غيبة الإمام المهدي ::: 106 ـ 120
(106)
السحاب ، وربّما عمي بانظر إليها لضعف الباصرة عن الاحاطة بها ، فكذلك شمس ذاته المقدّسة ربّما يكون ظهوره أضرّ لبضائرهم ، ويكون سببا لعماهم عن الحق ، وتحتمل بصائرهم الإيمان به في غيبته ، كما ينظر الإنسان إلى الشمس تحت السحاب ولا يتضرر بذلك.
    السادس : إن الشمس قد تخرج من السحاب وينظر إليها واحد دون واحد ، فكذلك يمكن أن يظهر عليه السّلام في أيام غيبته لبعض الخلق دون بعض.
    السابع : إنهم عليهم السّلام كالشمس في عموم النفع ، وإنما لا ينتفع بهم من كان أعمى كما فسّر به في الأخبار قوله تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً ) (1).
    الثامن : إن الشمس كما من شعاعها يدخل البيوت ، بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك ، وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع ، فكذلك الخلق إنما ينتفعون بأنوار هدايتهم بقدر ما يرفعون الموانع عن حواسهم ومشاعرهم التي هي روزان قلوبهم من الشهوات النفسانية ، والعلائق الجسمانية ، وبقدر ما يدفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانية إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب » (2).
1 ـ سورة الإسراء : 17 / 72.
2 ـ بحار الأنوار / العلاّمة المجلسي 52 : 93 ـ 94 ذيل الحديث الثامن ، باب علّة الغيبة وكيفية انتفاع الناس به عليه السّلام.


(107)
الفصل الأول :
    عناية الإمام الصادق عليه السّلام بالغيبة ، وبيان معطياتها
الفصل الثاني :
    تأكيد الإمام الصادق عليه السّلام على غيبة الإمام المهدي عليه السّلام ، وطولها
الفصل الثالث :
    في بيان الإمام الصادق عليه السّلام ما مطلوب في زمان الغيبة
الفص الرابع :
    في بيان الإمام الصادق عليه السّلام علل الغيبة



(108)

(109)
    أولاًًً ـ أسرار العناية بالغيبة في الحديث الشريف :
    شغلت غيبة الإمام المهدي عليه السّلام قبل وبعد حلولها سنة / 260 هـ مكاناً واسعاً في الفكر الشيعي ، وأخذت حيّزاً كبيراًً في تراثهم الروائي والكلامي ، وامتدّت آثارها بعد وفاة آخر السفراء الأربعة محمد بن علي السمري ( ت / 329 ) ( رض ) ، لتشمل الفقه الساياسي الروائي والمستنبط معاً ولعلّ في ما صنّفه محدّثوهم وأعلامهم قبل عصر الغيبة الصغرى وفي أثنائها أو بعدها ، خير دليل على مدى العناية الفائقة التي أولاًًها سائر أهل البيت عليه السّلام بهذا الموضوع الخطير ؛ لأنّهم عليهم السّلام أدركوا أنّ معنى غياب القائد هو تشتّت القاعدة ما لم يتمّ التمهيد لغيبته عليه السّلام بشكل مكثّف حتى يتمّ استقبالها من قبل القاعدة وهضمهم لها بشكل تدريجي ، وكأنّها حدث طبيعي ، بحيث لا ينتج عنها شرح في المذهب قد يؤدّي إلى اهتزاز عقيدة آتباعه في مالو سُكِت عن هذا الأمر وواجهه الشيعة فجأة ، ومن هنا تمّ ترويض الشيعة على قبول غيبة القائد كحقيقة آتية ولابدّ ، وكان لكلّ إمام


(110)
دوره الخاصّ في التمهيد لتلك الحقيقة الكبرى في تاريخ التشيّع لا سيمّا الإمام الصادق عليه السّلام الذي كان دوره مميّزاً في ذلك ؛ تبعاً لما ذكرناه في ديباجة البحث من الفرصة التي سنحت له أكثر من غيره للتحليق عالياً في سماء الفكر والعقيدة حتى اصطبغ مذهب الإمامية الواسع باسمه الشريف
    وقد انعكست أحاديث أهل البيت عليهم السّلام في غيبة الإمام المهدي عليه السّلام على الفكر الشيعي بصورة واضحة جلية ، وذلك من جهة عناية هذا الفكر بتلك الأحاديث عناية فائقة ، فأفردوا لها مؤلفات عديدة ورسائل كثيرة كونت بمجموعها رؤية واضحة لطلائع التشيع حول غيبة الإمام المهدي عليه السّلام قبل ولادته بعشرات السنين. وما مزاعم الفرق الشيعية ـ التي نشأت في إطار التشيّع فجاة واندرست بعيد نشأتها بسرعة ـ بغيبة من ادعيت له الإمامة زورا ، كقول الكيسانية بغيبة محمد بن الحنفية في جبل رضوى ، وقول الواقفية بغيبة الإمام الكاظم عليه السّلام ، إلاّ صورة معبرة عن انتشار مفهوم الغيبة في الوسط الشيعي انتشاراً واسعاً ، لدرجة توفرت معها للوجود الشيعي الإمامي الاثني عشري حصانة رائعة ضدّ كل الدعاوى المنحرفة التي برزت في إطاره ، حتى استطاع بفضل فلسفة الإخبار بالغيبة وتشخيص صاحبها قبل ولادته بعشرات السنين ، أن يشقّ طريفه بأمان رغم كل العواصف التي اعترضت سبيله.

    ثانياً ـ الغيبة في مؤلفات الشيعة :
    إنّ كتب الغيبة ، شاهدة على عناية الكفر الشيعي بها منذ اقدم العصور وإلى يومنا هذا ، من أمثال كتاب الغيبة لإبراهيم بن صالح الانماطي


(111)
الكوفي (1) ، وكتاب ترتيب الأدلّة فيما يلزم خصوم الإمامية دفعه عن الغيبة والغائب لأحمد بن الحسين الآبي (2) ، وكتاب الشفاء والجلاء في الغيبة لأحمد ابن على الرازي (3) ، وكتاب الغيبة لأحمد بن محمد بن عمران المعروف بابن الجندي أحد مشايخ النجاشي (4) ، وكتاب الغيبة للسيد الحسن بن حمزة المعروف بالطبري المرعش ( ت / 358 هـ ) (5) ، وكتاب الغيبة وذكر القائم عليه السّلام للحسن بن محمد بن يحيى العلوي ( ت / 358 ) (6) ، وكتاب الغيبة والحيرة لعبد الله بن جعفر الحميري من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري عليهما السّلام (7) ، وكتاب الغيبة وكشف الحيرة لأبي الحسن سلامة بن محمد بن إسماعيل ( ت ـ 339 هـ ) (8) ، وكتاب الغيبة لأبي الفضل العباس بن هشام الناشري الأسدي أحد أصحاب الإمام الرضا عليه السّلام ومات في إمامة الإمام الجواد عليه السّلام سنة 220 هـ أو قبلها بسنة واحدة (9) ، وكتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة للصدوق الأول أحد معاصري الغيبة الصغرى كلها
1 ـ رجال النجاشي : 15 / 13 ، وفهرست الشيخ الطوسي : 39 / 9 ، ومعالم العلماء لابن شهر آسوب : 5 / 5.
2 ـ معالم العلماء : 24 / 113.
3 ـ رجال النجاشي : 97 / 240 ، وفهرست الشيخ : 76 / 91 ، ومعالم العلماء : 82 / 18.
4 ـ رجال النجاشي : 85 / 206.
5 ـ رجال النجاشي : 64 / 150.
6 ـ رجال النجاشي : 64 / 149.
7 ـ رجال النجاشي : 219 / 573 ، وفهرست الشيخ : 167 / 439.
8 ـ رجال النجاشي : 192 / 514.
9 ـ رجال النجاشي : 280 / 741.


(112)
( ت / 329 هـ ) وهو « مطبوع » ، وكتاب الغيبة لأبي محمد عبد الوهاب البادرائي (1) ، وكتاب أخبار القائم عليه السّلام للشيخ على بن محمد بن إبراهيم المعروف بعلان الكليني الرازي (2) من معاصري الإمام الحسن العسكري عليه السّلام وهو خال ثقة الإسلام الكليني الذي روى عن كتابه هذا معظم أحاديث باب مولد الحجة عليه السّلام في اصول الكافي ، وكتاب الغيبة للشيخ النعماني تلميذ الكليني وهو « مطبوع » ، وكتاب الغيبة لعلي بن محمد ابن على أبي الحسن القلاّء (3) ، وكتاب إزالة الران عن قلوب الاخوان في الغيبة للفقيه أبي على محمد بن أحمد المشهور بابن الجنيد (4) ، وكتاب الغيبة وكشف الحيرة لمحمد ابن أحمد الصفواني البغدادي من مشاهير تلامذة الكليني (5) ، وكتاب الغيبة لأبي النظر محمد بن مسعود العياشي المفسّر المشهور ( ت/ 320 هـ ) (6) ، وكتاب الغيبة لإبراهيم بن إسحاق النهاوندي (7) ، وكتاب أخبار المهدي عليه السّلام لعباد بن يعقوب الرواجني (8)
1 ـ رجال النجاشي : 247 / 652.
2 ـ رجال النجاشي : 260 / 682.
3 ـ رجال النجاشي : 259 / 679.
4 ـ رجال النجاشي : 393 / 1050.
5 ـ معالم العماء : 97 / 665.
6 ـ رجال النجاشي : 350 /944 ، وفهرست الشيخ 212 /604 ، ومعالم العلماء : 99 / 668.
7 ـ رجال النجاشي : 19 / 21 ، وفهرست الشيخ : 39 / 9.
8 ـ معالم العلماء : 88 / 612.


(113)
مات رحمه الله سنة 250 هـ (1) ، أي : قبل حلول ولادة الإمام المهدي عليه السّلام بخمس سنين ، ومصنفات الشيخ المفيد في الغيبة ككتاب الغيبة ، وكتاب جوابات الفارقيين في الغيبة ، والرسائل العشر في الغيبة وهو « مطبوع » ، والنقض على الطلحي في الغيبة ، ومختصر في الغيبة كما صرح بذلك النجاشي (2) ، وكتاب إكما الدين وإتمام النعمة للشيخ الصدوق ( ت / 381 هـ ) وهو « مطبوع » ، وفيه من أحاديث الغيبة الكثير جداً ، وله ثلاث رسائل في الغيبة (3) ، وكتاب المقنع في الغيبة للسيد المرتضى علم الهدى ( ت / 436 هـ ) وهو « مطبوع » ، وكتاب الغيبة للشيخ الطوسي ( ت / 460 هـ ) وهو « مطبوع » ، وكتاب الاستطراف في ذكر ما ورد في الغيبة في الإنصاف للكراجكي ( ت / 449 هـ ) (4) ، وكتاب الغيبة لأبي الفرج المظفر بن على بن الحسين الحمداني (5) ، وكتاب الغيبة لمحمد بن زيد بن على الفارسي (6) ، وكتاب الغيبة وما جاء فيها عن النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام لتاج العلى العلوي ( ت / 610 هـ ) (7) ، وكتاب الغيبة لأبي بكر محمد بن القاسم البغدادي (8) ،
1 ـ وصفه أهل السنة بالرفض ، وادّعى بعض الشيعة عاميته !! وهو ثقة إمامي كما حققنا ذلك في محلة.
2 ـ رجال النجاشي : 399 ـ 402 / 1067.
3 ـ رجال النجاشي : 389 / 1049.
4 ـ الذريعة / آغا بزرك الطهراني 3 : 92 / 292.
5 ـ الذريعة 16 : 82 / 406.
6 ـ الذريعة 16 : 79 / 400.
7 ـ الذريعة 16 : 75 / 375
8 ـ الذريعة 16 : 80 / 403.


(114)
وغيرها مما لا وسع في تتبعها.
    وهذه الكتب وإن ضاع أكثرها ـ لا سيما المُؤَلَّف منها قبل ولادة الإمام المهدي عليه السّلام ـ إلاّ من فيما وصل منها كفاية في الكشف عن الحقيقة التامة لمن أرادها.

    ثالثاًً ـ علم الشيعة بالغيبة قبل حدوثها :
    اتّضح ممّا تقدم من غيبة الإمام المهدي بن الإمام العسكري عليهما السّلام كانت معلومة في الوسط الشيعي قبل حدوثها بعشرات السنين ، وذلك من خلال ما سمعوه من أهل البيت عليه السّلام مباشرة ، ولهذا ألّفوا فيما سمعوه بهذا الخصوص كتباً عديدة ، وقد شهد غير واحد من أعلام الإمامية وأجّلائهم المشهورين على هذه الحقيقة.
    قال الشيخ الصدوق : « إنّ الأئمة عليهم السّلام قد أخبروا بغيبته عليه السّلام ، ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نقل عنهم ، واستحفظ في الصحف ، ودوّن في الكتب المؤلّفة من قبل أن تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقل أو أكثر ، فليس أحد من اتباع الأئمة عليهم السّلام إلاّ وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ودوّنه في مصنّفاته ، وهي الكتب التي تعرف بالاصول ، مدوّنة مستحفظة عند شيعة آل محمد صلّى الله عليه وآله من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين .. .. » (1).
    وإلى هذا أشار الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة ، فقال بعد استدلاله بجملة من الاخبار الموجودة في الكتب المؤلّفة قبل زمان الإمام المهدي عليه السّلام ما هذا لفظه : « موضع الاستدلال من هذه الأخبار ما تضمّن الخبر بالشيء
1 ـ إكمال الدين 1 : 19 ، من المقدّمة.

(115)
قبل كونه فكان كما تضمّنه » (1).
    كما شهد بهذا أيضاًًً ابن قبة الرازي وهو من فحول متكلمي الإمامية في عصره ، فقد نقل الشيخ الصدوق عنه قوله في هذا الخصوص : « وهذه كتبهم فمن شاء من ينظر فيها فلينظر » (2).
    كما شهد الإربلي في كشف الغمّة ، والطبري الإمامي في دلائل الإمامة بعد نقل حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السّلام صريح بغيبة الإمام المهدي عليه السّلام ، بأنّهما نقلاه من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب الزرّاد (3) والحسن بن محبوب مات رحمه الله سنة 224 / هـ ، أي قبل زمان ولادة الإمام المهدي عليه السّلام بإحدى وثلاثين سنة ، وغير ذلك من الأحاديث الأخرى التي صرّحت بغيبة الإمام الثاني عشر عليه السّلام قبل حدوثها على أرض الواقع بعشرات السنين ، وستأتي الإشارة إلى بعضها في مكان آخر.
    على أن الاتساع الأفقي الحاصل في كل طبقة من طبقات الرواة في بعض أحاديث الغيبة حتى ينتهي الأمر هكذا إلى أحد المتقدمين من أصحاب الائمة عليهم السّلام أو إلى من مات قبل زمان الغيبة بآماد كثيرة ، قرينة شاهدة على سماع أحاديث غيبة الإمام الثاني عشر من رواة ماتوا قبل حلولها بأزمان كثيرة ، وإلاّ فماذا يُفهم من هذا الاتساع الأفقي في كل طبقة غير صحة ما شهد به الصدوق وغيره من وجود تلك الأخبار في الكتب
1 ـ كتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 173.
2 ـ إكمال الدين : 107 ، من المقدّمة.
3 ـ كشف الغمّة / الاربلي 3 : 453 ـ 454 ، ودلائل الإمامة / الطبري : 535 / 520.


(116)
المؤلفة قبل زمان الغيبة بكثير ؟
    وسوف يأتي ما يدل على وجود مثل هذه القرينة في أحاديث الغيبتين وغيرهما ، ومن ثم فإّّن ما في موضوع كتابنا هذا أقوى من كل شهادة على علم الشيعة بالغيبة قبل حدوثها.

    رابعاًً ـ إخبار الإمام الصادق عليه السّلام بالشيء قبل وقوعه ، وعلم الغيب :
    إنّ ظاهرة الاخبار بالشيء قبل وقوعه كانت ظاهرة معروفة في حياة الأئمة عليهم السّلام ، وقد أذعن لها الشيعة برمّتهم ، واعترف بهذا غيرهم أيضاًً.
    قال ابن خلدون ( ت / 808 هـ ) في تاريخه في الفصل الثالث والخمسين عن الإمام الصادق عليه السّلام ما هذا لفظه : « وقد صحّ عنه أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول ، وقد حذّر يحيى أبن عمّه زيد من مصرعه وعصاه ، فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنّك بهم علماً وديناً وآثاراً من النبوّة ، وعناية من الله بالاصل الكريم تشهد لفروعه الطيّبة » (1).
    وقال أيضاًً : « ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك ، مستندهم فيه ـ والله أعلم ـ الكشف بما كانوا عليه من الولاية ، وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم ، وقد قال صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : ( إنّ فيكم محدّثين ) ، فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة ، والكرامات الموهوبة » (2).
1 ـ تاريخ ابن خلدون 1 : 589 الفصل / 53.
2 ـ تاريخ ابن خلدون 1 : 594 ـ 595 الفصل / 53.


(117)
    وقال على بن محمد الجرجاني ( ت / 816 هـ ) في شرح المواقف لعضد الدين الايجي ( ت / 756 هـ ) في المقصد الثاني ، مبحث العلم الواحد الحادث هل يجوز تعلّقه بمعلومين ؟ ما هذا نصّه : « وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه على بن موسى رضي الله عنهما إلى المأمون : إنك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرفه آباؤك ، فقبلت منك عهدك ، إلاّ أن الجَفْرَ والجامعة يدلّان على منه لا يتمّ » (1).
    وقد نقل هذا الكلام بعينه الكاتب الحلبي المعروف بحاجي خليفه ( ت / 1067 هـ ) ، وأضاف عليه قوله : « وكان كما قال ؛ لمن المأمون استشعر فتنة من بني هاشم ، فسمّه/ كذا في مفتاح السعادة » (2).
    وقد زعم بعض خصوم الشيعة بمن اخبار اهل البيت عليهم السّلام عن الإمام المهدي عليه السّلام التي يدّعي الشيعة وجودها في الكتب المؤلّفة في عصر الإمام الصادق عليه السّلام اخبار مكذوبة نظراً لما تضمنته من علم الغيب وهو منفي عن غير الله عزّوجلّ !
    وهذا جهل فضيع ، لمن العلم المنفي عن غيره تعالى هو ما كان للشخص لذاته بلا واسطة في ثبوته له ؛ لمكان الإمكان فيه ذاتاً وصفة ، وكل ممكن لا يثبت له شيء من هذا العلم بلا واسطة ، وما وقع لاهل البيت عليهم السّلام فهو ليس من العلم المنفي في شيء ؛ لمن متلقّى عن
1 ـ شرح المواقف 6 : 22.
2 ـ كشف الظنون / حاجي خليفة 1 : 591 ـ 592 تحت عنوان : علم الجفر والجامعة. ومفتاح السعادة كتاب الّفه طاشكبري زاده ( ت / 968 هـ ).


(118)
رسول الله صلّى الله عليه وآله ، عن الوحي ، عن الله عزّوجلّ ، ولا مانع أيضاًً من أن يفيضه الله تعالى عليهم ؛ لأنّهم عليه السّلام « محدّثون » كما مرّ في كلام ابن خلدون ما يشير إلى هذا ، وفي الصحيح عن الإمام الصادق عليه السّلام قال : « نحن إثنا عشر محدَّثاً » (1).
    ولا مانع أيضاًً من القول بقول الآلوسي ( ت / 1270 هـ ) ، بشأن علم الخواص ، قال : « إنّهم أُظْهِرُوا أو أُطلعُوا ـ بالبناء للمفعول ـ على الغيب ، أو نحو ذلك ممّا يُفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم » (2).
    ومن هنا يظهر بوضوح وجه المغالطة في نسبة إخبار أولياء الله بالشيء قبل حدوثه إلى علم الغيب المنفي غير الله عزّوجلّ ، هذا فضلاًً عمّا في تلك المغالطة من إنكار لشيء مادّي ملموس !! أعني المصنّفات الكثيرة المؤلّفة في غيبة الإمام المهدي عليه السّلام قبل ولادته ، وفيها من الاخبار الكثيرة المتواترة ما يكشف عن غائب بالتحديد وشخص أعين لا مجال للاشتباه فيه أو الترديد ، وهو ما شهد به غير واحد ممّن ذكرناه.

    خامساًً ـ مكونات الوحدة الموضوعية للغيبة عند الإمام الصادق عليه السّلام :
    نعني بمكونات الوحدة الموضوعية للغيبة عند الإمام الصادق عليه السّلام :
1 ـ أصول الكافي 1 : 534 ـ 535 / 20 ، وبصائر الدرجات : 319 / 2 باب 5 ، وإكمال الدين 2 : 335 / 6 باب 33, وعيون اخبار الرضا عليه السّلام 2 : 59 ـ 60 / 23 باب 6.
2 ـ تفسير روح المعاني / الألوسي 20 : 11 مبحث في : ( قل لا يعلمُ من في السّموات والأرض الغيب إلاّ الله ) سورة النمل : 27 / 65.


(119)
المفردات التي اشتملت عليها أحاديث الإمام الصادق عليه السّلام في موضوع الغيبة في معزل عمّا تقدم من أحاديثه عليهم السّلام في تشخيص هوية الإمام الغائب ، لنرى هل كونت فيما بينها نسيجاً موحّداً ؟ أو كانت مجرّد أحاديث متفرقة لا يمكن صياغة عقد منها بعد ترتيبها في نظام واحد ؟
    ثم لو أمكن لها ذلك ، فهل استطاعت تلك الأحاديث من تتّسم بالعمق والشمول والسعة ؟ أم انها انتظمت في سلكها لا غير.
    وبعبارة اُخرى : هل استطاعت أحاديث الإمام الصادق عليه السّلام ـ كما ندعيه نحن في هذه الدراسة ـ من تكوين وحدة موضوعية متجانسة كافية في مقام معرفة من هو الإمام الغائب على وجه التحديد ، وبلا أدنى حاجة إلى التماس أحاديث اُخرى عن اهل البيت عليهم السّلام للكشف عن هوية الإمام الغائب ، أو أنها وقفت في سياقها التاريخي ولم تستوعب الاجابة على ما يحيط بغيبة الإمام الغائب من تساؤلات ؟
    ونود قبل بيان مكونات تلك الوحدة التوفر على مسألة مهمة تتصل اتصالاً مباشراً بعلم الحديث الشريف فنقول :
    اتسم أكثر الحديث الصحيح الوارد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السّلام بمعارف غنية كثيرة ، وذات دلالات متنوعة على الرغم من مركزية الدلالة الأم في تلك الاحاديث وظهورها بشكل واضح.
    ومن هنا نجد في أغلب كتب الحديث اضطرار المحدّث إلى إعادة


(120)
الحديث الواحد في أبواب متعددة من كتابه ، وما ذاك إلاّ علامة على ذلك الغنى المطّرد في دلالة الحديث الواحد على أكثر من موضوع.
    ولم تخرج أحاديث الإمام الصادق عليه السّلام في موضوع الغيبة عن هذه القاعدة ، إذ عادة ما نجد فيها ما يشير إلى اُمور أخرى مهمة ذات صلة ثيقة بالغيبة أو بالكشف عن صاحبها الموعود عليه السّلام ، ومن هنا جرى تصنيفها على أساس مركزية الدلالة لا على أساس ما تضمنته من عناوين اُخرى هي صالحة بالتأكيد للانطباق على عناوين اخرى من هذا البحث.
    وبهذا نعود إلى مكونات الوحدة الموضوعية للغيبة عند إمامنا الصادق عليه السّلام لنبحثها في الفصول الثلاثة المتبقية من هذا الباب ، كالآتي.
غيبة الإمام المهدي ::: فهرس