون المستصحب فيه حكما كليا ، ويفارقه من جهة أخرى وهي توقف حصول الشك فيه على فرض وجود الموضوع ، بخلاف الوجه الأول.
    نعم : المستصحب في كل منهما لا يخلو عن نحو من التقدير والتعليق ، فان المستصحب عند الشك في النسخ هو الحكم الكلي المعلق على موضوعه المقدر وجوده عند إنشائه وإن كان لا يحتاج إلى تقدير وجود الموضوع عند نسخه واستصحابه ، والمستصحب في غير الشك في النسخ هو الحكم الفعلي على فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، فيحتاج إلى تقدير وجود الموضوع عند استصحابه. وعلى كل حال : لا مجال للتأمل في صحة الاستصحاب عند الشك في بقاء الحكم الكلي في كل من الوجهين.
    الوجه الثالث : من الوجه المتصورة في الشك في بقاء الحكم الكلي ، هو الشك في بقاء الحكم المرتب على موضوع مركب من جزئين عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر (1) كما إذا شك
1 ـ أقول : قد تقدم منا أن حقيقة الأحكام التكليفية التي هي مستفاد من الخطابات الشرعية ليس إلا إبراز الاشتياق نحو المرام بانشاء أو إخبار ، وأن مرتبة تحريك المكلفين خارجا هو مرتبة تأثير الاحكام في حكم العقل بلزوم الامتثال ، ومن المعلوم : أن هذه المرتبة منوط بالعلم وقيام الطرق ، وإلا ففي ظرف الجهل لا محركية في البين ، مع أن مفاد الخطابات مشتركة بين العالم والجاهل ، فما هو موجود في حال الجهل ليس إلا الاشتياق المبرز ، ولا نتصور في هذه الصورة أمرا جعليا اعتباريا كسائر الجعليات ، ولذا لو أبرز المولى إرادته بكلامه لا محيص من حكم العقل بوجوب امتثاله ولو لم يخطر ببال المولى جعل شيء مقدر بفرض وجود موضوعه.

(464)

نعم : تأثير هذا الاشتياق المبرز كما أنه منوط بوجود الموضوع مقدمة لتطبيق خطابه ، كذلك منوط بالعلم به ، فلو كان مفاد الخطابات هذا الامر المنوط يلزم اختصاص مضمون الخطاب بالعالم به ، وليس كذلك ، فلا محيص من الالتزام بأن مضامين الخطاب ليس إلا نفس الإرادة أو الطلب المبرز بانشائه الكلامي ، وأن مرتبة تأثيرها متأخر عنها رتبة ، وهو المساوق لرتبة امتثالها ، مع أنه على فرض تخصيص فعلية الحكم بهذه المرتبة لا يكون هذه المرتبة أيضا جعليا ، كيف ! والعقل بمجرد الالتفات إلى اشتياق المولى ـ ولو باعلامه إياه بخطابه ـ يحكم بتأثير مثل هذا الخطاب في حكم العقل بلزوم الامتثال ، فياليت شعري ! أن القائل بجعلية الأحكام التكليفية أي مرتبة يريد ؟ ونحن لا نتعقل إلا تكوين الاعلام بكلامه ، وهذا المعنى آب عن جعلية الحكم في عالم التشريع وفي مقام الحقيقة ، كما هو الشأن في الأحكام الوضعية ، فإنه لا محيص من جعليته فيها.
    ثم إن المبرز بخطاب المولى تارة : إرادة فعلية غير منوط بوجود الشيء في لحاظ الآمر ، وأخرى : منوط بوجوده ، ومرجع إناطة الإرادة إلى اشتياق فعلي في ظرف لحاظ الشيء ، لا أن الاشتياق تقديري ، كما هو الشأن في سائر الوجدانيات : من العلم والتمتي وأمثالهما ، والسر في ذلك : هو أن هذه الصفات في فعليتها بأي نحو من التعلق لا يحتاج إلى وجود المتعلق خارجا ، وأنها مما كان ظرف عروضها الذهن وأن الخارج ظرف اتصافها ، نعم : لابد وأن يكون الملحوظات الذهنية بنحو يرى خارجية على وجه لا يلتفت إلى ذهنيتها ، كما هو الشأن في تعلق القطع والظن بها عند تخلفها عن الواقع ، وهكذا بالنسبة إلى ما أنيط بها. ولذا في القضايا التعليقية ترى الجزم بوجود شيء منوطا بوجوده في لحاظه متحققا على وجود المنوط في ظرف ملحوظه. ولا يتوهم : بأن مركز جزمه الملازمة بينهما ، إذ هما مفهومان متغايران متلازمان ، والجزم بأحد المفهومين غير الجزم بالآخر ، لان قوام أنحاء التصديق بأنحاء تصوره.
    فإذا عرفت ذلك ترى أن لب الإرادة المشروطة يرجع إلى فعلية الاشتياق التام القائم بالنفس في ظرف لحاظ الشيء خارجا ، قبال الإرادة المطلقة الراجعة إلى الاشتياق بالشئ لا في ظرف وجود شيء آخر في لحاظه ، وربما يفترقان في عالم التأثير ، حيث إن تأثير الإرادة في ظرف الشيء لا يكون إلا بوجوده خارجا ، ومن هذا الباب كلية إناطة الإرادة بموضوعه. وحينئذ فمفاد الخطاب المشروط ليس إلا هذه الإرادة في ظرف الشيء لحاظا ، ففي الحقيقة الاشتياق الفعلي قائم بفرض وجود الموضوع أو الشرط ، فصح لنا أن نقول : إن المبرز بالخطابات التي هي روح الحكم المتجسم بابرازه بخطابه في جميع المقامات فعلي قائم على الوجودات الفرضية واللحاظية ، لا أن مفاد الخطاب مجعول فرضي بفرض وجود موضوعه ، نظير الملكية الفرضية في العقود التعليقية. وحينئذ لنا دعوى أجنبية القضايا الطلبية عن القضايا الحقيقية


(465)

المصطلحة ، بل هي إنما يصح في الاحكام المجعولة أو العوارض الخارجية التي كان فرض وجود الموضوع موجبا لفرض محموله ، وفي الاحكام الطلبية ـ كما عرفت ـ ليس الامر كذلك ، فجعلها من سنخ القضايا الحقيقية مبنية على كون الأحكام التكليفية بحقايقها مجعولة ، نظير الأحكام الوضعية في المعاملات ، ولقد عرفت ما فيه بأوضح بيان. وحينئذ ففي مورد إذا ثبت وجوب المشروط ففرض الشرط فيه لم يكن إلا ظرفا لمفاد الخطاب الثابت للذات فعلا ، ومن المعلوم : أن هذا المعنى غير راجع إلى قيدية شيء لموضوع الخطاب أو للمخاطب ، وإن كان قابلا لارجاع أحدهما بالآخر بنحو من الاعتبار والعناية ، وإلا فبحسب الحقيقة أحد الاعتبارين غير الآخر. وحينئذ فتوهم أن الموضوع مركب من ذات ووصف غلط ، إلا بتمحل خارج عن كيفية الخطاب. وحينئذ بعدما كان مفاد الخطاب ثبوت حكم فعلي للذات العاري عن القيد ـ غاية الامر كان هذا الحكم موجودا فعليا في ظرف فرض الموضوع لا في ظرف وجوده خارجا ، بل هو ظرف تطبيق الخطاب وتأثيره الخارج عن مفاده ـ فلا قصور في شمول دليل التنزيل لمثله ولو قبل حصول شرطه ، غاية الامر لا أثر له أصلا إلا بعد حصول الشرط ، والمفروض : أن في الاستصحاب أيضا لا يحتاج إلا إلى كون المنزل وما هو مفاد الخطاب موجودا حين يقينه ومشكوكا بقائه مع ترتب عمل حين الشك. ثم إنه لو بنينا على جعلية الاحكام ، فلم لا يقول بأن المجعول ما هو على وفق إرادته ؟ إذ حينئذ لابد وأن يلتزم بان الوجوب المجعول فعلي على وفق فعلية إرادته ومنوط بوجود الشيء في لحاظه وفرضه ، لا أنه منوط بوجود الشيء خارجا ، إذ حينئذ لا بأس بالاستصحاب التعليقي أيضا ، لان المستصحب أيضا وجوب فعلي في ظرف لحاظ الشيء الحاصل قبل وجود الشرط خارجا ، كما هو شأن إرادته واشتياقه.
    ولئن اغمض عما ذكر كله وقلنا بجعلية الوجوب وإناطته بوجود الشرط والموضوع خارجا ، فنقول : إنه لا شبهة في أن مفاد الخطاب قبل وجودات الموضوع لا يكون إلا فرضا ، كما أن قبل قيوده الحكم أيضا لا يكون ثبوته للذات المجرد عن القيد أيضا إلا فرضا ، وحينئذ فان أريد في الاستصحاب اليقين بالوجود الفعلي فلازمه عدم جريانه في الاحكام الكلية قبل وجود موضوعاتها ، والمفروض : أنه يلتزم بجريانه فيها ، ولازمه الاكتفاء بوجود الحكم فرضا في زمان يقينه ، فلم لا يلتزم بكفاية فرضية هذا الحكم لمثل هذا الذات المجرد قبل حصول شرطه ؟.
    وتوهم : أن موضوع الحكم في الواجبات المشروطة هو الذات المقيد لا المجرد ، قد عرفت فساده ، لان شأن شرائط الحكم إخراج الذات عن الاطلاق كنفس الحكم ، لا تقيد الذات بالحكم أو بما أنيط به الحكم ، فالذات في القضايا المشروطة تمام الموضوع نحو لا إطلاق فيه ولا تقيد ، فيصدق على هذا الذات
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس