فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 631 ـ 645
(631)
معتبرة في حد نفسها ـ كما مال إليه بعض الاعلام ـ فإنه قد عرفت عدم قيام الدليل على اعتبارها ولا يمكن الالتزام بذلك كلية ، فهل ترى أنه يمكن القول بعدم وجوب أداء الدين إذا كان من عادة المديون أداء الدين في وقت خاص فشك في أدائه في وقته المعتاد تمسكا بقوله ـ عليه السلام ـ « كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (1) فتأمل جيدا.

    لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز ، لعدم صدق التجاوز عن الجزء المشكوك فيه بدون الدخول في الجزء المترتب عليه. وفي اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إشكال منشأه اختلاف الاخبار (2) فظاهر جملة منها اعتبار ذلك ـ كموثقة ابن أبي يعفور وظاهر جملة
1 ـ الوسائل الباب 23 من أبواب الخلل ، الحديث 3.
2 ـ أقول : هذا الاشكال ناش عن جعل مفاد قاعدة الفراغ الشك في الوجود ، وإرجاع موثقة « ابن يعفور » إلى بيان قاعدة الفراغ وجعل لسانه مع لسان موثقة « ابن بكير » واحدا ، وإلا لا يبقى مجال إشكال أصلا ، لأن الشك في الوجود مختص بالاجزاء المستلزم تجاوزه للدخول في الغير ، بخلاف الشك في صحة الموجود الذي هو مفاد موثقة « ابن بكير » فإنه لا يقتضي الدخول في الغير بعد صدق مضي العمل بفراغه عنه.
    نعم : قد يشكل الامر في موثقة « ابن بكير » من جهتين : إحديهما ـ من حيث اقتضاء عمومه قاعدة التجاوز في غير الصلاة أيضا ، مع أن ظاهرهم تخصيصها بباب الصلاة. ثانيهما ـ عدم عملهم به في مورد القاعدة المستلزم لتخصيص المورد المستهجن.
    وحل الاشكال : هو انه بعد شرح التجاوز والدخول في الغير في الوضوء بالدخول في غير الوضوء بقرينة الفقرة الأخرى من قوله ـ عليه السلام ـ « صرت في حالة أخرى من الصلاة » لا يبقى مجال تخصيص المورد ولا التعدي في قاعدة التجاوز المضروب في أثناء العمل إلى غير باب الصلاة. وحينئذ المستفاد من هذه الرواية نوعا من قاعدة التجاوز الجاري بعد العمل أيضا ، ولا بأس بالتعدي عنه إلى غير باب الصلاة. واما النوع الجاري في الأثناء : فهو مختص بباب الصلاة. وأما قاعدة الفراغ : فهو لا يحتاج


(632)
أخرى عدم اعتبار الدخول في الغير ـ كموثقة ابن بكير ـ فيدور الامر بين حمل المطلق على المقيد وبين الاخذ بالاطلاق وحمل التقييد على الغالب ، لان الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير ، فلا يكون للتقيد ظهور في كونه للاحتراز ، نظير قوله تعالى : « وربائبكم اللاتي في حجوركم ».
    وقد يناقش في إطلاق المطلق بدعوى انصرافه إلى الغالب ، فإنه بعد تسليم كون الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير ينصرف المطلق إلى ما هو الغالب ، فيدور الامر بين الوجهين : حمل التقييد على الغالب فيخرج عن كونه للاحتراز ، أو حمل المطلق على الغالب فيلغو الاطلاق. هذا ، ويمكن الخدشة في كلام الوجهين.
    أما في الوجه الأول : فبأن مجرد غلبة القيد لا يوجب رفع اليد عن ظهوره في كونه للتقييد ، فان الأصل في التقييد أن يكون للاحتراز ، إلا إذا علم من الدليل أو من الخارج ورود القيد مورد الغالب ، بحيث كان ذكره لمجرد الغلبة لا للاحتراز به ، كما في الآية المباركة.
    وأما في الوجه الثاني : فبأن مجرد كون الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير لا يوجب انصراف المطلق إلى الغالب ، فإنه لا عبرة بغلبة الوجود ما لم تقتض صرف ظهور اللفظ ـ كما بيناه في محله ـ فالانصاف : أن الذي يقتضيه الجمع بين الأدلة هو حمل المطلق على المقيد.
    فالأولى بل الأقوى اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ أيضا ، ولكن يكفي في الغير المعتبر فيها مطلق الغير ، بحيث يكون الشخص في حالة أخرى مغايرة لحال الاشتغال بالمركب ، كما يدل عليه قوله ـ عليه السلام ـ في ذيل صحيحة زرارة : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت عنه وقد صرت في حالة أخرى
إلى الدخول في الغير ، بل جارية حتى مع الشك في الصحة من جهة الترتيب والموالاة ، ولا مجال لجريان القاعدة الأولى بنوعيه ، كما لا يخفى : فتدبر تعرف.

(633)
في الصلاة أو غيره فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك لا شيء عليك » (1) نعم : لا يبعد عدم كفاية السكوت المجرد ، فان الظاهر من قوله ـ عليه السلام ـ « وقد صرت في حالة أخرى » أو قوله : « دخلت في غيره » ونحو ذلك مما ورد في الاخبار ، هو الاشتغال بأمر وجودي مغير لحال الاشتغال بالمركب.
    ومن ذلك يظهر : أن اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إنما يكون شرطا خارجيا اعتبره الشارع تعبدا ، لا لكونه يتوقف عليه صدق الفراغ ، فإنه لا يبعد صدق الفراغ بمجرد الاتمام ولو مع عدم الاشتغال بأمر وجودي. نعم : اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز انما هو لأجل أنه يتوقف صدق التجاوز عليه ، لا لمحض التعبد ، فتأمل.

    قد اختلفت كلمات الاعلام في « الغير » الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز ، فقيل : إنه مطلق الغير ، سواء كان من الاجزاء أو من المقدمات ، كالهوي والنهوض ، سواء كان جزء مستقلا أو كان جزء الجزء كآخر السورة بل الآية عند الشك في أولها.
    وحيث إن الاخذ بعموم الغير بهذه المثابة ينافي قوله ـ عليه السلام ـ في رواية إسماعيل « وإن شك في السجود بعدما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » (2) فإنه لو كان يكفي مطلق الدخول في الغير لم يكن وجه للتحديد في القيام عند الشك في السجود لان النهوض إلى القيام أقرب من
1 ـ الوسائل الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 1 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2 ـ الوسائل الباب 15 من أبواب السجود ، الحديث 4.


(634)
السجود إلى القيام ويصدق على النهوض أنه غير السجود فالتحديد بالقيام ينافي عموم « الغير » التزم صاحب هذا القول بأن رواية إسماعيل تكون مخصصة لعموم « الغير » فيكون النهوض إلى القيام خارجا عن العموم.
    ولما كان الالتزام بالتخصيص في غاية الوهن والسقوط ـ بداهة أن قوله ـ عليه السلام ـ في الرواية « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه » إنما سيق لبيان الكبرى الكلية فلابد وأن يكون قوله ـ عليه السلام ـ « شك في السجود بعد ما قام » من صغريات تلك الكبرى ولا يمكن إخراجه عنها ـ قال بعض الاعلام بخروج المقدمات عن عموم « الغير » مع الالتزام بالعموم بالنسبة إلى الاجزاء المستقلة وأجزاء الاجزاء.
    وقيل : بخروج أجزاء الاجزاء عن العموم أيضا ويختص بالاجزاء المستقلة بالتبويب التي رسم لكل منها باب على حدة عند تدوين كتاب الصلاة كتكبيرة الاحرام والقراءة والركوع والسجود والتشهد ونحو ذلك ـ فلا يعم المقدمات ولا أجزاء الاجزاء ، فلو شك المصلي في أول السورة وهو في آخرها يلزمه الرجوع إليها وإعادة السورة من أولها (1).
    وهذا هو الأقوى ، لان شمول قوله ـ عليه السلام ـ « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » للشك في الاجزاء إنما كان بعناية التبعد والتنزيل ولحاظ الاجزاء في المرتبة السابقة على التركيب ، فإنه في تلك المرتبة يكون كل جزء من أجزاء الصلاة وأجزاء أجزائها من الآيات والكلمات
1 ـ أقول : لا يحتاج تخصيص « الغير » بما اعتبر جزء للصلاة بل ولا إلى هذه العناية والتنزيل [ بل ] المنصرف من « الغير » بقرينة الأمثلة ما كان له وجود مستقل ولو بمثل الشك في وجود آية مع الدخول في آية أخرى ، فضلا عن الشك في الحمد مع الدخول في السورة ، مع أنهما لم تكونا مستقلان بالثبوت ، بل ولا في اعتبار الجزئية بناء على كون الجزء مطلق القراءة ، ولذا اعتنى بالدخول في القيام مع أنه ما لم يشتغل بالقراءة أو التسبيح لا يكون قيامه جزء للصلاة ، كما لا يخفى.

(635)
بل الحروف شيئا مستقلا في مقابل الكل. وأما في مرتبة التأليف والتركب : لا يكون الجزء شيئا مستقلا في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل ، كما تقدم. فدخول الاجزاء في عموم « الشيء » في عرض دخول الكل لا يمكن إلا بعناية التعبد والتنزيل. وحينئذ لابد من الاقتصار على مورد التنزيل ، والمقدار الذي قام الدليل فيه على التنزيل هو الاجزاء المستقلة بالتبويب ، فان عمدة ما ورد في عدم الاعتناء عند الشك في أجزاء الصلاة هو صحيحة « زرارة » ورواية « إسماعيل بن جابر » والمذكور فيهما هو الاجزاء المستقلة بالتبويب ، ففي صحيحة زرارة ، قال : « قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة » إلى أن قال : « قلت : رجل شك في الركوع وقد سجد ؟ قال ـ عليه السلام ـ يمضي في صلاته ، ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » (1).
    وفي رواية إسماعيل بن جابر ، قال : « قال أبو جعفر : إن شك في الركوع بعدما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعدما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2).
    وبعدما كان الظاهر من صدر الروايتين هو الاجزاء المستقلة ـ كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود فلا سبيل إلى دعوى عموم « الشيء » المذكور في الذيل للمقدمات وأجزاء الاجزاء ، فان الصدر يقتضي تضييق دائرة مصب عموم « الشيء » وإطلاق « الغير » المذكور في الذيل ، فلا يعم أول السورة وآخرها أو أول الآية وأخرها ، وإلا كان ينبغي تعميمه لأول الكلمة وآخرها ، مع أن الظاهر أنه لا قائل به.
1 ـ الوسائل : الباب 23 من أبواب الواقع في الصلاة ، الحديث 1.
2 ـ الوسائل : الباب 13 من أبواب الركوع الحديث 4.


(636)
    فالقدر الثابت من الدليل هو جريان قاعدة التجاوز في خصوص الاجزاء المستقلة بالتبويب ، ولا تجري قاعدة التجاوز عند الشك في أول السورة مع كون المكلف في آخرها ، فضلا عن الشك في أول الآية وهو في آخرها ، أو أول الذكر وهو في آخره ، فتأمل جيدا.
    بقي التنبيه على أمور :
    الأول : قد عرفت : أن مقتضى رواية « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » خروج المقدمات من الهوي والنهوض عن عموم قاعدة التجاوز ، إلا أنه قد ورد في بعض الروايات عدم الالتفات إلى الشك في الركوع بعد الهوي إلى السجود.
    ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : « قلت لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع ؟ قال ـ عليه السلام ـ قد ركع » (1) وهذا بظاهره ينافي ما ذكرناه من خروج المقدمات عن عموم القاعدة.
    وحكي عن بعض : أنه حمل قوله ـ عليه السلام ـ في رواية زرارة وإسماعيل بن جابر : « شك في الركوع وقد سجد ـ أو ـ بعدما سجد » على الهوي إلى السجود ، ولا يخفى بعده.
    فالأولى أن يقال : إن للهوي إلى السجود مراتب ، فإنه من مبدء التقوس إلى وضع الجبهة على الأرض يكون كله هويا ، فيحمل الهوي في رواية « عبد الرحمن » على آخر مراتبه الذي يتحقق به السجود ، فيرتفع التعارض بين الأدلة (2) ولا يخفى : أن حمل رواية « عبد الرحمن » على ذلك أقرب من حمل
1 ـ الوسائل : الباب 13 من أبواب الركوع ، الحديث 6.
2 ـ أقول : هذا المعنى ينافي مع جعل السجود بدخول الغاية ، فان ظاهره خروج ما بعده عن المغيا ،


(637)
السجود على الهوي ، فإنه لا يلزم من ذلك سوى تقييد إطلاق الهوي وحمله على المرتبة الأخيرة ، فلا عبرة بالهوي قبل وضع الجبهة على الأرض.
    الامر الثاني : مقتضى ما ذكرناه من أن المراد من « الغير » الذي يعتبر الدخول فيه هو الجزء المترتب على المشكوك فيه بحسب ما قرره الشارع ، هو جريان قاعدة التجاوز لو شك في الحمد عند الاشتغال بالسورة ، أو شك في السجود في حال التشهد ، لان كلا من السورة والتشهد مترتب على الحمد والسجود. ولكن الذي يظهر من روايتي « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » عدم جريان قاعدة التجاوز في الفرضين ، فان المذكور في رواية زرارة هو الشك في القراءة بعد الركوع ، والمذكور في رواية إسماعيل بن جابر هو الشك في السجود بعد القيام ، ولم يذكر فيهما التشهد والسورة.
    هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن عدم ذكر التشهد في رواية « إسماعيل » لمكان أن الامام ـ عليه السلام ـ في مقام بيان الشك في الركوع والسجود من الركعة الأولى التي لا تشهد فيها ، فيكون الشك في السجود من الركعة الثانية في حال التشهد داخلا في الكبرى الكلية المذكورة في ذيل الرواية ، وهي قوله : « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». وأما عدم ذكر السورة في رواية زرارة : فيمكن أن يقال : إن المراد من الشك في القراءة الشك في مجموع الحمد والسورة ، وأما الشك في الحمد وحدها بعد الاشتغال بالسورة : فلم يتعرض السائل لفرضه ، بل ذكره الامام ـ عليه السلام ـ في الكبرى الكلية المذكورة في الذيل وهي قوله ـ عليه السلام ـ « إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » فتأمل جيدا.
فلا يشمله الاطلاق ما يتحقق به السجود كي يقيد إطلاقه بخصوصه ، بل التصرف في قوله : « بعدما قام » على النهوض المشرف للقيام أولى من هذا التصرف. وحينئذ لولا إعراضهم عن هذه الرواية لا محيص من إدخال المقدمات مثل الهوي والنهوض في الغير ، كما لا يخفى.

(638)
     الامر الثالث : لا فرق في « الغير » المترتب على الجزء المشكوك فيه بين أن يكون من الاجزاء الواجبة أو المستحبة ، بل لا فرق بين أن يكون جزء مستحبا أو كان مستحبا في حال الصلاة وإن كان خارجا عن حقيقتها ـ كالقنوت على أحد الوجهين فيه ـ ويدل على ذلك قوله في صحيحة زرارة « رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة ؟ قال ـ عليه السلام ـ يمضي » (1) فان الأذان والإقامة من المستحبات الخارجة عن الصلاة المتقدمة عنها ، فالمستحبات الداخلية أولى بذلك.
    الامر الرابع : الشك في التشهد بعد القيام يندرج في الكبرى الكلية المذكورة في الروايات وإن لم يصرح به.
    الامر الخامس : لو شك في القراءة في حال الهوي إلى الركوع قبل الوصل إلى حده ، فان قلنا : إن الهوي من القيام إلى الركوع من المقدمات كالهوي إلى السجود ، فلا إشكال في وجوب العود إلى القراءة ، وإن قلنا : إن الهوي ليس من المقدمات بل هو من واجبات الركوع كما هو المختار ـ لان لازم كون القيام المتصل بالركوع من الأركان هو وجوب الهوي من مبدء التقوس إلى حد الركوع ـ فالظاهر عدم وجوب العود إلى القراءة ، لصدق الدخول في الغير ، والمسألة لا تخلو عن إشكال.
1 ـ أقول : لا أرى دلالته على مدعاه : من أن « الغير » الكافي الشك في جزء الصلاة ولو كان مستحبا نفسيا فيها ، إذ غاية دلالته جريان قاعدة التجاوز فيما هو من تبعات الصلاة بملاحظة الترتيب المأخوذ فيها ، لا في نفس أجزائه بملاحظة الترتيب المأخوذ بينه وبين ما هو مستحب نفسي في الصلاة. نعم : غاية الامر يتعدى من المستحبات الخارجية إلى المستحبات الداخلية بملاحظة الترتيب المأخوذ في نفسها ، لوحدة السنخية ، لا بينها وبين ما هو جزء للصلاة الذي هو من غير سنخها ، فتدبر.

(639)
    اعلم : أن الشرائط المعتبرة في الصلاة على أقسام ثلاثة :
    الأول : ما كان شرطا للصلاة في حال الاجزاء ، كالطهور والستر والاستقبال.
    الثاني : ما كان شرطا عقليا لنفس الاجزاء ، بمعنى أنه مما يتوقف عليه تحقق الجزء عقلا ، كالموالاة بين حروف الكلمة ، فإنه لا يكاد يصدق على الحروف المنفصلة عنوان الكلمة.
    الثالث : ما كان شرطا شرعيا للاجزاء ، كالجهر والاخفات بالقراءة ، بناء على كونها شرطا للقراءة لا للصلاة في حال القراءة ، كما لا يبعد دلالة قوله تعالى : « ولا تجهر بصلاتك » (1) على كونهما شرطا للصلاة.
    وقبل التعرض لحكم الأقسام ينبغي التنبيه على أمر :
    وهو أن المجعول في قاعدة التجاوز والفراغ إنما هو البناء على وقوع الجزء المشكوك فيه ، فإنها لو لم تكن من الامارات فلا أقل من كونها من الأصول المحرزة ، كما يدل عليه رواية حماد بن عثمان قال : « قلت : لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا ، فقال ـ عليه السلام ـ قد ركعت » (2) وكقوله ـ عليه السلام ـ في بعض أخبار الوضوء : « هو حين يتوضأ
1 ـ سورة بني إسرائيل الآية : 110.
2 ـ الوسائل : الباب 13 من أبواب الركوع ، الحديث 2.


(640)
أذكر » (1) إلى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في كون القاعدة محرزة لوقوع المشكوك فيه ، كالاستصحاب.
    ولا ينافي ذلك قوله ـ عليه السلام ـ في بعض الاخبار : « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » (2) فان عدم دلالة ذلك على التنزيل والاحراز لا يضر بدلالة الاخبار الاخر عليه.
    وبالجملة : ملاحظة الاخبار توجب القطع بكون الحكم المجعول في الباب هو البناء على وقوع المشكوك فيه ، من غير فرق في ذلك بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ. وكان شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ قبل هذا يميل إلى عدم كون قاعدة الفراغ من الأصول المحرزة ، إلا أنه لما كان ذلك ينافي وحدة الكبرى المجعولة الشرعية التزم بأن قاعدة الفراغ كقاعدة التجاوز من الأصول المحرزة ، وهو الحق الذي لا محيص عنه.
    إذا تبين ذلك ، فنقول : قد عرفت أن الشروط على أقسام ثلاثة :
    الأول : ما يكون شرطا للصلاة في حال الاجزاء ، وهو أيضا على قسمين : فإنه تارة : يكون للشرط محل مقرر شرعي ، كما لا يبعد أن تكون الطهارة الحدثية كذلك ، فان قوله تعالى : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » الخ (3) يدل على أن محل الطهارة قبل الصلاة. وأخرى : لا يكون للشرط محل شرعي كالاستقبال والستر ، فان المعتبر شرعا وقوع الاجزاء في حال الاستقبال والستر من دون أن يكون لهما محل شرعي ، غايته أنه يتوقف عقلا تحقق الاستقبال والستر قبل الصلاة مقدمة ليقع التكبير في حال الاستقبال والستر. وعلى كلا
1 ـ الوسائل : الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 7.
2 ـ الوسائل : الباب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث 6 ولفظ الحديث « كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك فيه ».
3 ـ المائدة : 6


(641)
التقديرين : فتارة يشك في حصول الشرط في أثناء المشروط ، وأخرى يشك فيه بعد الفراغ عنه.
    فان كان الشك في الشرط في أثناء المشروط وكان للشرط محل مقرر شرعي : فلا إشكال في جران قاعدة التجاوز فيه ، ويترتب عليه جميع آثار وجود الشرط كما لو أحرز الشرط بأصل آخر ، وهذا في الشرائط التي لا تتعلق بها إرادة مستقلة بل تتعلق بها الإرادة بتبع تعلقها بالمشروط واضح ، ولكن الظاهر أن لا يكون له مثال. وأما الشرائط التي يمكن أن تتعلق بها إرادة مستقلة ـ كما إذا كان عمل من الأعمال المستقلة المستحبة أو الواجبة شرطا لعمل آخر ، كالطهارة الحدثية وكصلاة الظهر ، فان كلا منهما مما يمكن أن تتعلق به الإرادة لا بتبع إرادة المشروط بل بنفسه ، ومع ذلك يكون وجوده شرطا لصحة المأمور به ، فالطهارة شرط لمطلق الصلوات ، وصلاة الظهر شرط لصحة صلاة العصر حسب ما دلت عليه أدلة الترتيب ـ ففي جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الشرط في أثناء المشروط وعدمه وجهان.
    وعلى تقدير جريان القاعدة : ففي جواز ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا حتى بالنسبة إلى غير ما بيد المكلف من المشروط أو وجوب الاقتصار على ترتيب آثار وجود الشرط بالنسبة إلى خصوص ما بيده من المشروط ، وجهان.
    والثمرة بين الوجوه الثلاثة مما لا تكاد تخفى.
    فإنه لو قلنا بعدم جريان قاعدة التجاوز كان اللازم في مثال الطهارة قطع الصلاة واستينافها بعد تجديد الطهارة لو شك فيها في أثناء الصلاة ، وفي مثال صلاه الظهر والعصر العدول بالنية وإتمامها ظهرا لو شك في صلاة الظهر في أثناء صلاة العصر. وإن قلنا بجريان القاعدة فبناء على وجوب ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا حتى بالنسبة إلى غير ما بيد المكلف : كان اللازم جواز فعل كل مشروط بالطهارة بلا تجديد الوضوء في مثال الطهارة وعدم وجوب


(642)
الاتيان بصلاة الظهر بعد إتمام العصر ولو مع بقاء الوقت.
    وأما بناء على وجوب الاقتصار على خصوص ما بيده : فغاية ما يلزم جواز إتمام ما بيده من الصلاة مع الشك في الطهارة وجواز إتمامها عصرا مع الشك في الظهر ، وأما بعد الاتمام : فيجب تجديد الطهارة للصلوات الاخر ويجب فعل الظهر مع بقاء الوقت.
    هذا ، والانصاف : أن المسألة لا تخلو عن الاشكال ، فان مقتضى كون قاعدة التجاوز من الأصول المحرزة هو وجوب ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا ، ففي المثالين : لا يجب تجديد الطهارة للصلوات كما لو كان مستصحب الطهارة ، ولا يجب فعل الظهر بعد إتمام العصر كما لو فرض أنه قام أصل محرز على فعل صلاة الظهر. ولكن الالتزام بذلك في غاية الاشكال ، كما أن الالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز أصلا ـ بدعوى أن مورد القاعدة هو الاجزاء والشرائط التي لا تتعلق بها إرادة مستقلة ـ أشكل ، فان الشك في الطهارة الحدثية لا يقصر عن الشك في الأذان والإقامة مع أنهما من المستحبات الخارجة عن الصلاة. بل الذي يعتبر في القاعدة هو إمكان أن يتعلق بالمشكوك إرادة تبعية ، لا أنه لابد وأن يكون كذلك.
    والذي يترجح في النظر هو جريان القاعدة بالنسبة إلى خصوص ما بيد المكلف من الصلاة ، ففي المثالين : يمضي على صلاته ولو مع الشك في الطهارة ويتم صلاته عصرا وبعد الصلاة يجب عليه تجديد الوضوء للصلوات الاخر ويجب عليه فعل الظهر مع بقاء الوقت ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل. هذا إذا شك في الشرط في أثناء الصلاة.
    وإن شك فيه بعد الفراغ : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيه ، بل يمكن جريان قاعدة التجاوز ، فان الشك في الفراغ مسبب عن الشك في الشرط ، فتجري قاعدة التجاوز بالنسبة إلى نفس الشرط إذا كان للشرط محل


(643)
مقرر شرعي ، كما هو مفروض الكلام.
    ودعوى : اختصاص قاعدة التجاوز بما إذا كان الشك في أثناء العمل مما لا شاهد عليها ، بل الذي يعتبر في قاعدة التجاوز هو أن يكون الشك فيما قد جاوز المكلف محله ودخل في غيره ، وأما كون الغير متصلا بالمشكوك : فلا يعتبر ، فإنه لا إشكال في جريان قاعدة التجاوز لو شك المكلف في أول الصلاة وهو في آخرها.
    فالأقوى : جريان قاعدة التجاوز في مفروض الكلام. وفي جواز ترتيب جميع آثار وجود الشرط حتى بالنسبة إلى غير الصلاة التي فرغ عنها المكلف أو وجوب الاقتصار على خصوص تلك الصلاة ؟ إشكال ، تقدم الكلام فيه. هذا كله إذا كان للشرط محل مقرر شرعي.
    وإن لم يكن للشرط محل شرعي ، كالستر والاستقبال :
    فان كان الشك فيه في أثناء الصلاة : فالأقوى عدم جريان قاعدة التجاوز فيه ، لأنه ليس له محل شرعي لكي يصح إضافة التجاوز إليه ، فلا يندرج في قوله ـ عليه السلام ـ « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » والمحل العادي قد عرفت ما فيه.
    فما ينقل عن المدارك وغيره ـ من أن الشك في الشروط عند الدخول في المشروط أو الكون على هيئة الداخل حكمه حكم الشك في الاجزاء في عدم الالتفات فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة واللباس والطهارة وأمثالها بعد الدخول في الغاية والمشروط ـ ضعيف غايته.
    وإن كان الشك فيه بعد الفراغ : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ.
    هذا كله إذا شك في القسم الأول من الشروط ، وهو ما كان شرطا للصلاة في حال الاجزاء.
    القسم الثاني : ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء ، كالموالاة بين حروف


