غيبة الإمام المهدي ::: 121 ـ 135
(121)
    كان الإمام الصادق عليه السّلام مدركاً تماماً ماللغيبة من معنى ، إنه اختفاء القائدة فجاة ، الأمر الذي يحتاج معه إلى ترويض العقل الشيعي لقبول هذا الغياب المفاجي الذي لم تشهد مثله الشيعة في تاريخها من قبل ، إنها غيبة طويلة ، لابدّ من التركيز عليها وبيان إرهاصاتها التاريخية ، وما سيرافقها من أحداث ، وما يتزامن معها من فتن ، وهو ما وضحه الإمام الصادق عليه السّلام بكل دقة وتفصيل.

    أولاًًً ـ تأكيد الإمام الصادق عليه السّلام على غيبة الإمام المهدي عليه السّلام :
    ويدلّ على ذلك أحاديث كثيرة نذكر منها :
    1 ـ عن زرارة ، عن الإمام الصادق عليه السّلام : « إن للقائم غيبة قبل أن يقوم ، قلت : ولِمَ ؟ قال : إنه يخاف ، وأومأ بيده إلى بطنه ، يعني :


(122)
القتل » (1).
    تضمن هذا الحديث الصحيح الإشارة إلى بعض علل الغيبة ، إعني : الخوف من القتل ، وهي العلّة الظاهرة على مسرح الأحداث التاريخية التي اعقبت وفاة الإمام الحسن العسكري والد الإمام المهدي عليهما السّلام ، وإلاّ فهناك علل اُخرى وردت عن الإمام الصادق عليه السّلام أيضاًًً ، من قبيل أن لا يكون في عنق الإمام المهدي عليه السّلام نوع التزام للحاكم قبيل الظهور من عهد أو بيعة ، وجريان السنن السابقة في غيبات الأنبياء عليهم السّلام ، في غيبة الإمام المهدي عليه السّلام ونحو ذلك من العلل غير المنظورة في ابتداء زمن الغيبة ، كما سيأتي في بيان علل الغيبة.
    وفي الحديث أيضاًً إخبار بشيئين قبل أوان حدوثهما :
    أحدهما : غيبة الإمام المهدي عليه السّلام ، وقد وردت في الحديث نصاً ، ولم تتحقّق إلاّ في شخص الإمام الثاني عشر عليه السّلام ، لثبوت بطلان من أدّعيت غيبته ، بوفاته وتغسيله ، وكفنه ، والصلاة على جنازته ، ودفنه كما هو حال دعوى الكيسانية بغيبة محمد بن الحنفية رضى الله عنه ، ودعوى الواقفية بغيبة الإمام الكاظم عليه السّلام. ونحو ذلك الى الدعاوى الأخرى الباطلة.
    الآخر : وهو لا يقل أهميّة عن الاخبار الأول ، وقد تحقّق على طبق ما أخبر به عليه السّلام ، وهو الإشارة إلى من الأمة سوف لن تنصف آل محمد صلّى الله عليه وآله ، ومنها ستبقى على حالها ببخس حقّهم من السلطة ، وابعادهم عما جعله
1 ـ اُصول الكافي 1 : 338 / 9 ، و ا : 340 / 18 باب في الغيبة.

(123)
الله تعالى لهم من الخلافة ، ومن القائمين على السلطة سيتمادون بغيّهم ، ويضاعفون تعسّفهم على أهل بيت نبيهم صلّى الله عليه وآله لدرجة يضطرّ معها الإمام المهدي عليه السّلام إلى الاختفاء عنهم.
    وقد تحقّق هذا في سنة ( 260 / هـ ) بغيبة إمامنا الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
    2 ـ وعن المفضّل بن عمر ، عن الإمام الصادق عليه السّلام قال : « أما والله ليغيّبن إمامكم سنينا من دهركم ، ولتمحصن حتى يقال : مات أو هلك بأي وادي سلك ، ولتدمعنَّ عليه عيون المؤمنين ، ولتكفمن كما تكفأ السفن في أمواج البحر ، ولا ينجو إلاّ من أخذ الله ميثاقه ، وكتب في قلبه الإيمان ، وأيده بروح منه ، ولترفعنّ اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدرى أيٌّ من أيٍّ ، قال : فبكيت ، فقال لي : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ فقلت : وكيف لا أبكي وأنت تقول : اثنتاعشرة راية مشتبهة لا يدرى أيٌّ من أيٍّ !! فكيف نصنع ؟ قال : فنظر إلى شمس داخلةٍ في الصفّة ، فقال : يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس ؟ قلت : نعم ، قال : والله لأمرنا أبين من هذه الشمس » (1).
    وفي حديث المفضّل هذا تأكيد لما سيكون في زمان الغيبة من تمحيص واختبار ، حتى يقال ما يقال حينئذٍ ، ويفهم من الحديث من
1 ـ إكمال الدين 2 : 347 / 35 باب 33 ، واُصول الكافي 1 : 338 ـ 339 / 11 باب في الغيبة ، و 1 : 336 / 3 من الباب السابق ، وكتاب الغيبة / النعماني : 151 ـ 153 / 9 و 10 ، ودلائل الإمامة : 532 ـ 533 / 512 ، وكتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 337 ـ 338 / 285. والتنوين في ( سنين ) على لغة بني عامر ، فلاحظ.

(124)
القائل بهذا هم من الشيعة أنفسهم ، نتيجة الدعاية الواسعة التي يشنّها الطرف الآخر ، المتمثّل بالسلطة وأعوانها ، وبعض عملائها كجعفر الكذّاب عمّ الإمام المهدي عليه السّلام ، زيادة على شدّة البليّة ، وطول المحنة ، وكثرة الفتن ، كل ذلك عوامل مباشرة في حصول الاضطراب عند ذوي النفوس الضعيفة من الشيعة ، وتزلزل عقيدتهم ، كالذي حصل لدى شر ذمة منهم في تأييد بعض المقولات الفاسدة التي ظهرت بعد وفاة الإمام العسكري عليه السّلام ، من قبيل مدعيات جعفر الكذّاب ونظرائه. وفي مقابل هذا تجد في صفوفهم المصداق الواقعي لقوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخرِ يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدّهم بروح منه ) (1).
    وقوله عليه السّلام : « ولترفعنّ اثنتا عشرة راية مشتبهة ... » إشارة إلى تشتّت الآراء ، واختلاف النوازع ، وتعدّد الأهواء ، وكثرة أتباع الدنيا ، ودعواتهم الباطلة ، وغير ذلك من صور الظلم ومستلزماته ، وقدكان هذا وما زال موجوداً بين الناس على المستوى المذهبي الإسلامي ، وعلى المستوى السياسي والاقتصادي ، وغير ذلك من حقول الحياة المختلفة ؛ لانّ الحقّ والباطل في صراع دائم ، وإذا ما غَلَبَ الباطلُ انحرف المجتمع وانقسم على ذاته ، وتناحر في داخله على طول خط انحرافه. وامّا عن دعاة السوة والأئمة المضلّين ، فما أكثرهم في التاريخ ، فقد كانوا ولا زالوا يتمثّلون بالعلماء المزيفين الضالعين مع الاجهزة الحاكمة المتعسفة الظالمة
1 ـ سورة المجادلة : 58 / 22.

(125)
عبر التاريخ
    وهذا هو ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السّلام بعبارة : « ولا ينجو إلاّ من أخذ الله ميثاقه ، وكتب في قلبه الإيمان ، وأيّده بروح منه » .
    ولما كانت علامات الحق واضحة لائحة ، وإنّها أبين من ضوء الشمس الداخل من الكوّة الصغيرة ، فضلاًًً عمّا يحيط بالمهدي عليه السّلام من التاييد الالهي ، وما يتلطّف عليه الله عزّوجلّ بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة ، مع علومه وأخلاقه وكمالاته عليه السّلام ، فلا خوف إذن على المؤمنين من رايات الضّلال التي سترفع بوجوههم على أمل صرفهم عن المنقذ العظيم ، لمنهم أبعد ما يكون عن الاشتباه بها ، وإنّما الذي سيقع في حضيضها هو ليس إلاّ من لا يطلب الحقّ ويريد الشبهة في الدين ابتغاء الفتنة.
    وهكذا حاول الإمام الصادق عليه السّلام بهذا الحديث وأمثاله أن يكشف للامّة المعالم الصحيحة لمعرفة الحقّ والحقيقة.
    وإذا كان المفضّل قد ارسل دمعة حرى لسماعة نبأ الغيبة وحيرة الناس يومئذ ، فقد كان الإمام الصادق عليه السّلام غزير الدمعة على ولده المهدي ، بالغ التوجّع ، شديد الحسرة ، وكم رُؤي عليه السّلام مهموما مغموما وهو يخبر الشيعة بغيبة المؤمّل المنتظر ، وكمنه عليه السّلام كان يعيش حالة الاُمّة ، وهي واقفة مكتوفة الأيدي على ما يصنعه العباسيون ، وقضاتهم ، وشَرَطَتهم ببيت النبوّة ومهبط الوحي والتنزيل ، بالبحث والتنقيب عن خاتم الأئمة ،


(126)
ومصادرة ميراثه من أبيه عليهما السّلام ، وتمزق قلوب أتباعه ، ولكنه التمحيص والبلاء الذي لابدَّ منه. ويدلُّ على ذلك ما في الحديث المؤلّم الآتي :
    3 ـ عن سدير الصيرفي ، والمفضّل بن عمر ، وأبي بصير, وابان بن تغلب ؛ كلهم عن الإمام الصادق عليه السّلام في حديث طويل جاء فيه قوله عليه السّلام : « ... سيدي ! غيبتك نفت رُقادي ، وضيقت عليّ مِهادي ، وابتزّت مني راحة فؤادي ، سيدي ! غيبتك أوصلت مصابي بفجايع الأبد ... » وحين سألوه عليه السّلام عن سر توجعه ، قال عليه السّلام : « نظرت في كتاب الجَفْر صبيحة هذا اليوم ... وتأولت فيه مولد قائمنا ، وغيبته ، وابطاءه ، وطول عمره ، وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان ، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته ... » (1).
    هذا وقد مرّ الكلام عن الجَفْر واعتراف ابن خلدون ، والجرجاني ، وصاحب كشف الظنون بصحّة كتاب الجفر ، وأكّدوا صراحة على إخبار الصادق والرضا عليهما السّلام من هذا الكتاب بحوادث مستقبلة وقعت على طبق ما أخبرا به.
    وهذا الحديث قد تضمّن من الآيات الدلالة على الإمام الثاني عشر عليه السّلام الكثير الذي لا ينطبق إلاّ عليه عليه السّلام.
1 ـ إكمال الدين 2 : 352 ـ 357 / 50 باب 33 ، وينابيع المودة / القندوزي الحنفي 3 : 310 ـ 311 / 2 باب 80.

(127)
    ومن خلال معرفتنا بوفبات رواة الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام مباشرة يتضح لنا انهم أدركوا الإمام الكاظم عليه السّلام وبعضهم عاصره ، وعليه لابدّ وأن يكون الحديث هذا بعد ولادة الإمام الكاظم عليه السّلام بسنين كثيرة الامر الذي يدلّ قوله عليه السّلام : « وتاولت فيه مولد قائمنا » أنه لا مجال للتصديق بدعوى مهدوية الإمام الكاظم عليه السّلام التي تزعمتها رؤوس الواقفية طمعاً في أمواله عليه السّلام بعد وفاته لأنه كان عليه السّلام مولودا في ذلك الحين.
    ويزيد هذا الأمر وضوحاً ان الإمام الصادق عليه السّلام لم يكتف بالتصريح بطول الغيبة وتولد الشكوك في القلوب من طولها ، لئلاّ يكون هذا اغراءً بمقولة الواقفية الذين قالوا بأن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السّلام قد غاب في حبس هارون لعنه الله ، وإنما صرح الإمام الصادق عليه السّلام بطول العمر ، الأمر الذي زيّف قولهم وأبطله قبل انطلاقه ، ومما زاده زيفا ودحضته الأيام وكذّبه التاريخ هو عُمْرُ الإمام الكاظم عليه السّلام حيث استشهد وهو في سن الخامسة والخمسين ، فأين طول العمر إذن ؟
    وقد جاءت هذه الفوائد في غمرة التأكيد على حصول الغيبة بالإمام الثاني عشر عليه السّلام ، وإلاّ فسيأتي ما يدلّ على طولها صراحة في العنوان الآتي.

    ثانياًً ـ تصريح الإمام الصادق عليه السّلام بطول غيبة الإمام المهدي عليه السّلام :
    1 ـ عن محمد بن حمران ، عن الإمام الصادق عليه السّلام قال : « القائم منا منصور بالرعب ، مؤيد بالنصّر ، تطوى له الأرض ، وتظهر له الكنوز


(128)
كلها ، ويظهر الله تعالى به دينه على الدين كله ولو كره المشركون ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ولا يبقى في الأرض خراب إلاّ عمّر ، وينزل روح الله عيسى بن مريم عليه السّلام فيصلي خلفه. ثم قال ابن حمران : قيل له : يا ابن رسول الله ! متى يخرج قائمكم ؟ قال عليه السّلام : إذا تشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ـ ثم ذكر عليه السّلام جملة من علامات الظهور إلى أن قال : ـ وذلك بعد غيبة طويلة » (1).
    2 ـ وعن سدير الصيرفي ، عن الإمام الصادق عليه السّلام قال : « إنّ للقائم منّا غيبة يطول أمدها. قال : فقلت له : يا ابن رسول الله ! ولم ذلك ؟ قال : لأن الله عزّوجلّ أبي إلاّ أن تجري فيه سنن الأنبياء عليهم السّلام في غيباتهم ، وأنه لابدّ له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم ، قال الله تعالى : ( لَتَركَبَنَّ طبقاً عَنْ طَبَقٍ ) (2) أي : سنن من كان قبلكم » (3).
    4 ـ وعن حماد بن عبدالكريم الجلالب ، قال : « ذُكِرَ القائم عند أبي عبد الله عليه السّلام فقال : أما أنه لو قد قام ، لقال الناس : أنى يكون هذا ، وقد بُلِيَت عظامه منذ كذا وكذا » (4).
1 ـ مختصر اثبات الرجعة / الفضل بن شاذان : 216 ـ 217 / 18.
2 ـ سورة الانشقاق : 84 / 19.
3 ـ علل الشرائع / الشيخ الصدوق 1 : 245 / 7 باب 179 ، وإكمال الدين 2 : 480 ـ 481 / 6 باب 44.
4 ـ كتاب الغيبة / النعماني : 155 / 14 باب 10 ، وأخرجه قبل هذا عن زائدة بن قدامة ، عن بعض رجاله عن الإمام الصادق عليه السّلام في الحديث رقم 13 من الباب المذكور.


(129)
    4 ـ وعن سليمان بن خالد ، عن الإمام الصادق عليه السّلام قال : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : كيف إذا استيأستم من المهدي ؟ فيطلع علكيم صاحبكم مثل قرن الشمس ، يفرح به أهل السماء والأرض. فقيل : يا رسول الله ! وأنى يكون ذلك ؟ قال صلّى الله عليه وآله : إذا غاب عنهم المهدي وأيسوا منه » (1). كناية عن طول غيبته عليه السّلام.

    ثالثاًً ـ تصريح الإمام الصادق عليه السّلام بان للمهدي عليه السّلام غيبتين ( صغرى وكبرى )
    روى حديث الغيبتين ، عن الإمام الصادق عليه السّلام كل من : أبي بصير ، وزرارة ، وإسحاق بن عمار ، وحازم بن حبيب ، وعبيد بن زرارة ، والمفضّل ابن عمر ، كما ورد حديث الغيبتين على لسان إمامنا الباقر عليه السّلام في مارواه عنه إبراهيم بن عمر اليماني ، ومحمد بن مسلم الثقفي وكذلك ورد حديث الغيبتين على لسان الإمام زين العابدين عليه السّلام ، كما سيأتي مفصلاً بعد قليل.
    والمراد بالغيبتين : الغيبة الصغرى التي حصلت بعد وفاة الإمام العسكري عليه السّلام مباشرة ، وتمتد هذه الغيبة من زمان وفاة الإمام العسكري عليه السّلام في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول ( سنة / 260 هـ ) إلى وقت وفاة رابع السفراء أبي الحسن علي بن محمد السمري رضى الله عنه ، وذلك في النصف من شعبان ( سنة / 329 هـ ) ، فتكون مدة الغيبة الصغرى ثمان وستين سنة ، وأربعة أشهر ، وثلاثة وعشرين يوماً.
    وقد كان للإمام المهدي عليه السّلام في تلك الغيبة أكثر من عشرين وكيلاً
1 ـ دلائل الإمامة : 468 / 455 ( 59 ).

(130)
موزعين على شتى المدن والامصار الإسلامية ، لكنّ الثقل الأعظم في أيصال تعاليم الإمام إلى قواعده الشعبية كان على كاهل السفراء الأربعة قدس الله أرواحهم الزكية ، وهم :
    أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الأسدي وبقي في السفارة بحدود خمس سنين ، ثم جاء من بعد وفاته رضى الله عنه ( سنة / 265 هـ تقريباً ) ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان ، فقام مقام أبيه ، وتوفي رضى الله عنه ( سنة / 304 هـ ) ، وقيل : ( سنة / 305 هـ ) ، وبقي في السفارة زهاء أربعين سنة ، ثم جاء بعد وفاته السفير الثالث أبو القاسم الحسين بن روح طاب ثراه ، وبقي في السفارة إلى حين وفاته رضى الله عنه في شهر شعبان ( سنة / 326 هـ ) ، ثم تلاه على ذلك السفير الرابع أبو الحسن علي بن محمد السمري ، وبموت السمري رضى الله عنه في النصف من شهر شعبان ( سنة / 329 هـ ) ، انتهت مدة الغيبة الصغرى ، ثم حلّت بعدها الغيبة الكبرى لإمام العصر والزمان أرواحنا فداه ، ولا يعلم أحدٌ بامدها ومدتها إلاّ الله عزّوجلّ ، وفيها انقطعت السفارة ليتولى مراجع الدين من الشيعة دور النيابة عن الإمام عليه السّلام وفقاً للقواعد الشرعيه التي وردت على لسان أهل البيت عليهم السّلام بما في ذلك إمامنا المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
    وهكذا عرف الشيعة الإمامية ، دسائس الكذابين والمهرجين ، الذين حاولوا صرف أخبار الغيبتين إلى مدعيات الواقفية وقولهم بغيبة الإمام الكاظم عليه السّلام ، متناسين التاريخ الذي نطق بشهادة الإمام الكاظم عليه السّلام ، كما نطق بصاحب الغيبتين عليه السّلام إجمالاً وتفصيلاً.


(131)
    1 ـ عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : « كان أبو جعفر عليه السّلام يقول : للقائم من آل محمد عليه وعليهم السّلام غيبتان : واحدة طويلة ، والأخرى قصيرة. قال : فقال لي : نعم يا أبا بصير ، إحداهما أطول من الاُخرى ... » (1).
    وهذا الحديث أخرجه النعماني عن الحسن بن محبوب ، ونقله الطبري الإمامي في دلائل الإمامة ، والاربلي في كشف الغمّة ؛ كلاهما من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب مع التصريح بهذا ، ورواه الفضل بن شاذان الموفّي في حياة الإمام العسكري عليه السّلام ولم يشهد أيّاً من الغيبتين عن شيخه الحسن بن محبوب مباشرة ، والحسن بن محبوب مات سنة 224 هـ.
    جدير بالذكر أنه قد ثبت عن الإمام الباقر عليه السّلام ما قاله أبو بصير في هذا الحديث. ففي الصحيح عن إبراهيم بن عمر اليماني قال : « سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول : « إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين » (2).
    كما سمعه محمد بن مسلم الثقفي يقول عليه السّلام : « إنّ للقائم غيبتين ، يقال له في إحداهما : هلك ، ولا يُدْرى في أيّ واد سلك » .
    وفي حديث ثابت الثمالي ، عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السّلام ، قال : « .. وإن للقائم من غيبتين إحداهما أطول من
1 ـ كتاب الغيبة / النعماني : 172 ـ 173 / 7 باب ، ودلائل الإمامة : 535 / 520 ، وكشف الغمة : 453 ـ 454 ، وإثبات الرجعة للفضل بن شاذان كما في مختصره للشيخ الحر العاملي : 195 ، وإعلام الورى / الطبرسي 2 : 258 ـ 259.
2 ـ كتاب الغيبة / النعماني : 171 / 3 باب 10.


(132)
الاخرى » (1).
    وقد صحّ حديث الغيبتين عن الإمام الصادق عليه السّلام من طرق شتّى.
    2 ـ ففي الصحيح عن زرارة ، عن الإمام الصادق عليه السّلام قال : « للقائم غيبتان أحداهما أطول من الأخرى » (2).
    3 ـ وعنه أيضاًً ، قال : « سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : إنّ للقائم غيبتين ، يرجع في أحداهما ، وفي الأخرى لا يُدرى أين هو ، يشهد المواسم ، يرى الناس ولا يرونه » (3).
    4 ـ وعن عبيد بن زرارة ، عن الإمام الصادق عليه السّلام قال : « للقائم غيبتان يشهد في إحداهما المواسم يرى الناس ولا يرونه » (4).
    5 ـ وفي الصحيح عن إسحاق بن عمار ، عن الإمام الصادق عليه السّلام قال : « للقائم غيبتان إحداهما قصيرة ، والأخرى طويلة ، الغيبة الأولى لا يُعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصّة
1 ـ إكمال الدين : 323 / 8 باب 18.
2 ـ دلائل الإمامة : 530/ 506.
3 ـ كتاب الغيبة / النعماني : 175 / 15 باب 10.
4 ـ اصول الكافي1 : 339 / 12 باب في الغيبة ، ونحوه في 1 : 337 ـ 338 / 6 من الباب السابق ، وكتاب الغيبة / النعماني : 175 ـ 176 / 16 باب 10 ، ودلائل الإمامة : 531 / 509 ، و : 482 / 477 ونحوه في أصول الكافي 1 : 337 ـ 338 / 6 باب في الغيبة ، وإكمال الدين 2 : 346 / 33 باب 33 ، و 2 : 351 / 49 باب 33 و 2 : 440/ 7 باب 43 وكتاب الغيبة / النعماني : 175/ 13 و 14 باب 10 ، وكتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 161 / 119.


(133)
مواليه » (1).
    6 ـ وفي الصحيح عن حازم بن حبيب ، قال : « قال لي أبو عبد الله عليه السّلام : يا حازم إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين يظهر في الثانية ، فمن جاءك يقول إنه نفض يده من تراب قبره فلا تصدّقه » .
    وهذا الحديث سمعه أبو محمد على بن محمد العلوي من عبد الله بن جبلة ، وقد نقله الشيخ الطوسي من كتاب العلوي هذا مباشرة (2) ، كما نقله الفضل بن شاذان ( ت / 260 هـ ) عن عبد الله بن جبلة أيضاًً (3) ، وسمعه عبيس بن هشام ( ت / 220 هـ أو قبلها بسنة ) من عبد الله بن جبلة (4) ، وعبد الله بن جبلة هذا مات سنة 219 هـ بلا خلاف ، ومع هذا ، فلم ينحصر الطريق إلى حازم بن حبيب به ، إذ أخرج النعماني حديث حازم ابن حبيب بطريق ثانٍ ليس فيه ابن جبله (5) ، الأمر الذي يؤكّد صحّة ما سبق ذكره من شهادات أعلام الطائفة بوجود هذه الأحاديث في الكتب المؤلّفة قبل الغيبة بعشرات السنين. وبنفس هذه الطريقة يمكن الاستدلال
1 ـ أصول الكافي 1 : 340 / 19 ، وكتاب الغيبة / النعماني : 170 / 1 و 2 باب 10 من طريقين.
2 ـ كتاب الغيبة / الشيخ الطوسي 54 / 46 ، وفيه : « قال : وحدّثني عبد الله بن جبلة .. الخ » ، والقائل هو العلوي المذكور ؛ إذ صرح الشيخ ـ قبل ذلك ـ بالنقل من كتابه. راجع كتاب الغيبة ص : 43.
3 ـ كتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 423 ـ 424 / 407.
4 ـ كتاب الغيبة / النعماني : 172 / 6 باب 10.
5 ـ كتاب الغيبة / النعماني 172 / ذيل الحديث السادس باب 10.


(134)
على إثبات وجود معظم الاحاديث السابقة كذلك بغضّ النظر عن الشهادات المتقدمة ، ولولا خشية الإطالة لبيّنا ذلك مفصّلاً.
    7 ـ وعن المفضّل بن عمر ، عن الإمام الصادق عليه السّلام ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : « لصاحب هذا الأمر غيبتان : إحداهما يرجع منها إلى أهله ، والأخرى يقال : هلك ، في أي وادٍ سلك ... » (1).
    8 ـ وعن المفضّل بن عمر أيضاًً ، عن الصادق عليه السّلام قال : « إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين : إحداهما تطول حتى يقول بعضهم : مات ، وبعضهم يقول : قتل ، وبعضهم يقول : ذهب ... الحديث » (2).
    والذي ينبغي التنبيه عليه في هذه الأحاديث الشريفة ، توضيح ما جاء فيها من أن الإمام المهدي في غيبته عليه السّلام يرى الناس ولا يرونه ، بمعنى أنه يختفي جسمه الشريف عن الأنظار في الوقت الذي يكون فيه موجوداً في مكانٍ ما مع الناس ـ في الموسم أو غيره ـ ولكن الناس لا ترى في ذلك المكان شيئاًً.
    وهناك أحاديث كثيرة عن اهل البيت عليهما السّلام بهذا المعنى المعبّر عن الأسلوب الوقائي الذي يستخدمه الإمام المهدي عليه السّلام في كيفية احتجابه عن الناس ، ونجاته من براثن الظلم ؛ لأنّه في اختفائه بهذا الاسلوب يكون في
1 ـ اصول الكافي 1 : 340 / 20 باب في الغيبة.
2 ـ كتاب الغيبة / النعماني : 171 ـ 172 / 5 باب 10 ، وكتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : 61 / 60 ، و 162 / 120 ، وعقد الدرر / المقدسي الشافعي : 178 ـ 179 باب 5 ، والبرهان / المتّقي الهندي : 171 ـ 172 / 4.


(135)
مأمنٍ قطعيّ حقيقي من أية مطاردة ، أو تنكيل ، أو خوف حيثما كان على وجه الأرض.
    وربّما قد يستكثر بعضهم تزويد الإمام المهدي عليه السّلام بمثل هذه القدرة على الاختفاء ! وهو استكثار في غير محله ؛ لأنّ توقّف وجود وسلامة الأهداف الالهية الكبرى على المعجزة ـ وطول عمر الإمام المهدي عليه السّلام واختفاؤه منها ـ يعني حتمية التدخّل الإلهي في ايجاد تلك المعجزة من أجل تحقيق الهدف المطلوب.
    فالقدرة على الاختفاء مع طول العمر ، أمران لابدّ منهما في حفظ الإمام المهدي عليه السّلام ، وإلاّ كيف يتسنّى له القيام بالمسؤولية الإسلامية الكبرى في آخر الزمان لو كان ظاهرا للعيان ، غير مكترث بالمخاطر التي تحّفه من كل مكان ؟
    إنّ أهمية ذلك اليوم الموعود الذي سيعمّ فيه الإسلام أقطار الأرض ، وينتشر العدل في ربوع المعمورة كلها ، أهمية عظيمة عند الله تعالى ، وعند رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله ؛ إذ ستتحقّق من خلاله الأغراض الأساسية من خلق البشرية ، كما ستتحقّق به آمال الأنبياء والمرسلين عليهم السّلام ، وتتكلل جهودهم بوجود ذلك المجتمع العادل ، وظهور دولة الحقّ.
    ومن ثَمَّ فإنّ ولادة الإمام المهدي ابن الإمام العسكري عليهما السّلام التي ثبتت ثبوتاً قطعياً لا ريب فيه ، تقرّب من حقيقة تلك الأحاديث وتحكم على صحّتها ؛ لمنها عبّرت وبكل وضوح عن تعلّق الغرض الإلهي بحفظ المهدي عليه السّلام وصيّانته عن الأعداء بالاختفاء ، وعن بقاء وجوده الشريف
غيبة الإمام المهدي ::: فهرس