فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: 691 ـ 705
(691)
السلوكية ، لأنه يكفي في التعبد بها مصلحة التسهيل وعدم وقوع المكلفين في كلفة الاحتياط ، فإذا لم يكن في الأصول العملية مصلحة السلوك لا يمكن إدراج الأصول المتعارضة في باب التزاحم ، لما عرفت : من أن إدراج الامارات المتعارضة في باب التزاحم إنما كان لأجل اشتمالها على المصلحة السلوكية ، والأصول العملية فاقدة لها ، فلا تندرج في صغرى التزاحم.
    وما ذكره الشيخ ـ قدس سره ـ من إمكان إدراج الاستصحابين المتعارضين في باب التزاحم إذا فرض أن العمل بأحد الاستصحابين يقتضي سلب القدرة وعدم التمكن من العمل بالآخر ، مجرد فرض لا واقع له ، بل الظاهر أن يكون من المستحيل.
    فالانصاف : أن القول بالتخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين مما لا سبيل إليه ، بل هو قول بلا دليل ، لان نسبة أدلة الاعتبار إلى كل من الأصلين على حد سواء ولا يمكن الجمع بينهما حسب الفرض ، فلابد من التساقط.
    ولا موقع للترجيح بين الأصول المتعارضة ، فان الترجيح إن كان لأجل موافقة أحد المتعارضين لأصل عملي آخر ، فالأصل المعارض يعارض كل من الأصلين المتعارضين مع اتحاد رتبتهما ، لان تعارض الأصول العملية إنما يكون باعتبار المؤدى ، فقد يعارض مؤدى أصل لمؤدى أصول متعددة مع اتحاد الرتبة ، وإلا لا يعقل وقوع التعارض بينها ، فالأصل العملي لا يصلح لان يكون مرجحا لاحد الأصلين المتعارضين.
    وإن كان الترجيح لأجل موافقة مؤدى أحد المتعارضين لامارة غير معتبرة ، فالامارة لا تكون في رتبة الأصل ولا يمكن أن تكون الامارة مرجحة للأصل ، لان اعتبار الأصل ليس من جهة كشفه عن الواقع حتى تكون موافقة الامارة له مقتضية لأقوائية كشفه وأقربية مؤداه للواقع.


(692)
    فالترجيح في باب الأصول المتعارضة ساقط من أصله ولا محيص عن القول بالتساقط ، وقد تقدم في مبحث الاشتغال ما ينفع المقام (1) فراجع.
    المقدمة الثانية : المجعول في باب الأصول العملية وإن كان هو البناء العملي على أحد طرفي الشك ، الا أنه تارة : يكون المجعول هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشك وتنزيله عملا منزلة الواقع. وأخرى : يكون المجعول مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك ، من دون أن يكون الجعل متكفلا لثبوت الواقع في أحد الطرفين. ويعبر عن الأول بالأصل المحرز أو المتكفل للتنزيل ، وعن الثاني بالأصل الغير المحرز ، ولا يخفى ما في التعبير من المناسبة.
    ويدخل في القسم الأول الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة ، فان هذه الأصول كلها متكفلة للتنزيل والاحراز ، والمجعول فيها هو البناء العملي على ثبوت الواقع إن كان مؤدى الأصل مقام الثبوت ـ كالاستصحاب ـ أو البناء العملي على الاتيان بالواقع إن كان مؤدى الأصل مقام الفراغ والسقوط ـ كقاعدة الفراغ والتجاوز ـ.
    ويدخل في القسم الثاني البراءة والاحتياط وأصالة الحل والطهارة ، فان المجعول في هذه الأصول مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون أن تكون متكفلة لثبوت الواقع أو الاتيان به (2).
1 ـ أقول : قد أشرنا ولقد مر منا في مبحث الاشتغال : بأن بناء على الاقتضاء في العلم الاجمالي للموافقة القطعية لا محيص في الأصول النافية المشتملة على الترخيص على خلاف الواقع من التخيير ، لان منجزية العلم وعليته لحرمة المخالفة القطعية مانع عن الجمع بينهما ، ولازمه تقييد العقل جريان كل واحد في ظرف عدم العمل بالآخر ، ولا نعني من التخيير إلا هذا. كما أنه في الأصول المثبتة الموافقة للمعلوم بالاجمال عملا لا بأس بجريانها حتى في الاستصحاب المسمى عندهم بالأصول المحرزة ، فراجع ما تلوناه سابقا بلا احتياج إلى التكرار والاصرار. وبالله عليك ! لا تعتني إلى هذا الرعد والبرق ، فإنه لا يزيدك إلا خسارا !!!.
2 ـ أقول : لو لم يكن قاعدة الطهارة ناظرة ولو تنزيلا إلى إثبات الطهارة الواقعية لابد من الالتزام


(693)
    وتظهر الثمرة بين الأصول المحرزة وغيرها في موارد عديدة :
    منها : قيام الأصول المحرزة مقام القطع الطريقي ، دون الأصول الغير المحرزة ، وقد تقدم الكلام فيه في مبحث القطع.
    ومنها : عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا ، سواء كان مؤداها نفي التكليف المعلوم بالاجمال ولزم من جريانها مخالفة عملية ، أو كان مؤداها ثبوت التكليف المعلوم بالاجمال ولم يلزم من جريانها مخالفة عملية ، فان التعبد ببقاء الواقع في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدها ، وكيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا في كل واحد من الانائين مع العلم بطهارة أحدهما ؟ ومجرد أنه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي صحة التعبد ببقاء النجاسة في كل منهما ، فان الجمع في التعبد ببقاء مؤدى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف.
    وهذا بخلاف الأصول الغير المحرزة ، فإنه لما كان المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك فلا مانع من التعبد بها في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منها مخالفة عملية.
    وبذلك يظهر : أن المانع من جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي إنما هو عدم قابلية المجعول فيها لان يعم جميع الأطراف ، لا لقصور أدلة اعتبارها ، فإنه لا مانع من شمول قوله ـ عليه السلام ـ « لا تنقض اليقين بالشك » لكل واحد من اليقين والشك المتعلق بكل واحد من الأطراف.
    فما يظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ من أن المانع من جريان الأصول في
بأحد المحذورين ، إذ الدليل الدال على طهارة ماء الوضوء ـ مثلا ـ إما أن يدل على شرطية الطهارة الواقعية أو الأعم من الواقعية والظاهرية ، فعلى الأول : يلزم عدم إحرازه بأصالة الطهارة ، وعلى الثاني : يلزم عدم لزوم إعادة الوضوء مع كشف نجاسة الماء بعد الوضوء ، ولا يلتزم أحد بواحد منهما ، فتدبر. ومن هنا ظهر حال أصالة الحل ، لوحدة اللسان وظهور اتحاد السوق ، فتدبر.

(694)
الأطراف هو عدم شمول الدليل لها لأنه يلزم أن يناقض صدر الدليل ذيله ، لا يخلو عن إشكال ، بل منع ، وقد تقدم منا الكلام في تفصيل ذلك في مبحث الاشتغال. والغرض من إعادته دفع ما ربما يناقش فيما ذكرناه ـ من عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا وإن لم يلزم منها مخالفة عملية ـ بأنه يلزم على هذا عدم جواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء ، لان استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدهما ، لأنه إن كان المايع ماء فقد ارتفع الحدث وإن كان بولا فقد تنجس البدن ، فالتعبد بالجمع بينهما لا يمكن. بل يلزم عدم جواز التفكيك بين المتلازمين العقليين أو العاديين ، فان استصحاب حياة زيد وعدم نبات لحيته ينافي العلم بعدم الواقع في أحدهما ، لما بين الحياة والنبات من الملازمة ، وكذا التعبد ببقاء الكلي وعدم حدوث الفرد ونحو ذلك من الأمثلة التي تقتضي الأصول العملية فيها التفكيك بين المتلازمين. والالتزام بعدم جريان الاستصحابين إذا أوجبا التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين والعاديين بعيد غايته ، بل لا يمكن الالتزام به ، فان ثمرة القول بعدم حجية الأصل المثبت إنما تظهر في التفكيك بين المتلازمين ، فدعوى : عدم جريان الأصول المحرزة إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين ، تنافي القول بعدم حجية الأصل المثبت.
    هذا ، والتحقيق في دفع الشبهة هو أن يقال :
    إنه تارة : يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه ، لأنهما يتفقان على نفي ما يعلم تفصيلا ثبوته أو على ثبوت ما يعلم تفصيلا نفيه ، كما في استصحاب نجاسة الانائين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاسته ، فان الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلا من طهارة أحدهما أو نجاسته.


(695)
    وأخرى : لا يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه (1) بل يعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقا في ثبوت ما علم تفصيلا نفيه أو نفي ما علم تفصيلا ثبوته ، بل لا يحصل من التعبد بمؤدى الأصلين إلا العلم بمخالفة أحدهما الواقع ، كما في الأصول الجارية في الموارد التي يلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين ، فإنه لا يلزم من استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء أو من استصحاب بقاء الحياة وعدم نبات اللحية العلم التفصيلي بمخالفة ما يؤديان إليه ، لأنهما لم يتحدا في المؤدى ، بل كان مؤدى أحدهما غير مؤدى الآخر ، غايته أنه يلزم من جريانهما التفكيك بين المتلازمين ، بخلاف استصحاب النجاسة أو الطهارة في كل من الانائين ، فان الاستصحابين متحدان في المؤدى مع العلم التفصيلي بالخلاف.
    فالفرق بين القسم الأول والثاني مما لا يكاد يخفى ، والذي منعنا عن جريانه في أطراف العلم الاجمالي هو القسم الأول ، لأنه لا يمكن التعبد بالجمع بين الاستصحابين اللذين يتوافقان في المؤدى مع مخالفة مؤداهما للمعلوم بالاجمالي.
    وأما التعبد بالجمع بين الاستصحابين المتخالفين في المؤدى الذي يلزم من جريانهما التفكيك بين المتلازمين : فلا محذور فيه ، فان التلازم بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر ، لأنه يجوز التفكيك الظاهري بين المتلازمين
1 ـ أقول : لو كان المراد من العلم التفصيلي مجرد العلم بشيء ولو بعنوانه الاجمالي مثل « أحدهما » فكما أن نجاستهما ينافي طهارة أحدهما المعلومة ، كذلك بقاء الأمرين تعبدا ينافي العلم التفصيلي بعدم بقاء أحدهما. وإرجاع ذلك إلى العلم بمخالفة أحد الأصلين للواقع دون الآخر تحكم محض ومفهوم لا محصل له ، ومجرد مخالفة الأصلين للمؤدى لا يجدي في رفع المناقضة بين بقائهما مع العلم بعدم بقاء أحدهما ، إذ العقل كما يرى المضادة بين طهارة أحدهما مع نجاستهما تعبدا بتقابل التضاد ، كذلك يرى المضادة بل المناقضة بين بقاء الشيئين مع عدم بقاء أحدهما تفصيلا.

(696)
الواقعيين ، إلا أن يقوم دليل آخر من إجماع أو غيره على ثبوت التلازم واقعا وظاهرا ، كما في تتميم النجس كرا بطاهر ، على ما سيأتي بيانه.
    فظهر : أن القول بعدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي لا يلازم القول بعدم جريانها إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين أو العاديين ، فتأمل.
    إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الأقسام التي ذكرها الشيخ ـ قدس سره ـ لتعارض الاستصحابين ولو كانت تشترك في العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، إلا أنه منها : مالا يجري فيه إلا أحد الاستصحابين. ومنها : ما يجري فيه كل من الاستصحابين. ومنها : مالا يجري فيه شيء من الاستصحابين (1).
    والأولى في تحرير الأقسام هو أن يقال : إن الاستصحابين إما أن يلزم منهما المخالفة العملية وإما أن لا يلزم منهما ذلك. وعلى الثاني : فاما أن يؤديان جمعا إلى ما يخالف المعلوم بالتفصيل فيما بين الأطراف أو لا يؤديان إلى ذلك. وعلى الثاني : فاما أن لا يكون لأحدهما أثر شرعي في زمان الشك وإما أن يكون لكل منهما أثر شرعي. وعلى الثاني : فاما أن يلزم منهما التفكيك بين المتلازمين اللذين قام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ولو ظاهرا وإما أن يلزم منهما التفكيك بين المتلازمين مع عدم قيام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ، فالأقسام خمسة.
    ولكن منها : مالا يجري فيه إلا أحد الاستصحابين ، وهو ما إذا لم يكن لاحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشك ، بداهة أن الاستصحاب إنما يجري باعتبار الأثر ، فإذا لم يكن لأحدهما أثر فلا مجال لجريانه. ومنها : ما يجري فيه الاستصحابان من دون أن يكون بينهما معارضة ، وهو ما إذا لزم من جريان
1 ـ أقول : ومن التأمل فيما ذكرنا ظهر ما في هذه النتيجة المأخوذة من مقدماته من النظر والاشكال ، بلا احتياج إلى الاستدلال ، فتدبر.

(697)
الاستصحابين التفكيك بين المتلازمين مع عدم قيام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ، كاستصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء. ومنها : مالا يجري فيه كل من الاستصحابين ، وهو القسم الأول والثاني والرابع. ولكن لا بمناط واحد ، بل في القسم الأول لا يجري الاستصحابان لأنه يلزم منهما المخالفة العملية ، كما في استصحاب طهارة الانائين مع العلم بنجاسة أحدهما. وفي القسم الثاني لا يجريان لمكان أنهما يؤديان إلى ما يخالف المعلوم بالاجمال ، كما في استصحاب نجاسة الانائين مع العلم بطهارة أحدهما. وفي القسم الرابع لا يجريان لمكان قيام الدليل من الخارج على عدم صحة الجمع بين الاستصحابين ، كما في تتميم الماء النجس كرا بماء طاهر ، فإنه لولا قيام الاجماع على اتحاد حكم المائين المختلطين لكانت القاعدة تقتضي بقاء الطاهر على طهارته والنجس على نجاسته ، ولكن قيام الاجماع على اتحاد حكم المائين المختلطين يوجب حصول الشك في بقاء الطاهر على طهارته وفي بقاء النجس على نجاسته ، فان الاجماع لم يقم إلا على اتحاد حكم المائين ، فيمكن أن يكون الماء الطاهر باقيا على طهارته والماء النجس صار طاهرا بالخلط ، ويمكن العكس ، فإن الاجماع لا يفيد أزيد من حصول الشك في بقاء الحالة السابقة لكل من المائين ، فموضوع الاستصحاب في كل منهما ثابت ، إلا أنه لا يجريان معا ، لأنه يلزم من جريانهما اختلاف حكم المائين المختلطين ، والمفروض : قيام الاجماع على الاتحاد. فالقسم الرابع يشارك القسم الأول والثاني في سقوط كل من الاستصحابين ، إلا أنه في القسم الأول كان السقوط لأجل عدم إمكان التعبد بهما ، وفي القسم الثاني يكون السقوط لأجل قيام الدليل من الخارج على عدم صحة الجمع بينهما ، فتأمل جيدا.
    ثم لا يخفى عليك : أن الشيخ ـ قدس سره ـ لم يتعرض في تقسيمه للقسم الثاني ، وعلل سقوط الاستصحابين في القسم الأول بأنه يلزم منهما المخالفة


(698)
العملية. والتعليل بذلك ينافي مسلكه : من أن أدلة الاستصحاب بل مطلق الأصول لا تعم أطراف العلم الاجمالي ، فإنه على هذا ينبغي أن لا يفرق بين ما إذا لزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية وبين ما لم يلزم منه ذلك ، كما صرح بذلك في ذيل العبارة ، حيث قال : « ولذا لا نفرق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة » انتهى. فإنه لو كانت الحالة السابقة فيهما النجاسة لم يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية.
    والانصاف : أن كلام الشيخ ـ قدس سره ـ في المقام وفي مبحث الاشتغال عند البحث عن الشبهة المحصورة وفي مبحث القطع عند البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية ، لا يخلو عن اضطراب ، فإنه تارة : يحوم حول المخالفة العملية ، وأخرى : يحوم حول قصور الأدلة وعمد شمولها لأطراف العلم الاجمالي ، فراجع وتأمل جيدا.
    هذا تمام الكلام في الاستصحاب.
    وقد وقع الفراغ منه في ليلة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من شهور سنة 1345.


(699)
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

    والأولى تبديل العنوان بالتعارض ، فان التعادل والترجيح من الأوصاف والحالات اللاحقة للدليلين المتعارضين ، فكان الأنسب جعل العنوان للقسم والجامع بينهما.
    وعلى كل حال : لا إشكال في أن البحث عن التعادل والتراجيح من أهم مباحث الأصول ، وليست المسألة من المسائل الفقهية ولا من المبادي ، لأنها تقع كبرى لقياس الاستنباط ، بل عليها يدور رحى الاستنباط في معظم المسائل. وقد تقدم : أن ضابط المسألة الأصولية وقوعها في كبرى قياس الاستنباط ، فلا ينبغي التأمل في كون المسألة من المسائل الأصولية ، مع أن البحث عن كونها من المبادي أو من المسائل قليل الجدوى. فالأولى صرف عنان الكلام إلى ما هو أهم من ذلك ، وهو بيان ما يتحقق به التعارض والفرق


(700)
بينه وبين التزاحم والحكومة وأقسام التعارض وأحكامها ، فالكلام يقع في مباحث.

    إعلم أن تعارض الدليلين إنما يكون باعتبار عدم إمكان اجتماع المحكي والمنكشف بهما بحيث يؤل حكايتهما إلى اجتماع الضدين ويكشفان عن ثبوت النقيضين في نفس الامر وفي عالم الجعل والثبوت ، ضرورة أنه لو أمكن اجتماع المحكيين بهما في عالم الجعل والتشريع لم يتحقق التعارض بين الدليلين ، فان التعارض إنما يعرض الدليلين باعتبار كونهما يثبتان المتنافيين ويحكيان عن المتناقضين ، فلابد في تعارض الدليلين من تنافي مدلوليهما بحيث لا يمكن اجتماعهما في الوعاء المناسب لهما : من وعاء التكوين أو وعاء الاعتبار والتشريع ، سواء كان التنافي في تمام المدلول أو في جزئه ـ كالعامين من وجه ـ وسواء كان التنافي بينهما لأجل امتناع اجتماعهما ذاتا في حد أنفسهما ، أو كان التنافي بينهما لأجل ما يلزمهما من اللوازم التكوينية والشرعية ، أو كان التنافي بينهما باعتبار بعض العوارض والحالات اللاحقة للموضوع : من الانقسامات السابقة على الحكم أو اللاحقة له بعد الحكم ، فكما يتحقق التنافي بين الدليلين لو كان مفاد أحدهما حرمة شرب الخمر في زمان ومكان خاص وحالة مخصوصة وغير ذلك من الوحدات الثمانية التي يعتبر في التناقض وكان مفاد الآخر عدم الحرمة في تلك الوحدات ، كذلك يتحقق التنافي لو كان مفاد أحد الدليلين حرمة شرب الخمر في جميع حالاته وكان مفاد الآخر جواز شربه في بعض


(701)
حالاته ، فإنه بالنسبة إلى ذلك الحال يلزم اجتماع النقيضين لورود النفي والاثبات عليه ، وكذا يتحقق التنافي لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب الصلاة على العالم والجاهل وكان مفاد الآخر عدم وجوبها على الجاهل.
    ومن ذلك يظهر (1) فساد الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير موضوعيهما (2) فان موضوع الحكم الظاهري مقيد بالجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي وموضوع الحكم الواقعي غير مقيد بذلك ، ضرورة أن الحكم الواقعي وإن لم يمكن فيه الاطلاق والتقييد اللحاظي لحالة العلم والجهل ، إلا أنه لا محيص من نتيجة الاطلاق أو التقييد ، لأنه لا يعقل الاهمال النفس الأمري.
    فان كانت النتيجة مطلقة وكان الحكم الواقعي محفوظا في حال علم المكلف وجهله : فلا محالة يلزم اجتماع النقيضين في حال جهل المكلف بالحكم
1 ـ لا يخفى اختلاف نسخ « الفرائد » في هذا الموضع ، فمن بعضها يظهر : أن الشيخ ( قدس سره ) في مقام بيان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير الموضوع ، ومن بعضها يظهر : أنه في مقام بيان تغاير موضوع الأصول العملية مع موضوع الامارات ، لا تغاير موضوع الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي ، فراجع وتأمل جيدا ( منه ).
2 ـ أقول : إن كان الغرض من عدم اختلاف موضوع الحكم الواقعي والظاهري عدم اختلافهما وجودا ، ففي غاية المتانة ، كيف ! ولولا اجتماعهما في الوجود لا يبقى مجال اجتماعهما في المورد. وإن كان الغرض عدم اختلافهما في عالم عروض الحكم بحسب موطن عروضه ، ففيه : أن معروض الحكم الواقعي هو الذات في الرتبة السابقة عن الجهل بحكمه ، وفي الحكم الظاهري هو الذات في الرتبة اللاحقة عن الجهل بحكمه ، بناء على التحقيق : من جعل الجهل من الجهات التعليلة للحكم الظاهري ، فإنه حينئذ لابد وأن يرى الذاتان في رتبتين : ذات في الرتبة السابقة عن الجهل ، وذات في الرتبة اللاحقة عن الجهل بحكمه ، ومن البديهي : أن أحد الذاتين غير الآخر في هذا العالم وإن كانا منتزعين عن وجود واحد خارجا ، ولقد حققنا في محله أيضا : بأن الحكم الظاهري يستحيل أن يجتمع مع الحكم الواقعي الفعلي إلا بهذا الاعتبار ، كما هو الشأن في وجه الجمع بين قبح التجري مع حسن العمل واقعا ، وكذلك الامر في طرف العكس بعد الجزم بعدم انقلاب الواقع عما هو عليه بمحض قيام الطريق على خلافه ، خصوصا في الطرق العقلية ، فتدبر.


(702)
الواقعي ، لاجتماع موضوع الحكم الواقعي والظاهري معا في ذلك الحال ، فيلزم اجتماع الضدين : من الوجوب والحرمة.
    وإن كانت النتيجة مقيدة بحال العلم وكان الحكم الواقعي مخصوصا بصورة العلم به : فاجتماع النقيضين وإن لم يلزم لتغاير الموضوعين ، إلا أنه يلزم التصويب الجمع على بطلانه. فالجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير الموضوع ضعيف غايته.
    ويتلوه في الضعف الجمع بينهما بحمل الاحكام الواقعية على الانشائية والاحكام الظاهرية على الفعلية ، وقد تقدم الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في حجية الظن مع ما عندنا من الوجه في دفع التنافي بين الحكمين ، فراجع.
    وعلى كل حال : قد عرفت أن التعارض إنما يلحق الدليلين ثانيا وبالعرض ، والذي يتصف به أولا وبالذات هو مدلول الدليلين وما يحكيان ويكشفان عنه ويؤديان إليه مطابقة أو التزاما. فإذا تكاذب الدليلان في المؤدى امتنع اجتماع المدلول المطابقي أو الالتزامي لأحدهما مع مدلول الآخر كذلك في عالم الجعل والتشريع ، فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين مطلقا أو في بعض الافراد والحالات ، من غير فرق بين أن يتكاذب الدليلان بأنفسهما ابتداء ـ كما إذا كان أحدهما ينفي ما يثبته الآخر ـ وبين أن ينتهي الامر إلى التكاذب ولو لأمر خارج ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب صلاة الظهر وكان مفاد الآخر وجوب صلاة الجمعة وعلم من الخارج أن الواجب هي إحدى الصلاتين ، فان الدليلين وإن لم يتكاذبا ابتداء ولم يمتنع اجتماع مؤداهما ثبوتا إلا أنه بعد العلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين يقع التكاذب بين الدليلين ، فان كلا منهما يثبت مؤداه وينفي بلازمه مؤدى الآخر ، فيؤول الامر إلى امتناع اجتماع المؤديين.
    والحاصل : أن ضابط تعارض الدليلين هو أن يؤديان إلى ما لايمكن تشريعه


(703)
ويمتنع جعله في نفس الامر ولكن بعد أن يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، فلو علم بكذب أحد الدليلين لمكان العلم بكون أحدهما غير واجد لشرائط الحجية واشتبه بما يكون واجدا لشرائطها كان ذلك خارجا عن باب التعارض (1) بل يكون من اشتباه الحجية باللا حجية ، ولا يأتي فيه أحكام التعارض ، وإنما يعمل فيه ما تقتضيه قواعد العلم الاجمالي.
    وفي حكم ذلك ما إذا علم بعدم تشريع مؤدى أحد الدليلين مع إمكانه ثبوتا ، كما إذا كان مؤدى أحد الدليلين وجوب الدعاء عند الهلال وكان مؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل العبد المدبر وعلم بكذب مضمون أحدهما ، فإنه أيضا ليس من باب التعارض ، بل من باب اشتباه الحجية باللا حجة ، ويعمل على ما يقتضيه العلم الاجمالي.
    فظهر : أنه مجرد العلم بكذب أحد الدليلين صدورا أو مضمونا لا يكفي في وقوع التعارض بينهما ، بل يعتبر في وقوع التعارض بين الدليلين أمران : أحدهما : أن يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، ثانيهما : أن يمتنع اجتماع مدلولهما ثبوتا
1 ـ أقول : باب اشتباه الحجة باللا حجة لا يحتاج إلى العلم بكذب أحدهما ، بل هو صورة العلم بعدم عدالة أحد الراويين أو صدور أحدهما تقية ولو علم بصدورهما عن الامام ـ عليه السلام ـ وهذه الجهة غير صورة العلم بكذب أحد الدليلين مع العلم بعدالتهما وعدم إعمال التقية فيهما ، ففي هذه لا محيص من كونه من باب التعارض. وحينئذ ففي فرض العلم بعدم تشريع أحد الحكمين ولو من الخارج ـ كمثال الهلال ودية الحر ـ يدخل في باب التعارض ولو بالعرض ، نظير ما اعترف به : من وجوب صلاة الظهر والجمعة. ولا أظن أن أحدا يرى الفرق بين المثالين إلا في وحدة سنخ الحكم في الثاني دون الأول ، وإلا فمع اشتراكهما في إمكان تشريع الحكمين ذاتا وامتناعه عرضا ـ الذي هو ملاك التعارض بالعرض بين الدليلين ـ لا يبقى مجال التفرقة بينهما ، ولقد تقدم منه سابقا أيضا نظير هذا الكلام في الاستصحابين المثبتين ، وتخيل أن اتحاد سنخ الحكم أيضا له دخل في تعارضهما ، وجعل المختلفان مضمونا داخلا في فرض العلم بكذب أحدهما بلا تعارض بينهما ، ولعمري ! إن مثل هذه الدعوى مختص بمن لا يسئل عما يفعل ، وإلا فشأن القوم أجل من هذه الدعاوي ! فتدبر.

(704)
في عالم الجعل والتشريع ، فتأمل جيدا.

    وحاصله : أن التزاحم وإن كان يشترك مع التعارض في عدم إمكان اجتماع الحكمين ، إلا أن عدم إمكان الاجتماع في التعارض إنما يكون في مرحلة الجعل والتشريع ، بحيث يمتنع تشريع الحكمين ثبوتا ، لأنه يلزم من تشريعهما اجتماع الضدين أو النقيضين في نفس الامر.
    وأما التزاحم : فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنما يكون في مرحلة الامتثال بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدر وجوده وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملائمة من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والانشاء (1) وإنما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعلية بعد تحقق الموضوع خارجا ، لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، فيقع التزاحم بينهما لتحقق القدرة على امتثال أحدهما ، فيصلح كل منهما لان يكون تعجيزا مولويا عن الآخر ورافعا لموضوعه ، فان كل تكليف يستدعي حفظ القدرة على متعلقه
1 ـ أقول : جعل الحكم وإنشائه في مقام التشريع على موضوعه المقدر وجوده إن كان قابلا للتحقق ولو لم ينته إلى مرحلة الفعلية الامتثالية ، فلازمه جواز الجعلين حتى في صورة ملازمة امتثال أحدهما لتعجيز الآخر. وإن لم يكن قابلا للتحقق إلا في صورة انتهاء أمره إلى الفعلية ، فكيف يكون مجعولان بينهما الملائمة في ظرف العجز عن امتثال أحدهما ولو من باب الاتفاق ؟ بل لا محيص من تقيد إطلاق هذا الجعل بصورة القدرة ، فينتهي الامر حينئذ في صورة العجز عن امتثال أحدهما ولو من باب الاتفاق إلى الجزم بعدم أحد الجعلين واقعا ، كما لا يخفى ، فتدبر.

(705)
وصرفها نحوه وإن لزم منه سلب القدرة عن التكليف الآخر ، والمفروض : ثبوت القدرة على كل منهما منفردا وإن لم يمكن الجمع بينهما ، فكل من الحكمين يقتضي حفظ موضوعه ورفع موضوع الآخر بصرف القدرة إلى امتثاله ، فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال.
    فما في بعض الكلمات : من أن تزاحم الحكمين إنما يكون لأجل تزاحم المقتضيين والملاكين اللذين يقتضيان تشريع الحكمين على طبقهما ، ضعيف غايته ، فان تزاحم الملاكين لا دخل له بتزاحم الحكمين ، بداهة أن عالم تزاحم الملاكات غير عالم تزاحم الاحكام ، فان تزاحم الملاكات إنما يكون في عالم تشريع الاحكام وإنشائها على موضوعاتها ، ولا محالة يقع الكسر والانكسار بين الملاكين ، فتتعلق إرادة الشارع بتشريع الحكم على طبق أقوى الملاكين لو كان أحدهما أقوى من الآخر ، وإلا فلابد من الحكم بالتخيير ، وأين هذا من تزاحم الحكمين ؟ فان تزاحم الاحكام إنما يكون في عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد تشريع الاحكام على طبق ما اقتضته الملاكات ، فإرجاع تزاحم الاحكام إلى تزاحم الملاكات لا يخلو عن غرابة ، مع ما بين البابين من البون البعيد. وقد تقدم منا الكلام في تفصيل ذلك في الجزء الأول من الكتاب.
    فتحصل : أن الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم هو أن التعارض إنما يكون باعتبار تنافي مدلولي الدليلين في مقام الجعل والتشريع ، والتزاحم إنما يكون باعتبار تنافي الحكمين في مقام الامتثال ، إما لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، كما هو الغالب في باب التزاحم (1) وإما لقيام الدليل من الخارج
1 ـ أقول : بعد بناء الأصحاب طرا على الفرق بين العلم والقدرة في صلاحية القدرة لتقييد الخطاب ولو عقلا ، بخلاف العلم ـ لكونه في رتبة لاحقة عن الخطاب باطلاقه بلا صلاحية لتقييد مضمونه ـ لا محيص من إرجاع العلم إلى شرائط تنجيز الخطاب دون نفسه ، بخلاف القدرة ، فإنه من شرائط نفسه السابقة عن مرحلة تنجزه. وحينئذ لا يبقى مجال لاطلاق الخطاب لحال العجز ولو كان العجز اتفاقيا ،
فوائد الاصول ـ الجزء الرابع ::: فهرس