(644)
الكلمة. ولا إشكال أيضا في جريان قاعدة التجاوز عند الشك فيه ، لأن الشك في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة يرجع إلى الشك في وجود الكلمة وقاعدة التجاوز تحرز الوجود ، وفرق واضح بين الموالاة في حروف الكلمة وبين الموالاة في كلمات الآية ، فان الموالاة بين حروف الكلمة مما يتوقف عليها وجود الكلمة عقلا ، بخلاف الموالاة بين كلمات الآية ، فإنه لا يتوقف عليها وجود الآية عقلا مطلقا ، من غير فرق في ذلك بين الموالاة بمعنى عدم الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة وبين الموالاة بمعنى التتابع العرفي بناء على اعتبارها زائدا على اعتبار عدم الفصل الطويل الماحي للصورة ـ كما هو قول جماعة ـ فإنه لا يكاد يشك في تحقق الآية عقلا ولو مع القصل الطويل بين كلماتها ، فالموالاة بين كلمات الآية بكلا وجهيها إنما تكون من الشروط الشرعية لا العقلية. هذا ، مضافا إلى أن الموالاة بين كلمات الآية إنما تكون من شرائط الصلاة كالستر والاستقبال ، وليست من شرائط الآية ، بخلاف الموالاة بين حروف الكلمة ، فإنها من شرائط نفس الكلمة.
    فما يظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ من اتحاد حكم الموالاة بين حروف الكلمة مع الموالاة بين كلمات الآية ، ليس على ما لا ينبغي ، بل الأقوى اختلاف حكمهما ، فإنه عند الشك في الموالاة بين حروف الكلمة تجري قاعدة التجاوز ، لما عرفت : من أن الشك فيها يرجع إلى الشك في وجود الكلمة.
    وأما الشك في الموالاة بين كلمات الآية : فان كان الشك فيها بالمعنى المقابل لمحو الصورة فهو يرجع إلى الشك في عروض المبطل ، لان الفصل الطويل الماحي للصورة من المبطلات مطلقا ولو وقع عن نسيان ، فيكون حكمه حكم الشك في سائر المبطلات العمدية والسهوية ، وفي جريان استصحاب صحة الاجزاء السابقة وعدمه جريانه كلام تقدم تفصيله.
    وإن كان الشك فيها بالمعنى المقابل للتتابع العرفي فالقطع بفواتها سهوا


(645)
لا يوجب البطلان ، فضلا عن الشك فيه ، فان المفروض : أنها شرط للصلاة في حال القراءة والأذكار ، وبمجرد القراءة بفوت محلها ، فان العود إلى القراءة والذكر لتدارك الموالاة يوجب الزيادة العمدية ، فلا يجوز العود إلى القراءة لتدارك الموالاة.
    وعلى كل حال : لا أثر لجريان قاعدة التجاوز عند الشك في فوات الموالاة بين الكلمات بكلا معنييها ، فما في كلام الشيخ ـ قدس سره ـ من عطف الموالاة بين الكلمات على الموالاة بين حروف الكلمة ، مما لا وجه له.
    القسم الثالث من الشروط ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، ولم نعثر له على مثال سوى الجهر والاخفات بالقراءة على أحد الوجهين فيهما والبحث عن الشك في الجهر والاخفات بالقراءة قليل الجدوى ، لورود النص على عدم وجود العود إلى القراءة عند نسيانهما ولو مع التذكر قبل الركوع ، فعدم وجود العود إليها مع الشك فيهما أولى. ولكن مع ذلك ينبغي بيان حكم الشك في هذا القسم من الشروط ، لعل المتتبع يعثر على مثال له غير الجهر والاخفات.
    فنقول : لو شك في فوات ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، فان كان الشك بعد الدخول في الركن فلا إشكال في الصحة ، لان العلم بفواته نسيانا بعد الدخول في الركن لا أثر له ، فضلا عن الشك في الفوات. وإن كان الشك قبل الدخول في الركن وبعد الدخول في الغير المترتب على الجزء المشروط بالمشكوك فيه فالأقوى : جريان قاعدة التجاوز فيه ، بل يصح جريان القاعدة في كل من الشرط والمشروط ، لأن الشك في وجود الشرط الشرعي يستتبع الشك في وجود المشروط بوصف كونه صحيحا ، والمفروض : أن المكلف قد دخل في الغير المترتب على المشكوك فيه ، فهو قد تجاوز محل الشرط والمشروط.
    فتحصل : أنه لا فرق في جريان قاعدة التجاوز بين الشك في الشرط العقلي المقوم للحقيقة وبين الشك في الشرط الشرعي للجزء. ودعوى : أن
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس