فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 661 ـ 675
(661)
شروط أهلية المالك وسلطنته على النقل والانتقال ، بل مورد أصالة الصحة في العقود هو ما إذا كان الشك متمحضا في اختلال شرط من شروط صحة العقد ، لأنه ليس في البين دليل لفظي يؤخذ باطلاقه ، والقدر المتيقن من معقد الاجماع هو ما ذكرناه (1) ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح في المباحث الآتية.
    الامر الثالث :
    لا إشكال في أن المراد من صحة العمل هو ترتيب الآثار المقصودة منه ، بمعنى أنه يبنى على كون العمل واجدا للشرائط المعتبرة فيه عند الشك في ذلك ، فعلى هذا تكون صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الايجاب عبارة عن كونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه : من كونه وقع بصيغة الماضي والعربية وغير ذلك. وأما تحقق القبول بعده : فهو ليس مما يعتبر في صحة الايجاب ، بل الايجاب إن وقع واجدا لما يعتبر فيه فهو صحيح تعقبه القبول أو لم يتعقبه ، فان صحة الايجاب عبارة عن « أنه وقع على ما ينبغي أن يقع عليه ، بحيث لو تعقبه القبول لكان مؤثرا في النقل والانتقال » وهذا المعنى من الصحة التأهلية للايجاب لا يتوقف على تحقق القبول ، فليس معنى صحة الايجاب وقوع القبول عقيبه ، كما أنه ليس معنى صحة القبول وقوع الايجاب قبله.
    وبالجملة : صحة العقد المركب من الايجاب والقبول غير صحة كل من الايجاب والقبول منفردا ، فان صحة العقد عبارة عن الصحة الفعلية ـ أي كون العقد مؤثرا للنقل والانتقال ـ وصحة الايجاب أو القبول عبارة عن الصحة التأهلية ، فأصالة الصحة في الايجاب لا تثبت وقوع القبول.
    وقد صرح الشيخ ـ قدس سره ـ بذلك ، وإن كان قد يسبق إلى الذهن
1 ـ أقول : ذلك ينافي مع ما أسسه سابقا : من انعقاد الاجماع على الكبرى الكلية ، فراجع ما ذكره.

(662)
المنافاة بين ما ذكره في « الامر الثالث » وبين ما ذكره في « الامر الثاني » عند رد مقالة المحقق الثاني ، حيث قال ـ رحمه الله ـ ما لفظه « وأما ما ذكره : من أن الظاهر إنما يتم مع الاستكمال المذكور لا مطلقا ، فهو إنما يتم إذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحة فعله صحة فعل هذا الفاعل الخ » فان ظاهر ما أفاده في « الامر الثاني » هو أن أصالة الصحة في فعل أحد الطرفين تثبت صحة الفعل في الطرف الآخر ، وهذا بظاهره ينافي ما صرح به في « الامر الثالث » من أن أصالة الصحة في فعل الموجب لا نثبت فعل القابل ، فتأمل (1).
    وعلى كل حال : لا إشكال فيما أفاده : من أن صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الايجاب معناها « أنه لو انضم إليه القبول لكان مؤثرا في النقل والانتقال » وصحة عقد الصرف والسلم معناها « أنه لو تعقبه القبض في المجلس لكان مؤثرا في النقل والانتقال » (2) فأصالة الصحة في الايجاب أو في عقد
1 ـ وجهه : هو أنه يمكن دفع التنافي بين الكلامين ، فان ما أثبته في « الامر الثاني » هو أن أصالة الصحة في فعل أحد الطرفين تثبت صحة الفعل الصادر عن الطرف الآخر إذا توقف صحة أحد الفعلين على صحة فعل الآخر ، كما في صورة الشك في بلوغ أحد المتعاقدين ، فان صحة فعل البالغ تتوقف على صحة فعل الآخر المتوقفة على بلوغه أيضا. وما منع عنه في « الامر الثالث » هو أن أصالة الصحة في فعل أحد الطرفين لا تثبت صدور أصل الفعل من الطرف الآخر مع عدم توقف صحة فعل أحدهما على صدور الفعل عن الآخر ، كما في الايجاب ، فان صحته لا تتوقف على وقوع القبول عقيبه ، فما ذكره في « الامر الثاني » لا ينافي ما ذكره في « الامر الثالث » فتأمل جيدا ( منه ).
2 ـ أقول : الأولى أن يقال : إن القبض بناء المشهور من كونه شرطا ناقلا ، فأصالة الصحة لا يجري في العقد مع الشك فيه ، من جهة أن المتيقن من مجراه صورة احتمال الصحة والفساد حين وجود العقد ، وفي المقام ليس كذلك ، وإلا فلا قصور في جريانها في العقد مع الشك في القبض. نعم : لو كان القبض من أجزاء السبب كان الامر كما ذكر ، ولكن له باثباته ! إذ الظاهر من كلماتهم أن القبض شرط صحة العقد لا جزء المؤثر.


(663)
الصرف والسلم لا تثبت وقوع القبول أو تحقق القبض في المجلس عند الشك في ذلك. وكذا الكلام في بيع الراهن مع الشك في إذن المرتهن ، أو مع الشك في تقدم البيع على رجوع المرتهن عن إذنه وتأخره ، فان أصالة الصحة في بيع الراهن لا تثبت إذن المرتهن أو تقدم البيع على الرجوع ، بل مقتضى ما ذكرناه في الامر السابق هو عدم جريان أصالة الصحة في بيع الراهن في المثال ، للشك في صدوره عمن له الولاية والسلطنة على البيع ، فيشك في موضوع أصالة الصحة. وأولى من ذلك بيع الوقف مع الشك في عروض ما يسوغ معه بيع الوقف ، فان بيع الوقف لا يتصف بالصحة التأهلية ، بل إما أن يقع البيع مصاحبا للصحة الفعلية وإما أن يقع باطلا من رأسه ، بخلاف الأمثلة المتقدمة ، فإنها تتصف بالصحة التأهلية مع عدم وقوع ما شك في وقوعه ، فلا مجال لجريان أصالة الصحة في بيع الوقف مع الشك في عروض المسوغ ، فتأمل جيدا.
    الامر الرابع :
    لا تجري أصالة الصحة في عمل الغير إلا بعد إحراز صدور العمل بعنوانه الذي تعلق به الامر أو ترتب عليه الأثر ، فلا تجري أصالة الصحة مع الشك في صدور العمل بالعنوان الذي يترتب عليه الأثر أو يتعلق به الامر ولو مع العلم
ومن هنا نقول : بأنه لو بنينا على شرطية المتأخر ـ ولو بمذاق المشهور في إجازة الفضولي ـ لا قصور في جريان أصالة الصحة في المقام أيضا. نعم : في الإجازة بناء على كونه منشأ لإضافة العقد إلى المالك لا يجري أصالة الصحة حتى على مذاق المشهور : من الكشف ، لعدم إثباته الإضافة التي هي موضوع الصحة والفساد. ومن هنا ظهر أيضا : عدم جريان استصحاب إذن المرتهن في بيع الرهن عند الشك في رجوعه قبله. نعم : لا بأس في بيع الرهن مع الشك في رجوعه ، لعدم قصور في استصحاب بقاء إذنه ورضاه ، فتدبر فيما قلت.

(664)
بصدور دات العمل ، فلو شك في أن غمس الثوب في الماء كان بعنوان التطهير أو بعنوان إزالة الوسخ منه لا تجري فيه أصالة الصحة ، فان غمس الثوب في الماء بنفسه لا يتصف بالصحة والفساد ، بل الذي يتصف بهما هو الغسل بالماء ، فلابد من إحراز كون الغمس كان بعنوان الغسل لكي يشك في صحته وفساده ، وكذا أصالة الصحة في أفعال الصلاة إنما تجري بعد إحراز كون الافعال صدرت بعناوينها التي تعلق الامر بها ، فلو شك في كون الانحناء كان بعنوان الركوع أو بعنوان قتل الحية لا تجري فيه أصالة الصحة ، فان الانحناء بنفسه لا يتصف بالصحة والفساد ، بل الذي يتصف بهما هو الركوع.
    وبالجملة : يتوقف جريان أصالة الصحة على إحراز صدور العمل على الوجه والعنوان الذي يكون العمل به موضوع الأثر ومتعلق الامر ، سواء كان العنوان من العناوين التي لا تتوقف حصولها على القصد كغسل الثوب ، أو كان من العناوين القصدية كالركوع والسجود ، وكالفراغ ذمة الغير في باب النيابة ، فإنه لولا قصد النيابة في العمل لا يكاد يقع العمل عن الغير المنوب عنه ، فلابد من إحراز كون النائب قصد بالعمل عنوان النيابة لكي تجري في عمله أصالة الصحة عند الشك في صحة العمل وفساده ، ولا يمكن إثبات قصد النيابة بأصالة الصحة في العمل.
    لا أقول : إن أصالة الصحة لا تثبت القصد مطلقا ، إذ رب قصد يكون شرطا شرعيا لصحة العمل ، كقصد التقرب في العبادات ، ولا إشكال في جريان الصحة عند الشك في صحة الصلاة وفسادها من جهة الشك في قصد القربة.
    بل أقول : إن موضوع الصحة إذا كان العمل بما له من العنوان القصدي فأصالة الصحة في العمل المأتي به لا تثبت أن الاتيان بالعمل كان بذلك العنوان القصدي ، وذلك واضح لا ينبغي الاشكال فيه.


(665)
    إنما الاشكال في أنه يكفي في إثبات كون العمل المأتي به كان واجدا للعنوان إخبار العامل بذلك ، أو أنه لابد من العلم به أو قيام السنة عليه ؟.
    أما في باب العقود والايقاعات وما يلحق بها : فالظاهر كفاية إخباره بذلك وإن لم يحصل الوثوق بقوله ، لاندارجه في قاعدة « من ملك شيئا ملك الاقرار به » على إشكال في بعض الموارد.
    وأما في العبادات : فإذا حصل الوثوق من قوله يقبل قوله ، لان الاقتصار في إثبات مثل هذه الموضوعات على العلم والبينة يوجب العسر والحرج ، بل ينسد باب النيابة في العمل مع كثرة الحاجة إليها وعموم البلوى بها ، فلا مجال لدعوى اعتبار العلم أو البينة ، بل الظاهر كفاية مطلق الوثوق وإن لم يكن الخبر عدلا ، فان التقييد بالعدالة إن كان لأجل إدراج خبره في أدلة حجية خبر العادل ، ففيه : أن أدلة حجية الخبر الواحد تختص بالاخبار القائمة على الأحكام الشرعية ولا تعم الموضوعات الخارجية ، لما دل على اعتبار التعدد فيها ، مع أنه في الخبر الواحد أيضا يكفي مطلق الوثوق بالصدور ، كما تقدم في محله. وإن كان التقييد بالعدالة لأجل حصول الوثوق من إخباره ، ففيه : أن الوثوق لا يتوقف على العدالة ، بل قد يحصل الوثوق من خبر الفاسق مالا يحصل من خبر العادل. فما يظهر من كلام الشيخ ـ قدس سره ـ من اعتبار العدالة ، لا وجه له.
    وبما ذكرنا يظهر ما في كلام الشيخ ـ قدس سره ـ « الامر الرابع » فإنه قال ـ قدس سره ـ « إن الفعل النائب عنوانين : أحدهما من حيث إنه فعل من أفعال النائب » إلى أن قال : « والثاني من حيث إنه فعل للمنوب عنه ، حيث إنه بمنزلة الفاعل بالتسبيب أو الآلة » إلى أن قال : « والصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من هذه الحيثية الثانية ، بل لابد من إحراز صدور الفعل الصحيح على وجه التسبيب » انتهى.
    والانصاف : أن ما أفاده في هذا المقام مما لا يمكن المساعدة عليه ، فإنه إن


(666)
أحرز أن العامل قصد النيابة وتفريغ ذمة الغير بعمله ـ إما من إخباره وإما من الخارج ـ فأصالة الصحة تجري في عمله ويحكم ببراءة ذمة المنوب عنه. وإن لم يحرز أن العامل قصد النيابة في عمله فلا تجري في عمله أصالة الصحة ، لعدم إحراز العنوان المتعلق للأثر ، فلا موضوع لأصالة الصحة. هذا مضافا إلى ما في جعل باب النيابة من باب التسبيب مالا يخفى ، فتأمل جيدا.
    الامر الخامس :
    قد تبين مما ذكرنا في « الامر الثاني » الاشكال فيما ذكره الشيخ ـ قدس سره ـ في « الامر الخامس » من قوله : « فلو شك في أن الشراء الصادر من الغير كان بمالا يملك ـ كالخمر ـ أو بعين من أعيان ماله فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البايع ، لأصالة عدمه » انتهى.
    فإنه لا تجري في المثال أصالة الصحة في الشراء ، للشك في قابلية الثمن للانتقال ، وقد عرفت : أنه مع الشك في قابلية العوضين للانتقال لا تجري أصالة الصحة ، مضافا إلى أنه لا معنى للحكم بصحة الشراء مع القول بعدم انتقال شيء من تركه المشتري إلى البايع ، فإنه إما أن نقول بانتقال المبيع من البايع إلى المشتري وإما أن لا نقول بذلك. فعلى الأول : يلزم الحكم بدخول المبيع في ملك المشتري من دون أن يدخل في ملك البايع ما يقابله من الثمن ، وهو كما ترى ! وعلى الثاني : لا أثر لأصالة الصحة في شرائه ، لان كلا من الثمن والمثمن بعد باق على ملك مالكه ، فأي أثر يترتب على أصالة صحة الشراء ؟ فالانصاف : أن ما أفاده الشيخ مما لا يستقيم.
    نعم : لا إشكال فيما أفاده في عنوان « الامر الخامس » وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار مثبتات أصالة الصحة ، ولا إشكال فيه بناء على كونها من الأصول


(667)
العملية (1) وقد استشهد بكلام العلامة ـ قدس سره ـ على ذلك ، وينبغي تحرير كلام العلامة مع ما علق عليه جامع المقاصد ، ليتضح محل الاستشهاد.
    قال العلامة ـ قدس سره ـ في القواعد : « لو قال آجرتك كل شهر بدرهم من غير تعيين ، فقال : بل سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر ، فان قدمنا قول المالك ، فالأقوى : صحة العقد في الشهر الأول هنا. وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادعى اجرة مدة معلومة أو عوضا معينا وأنكر المالك التعيين فيهما ، والأقوى : التقديم فيما لا يتضمن دعوى » انتهى. وقد أفاد في كلامه هذا فرعين من فروع التنازع بين المالك والمستأجر.
    الأول : ما إذا اختلف المالك والمستأجر ، فقال المالك : آجرتك كل شهر بدرهم ، وقال المستأجر : آجرتني سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر. قال في جامع المقاصد ـ على ما حكي عنه ـ وجه النظر : هو أن المستأجر لما كان يدعي صحة عقد الإجارة ـ لان بناء العلامة على بطلان إجارة كل شهر بدرهم من حيث جهالة مدة الإجارة ـ فكان القول قول المستأجر ، لموافقة قوله لأصالة الصحة. ولكن لما كان أصالة الصحة لا تثبت وقوع العقد على السنة ، لان أصالة الصحة في عقد الإجارة إنما تجري بعد إحراز مدة الإجارة التي هي ركن في عقد الإجارة ـ كالعوضين في عقد البيع ـ فصار ذلك منشأ توقف العلامة في تقديم قول المستأجر ، وحيث إن بناء المحقق الثاني على عدم جريان أصالة الصحة في العقود إلا بعد إحراز استكمالها للأركان اختار في الفرع المذكور عدم
1 ـ أقول : بل ولو قلنا بأنها من الامارات ، فان مجرد اعتبارها من حيث تتميم كشفها في جهة الصحة والفساد لا يقتضي تتميم كشفها من سائر الجهات ، ومثبتية الامارات ليس إلا بالبناء على تتميم كشف الاحتمالات المتعلقة بمداليلها أجمع مطابقة أو التزاما. نعم : على مسلكه في شرح مثبتية الامارة لا محيص من التزامه بعدم التفكيك بين الا مارية والمثبتية ، فما لا يكون مثبتا لابد وأن يكون عنده أصلا عملية. ولقد أجرينا القلم في رد ما أفيد في مورد كلامه ، فراجع.

(668)
تقديم قول المستأجر ، فإنه لا منشأ لتقديم قول المستأجر إلا كون قوله موافقا لأصالة الصحة ، وهي لا تجري ، لأنها لا تثبت وقوع العقد على السنة ، فان ذلك أمر خارج يلازم صحة عقد الإجارة ، وأصالة الصحة لا تثبت اللوازم والملزومات.
    وبذلك يظهر : أنه يصح الاستشهاد على عدم حجية مثبتات أصالة الصحة بما ذكره العلامة في الفرع الأول أيضا. فما يظهر من بعض المحشين : من أن نظر الشيخ ـ قدس سره ـ في الاستشهاد بكلام العلامة إنما هو الفرع الثاني ليس في محله ، بل التحقيق إن نظر الشيخ في الاستشهاد إلى كل من الفرعين.
    ثم إن كلمة « هنا » في قوله : « فان قدمنا قول المالك صح في الشهر الأول هنا » ساقطة في كلام الشيخ ـ قدس سره ـ ولكنها موجودة في القواعد ، وقد ذكر جامع المقاصد وجه التقييد ب‍ « هنا » ما حاصله : أن العلامة وإن كان بنائه على بطلان إجارة كل شهر بدرهم ، إلا أن في هذا الفرع خصوصية تقتضي صحة الإجارة في الشهر الأول ، فان النزاع بين المستأجر والمالك في كون عقد الإجارة وقع على السنة بدينار أو على كل شهر بدرهم يستلزم الاتفاق منهما على أن ثمن الإجارة في الشهر الأول هو الدرهم. ثم قال المحقق الثاني : « إن الاتفاق على ذلك مبني على أن يكون قيمة الدينار اثني عشر درهم ، فلو كان قيمته عشرة دراهم لم يحصل منهما الاتفاق ».
    أقول : ولو فرض أن قيمة الدينار كانت اثني عشر درهم لا يحصل الاتفاق بينهما في الشهر الأول ، لان المستأجر يدعي أن ثمن الإجارة في مجموع السنة هو الدينار لا الدرهم. نعم : دعواه ذلك تتضمن أن يكون ثمن الإجارة في الشهر الأول جزء من اثني عشر جزء من الدينار يسوي قيمته درهم ، والمالك يدعي أن ثمن الإجارة خصوص الدرهم ، ومجرد كون الجزء من اثني عشر جزء من الدينار يسوي قيمته درهم لا يقتضي الاتفاق منهما على كون ثمن الإجارة في الشهر


(669)
    الأول هو الدرهم ، ألا ترى أنه لو قال المالك : آجرتك بدرهم وقال المستأجر بل آجرتني بثوب يسوي قيمته درهم ، لم يكن ذلك اتفاقا منهما على كون ثمن الإجارة هو الدرهم ، وذلك واضح.
    الفرع الثاني : ما إذا ادعى المستأجر اجرة مدة معلومة أو عوضا معينا ، وأنكر المالك التعيين فيهما. وقد قوى في هذا الفرع تقديم قول المستأجر إذا لم يتضمن دعوى. وعن جامع المقاصد في شرح قوله : « والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى » ما حاصله : أن المستأجر تارة يدعي اجرة تساوي أجرة المثل ، وأخرى يدعي اجرة أنقص من أجرة المثل ، فعلى الأول : يقدم قول المستأجر ، لان دعواه لا تتضمن دعوى على المالك. وعلى الثاني : لا يقدم قول المستأجر ، لان دعواه تتضمن عدم استحقاق المالك أجرة المثل.
    أقول : لا فائدة في تقديم قول المستأجر لو كان يدعي اجرة تساوي أجرة المثل ولا أثر لجريان أصالة الصحة في عقد الإجارة ، فإنه على التقديرين لا يطالب أكثر من أجرة المثل ، سواء قلنا بصحة عقد الإجارة أو فسادها. وعلى كل حال : يستفاد من قول العلامة : « والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى » عدم إثبات أصالة الصحة في العقود اللوازم والملزومات.
    الامر السادس :
    قد تقدم أن أصالة الصحة في العقود تكون حاكمة على أصالة الفساد وعدم انتقال المال عن مالكه إذا لم يكن في البين أصل موضوعي آخر ، كما إذا كان الشك متمحضا في شرائط العقد ـ من العربية والماضوية والصراحة ونحو ذلك ـ فإنه ليس في البين أصل عملي يكون مفاده عدم وقوع العقد بالعربية أو الماضوية ، لان العقد حال وقوعه : إما أن يكون واجدا للشرائط المعتبرة فيه وإما أن يكون فاقدا لها ، فليس في البين إلا أصالة الفساد وعدم انتقال المال


(670)
عن مالكه ، ولا مجال لها مع أصالة الصحة ، سواء قلنا : إن أصالة الصحة من الأصول المحرزة المتكفلة لتنزيل أو قلنا : إنها من الأصول الغير المحرزة ، فإنه على كل تقدير تقدم على أصالة الفساد إما بالحكومة بناء على كونها من الأصول المحرزة ، فإنها تكون حينئذ محرزة لشرائط العقد ووقوعه بالعربية مثلا (1) وإما بالتخصيص بناء على كونها من الأصول الغير المحرزة ، فإنه لو قدم أصالة الفساد لم يبق لأصالة الصحة مورد. هذا إذا لم نقل بأنها من الامارات ، وإلا كان تقديمها على أصالة الفساد في غاية الوضوح وإن كان القول بكونها من الامارات بعيدا غايته ، فإنه ولو سلم كون الصحة من مقتضيات ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على الفساد ، إلا أنه قد عرفت : أن عمدة الدليل على اعتبار أصالة الصحة هو الاجماع ، ولم يظهر من الاجماع أن اعتبارها كان لأجل كشفها عن الصحة.
    وبعبارة أخرى : لم يعلم أن التعبد بها كان تتميما لكشفها ، وقد تقدم ـ في المباحث السابقة ـ أنه لا يكفي في كون الشيء أمارة مجرد كونه واجدا لجهة الكشف ما لم يكن اعتباره من تلك الجهة ، فالقول بأمارية أصالة الصحة مما لا سبيل إليه. ولكن لا يتفاوت الحال من الجهة التي نحن فيها ، وهي حكومتها على أصالة الفساد إذا لم يكن في البين أصل موضوعي آخر غير أصالة عدم الانتقال.
    وإن كان في البين أصل موضوعي آخر : فان كان مؤداه عدم تحقق الشرائط الراجعة إلى سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال ، فقد تقدم أنه لا تجري أصالة الصحة عند الشك فيها ، بل لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك فيما يعتبر في سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال لم تجر
1 ـ أقول : ولو قلنا بالأمارية لا يثبت عربية العقد ، فضلا عن أن يكون من الأصول المحرزة.

(671)
فيه أصالة الصحة ولو لم يكن في البين أصل موضوعي آخر غير أصالة الفساد وعدم انتقال المال عن مالكه ، كما لو شك في كون المبيع غنما أو خنزيرا ، فإنه ليس في مورد الشك أصل يقتضي كون المبيع خنزيرا ، ومع ذلك لا تجري في العقد أصالة الصحة ، للشك في قابلية المبيع للانتقال.
    وإن كان مؤدى الأصل الموضوعي ما عدا الشرائط الراجعة إلى سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال ، كما إذا كان الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في بلوغ الوكيل القاعد أو كان مسببا عن وزن المبيع أو اختباره ـ ونحو ذلك مما كان مفاد الأصل عدم تحقق شرط الصحة ـ فقد تقدم : أن الأقوى جريان أصالة الصحة في العقد وحكومتها على مثل هذه الأصول الموضوعية أيضا. ولكن يظهر من عبارة « الفرائد » المنع عن جريان أصالة الصحة في مثل ذلك.
    ثم لا يخفى : أن نسخ « الفرائد » في هذا المقام مختلفة مضطربة غاية الاضطراب ، وقد حكي أن عبارة الشيخ ـ قدس سره ـ كانت في الأصل مختصرة تقرب من خمسة أسطر ، وللمرحوم السيد الكبير الشيرازي ـ قدس سره ـ حاشية مفصلة تقرب من صفحة ، وفي بعض نسخ « الفرائد » حاشية السيد ـ رحمه الله ـ رقمت في المتن وعبارة الشيخ ـ قدس سره ـ كتبت في الهامش ، وفي بعض النسخ عبارة الشيخ رقمت في المتن وحاشية السيد ـ رحمه الله ـ رقمت في الهامش مع ما فيها من التكرار والاضطراب المخل بالمقصود ، وفي بعض النسخ رقم كلام الشيخ والسيد ـ قدس سرهما ـ معا في المتن وصار خلط بين الكلامين بحيث لا يتميز كلام أحدهما عن الآخر. وأحسن ما رأيناه من نسخ « الفرائد » النسخة المعروفة بطبع « محمد علي » فإنها موافقة للنسخة المصححة ، وفي هذه النسخة رقم كلام الشيخ ـ قدس سره ـ في الهامش وعبارة السيد ـ رحمه الله ـ في المتن.
    والأولى نقل العبارة قبل بيان المقصود منها ، قال ـ قدس سره ـ « وأما


(672)
تقديمه على الاستصحابات الموضوعية المترتب عليها الفساد ـ كأصالة عدم البلوغ وعدم اختبار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن ـ فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة ومن تأخر عنه. والتحقيق : أنه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر ـ كما هو ظاهر كلمات جماعة بل الأكثر ـ فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات. وإن جعلناه من الأصول : فان أريد بالصحة من قولهم : « إن الأصل الصحة » نفس ترتب الأثر ، فلا إشكال في تقديم الاستصحاب الموضوعي ، لأنه مزيل بالنسبة إليها ، وإن أريد بها كون الفعل على وجه يترتب عليه. الأثر ـ فيكون الأصل مشخصا للموضوع من حيث ثبوت الصحة له لا مطلقا ـ ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر ، لأنه إذا شك في بلوغ البايع فالشك في كون الواقع البيع الصحيح ـ بمعنى كونه بحيث يترتب عليه الأثر ـ شك في كون البيع صادرا عن بالغ أو غيره ، وهذا مرجعه إلى الشك في بلوغ البايع. فالشك في كون البيع الصادر من شخص صادرا عن بالغ الذي هو مجرى أصالة الصحة والشك في بلوغ الشخص الصادر منه العقد الذي هو مجرى الاستصحاب مرجعهما إلى أمر واحد ، وليس الأول مسببا عن الثاني ، فان الشك في المقيد باعتبار القيد شك في القيد ، فمقتضى الاستصحاب ترتب أحكام العقد الصادر عن غير البالغ ، ومقتضى هذا الأصل ترتب حكم الصادر من بالغ ، فكما أن الأصل معين ظاهري للموضوع وطريق جعلي إليه ، فكذلك استصحاب عدم البلوغ طريق ظاهري للموضوع ، فان أحكام العقد الصادر عن غير البالغ لا يترتب عند الشك في البلوغ إلا بواسطة ثبوت موضوعها بحكم الاستصحاب. نعم : لو قيل بتقديم المثبت على النافي عند تعارض الأصلين تعين ترجيح أصالة الصحة ، لكنه محل تأمل. ويمكن أن يقال هنا : إن أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد عن غير بالغ بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ، فان بقاء الآثار السابقة مستند


(673)
إلى عدم السبب الشرعي ، لا إلى عدم السببية شرعا فيما وقع. نعم : لما كان المفروض انحصار الواقع فيما حكم شرعا بعد سببية تحقق البقاء ، فعدم سببية هذا العقد للأثر الذي هو مقتضى الاستصحاب لا يترتب عليه عدم الأثر ، وإنما يترتب على عدم وقوع السبب المقارن لهذا العقد ، فلا أثر لأصالة عدم البلوغ المقتضية لعدم سببية العقد المذكور حتى تعارض أصالة الصحة المقتضية لسببيته ، وأصالة الصحة تثبت تحقق العقد الصادر من بالغ. ولا معارضه في الظاهر بين عدم سببية هذا العقد الذي هو مقتضى الاستصحاب وبين وقوع العقد الصادر عن بالغ الذي يقتضيه أصالة الصحة ، لان وجود السبب ظاهرا لا يعارضه عدم سببية شيء وإن امتنع اجتماعهما في الواقع من حيث إن الصادر شيء واحد. لكن يدفع هذا أن مقتضى أصالة الصحة ليس وقوع فعل صحيح في الواقع ، بل يقتضي كون الواقع هو الفرد الصحيح ، فإذا فرض نفي السببية عن هذا الواقع بحكم الاستصحاب حصل التنافي. وإن قيل : إن الاستصحاب لا يقتضي نفي السببية لان السببية ليست من المجعولات ، بل يثبت الآثار السابقة. قلنا : كذلك أصالة الصحة لا تثبت وقوع السبب وإنما تثبت حدوث آثار السبب. وكيف كان : فدفع التنافي بين الأصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في غاية الاشكال » انتهى.
    ومقصوده من هذا الكلام ـ على طوله ـ بيان اتحاد مرتبة أصالة الصحة مع الاستصحابات الموضوعية ، من دون أن يكون بينهما سببية ومسببية إذا كانت أصالة الصحة من الأصول الموضوعية المحرزة لمتعلق الشك ، وهو المراد من قوله : « وإن أريد بها كون الفعل على وجه يترتب عليه الأثر ».
    ولقد أجاد فيما أفاد ، فإنه عند الشك في بلوغ العاقد مثلا يتحقق موضوع الاستصحاب وموضوع أصالة الصحة دفعة في مرتبة واحدة ، لان مؤدى أصالة الصحة صدور العقد من البالغ ومؤدى الاستصحاب عدم بلوغ العاقد ،


(674)
فيتعارضان.
    وبالجملة : الشك في صحة العقد وفساده إنما هو باعتبار الشك في وجود قيده ، وهو بلوغ العاقد ، والشك في العقد باعتبار البلوغ عبارة أخرى عن الشك في البلوغ ، وهو المراد من قوله : « إن الشك في المقيد باعتبار القيد شك في القيد » والشك في القيد يكون مجرى لكل من الاستصحاب وأصالة الصحة في عرض واحد ، غايته أن مفاد أصالة الصحة وقوع العقد عن بالغ ومفاد الاستصحاب عدم بلوغ العاقد ، فيكون البلوغ في أصالة الصحة قيدا للمحمول وفي الاستصحاب قيدا للموضوع ، وهذا مجرى اختلاف في التعبير لا يوجب اختلاف مرتبة الأصلين ، فأصالة الصحة تثبت سببية العقد والاستصحاب يثبت عدم سببيته ، فيتعارضان.
    فان قلت : الغرض من استصحاب عدم البلوغ ترتيب آثار فساد العقد وعدم انتقال المال عن مالكه ، وهذا الأثر لم يترتب على عدم بلوغ العاقد وعدم سببية العقد الواقع منه للنقل والانتقال ، بل هو من آثار عدم وجود سبب النقل والانتقال بمفاد ليس التامة ، فان عدم المعلول إنما يستند إلى عدم وجود العلة لا إلى عدم علية الموجود. والحاصل : أن الاستصحاب إنما يكون بمفاد ليس الناقصة وهو عدم سببية العقد الصادر ، والأثر الشرعي إنما يترتب على مفاد ليس التامة وهو عدم وجود سبب النقل والانتقال ، وعدم سببية العقد الصادر وإن كان يلازم عدم وجود سبب النقل ، إلا أن هذا التلازم ليس شرعيا ، بل لمكان القطع بعدم وجود سبب مقارن للعقد المشكوك كونه سببا ، واستصحاب عدم بلوغ العاقد الذي كان يقتضي عدم سببية العقد الصادر لا يثبت عدم وجود سبب النقل إلا على القول بالأصل المثبت ، فالاستصحاب لا يجري ، لأنه لا يترتب عليه الأثر المقصود في المقام ، وتبقى أصالة الصحة سليمة عن المعارض ، وهذا هو المراد من قوله ـ قدس سره ـ : « ويمكن أن يقال هنا : إن


(675)
أصالة عدم البلوغ » إلى قوله : « لكن يدفع هذا ».
    قلت : لا يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه موضوع الأثر الشرعي ، بل يكفي في صحة الاستصحاب كون المستصحب نقيض ما هو الموضوع للأثر ، ويترتب على الاستصحاب عدم وجود موضوع الأثر. ولا يتوقف في جريان الاستصحاب على أن يترتب على المستصحب أثر آخر ، بل نفي موضوع الأثر بنفسه من الآثار التي يكفي لحاظه في جريان الاستصحاب ، ففي المقام إنما يراد من الاستصحاب نفي موضوع الصحة ، ويثبت به نقيض ما تثبته أصالة الصحة (1).
    وحاصل الكلام : أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب إذا كان المستصحب نقيض موضوع الأثر ، كما لا إشكال في أن الموضوع إن كان بمفاد كان الناقصة فنقيضه يكون بمفاد ليس الناقصة ، وإن كان بمفاد كان التامة فنقيضه يكون بمفاد ليس التامة ، فإنه لا يعقل أن يكون نقيض مفاد كان
1 ـ أقول : ما أفيد ـ من أن الاستصحاب إذا كان مفاده نقيض موضوع الأثر يكفي هذا المقدار في جريانه بلا احتياج إلى ترتيب أثر في كبرى الدليل على هذا العنوان السلبي ـ في غاية المتانة. ولكن لنا أن نقول : إن الأثر إذا رتب على عنوان خاص كحيوة زيد ، فيكفي ذلك في استصحاب نقيضه : من عدم الحياة. وأما إذا كان الأثر مترتبا على الشيء لا بعنوانه الخاص بل بما هو مصداق الجامع وأول وجود له كما نحن فيه ـ حيث إن النقل والانتقال من آثار الجامع بين العقد الصادر وغيره وأن شخص العقد الصادر من أول مصاديق وجوده لا أن هذا الشخص بخصوصيته موضوع الأثر ـ ففي هذه الصورة في طرف الاثبات يكفي هذا الوجود في ترتبه ، ولكن في ترتب نقيض الأثر لا يكفي نقيض هذا الشخص ، بل يحتاج إلى إثبات نقيض الجامع الذي هو موضوع ، ومن المعلوم : أن الاستصحاب لا يثبت إلا نقيض هذا الشخص الذي يثبته أصالة الصحة وهو غير كاف ، لأنه ليس نقيض موضوع يثبته أصالة الصحة ، بل النقيض أصالة عدم وجود السبب رأسا ، لا عدم سببية الموجود بشخصه.
    وتوهم : أنه لا بأس في نفي الجامع من نفي الشخص بالتعبد في ظرف نفي الافراد الاخر بالوجدان ، مدفوع بأن لازمه أيضا إثبات نفي الجامع في قبال استصحاب الكلي ، ولقد أوضحنا فساده في محله ، فراجع وتدبر.
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس