فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 616 ـ 630
(616)
أخرى بين المتهب والموهوب ، وكما في الوصية ، فان انتقال المال الموصى به إلى الموصى له في الوصية التمليكية إنما يكون أيضا باعدام الإضافة بين الموصي والموصى به وحدوث إضافة أخرى بين الموصى له والموصى به.
    إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن انتقال ما كان للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى المسلمين بناء ـ على الخبر المجعول ـ ليس كانتقاله إلى الوارث ، بل هو أشبه بانتقال المال الموصى به إلى الموصى له ، ضرورة أن المسلمين لم يرثوا المال من النبي بحيث يكون سبيلهم سبيل الوارث ، بل غايته أن أموال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ تصرف بعد موته في مصالحهم ، فانتقال المال إليهم يكون أسوأ حالا من انتقال المال إلى الموصى له ، ولا أقل من مساواته له ، ومن المعلوم : أن إقرار ذي اليد بأن المال كان ملكا لما يرثه المدعي إنما أوجب انقلاب الدعوى من حيث إن الاقرار للمورث إقرار للوارث (1) لما عرفت : من قيام الوارث مقام المورث في طرف الإضافة ، ولذا لو أقر ذو اليد بأن المال كان لثالث أجنبي عن المدعي ومورثه لا ينتزع المال عن يده ولا تنقلب الدعوى ، وإقرار ذي اليد بأن المال كان للوصي يكون كاقراره بأن المال كان للثالث الأجنبي (2) ليس للموصى له انتزاع المال عن يده ، وبدعوى أنه أوصى به إليه ،
1 ـ أقول : إن مجرد كونه إقرارا للمورث في زمان لا يقتضي كونه إقرارا للوارث فعلا ، فلا مجال لاثبات المال للوارث إلا أصالة عدم الانتقال المبتنى على عدم حجية اليد من الخارج لا من جهة هذا الاقرار ، وحينئذ حال الوارث والوصي والولي السابق بالنسبة إلى اللاحق في حجية الأصل ـ لولا اليد وحكومة اليد على الأصل المزبور ـ في حد سواء ، ولا يجدي ما ذكر من الفرق يفارق من الجهة المقصودة في المقام ، فتدبر.
2 ـ أقول : كيف يكون كذلك ؟ والحال انه في صورة الاعتراف بكون المال للأجنبي لا يجدي أصالة عدم الانتقال منه إليه حجية للمدعي ، فلولا حجية اليد لا يكون المدعي منكرا ، بخلاف باب الاعتراف بالانتقال من الموصي أو من الولي السابق بالنسبة إلى الولي اللاحق ، فان أصالة عدم الانتقال حجة في حقهما لولا حجية اليد ، كما لا يخفى.


(617)
فان الموصي أجنبي عن الموصى له ولا يقوم مقامه ، فليس الاقرار للموصي إقرارا للموصى له ، كما كان الاقرار للمورث إقرارا للوارث ، بل تستقر يد ذي اليد على المال إلى أن يثبت الموصى له عدم انتقاله إلى ذي اليد في حياة الموصي.
    فاقرار الصديقة ـ عليها السلام ـ بأن فدكا كان ملكا لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا يوجب انقلاب الدعوى (1) لأنه لا يرجع إقرارها بذلك إلى الاقرار بأنه ملك للمسلمين ، فان المسلمين لا يقومون مقام النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بل هم أسوأ حالا من الموصى له ، لما عرفت : من أن أقصى وما يدل عليه الخبر المجعول هو أن أموال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ تصرف في مصالحهم إذا تركها ولم تنتقل عنه في أيام حياته ، فلم يبق في مقابل يد الصديقة ـ عليها السلام ـ إلا استصحاب عدم الانتقال وهو محكوم باليد ، فليس لأبي بكر مطالبة الصديقة ـ عليها السلام ـ بالبينة ، بل عليه إقامة البينة بأن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يملكها فدكا في أيام حياته ، فتأمل جيدا (2).
1 ـ أقول : قد أشرنا سابقا : بأن كيفية الاختلاف بين الإرث والمقام لا يجدي شيئا ، إذ لولا حجية اليد ، أصالة عدم الانتقال من الولي السابق يجدي للولي اللاحق بزعمهم الفاسدة ولا يغنيهم ، كما هو الشأن في الوارث ، وحينئذ لا يرفع الشبهة في فرض تسليم الخبر المجعول إلا دعوى أن الأصل حجية اليد مطلقا وتقدمه على الأصل ، غاية الامر الاجماع قام على الانقلاب الملازم لعدم حجية اليد في خصوص دعوى الانتقال من الطرف أو مورثه ، دون غيره ، فتدبر.
2 ـ وعن بعض الاعلام دفع الشبهة بوجه آخر بعدما سلم انقلاب الدعوى باقرارها ـ عليها السلام ـ بأن فدكا كان لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلا أنه أجاب عن الشبهة : بأن أبا بكر لم يكن جازما بعدم انتقال فدك منه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إليها في أيام حياته ، ومع عدم الجزم بذلك ليس له حق الدعوى ومطالبة البينة منها ، فتأمل ( منه ).


(618)
    فقد قيل : بكونها من الامارات لما فيها من الكاشفية ، فان الغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب من الاجزاء هو الجري على وفق الإرادة والآتيان بكل جزء في المحل المضروب له وإن لم يلتفت تفصيلا إلى الجزء في محله ولم يتعلق القصد به كذلك بل كان مغفولا عنه في محله (1) إلا أنه مع ذلك يأتي المكلف بالجزء في محله قهرا جريا على الإرادة السابقة في أول الشروع في العمل المركب ، فالإرادة المتعلقة بالكل عند الشروع فيه هي التي توجب الاتيان بكل جزء في محله ، ولا يحتاج غالبا إلى تعلق إرادة مستقلة بكل جزء جزء في محله ، فان الإرادة الأولية حيث كانت محفوظة في خزانة النفس كان الشخص مقهورا في الجري على وفقها ما لم تحدث إرادة أخرى مضادة للإرادة الأولية ، فالغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب هو الاتيان بأجزائه في محالها ، والشارع قد اعتبر هذه الغلبة ، كما يومي إليه قوله ـ عليه السلام ـ في بعض أخبار الوضوء : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (2) فتكون القاعدة من الامارات الكاشفة عن وقوع الفعل المشكوك فيه ، وحينئذ تكون القاعدة حاكمة على استصحاب عدم وقوع الفعل المشكوك فيه ، كحكومة سائر الامارات الاخر عليه.
1 ـ أقول : على تقدير هذه الغلبة ظهور اخباره المأخوذ في موضوعها الشك ينادي بالغاء جهة كشفه ، وما في بعض الاخبار : من التعليل بالأذكرية ، محمول على بيان حكمة الجعل ، لا انه موضوع الجعل تتميم كشفه بقرينة الاخبار الاخر الظاهرة في كونها في مقام التعبد بوجود المشكوك في ظرف الشك ، كما لا يخفى.
2 ـ الوسائل : الباب 42 من أبواب الوضوء الحديث 7.


(619)
    مع أنه لو سلم كونها من الأصول العملية أمكن أن يقال : إنها حاكمة أيضا على الاستصحاب ، كما يظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ حيث ذكر قبل التعرض لحكومة اليد على الاستصحاب بأسطر ما لفظه « وقد يعلم عدم كونه ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه وأنه من القواعد التعبدية لكن يختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب الخ » فراجع العبارة ، فان الذي يظهر من كلامه إمكان أن يكون أحد التنزيلين في الأصول التنزيلية رافعا لموضوع التنزيل الآخر. ولكن لم يبين وجهه ، ولعل الوجه في ذلك هو أن موضوع الاستصحاب إنما هو الشك في بقاء الحالة السابقة ، وهو إنما يكون مسببا عن الشك في حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة (1) ومثل قاعدة اليد ـ بناء على كونها من الأصول العملية ـ وأصالة الصحة في عمل الغير وقاعدة الفراغ والتجاوز إنما يكون مؤداها حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة ، فتكون رافعة لموضوع الاستصحاب ، فتأمل.
    وإن أبيت عن ذلك كله ، فلا إشكال في أن قاعدة الفراغ والتجاوز وردت في مورد الاستصحاب ، فلو قدم الاستصحاب عليها تبقى القاعدة بلا مورد ، فلا ينبغي التأمل في تقدم القاعدة على الاستصحاب. والظاهر : أنه لا كلام فيه ، وإنما الكلام يقع في مباحث فقهية :
1 ـ أقول : بالله عليك ! ان بقاء عدم الشيء مع حدوث وجوده الطارد لهذا البقاء هل هما من غير باب النقيضين المحفوظين في رتبة واحدة ؟ فأين السببية والمسببية ؟ فالأولى في وجه الحكومة ان يقال : إن الاستصحاب ناظر إلى اثبات اليقين في ظرف الشك ، بلا نظر منه إلى نفي الشك ـ كما توهم ـ وقاعدة التجاوز ناظرة إلى نفي الشك وانه ليس بشيء ولو بملاحظة الغاء احتمال الخلاف والجري على وفق احتمال الوجود ، بلا نظر فيه أيضا إلى كشفه كي يصير أمارة ، ومع الاغماض عن ذلك ، فلا محيص من التقريب الآخر ، كما لا يخفى ، فتدبر.

(620)
    اختلفت كلمات الاعلام في أن الكبرى المجعولة الشرعية في قاعدة الفراغ هل هي عين الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز ؟ فترجع القاعدتان إلى قاعدة واحدة ، أو أن الكبرى المجعولة الشرعية في قاعدة الفراغ غير الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز ؟ بل كل منهما قاعدة مستقلة برأسها لا يجمعهما كبرى واحدة ، إحداهما مضروبة للشك في الاجزاء في أثناء العمل ، والأخرى مضروبة للشك في صحة مجموع العمل بعد الفراغ منه.
    ويمكن أن يستظهر من كلام الشيخ ـ قدس سره ـ اتحاد القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة الشرعية ، حيث قال : « الموضع السادس ـ أن الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لان مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح » انتهى. فتكون الكبرى المجعولة الشرعية هي عدم الالتفات إلى الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، سواء كان متعلق الشك وجود الشيء أو صحته ، لأن الشك في الصحة يرجع إلى الشك في وجود الصحيح ، فالجامع بين القاعدتين هو الشك في الوجود ، غايته أن الشك في قاعدة التجاوز يتعلق بوجود الشيء ، وفي قاعدة الفراغ يتعلق بوجود الصحيح ، وهذا المقدار من الاختلاف لا يقتضي اختلاف الكبرى ، بل هو من اختلاف الموارد والصغريات.
    هذا ، ولكن يرد عليه :
    أولا : أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو وجود الشيء بمفاد كان التامة ، وفي قاعدة الفراغ إنما هو صحة الموجود بمفاد كان الناقصة (1) ولا جامع
1 ـ أقول : لقد أجاد فيما أفاد ، فياليت ! لم يرجع عن هذه الجهة ، على ما سيأتي مع ما فيه.

(621)
بينهما ، فلا يمكن اندراجهما في كبرى واحدة (1).
    وأما ما أفاده ـ قدس سره ـ من أن الشك في قاعدة الفراغ يرجع إلى الشك في الوجود بمفاد كان التامة غايته أن متعلق الشك هو وجود الصحيح لا مطلق الوجود
    ففيه : أن التعبد بقاعدة الفراغ إنما هو لاثبات صحة الموجود ، لا لاثبات وجود الصحيح ، وإثبات صحة الموجود بوجود الصحيح يكون من الأصل المثبت.
    فان قلت : إن المهم في مقام الخروج عن عهدة التكليف إنما هو وجود الصلاة الصحيحة من المكلف ولا حاجة إلى إثبات صحة الصلاة المأتي بها ، فإنه لو فرض محالا وجود الصلاة الصحيحة من المكلف مع كون المأتي بها فاسدة ، لكان ذلك موجبا لفراغ الذمة والخروج عن عهدة التكليف.
    قلت : نعم : وإن كان المهم في باب التكاليف هو إثبات وجود متعلق التكليف صحيحا ولو مع عدم إثبات صحة المأتي به (2) إلا أن قاعدة الفراغ لا تختص بباب التكاليف ، بل تعم الوضعيات ، والمهم في باب الوضعيات هو إثبات صحة الموجود ، فان الأثر مترتب على صحة العقد الصادر عن المتعاقدين ، ولا أثر لوجود العقد الصحيح بمفاد كان التامة ، بل لابد من إثبات صحة العقد الموجود في مقام ترتب الأثر.
    وثانيا : أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو أجزاء المركب ، وفي قاعدة الفراغ يكون المتعلق نفس المركب بما له من الوحدة الاعتبارية ، ولفظ
1 ـ أقول : ولا قصور في أخذ الجامع لولا دعوى انصراف عنوان « الشيء » عن النسبة التصديقية ، كانصرافه عن الترتيب والموالاة.
2 ـ أقول : ربما يحتاج إلى صحة الموجود في قضاء سجدته في الصلاة أو السجود السهو فيها وأمثال ذا المأخوذ في موضوعها صحة الموجود ، ولا يكفي وجود الصحيح ، كما لا يخفى.


(622)
« الشيء » في قوله ـ عليه السلام ـ « إنما الشك في شيء لم تجزه » (1) لا يمكن أن يعم الكل والجزء في مرتبة واحدة بلحاظ واحد (2) فان لحاظ الجزء شيئا بحيال ذاته إنما يكون في الرتبة السابقة على تأليف المركب ، لأنه في مرتبة التأليف لا يكون الجزء شيئا بحيال ذاته في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل ويكون لحاظه تبعيا ، ففي مرتبة لحاظ الكل شيئا لا يمكن لحاظ الجزء شيئا آخر مستقلا ، لان الكل ليس إلا الاجزاء ، فلا يمكن أن يراد من لفظ « الشيء » في الرواية ما يعم الجزء والكل ، بل إما أن يراد منه الجزء فتختص الرواية بقاعدة التجاوز ، وإما أن يراد منه الكل فتختص بقاعدة الفراغ
    وثالثا : يلزم التناقض في مدلول قوله ـ عليه السلام ـ « إنما الشك في شيء لم تجزه » لو كان يعم الشك في الجزء والكل ، فإنه لو شك المصلي في الحمد وهو في الركوع ، فباعتبار الشك في الحمد قد جاوز محله فلا يجب عليه العود ، وباعتبار الشك في صحة الصلاة لم يتجاوز عنها ، لأنه بعد في الأثناء ، فيجب عليه العود ، فتأمل.
    ورابعا : التجاوز في قاعدة التجاوز إنما يكون بالتجاوز عن محل الجزء
1 ـ الوسائل الباب 42 من أبواب الوضوء الحديث 2.
2 ـ أقول : ما أفيد إنما يتم في فرض إرادة الكل من « الشيء » وإرادة جزئه ، إذ حينئذ يلزم اجتماع اللحاظين في الجزء استقلالا وتبعا ، وأما لو أريد من « الشيء » عنوانه الكلي ومن إطلاقه سرايته في اي مصداق منه بلا لحاظ كل ولا جزء ، فلا قصور في شمول الاطلاق كلا العنوانين : من الصلاة والركوع. نعم : قد يشكل من جهة آخر ، وهو ان الشك في الكل إن كان من جهة الشك في هذا الجزء المشكوك يصدق عليه ان الكل بوصف انه كل شيء مشكوك ، واما ان كان من جهة الشك في صحته لفقد موالاة مثلا لا يصدق على الكل انه شيء مشكوك ، لأنه بما هو شيء بملاحظة اجتماع أفعاله المقطوع الوجود ، وبملاحظة موالاته فلا يحسب عند العرف شيئا ، فما منه شيء لا يكون مشكوكا ، وما منه مشكوك لا يكون شيئا ، كما لا يخفى.


(623)
المشكوك فيه ، وفي قاعدة الفراغ إنما يكون بالتجاوز عن نفس المركب لا عن محله (1).
    وخامسا : متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو نفس الجزء ، وأما قاعدة الفراغ : فمتعلق الشك فيها ليس وجود الكل ، بل هي ظرف للشك ، فلا يمكن أن يجمعهما كبرى واحدة (2).
    ولأجل ذلك التزم بعض الاعلام بتعدد الكبرى المجعولة الشرعية وأن قاعدة التجاوز بنفسها قاعدة مستقلة لا ربط لها بقاعدة الفراغ ، ولذلك تختص قاعدة التجاوز بالشك في أجزاء الصلاة ، ولا تطرد في أجزاء سائر المركبات ، بخلاف قاعدة الفراغ ، فإنها لا تختص بباب دون باب ، بل تعم جميع الأبواب ـ كما عليه الفقهاء ـ ومع تعدد الكبرى المجعولة الشرعية ترتفع الاشكالات بحذافيرها.
    هذا ، ولكن الانصاف : أن القول بتعدد الكبرى المجعولة الشرعية بعيد غايته (3) فان ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في الباب يوجب القطع بأن
1 ـ أقول : وفيه ما فيه ، ولا يحتاج فساده إلى البيان ، إذ يكفي في عناية مضي الشيء مضي محله ، فالتجاوز استعمل في معنى واحد بدالين ، أريد مصداقه الحقيقي بدال والتنزيلي بدال آخر ، ولا ضير فيه ، فتدبر.
2 ـ أقول : لا قصور في الجامع في الشك بوجود الشيء بين وجود الركوع والصلاة بما هو كل ، كما تقدم. نعم : بناء على شمول الشيء للإضافات ـ لو كان الشك في الكل من جهة الموالاة مثلا ـ يبقى مجال إشكال ان في الصلاة ما صدق عليه شيء لا شك فيه ، وإنما الشك في الموالاة التي لا يصدق عليه شيء ، وحينئذ فلا محل لتعميم الشك في الشيء للشك في الكل الصحيح لفقد موالاته ، كما لا يخفى.
3 ـ أقول : ولا يخفى على المتدرب ان اخبار الباب على لسانين ـ أحدهما : أن الشك في الوجود ليس بشيء ، وأخرى : بلسان أن كل شيء سلك فيه مما قد مضى فامضه كما هو ، إذ هو ظاهر في التعبد بجعله ، كما ينبغي من التمامية ، وهذا اللسان غير لسان التعبد بالغاء الشك في الوجود والبناء على وجوده كما في الطائفة الأولى. وبقي قوله : « إنما الشك في شيء لم تجزه » وهذا اللسان أيضا هو لسان قاعدة التجاوز ومختص بالشك في الوجود ، ولا يرتبط بالشك في صحة الموجود.


(624)
الشارع في مقام بيان ضرب قاعدة كلية للشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، خصوصا مع تقارب التعبيرات الواردة في الاخبار (1) فان من أعطاها حق التأمل لا يكاد يشك في وحدة الكبرى المجعولة الشرعية وهي عدم الاعتناء والالتفات إلى المشكوك فيه بعد التجاوز عن محله مطلقا أي شيء كان المشكوك فيه ، ففي مقام إعطاء القاعدة لم يلاحظ الشارع إلا ما صدق عليه عنوان « الشيء » من غير فرق بين الجزء والكل ، غايته أن الشك في الكل يكون بنفسه صغرى للكبرى المجعولة الشرعية بلا عناية ، وأما الشك في الجزء : فهو إنما يكون صغرى لها بعناية التعبد والتنزيل ، يعني أن الشارع نزل الشك في الجزء في باب الصلاة
نعم : يرد عليه إشكال لزوم تخصيص المورد ، فلا محيص من علاجه ، وسيجئ أيضا بيانه. وعلى اي حال : الاخبار بين الشك في ذات الوجود فهي مختصه بالاجزاء ، وبين الشك في صحة الموجود فهو مختص بماله جهة صحة وفساد بلحاظ فقد قيد أو شرط أو جزء ، وأما الشك في ذات الكل أو الشك في وجود الصحيح : فلا يستفاد من هذه الأخبار شيء وحينئذ لا مجال لاخذ الجامع بين الكل والجزء كي يحتاج إلى عناية ، مع أنه تصح بلا تكلف عناية ولا تنزيل ، كما أشرنا.
1 ـ منها : رواية زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة ؟ قال ـ عليه السلام ـ يمضي ، قلت : رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر ؟ قال ـ عليه السلام ـ يمضي ، قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ ؟ قال : يمضي ، قلت : شك في القراءة وقد ركع ؟ قال : يمضي ، قلت : شك في الركوع وقد سجد ؟ قال عليه السلام ـ يمضي في صلاته ، ثم قال ـ عليه السلام ـ يا زرارة ! إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشئ.
    ومنها : رواية إسماعيل بن جابر ، قال : قال أبو جعفر ـ عليه السلام ـ إن شك في الركوع بعدما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعدما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه.
    ومنها : موثقة ابن بكير عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال ـ عليه السلام ـ كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.
    ومنها : موثقة ابن أبي يعفور : إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فليس شكك بشيء ، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه.
    ومنها : غير ذلك ( منه ).


(625)
منزلة الشك في الكل في الحكم بعدم الالتفات إليه ، فيكون إطلاق الشيء على الجزء باللحاظ السابق على التركيب وصار من مصاديق الشيء تعبدا وتنزيلا ، فالكبرى المجعولة الشرعية ليست هي إلا عدم الاعتناء بالشئ المشكوك فيه بعد التجاوز عنه. ولهذا الكبرى صغريان : وجدانية تكوينية وهي الشك في الكل بعد الفراغ عنه من غير فرق بين الصلاة وغيرها (1) وصغرى تعبدية تنزيلية وهي الشك في الجزء في خصوص باب الصلاة.
    والذي يدل على هذا التنزيل رواية « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » فيكون المراد من « الشيء » في قوله ـ عليه السلام ـ « إنما الشك في شيء لم تجزه » (2) مطلق الشيء مركبا كان أو غير مركب ، ولا يشمل جزء المركب بما هو جزء في عرض شموله للكل ، بل إنما يشمله بعناية التعبد بعد تنزيل الجزء منزلة الكل في كونه شيئا بلحاظ المرتبة السابقة على التركيب ، فلم يستعمل الشيء في الجزء والكل في مرتبة واحدة حتى يقال : إنه لا يصح إطلاق الشيء على الجزء في مرتبة إطلاقه على الكل ، فيرتفع الاشكال الثاني الذي هو العمدة.
    وأما بقية الاشكالات ـ فالانصاف : أنها ضعيفة يمكن الذب عنها بلا مؤنة.
    أما الاشكال الأول : ففيه أن المراد من الشك في الشيء إنما هو الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة ، والمشكوك فيه في قاعدة الفراغ أيضا وجود الكل بمفاد كان التامة ، غايته أن الشك في وجود الكل يكون مسببا عن الشك
1 ـ أقول : لو علم بفوت سجدة في صلاته مع الشك في صحتها بعد الفراغ عنه من جهة الاخلال بالترتيب أو الموالاة ، لا مجال لاجراء « قاعدة التجاوز » بلحاظ انطباقه على الجزء ، فلا محيص من إجراء القاعدة بلحاظ الشك في وجود الصحيح ، ومن المعلوم : أن هذا البيان لا يثبت موضوع قضاء السجدة ، إذ هو من آثار صحة هذه الصلاة ، لا من آثار وجود الصحيح في العالم ، كما هو ظاهر.
2 ـ الوسائل الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 2.


(626)
في وجود الجزء أو الشرط ، فلم يختلف متعلق الشك في قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ.
    وأما الاشكال الثالث : ففيه أن التناقض في المدلول مبني على صدق الشك في الكل عند الشك في الجزء في الأثناء بعد التجاوز عن محل الجزء ، وهو ممنوع ، فان الشك في الكل إنما يصدق بعد الفراغ عنه ، فلا يصدق على الشك في الحمد عند الركوع الشك في الصلاة قبل التجاوز عنها ، بل إنما يصدق عليه الشك في الحمد بعد التجاوز عنه ، فلا يجب العود إليه ، وذلك واضح.
    وأما الاشكال الرابع : ففيه أن المراد من التجاوز إنما هو التجاوز عن محل المشكوك فيه مطلقا ، فان الشك في قاعدة الفراغ أيضا يكون بعد التجاوز عن محل الجزء المشكوك فيه الذي كان سببا للشك في وجود الكل.
    وأما الاشكال الخامس : ففيه أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز والفراغ إنما هو وجود الجزء ، وليس الكل في قاعدة الفراغ ظرفا للشك ، لما عرفت : من أن الشك في الكل دائما يكون مسببا عن الشك في وجود الجزء أو الشرط. فلم يختلف متعلق الشك في القاعدتين.
    فتحصل : أنه لا مانع من الالتزام بوحدة الكبرى المجعولة الشرعية (1) وربما تترتب على ذلك ثمرات مهمة ، يأتي الإشارة إليها ( إن شاء الله تعالى ).
    وبما ذكرنا ظهر : اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة ، ولا تجري في أجزاء سائر المركبات الاخر ، لاختصاص مورد التعبد والتنزيل بأجزاء الصلاة ، فلا خصوصية للطهارات الثلاث حتى قال : إنها خارجة عن عموم قاعدة التجاوز بالتخصيص للاخبار والاجماع ، فإنه لا عموم في القاعدة حتى يكون
1 ـ أقول : لعمري ! ان استنباط القاعدتين من اختلاف لسان الاخبار في غاية الامكان ، فحمل الجميع على مساق واحد ثم منع الشمول للكل والجزء إلا بتوسيط تنزيل الجزء منزلة الكل مما يأبى عنه الطبع والذوق المستقم.

(627)
خروجها بالتخصيص.
المبحث الثاني
    التجاوز عن الجزء إنما يكون بالتجاوز عن محله ، لا عن نفسه ، للشك في وجوده ، فلا يتحقق التجاوز عن نفسه ، ولذلك قبل : إنه لابد من تقدير المحل الذي يضاف إليه التجاوز.
    ولكن يمكن أن يقال : إنه لا حاجة إلى التقدير ، إذ بعدما نزل الشك في الجزء منزلة الشك في الكل كان نسبة التجاوز إلى الجزء على الحقيقة ، بتنزيل التجاوز عن المحل منزلة التجاوز عن نفسه (1) فأضيف التجاوز إلى الجزء حقيقة ، كما هو مسلك السكاكي في باب الاستعارة. وعلى كل حال : المراد من المحل المتجاوز عنه هو المحل الشرعي ، أي المحل الذي عينه الشارع للجزء حسب ما يدل عليه أدلة الترتيب بين الاجزاء ، ولا عبرة بالمحل العادي في شيء من الموارد.
    وقد ذهب بعض الاعلام إلى اعتبار المحل العادي في بعض الموارد ، كالشك في التطهير والاستبراء بعد التجاوز عن محلهما العادي ، وكالشك في غسل الجانب الأيسر لمن اعتاد غسله عقيب غسل الجانب الأيمن بلا فصل.
    وفيه مالا يخفى ، فان فتح باب المحل العادي يوجب تأسيس فقه جديد ، مع أنه لا عين له في الاخبار. نعم : قد تقتضي العادة صدق عنوان التجاوز والمضي ونحو ذلك من العناوين المأخوذة في الأدلة.
    وتفصيل ذلك : هو أن الجزء المشكوك فيه ، تارة : يكون هو الجزء الأخير من
1 ـ أقول : مجرد التنزيل لا يكفي ، بل يحتاج إلى عناية تنزيل المشكوك منزلة الموجود ، وحينئذ يكفي هذه العناية لإضافة التجاوز إليه ، بلا احتياج إلى تنزيل الجزء منزلة الكل ، كما لا يخفى.

(628)
العمل ، كالتسليم في الصلاة ، وغسل الجانب الأيسر في الغسل الترتيبي ، والمسح في الوضوء ، ونحو ذلك. وأخرى : يكون الجزء المشكوك فيه ما عدا الجزء الأخير.
    فان كان ما عدا الجزء الأخير ، فلا إشكال في صدق التجاوز والمضي والفراغ عن العمل ، ولا يأتي فيه البحث عن اعتبار المحل العادي ، لان التجاوز عن ما عدا الجزء الأخير إنما يكون من التجاوز عن المحل الشرعي ، فان المفروض : اعتبار الترتيب بين الاجزاء.
    وإن كان المشكوك فيه هو الجزء الأخير ، فقد يتوهم : عدم جريان قاعدة الفراغ في العمل الذي يشك في جزئه الأخير ، للشك في تحقق الفراغ ، فان الفراغ عن العمل لا يكاد يتحقق إلا بالجزء الأخير منه.
    هذا ، ولكن التحقيق : أنه لا فرق في عدم الاعتناء بالشك بين أن يتعلق الشك بالجزء الأخير أو بغيره.
    أما في باب الصلاة : فواضح ، فإنه عند الشك في التسليم تجري قاعدة التجاوز ، ولا نحتاج إلى قاعدة الفراغ.
    وتوهم : أن التجاوز عن الجزء إنما يكون بالدخول في الغير المترتب عليه شرعا وليس ما وراء التسليم ما يكون مترتبا عليه شرعا فاسد ، فان الشك في التسليم ، إما أن يكون في حال الاشتغال بالتعقيب ، وإما أن يكون في حال السكوت. وعلى الثاني : فاما أن يكون الشك فيه بعد فعل ما ينافي الصلاة عمدا وسهوا كالحدث ، وإما أن يكون بعد فعل ما ينافيها عمدا لا سهوا كالتكلم ، وإما أن يكون قبل فعل المنافي.
    فان كان الشك في التسليم في حال الاشتغال بالتعقيب : فلا ينبغي الاشكال في جريان قاعدة التجاوز فيه ، فان محل التعقيب شرعا بعد التسليم ، ولا يضر بذلك عدم كون التعقيب من أجزاء الصلاة ، فإنه يكفي كونه من توابع الصلاة وملحقاتها كالاذان والإقامة ، وقد صرح في رواية « زرارة » بجريان


(629)
قاعدة التجاوز في الأذان والإقامة.
    وإن كان الشك في التسليم بعد فعل ما ينافي الصلاة عمدا وسهوا : فلا يبعد جريان قاعدة التجاوز فيه أيضا ، فإنه وإن لم يجعل الشارع لما ينافي الصلاة محلا بل جعله من المبطلات ، إلا أنه لما كان تحليلها التسليم كان محل التسليم قبل فعل المنافي ، فان الحكم المجعول الشرعي ـ الأعم من الوضعي والتكليفي ـ وهو عدم وقوع المنافي قبل التسليم ، فيجري عليه حكم المحل الشرعي.
    وبذلك يمكن أن يقال : إن حكم المنافي العمدي دون السهوي حكم المنافي العمدي والسهوي من هذه الجهة ، لأنه يعتبر أن يكون التسليم قبل الكلام ، ولا ينافي ذلك كون الكلام السهوي غير مبطل للصلاة ، فإنه على كل حال تحليلها إنما يكون بالتسليم ، فتأمل.
    وإن كان الشك في التسليم في حال السكوت قبل فعل المنافي العمدي والسهوي : فالأقوى كونه من الشك في المحل ، ويجب فعل التسليم إذا لم يكن السكوت ماحيا للصورة بطوله ، وإلا دخل في القسم السابق. هذا كله إذا كان الشك في الجزء الأخير من الصلاة.
    وإن كان الشك في الجزء الأخير من المركبات الاخر ـ كالغسل والوضوء ونحو ذلك ـ فقاعدة التجاوز لا تجري فيه ، لما عرفت : من أن قاعدة التجاوز إنما تجري في خصوص أجزاء الصلاة ولا تعم الشك في أجزاء المركبات الاخر. ولكن تكفينا قاعدة الفراغ ، فان دعوى اختصاصها بما إذا كان المشكوك فيه ما عدا الجزء الأخير ممنوعة ، خصوصا إذا لزم من الاعتناء والالتفات إلى الجزء إعادة المركب من أوله ، كما في المركبات التي يعتبر فيها الموالاة ، كالوضوء ، فان الشك في المسح بعد جفاف الأعضاء أو قبله مع تخلل الفصل الطويل المفوت للموالاة لو كان يقتضي الاعتناء والالتفات إليه كان اللازم إعادة الوضوء ، لفوات الموالاة بين الاجزاء. والظاهر : جريان قاعدة الفراغ ،


(630)
لصدق الانصراف والمضي ، فيشمله قوله ـ عليه السلام ـ « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » (1) فان إعادة الوضوء في الفرض ينافي المضي عليه. نعم : لو كان الشك في المسح قبل جفاف الأعضاء ، فلا إشكال في أنه يجب المسح مع عدم تخلل الفصل الطويل ، لأنه يكون من الشك في المحل ، فلا يصدق عليه الانصراف والمضي ، هذا إذا كان الاعتناء بالشك يقتضي إعادة المركب.
    وأما إذا كان الاعتناء به لا يقتضي إلا الاتيان بالجزء المشكوك فيه ، لعدم اعتبار الموالاة بين الاجزاء ـ كالتوصليات وكالغسل ـ ففي جريان قاعدة الفراغ وعدمه إشكال ، ولعل من اعتبر المحل العادي اعتبره في هذا القسم من المركبات ، وقد عرفت : أنه لا عبرة بالمحل العادي. ولكن مع ذلك يمكن أن يقال : إن صدق التجاوز والمضي لا يتوقف على العلم باتيان الجزء الأخير ، بل يكفي في صدق ذلك الاتيان بمعظم الاجزاء إذا كان من عادة المكلف عدم الفصل بين الاجزاء والآتيان بها متوالية (2).
    والحاصل : أنه لا يعتبر في صدق المضي والتجاوز عن الشيء عدم كون المشكوك فيه الجزء الأخير ، بل لو علم المكلف أنه أتى بالجزء الأخير وكانت بقية الاجزاء مشكوكة لم يصدق عليها التجاوز والمضي ، فصدق التجاوز والمضي يدور مدار فعل معظم الاجزاء ، لكن مع جريان العادة على التتابع والموالاة بين الاجزاء ، فإنه لا يصدق عرفا التجاوز عن جملة المركب إلا إذا جرت العادة على ذلك ، فاعتبار العادة إنما هو لأجل صدق المضي والتجاوز معها ، لا لكونها
1 ـ الوسائل الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 6 لفظ الحديث « كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك فيه ».
2 ـ أقول : في صدق المضي لمحض العادة المزبورة نظر ، والعمدة صدقه باتيان معظم أجزائه وعدمه ، كان في البين عادة أم لا ، فتدبر.
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس