غيبة الإمام المهدي ::: 226 ـ 240
(226)
لكي تؤتي ثمارها في القضاء على الظلم والفساد وإفشاء العدل والمساواة بين الناس.
    وهذا القدر لابدّ منه لكي لا يُفهم بأن الإمام الصادق عليه السّلام كان يقف ـ وحاشاه من ذلك ـ أمام الرغبة الصادقة في نيل شرف الشهادة بكل غال ونفيس من أجل إعلاء كلمة الله في أرضه ، ومقارعة الباطل بكل قوة وصلابة.
    وقد كان أبو جعفر المنصور يعلم هذا جيداً ، ولهذا كان يصف الإمام الصادق عليه السّلام بأنه الشجى المعترض في حلقه (1).
    نعم كان يعلم بأن الإمام الصادق عليه السّلام سوف ينهى محمد النفس الزكية من ادعاء المهدوية ، ولكنه لا يمنعه من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا ما استطاع إليه سبيلاً.
    ولا شكّ أنه يتذكّر كلام الإمام الصادق عليه السّلام يوم كتب المنصور نفسه إليه عليه السّلام قائلاً : « لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ فأجابه عليه السّلام : ليس لنا ـ من أمر الدنيا ـ ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك بها ، ولا نراها نقمة فنعزّيك بها ، فما نصنع عندك ؟ قال فكتب له : تصحبنا لتنصحنا ، فأجابه عليه السّلام : من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك » (2).
1 ـ دلائل الإمامة / الطبري : 297 ـ 298 / 253 ( 89 ) ، والخرائج والجرائح / القطب الراوندي 2 : 640 ـ 641 / 47.
2 ـ التذكرة الحمدونية / ابن حمدون 1 : 113 ـ 114 / 230 ، وعنه الإربلي في كشف الغمّة 2 : 395 ، في مواعظ الإمام الصادق عليه السّلام.


(227)
    ولهذا نجد أول عمل قام به المنصور بعد قتله محمد بن عبد الله أنه استدعى الإمام الصادق عليه السّلام وغلظ عليه الكلام ثم قال : « يا جعفر ! قد علمت بفعل محمد بن عبد الله الذي يسمونه النفس الزكية ، وما نزل به ، وإنما انتظر الآن أن يتحرّك منكم أحد فألحق الصغير بالكبير » (1).
    إن علم الإمام الصادق عليه السّلام بعد تحقّق الحدّ الأدنى المطلوب من ثورة محمد النفس الزكية قبل إعلانها ، وفشل حركته المحتم ، وما سيلحق ذلك من نتائج سياسية خطيرة على البيت العلوي عموماً ، وعلى الإمام الصادق عليه السّلام خاصة ، كان محفّزاً للإمام عليه السّلام أن يبين ما بينه لقادة الثورة وللمجتمع المدني يومذاك ، لعلّهم يتريثوا إلى حين تهيئة المستلزمات المطلوبة لنجاح الثورة.
    ونكتفي بهذا القدر لنعود إلى معالجة القضية الأكبر التي لا زالت عند بعض المتخرّصين مادة للهجوم على الحقيقة المهدوية بحجة وجود أدعيائها الكثيرين في التاريخ الشيعي كما هو الحال في مهدوية محمد بن عبد الله بن الحسن ؛ لنرى كيف عالج إمامنا الصادق عليه السّلام تلك الدعوى وبين زيفها ، فنقول :
    عبّر موقف الإمام الصادق عليه السّلام في ردوده على دعوى مهدوية محمد بن عبد الله بن الحسن تعبيراًً رائعاًً عن إمامته هو عليه السّلام أولاًًً ، وعن زيف تلك الدعوى ثانياًًً ، وعلى أكثر من صعيد ، كالآتي :
1 ـ الفصول المهمّة / ابن الصباغ المالكي : 224.

(228)
    إخباره عليه السّلام القيادة الحسنية بنتائج تلك الدعوى وقتل صاحبها :
    1 ـ فقد روى أبو الفرج الأصبهاني ، والشيخ المفيد ، وابن شهرآشوب ، أنه اجتمع العباسيون والحسنيون بالابواء وذلك في أواخر زمان الحكم الأموي ، فقام صالح بن على يحضّهم على أن يعقدوا البيعة لرجل منهم ، فعندها حمدالله عبد الله بن الحسن وأثنى عليه ثم قال : قد علمتم من ابني هذا هو المهدي ، فهلموا فلنبايعة ، فبايعوه جميعاً ، وفيهم أبو جعفر المنصور ، ولما علم الإمام الصادق عليه السّلام باجتماعهم هذا أرسل محمد ابن عبد الله الأرقط بن على بن الحسين عليه السّلام ، فسألهم : لأي شيء اجتمعتم ؟ فقال عبد الله : اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد الله ، ثم جاء الإمام الصادق عليه السّلام ، « فأوسع له عبد الله بن الحسن إلى جنبه ، فتكلم بمثل كلامه ، فقال الإمام : لا تفعلوا ، فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد إن كنت ترى من ابنك هذا هو المهدي ! فليس به ، ولا هذا أوانه فغضب عبد الله وقال لقد علمت خلاف ما تقول ، والله ما اطلعك الله على غيبه ، ولكن يحملك على هذا الحسد لابني. فقال عليه السّلام : والله ما ذاك يحملني ، ولكن هذا وأخوته وأبناؤهم دونكم ، وضرب بيده على ظهر أبي العباس ، ثم ضرب بيده على كتف عبد الله بن الحسن ، وقال : إنها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ، ولكنها لهم ، وإن ابنيك لمقتولان ثم نهض وتوكّأ على يد عبدالعزيز بن عمران الزهري ، فقال : أرأيت صاحب الرداء الأصفر ؟ ـ يعني أبا جعفر المنصور ـ قال : نعم ، قال : فإنّا ـ والله نجده يقتله. قال له عبدالعزيز : أيَقْتُل محمداً ؟ قال : نعم. قال : فقلت في نفسي : حسده ورب الكعبة.
    قال : ثم والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما.


(229)
    قال : لما قال جعفر ذلك ، نفض القوم فافترقوا ولم يجتمعوا بعدها ، وتبعه عبد الصمد وأبو جعفر المنصور ، فقالا : يا أبا عبد الله ! أتقول هذا ؟
    قال : نعم ، أقوله والله ، وأعلمه » (1).
    2 ـ وفي المناقب لابن شهر آشوب : « أنه لما بويع محمد بن عبد الله بن الحسن على أنه مهدي هذه الأمة جاء أبوه عبد الله إلى الصادق عليه السّلام ، وقد كان ينهاه ، وزعم أنه يحسده ، فضرب الصادق يده على كتف عبد الله ، وقال : إيهاً والله ! ما هي اليك ولا إلى ابنك ، وإنما هي لهذا ـ يعني : السفاح ـ ثم لهذا ـ يعني المنصور ـ يقتله على أحجار الزيت ، ثم يقتل أخاه بالطفوف وقوائم فرسه في الماء ، فتبعه المنصور ، فقال : ما قلت يا أبا عبد الله ؟ فقال : ما سمعته وإنه لكائن. قال : فحدثني من سمع المنصور أنه قال : انصرفت من وقتي فهيأت أمري ، فكان كما قال » (2).
    3 ـ وفي رواية المسعودي ، قال : « .. فجمع عبد الله ـ أي ابن الحسن ـ أهل بيته ، وهمَّ بالأمر ، ودعا أبا عبد الله عليه السّلام للمشاورة ، فحضر ، فجلس بين المنصور وبين السفاح وعبد الله ابني محمد بن على بن عبد الله بن العباس ، ووقعت المشاورة ، فضرب أبو عبد الله عليه السّلام يده على منكب أبي العباس عبد الله السفاح ، فقال : لا والله ! إمّا أن يملكها هذا أولاًً ، ثم ضرب
1 ـ مقاتل الطالبيين : 185 ـ 187 ، و 225 ـ 227 ، والارشاد / الشيخ المفيد 2 / 190 ـ 193 ، والمناقب / ابن شهر آشوب 4 : 249 ، في معرفته عليه السّلام باللغات وإخباراته بالغيب.
2 ـ المناقب / ابن شهر آشوب 4 : 249.


(230)
بيده الأخرى على منكب أبي جعفر عبد الله المنصور ، وقال : وتتلاعب بها الصبيان من ولد هذا .. » (1).
    4 ـ وأخرج ثقة الإسلام عن موسى بن عبد الله بن الحسن ، عن أبيه في حديث طويل جاء فيه قوله عليه السّلام لعبد الله : « يا ابن عم اني أعيذك بالله من التعرض لهذا الأمر أمسيت فيه ، وإنّي لخائف عليك أن يكسبك شرّاً » .
    وقوله عليه السّلام في ابنه أنه « المقتول بسده اشجع ، عند بطن مسيلها .. لا والله لا يملك أكثر من حيطان المدينة .. فاتق الله وارحم نفسك وبني أبيك .. والله لكأنني به صريعاً مسلوباً بزّته بين رجليه لبنة » .
    وخرج عبد الله مغضباً فلحقة أبو عبد الله عليه السّلام ، وأخبره بأنه وبني أبيه سيقتلون ثم قال : « فإن أطعتني ورأيت أن تدفع بالتي هي أحسن فافعل ، فو الله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الكبير المتعال على خلقه لوددت أني فديتك بوُلْدي وبأحبّهم إليّ وبأحبّ أهل بيتي إليّ ، وما يعدلك عندي شيء فلا ترى أني غششتك.
    قال موسى بن عبد الله بن الحسن : فما أقمنا بعد ذلك إلاّ قليلاً عشرين ليلة أو نحوها حتى قدمت رسل أبي جعفر المنصور فأخذوا أبي وعمومتي ، سليمان بن حسن ، وحسن بن حسن ، وإبراهيم بن حسن ، وداود بن حسن ، وعلى بن حسن ، وسليمان بن داود بن حسن ، وعلى بن إبراهيم بن
1 ـ إثبات الوصية / المسعودي : 158.

(231)
حسن ، وحسن بن جعفر بن حسن ، وطباطبا إبراهيم بن إسماعيل بن حسن ، وعبد الله بن داود ، فصفدوا في الحديد » .
    واطلع عليهم أبو عبد الله عليه السّلام وهم في تلك الحال ، وكان عامة ردائه مطروح بالأرض ، وحمّ عشرين ليلة لم يزل باكياً فيها الليل والنهار حتى خيف عليه.
    ثم ظهر بعد هذا محمد بن عبد الله ودعا الناس لبيعته ، واحضروا الإمام الصادق عليه السّلام لمبايعتهم بالقوة ، وامتنع قائلاً لمحمد : « أما والله لكمني بك خارجاً من سدة أشجع إلى بطن الوادي ، وقد حمل عليك فارس معلم ، في يده طرادة نصفها أبيض ونصفها أسود ، على فرس كميت أقرح ، فطعنك فلم يصنع فيك شيئاًًً ، وضربت خيشوم فرسه فطرحته ، وحمل عليك آخر خارج من زقاق آل أبي عمار الدُئليين ، عليه غديرتان مضفورتان ، وقد خرجتا من تحت بيضة ، كثير شعر الشاربين ، فهو والله صاحبك فلا رحم الله رمته » (1).
    ثم شهد بعد ذلك موسى بن عبد الله بن الحسن ـ راوي الخبر ـ على حصول كل ما أخبر به الإمام الصادق عليه السّلام ، حتى لكأنه عليه السّلام كان يُخبر عن
1 ـ واسم هذا الرجل لعنه الله حميد بن قحطبه ، فهو الذي احتزّ رأس رأس محمد عد أحجار الزيت المكان الذي ذكره الإمام الصادق عليه السّلام ، وذلك بعد عصر يوم الأثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة / 145 هـ ، كما في تاريخ الطبري 7 : 589 و 594 ، والكامل في التاريخ 5 : 163 ، والبداية والنهاية 10 : 89 ، كلهم في حوادث سنة / 145 هـ ، وعمدة الطالب : 105.

(232)
معاينة. (1).

    تفهيم الناس بمصير المهدي الحسيني ومهدويته :
    بعد فراغ الإمام الصادق عليه السّلام من مواجهة بني الحسن وبالحقيقة المرّة ، والمصير المحتوم الذي ينتظرهم على يد الجلاّد العباسي أبي الدوانيق ، اتجه كلامه ـ هذه المرّة ـ إلى الناس ، لا سيما أصحابه ، ليكونوا دعاة خير لمن لهج بمهدوية ابن عبد الله ولم يصله موقف الإمام المعلن أمام القيادة الحسنية وجهاً لوجه ، وفي أكثر من مكان.
    1 ـ عن عنبسة العابد ، قال : « كان جعفر بن محمد عليهما السّلام ، إذا رأى محمد ابن عبد الله بن حسن ، تغرغرت عيناه ، قم يقول : بنفسي هو ، إنّ الناس ليقولون إنّه المهدي !! وإنه لمقتول ، وليس هذا في كتاب أبيه علي عليه السّلام من خلفاء هذه الأمة » (2).
    2 ـ وعن المعلّى بن خُنَيس ، قال : « كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام ، إذ أقبل محمد بن عبد الله ، فسلّم ، ثم ذهب ، فَرَقّ له أبو عبد الله عليه السّلام ، ودمعت عيناه.
    فقلت له : لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع ؟
    فقال عليه السّلام : رققت له : لأنه ينسب إلى أمر ليس له ، لم أجده في كتاب
1 ـ أصول الكافي 1 : 358 ـ 366 / 17 ، باب ما يفصَل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة ، من كتاب الحجة ، وبعضه في الكامل في التاريخ 5 : 144 في حوادث سنة / 144 هـ.
2 ـ الإرشاد 2 : 193.


(233)
على عليه السّلام من خلفاء هذه الأمة ، ولا من ملوكها » (1).
    3 ـ وعن عيسى بن عبد الله ، قال : حدثتني أمّ الحسين بنت عبد الله بن محمد بن على بن الحسين عليهم السّلام ، قالت : « قلت لعمي جعفر بن محمد عليهما السّلام : إنّي ـ فديتك ـ ما أمر محمد هذا ؟ قال : فتنة ، يُقتل فيها محمد عند بيت رومة ، ويقتل أخوه لأبيه وأمّه بالعراق وحوافر فرسه في الماء » (2).
    4 ـ وفي الصحيح عن عبدالملك بن أعين ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : « إنّ الزيديّة والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبد الله ، فهل له من سلطان ؟ فقال : عليه السّلام : والله إنّ عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي ، وكل ملك يملك الأرض ، لا والله ما محمد بن عبد الله في واحد منهما » (3).
    5 ـ وفي رواية للطبري ، قال : « خرج مع محمد ، حمزة بن عبد الله بن محمد بن على ، وكان ـ أي : حمزة ـ من أشد الناس مع محمد ، قال : فكان جعفر [ عليه السّلام ] يقول له : هو والله مقتول » (4).
    6 ـ وفي الصحيح عن فُضَيل بن سُكَّرة ، قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام ، فقال : يا فُضَيْل ! أتدري في أيِّ شيءٍ كنت أنظر قُبَيل ؟ قال ،
1 ـ روضة الكافي 8 : 323 / 594.
2 ـ تاريخ الطبري 7 : 600 ـ 601 ، ومقاتل الطالبيين : 220 ، والكامل في التاريخ 5 : 163 في حوادث سنة / 145 هـ.
3 ـ أصول الكافي 1 : 242 / 7 ، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة وأصحّف فاطمة عليها السّلام ، من كتاب الحجة.
4 ـ تاريخ الطبري 7 : 601 ، في حوادث سنة / 145 هـ.


(234)
قلت : لا. قال : كنت أنظر في كتاب فاطمة عليها السّلام ، ليس من ملك يملك الأرض إلاّ وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه ، وما وجدت لولد الحسن فيه شيئاًً » (1).
    جدير بالذكر من آباء الإمام الصادق عليه السلام قد أخبروا بهذا أيضاًًً . ففي الصحيح عن عبدالرحيم بن روح القصير ، عن أبي جعفر الباقر عليهما السّلام ، في قول الله عزّوجلّ : ( النبيُّ أولى بالمؤمنينَ من أنفسهم وأزواجهُ أمّهاتهم وأولوا الارحامِ بعضهم أولى ببعضٍ في كتابِ الله ) (2) فيمن نزلت ؟
    فقال عليه السّلام : « نزلت في الإمرة ، إنّ هذه الآية جرت في ولد الحسين عليه السّلام من بعده ، فنحن أولى بالأمر ، وبرسول الله صلّى الله عليه وآله من المؤمنين والمهاجرين والانصار. قلت : فولد جعفر [ ابن أبي طالب ] لهم فيها نصيب ؟ قال : لا. قلت فلولد العباس فيها نصيب ؟ فقال : لا. فعددت عليه بطون بني عبدالمطلب ، كل ذلك يقول : لا. قال : ونسيت ولد الحسن عليه السّلام ، فدخلت بعد ذلك عليه ، فقلت له : هل لولد الحسن عليه السّلام فيها نصيب ؟ فقال : لا والله يا عبد الرحيم ، ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا » (3).
    كما أخبر أمير المؤمنين على عليه السّلام بمصير محمد بن عبد الله الحسني ، فقد اورد الثقفي ، وابن أبي الحديد المعتزلي ، جملة من إخباراته عليه السّلام الغيبيّة ،
1 ـ أصول الكافي 1 : 242 / 8 ، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر ... ، من كتاب الحجة.
2 ـ سورة الأحزاب : 33 / 6.
3 ـ أصول الكافي 1 : 288 / 2 ، باب ما نص الله عزّوجلّ ورسوله صلّى الله عليهم وآله على الأئمة عليه السّلام واحداً فواحداً ، من كتاب الحجة.


(235)
ومنها قوله في محمد هذا : « إنه يقتل عند أحجار الزيت » وكقوله عليه السّلام فيه أيضاًً : « يأتيه سهم غرب يكون فيه منيّته ، فيا بؤساً للرامي ، شلّت يده ، ووهن عضده » (1).

    تأكيده عليه السّلام على سبق دعوى المهدوية لزمان المهدي عليه السّلام :
    أراد الإمام الصادق عليه السّلام ـ بعد أن أخذ دوره المطلوب في نصح وتحذير القيادة الحسنية وقاعدتها بوجوب الكف عن أشاعة مهدوية ابن عبد الله ـ أن يكون تطلّع الأمة إلى الله تعالى من خلال عقيدتها بالإمام المهدي عليه السّلام المبشر بظهوره في آخر الزمان ، تطلعاً صحيحاً وموجهاً ، الأمر الذي يقتضى تزويدها بما يمكن معه أن تقيّم كل دعوى من هذا القبيل ؛ ولهذا جاء التأكيد على سبق دعوى المهدوية لزمان ظهور المهدي عليه السّلام.
    ويدل عليه ما مرّ بنا من قوله ـ في اجتماع الابواء ـ لعبد الله بن الحسن : « .. إن كنت ترى أن أبنك هذا هو المهدي ! فليس به ، ولا هذا أوانه » .
    فقوله عليه السّلام : « فليس به » صريح بأن المهدي الموعود عليه السّلام ليس هو محمد ابن عبد الله الحسني ، إذ لم يولد الإمام المهدي عليه السّلام بعد ، ولا أقلّ من حديث كون الأئمة أثنا عشر آخرهم المهدي ، وهو الحديث الذي عرفته الأمة كلها ، فأين الأحد عشر الذين سبقوا ابن عبد الله حتى يكون هو خاتمتهم ؟
    وقوله عليه السّلام : « ولا هذا أوانه » ناظر إلى الامور التي تسبق الظهور وجاء
1 ـ الغارات / الثقفي : 680 ، وشرح نهج البلاغة 7 : 48 في شرح الخطبة رقم / 92.

(236)
بها الحديث الشريف على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السّلام ، وهو ما سنوضحه في رد مهدوية ( المهدي العباسي ).

    بيان الاختلاف بين هوية الإمام المهدي عليه السّلام وهوية ( المهدي الحسني ) :
    بين الإمام الصادق عليه السّلام الاختلاف الحاصل بين هوية الإمام المهدي عليه السّلام وهوية ( المهدي الحسني ) ، في اسم الأب ، والكنية ، والنسب ، مع الاختلاف في اسم الأم ، وأصلها.
    والمعروف في اسم الحسني مدّعي المهدوية ، أنه محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى ، بن الإمام الحسن السبط ، بن أمير المؤمنين الإمام على بن أبي طالب عليهما السّلام.
    ويكنى : أبا عبد الله.
    وأمّه : هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود بن المطلب ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب (1).
    وبناءً على ذلك :
    فإن اسم أبيه : ( عبد الله ).
    وكنيته : ( أبو عبد الله ).
    وأصله : ( حسني ).
1 ـ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : 103 ، ومقاتل الطالبيين : 206 ، وذكر في نسب الأم ، مكان ( ربيعة ) : زمعة.

(237)
    واسم أمه : هند ، وهي إمرأة عربية ، قرشية ، حرة.
    وقد بيّن الإمام الصادق عليه السّلام إن هذه الأمور الأربعة في هوية ( المهدي الحسني ) ، تخالف تماماً هوية الإمام المهدي عليه السّلام ، كالآتي :

    1 ـ الاختلاف في اسم الأب ، والكنية :
    وقد كانت حجة الحسنيين في مهدوية محمد النفس الزكية حديث ( اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ) وقد وافق اسمه اسم النبي صلّى الله عليه وآله واسم أبيه لاسم أبي النبي صلّى الله عليه وآله.
    وهذا الحديث على فرض صحته ليس بدليل ، وإلاّ لاقتضى أن يكون في الأمة آلاف المهديين ، ـ بقطع النظر عن غيره من أحاديث المهدي ـ إذ ما أكثر من تسمى بـ ( محمد بن عبد الله ) في هذه الأمة. فكيف الحال لو كان الحديث موضوعاً لا اصل له ؟
    وقد مرّ عليك دور أنصار المهدي الحسني في وضع هذا الحديث نصرة لمهديهم ، وأما وروده بعد قتل الحسني على السنة الرواة وكبار المحدثين من العامة ، فمآله السلطة العباسية التي سخرت من يضع لها في مهدوية محمد بن عبد الله المنصور العباسي كما سنبينه في محله.
    وقد رد الإمام الصادق عليه السّلام على هذا الحديث المزعوم ، بقوله الشريف في المهدي « اسمه اسم نبي ، واسم أبيه اسم وصي » (1).
    ولم يعترف الإمام الصادق عليه السّلام ولا أحد من أهل البيت عليهم السّلام قط بهذه العبارة ( اسم أبيه اسم أبي ) ولم ترو عنهم ، ولا من طرقهم البتة. الأمر الذي
1 ـ كتاب الغيبة / النعماني : 181 / 29 باب 10.

(238)
يكشف عن كونها مزيدة ـ فيما بعد ـ على أصل الحديث ، وقد اعترف أحد كبار علماء الحديث من العامة وهو أبو الحسن الآبري ( ت/ 363 هـ ) في كتابه ( مناقب الشافعي ) بأن الأصل في هذه الزيادة هو أبو الصلت زائدة ابن قدامة (1) ، وزائدة هذا ضعيف في الحديث وكان مولعاً بزيادة ما يراه مناسباً على أصل الحديث ، الأمر الذي يكشف عن خبثه وتلاعبه في السنة المطهرة.
    كما اعترف الكنجي الشافعي ( ت/ 658 هـ ) بسقوط ما زاده زائدة بن قدامة عن الاعتبار ، حتى قال في زيادته تلك : ( إن تلك الزيادة لا اعتبار لها ) (2).
    كما اكّد الإمام الصادق عليه السّلام ـ مرة أخرى ـ زيف الحديث الذي احتج به الحسنيون ، نافياً نسبته الى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ومصححاً لما ورد في اسم المهدي وكنيته عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ففي الصحيح « عن أبي بصير ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهم السّلام ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً ، تكون له غيبة وحيرة حتى تضل الخلق عن أديانهم ، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب ، فيملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً » (3).
1 ـ راجع : البيان في أخبار صاحب الزمان / الكنجي الشافعي : 482.
2 ـ البيان في اخبار صاحب الزمان : 485.
3 ـ إكمال الدين 1 : 287 / 4 باب 25.


(239)
    وهذا الحديث نفسه رواه جابر بن عبد الله الانصاري رضى الله عنه ، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله (1) ، وفيه ما يوضح الاختلاف الحاصل في الكنية أيضاًً ، فمحمد بن عبد الله قد تكنّى ـ كما مرّ ـ بـ : ( أبي عبد الله ) ؛ في حين أن الإمام المهدي عليه السّلام يكني بـ : ( أبي القاسم ).
    جدير بالذكر أن محمد بن الحنفية رضى الله عنه قد أدعيت له المهدوية ـ كما مرّ ـ قبل محمد بن عبد الله بن الحسن بأكثر من خمسين عاماً ، وقد تكنى محمد بن الحنفية بـ ( أبي القاسم ) ، ولكن لم يعترض أحد من الأمة قط على الكيسانية ويقول لهم مثلاً : إن مهديهم ( محمد بن الحنفية ) اسم أبيه ( على ) والمفروض أن يكون اسمه بحسب الحديث المزعوم : ( عبد الله ) ، الأمر الذي يدل على كون ( الزيادة المذكور فيه ) قد وضعت بعد حين.

    2 ـ الاختلاف في النسب من جهة الأب :
    كذلك بين الإمام الصادق عليه السّلام الاختلاف الحاصل بين نسب الإمام المهدي عليه السّلام ونسب محمد ( النفس الزكية ) ـ الذي تقمص المهدوية ـ من جهة الآباء ؛ إذ لا خلاف بين احد أن محمد بن عبد الله ( النفس الزكية ) حَسَني ؛ لأنه من سلالة أبي محمد الحسن بن على بن أبي طالب عليهما السّلام.
    بينما نسب الإمام المهدي عليه السّلام ليس كذلك ؛ إذ هو حُسَيني ، بل هو التاسع من ولد الإمام الحسين عليه السّلام كما مرّ عن الإمام الصادق عليه السّلام في أحاديث شتّى ، فضلاً عمّا أثبته الواقع التاريخي في تشخيص هوية الإمام
1 ـ إكمال الدين 1 : 286 / 1 باب 25.

(240)
المهدي عليه السّلام.
    جدير بالذكر أنه لا يوجد في عالم الرواية سوى حديثين فقد في خصوص كون نسب المهدي الموعود به في آخر الزمان حسنياً.
    أحدهما : حديث أبي داود في سننه ، وقد سبق أن ناقشنا هذا الحديث وبينا ضعفه وزيفه من عدّة جهات.
    والآخر : أرسله الطبري المفسّر العامّي في تهذيب الآثار (1) ، ولا عبرة به لإرساله ، ولأنه ليس من طرقنا.
    في حين وردت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السّلام وخصوصاً الإمام الصادق عليه السّلام روايات كثيرة تزيد على مائة رواية ، وكلها صريحة بما ذكرناه.
    نكتفي بواحدة منها ، وهي ما رواه أبان بن عثمان ، عن الإمام الصادق عليه السّلام ، قال : « بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله ذات يوم بالبقيع حتى أقبل على عليه السّلام فسأل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقيل منه بالبقيع ، فأتاه على عليه السّلام ، فسلم عليه ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : اجلس ، فاجلسه عن يمينه ـ إلى أن قال ـ ثم إلتفت رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى عليّ عليه السّلام فقال : « ألا أبشرك ؟ ألا أخبرك يا علىّ ؟ فقال : بلى يا رسول الله ، فقال : كان جبرئيل عليه السّلام عندي آنفاً وأخبرني أن القائم الذي يخرج في أخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً ، من ذريتك ، من ولد الحسين .. » (2).
1 ـ نقله عنه السيوطي في الحاوي للفتاوى 2 : 66.
2 ـ كتاب الغيبة / النعماني 247 ـ 248 / 1 باب 14.
غيبة الإمام المهدي ::: فهرس