غيبة الإمام المهدي ::: 241 ـ 255
(241)
    ومثله حديث معاوية بن عمار ، عن الإمام الصادق عليه السّلام (1).

    لماذا حصر الإمامة والمهدي في ذريّة الحسين دون الحسن عليهما السّلام ؟
    إذا ما تجاوزنا هذا ، وعدنا إلى مسألة الإمامة بلحاظ كون المهدي الموعود هو قائم الأئمة ومن ذريتهم ، نجد أنها قد انحصرت بذرية الإمام الحسين السبط عليه السّلام لا في الروايات الصحيحة الكثيرة التي تفوق حد الحصر فحسب ، بل في واقعها الخارجي أيضاً ، حيث عرفت الأمة بكل أجيالها من تصدّى من آل الرسول صلّى الله عليه وآله لمسألة الإمامة ، متحدياً بذلك السلطات الحاكمة في زمانه ، ويكفي فيما نحن فيه استماتة الحسنيين في كسب تأييد الإمام الصادق عليه السّلام لدعوتهم ، حتى كان عبد الله بن الحسن يقول لما أخذ في أمر إبنه محمد وأجمع على لقاء أصحابه : « لا أجد هذا الأمر يستقيم إلاّ أن ألقى أبا عبد الله جعفر بن محمد » (2) ، وأنه حين صارحهم في اجتماعهم بحقيقة الأمر ونهض عليه السّلام ، تفرقوا ولم يجتمعوا بعدها كما مرّ.
    وأما السؤال عن سبب حصر الإمامة بذرية الإمام الحسين عليه السّلام دون ذرية الحسن عليه السّلام ؟
    فجوابه المحكم عند الإمام الصادق عليه السّلام نفسه ؛ إذ قال عليه السّلام : « إن موسى وهارون عليهما السّلام كانا نبيين مرسلين وأخوين ، فجعل الله عزّوجلّ النبوّة في صلب هارون دون صلب موسى عليهما السّلام ، ولم يكن لأحد أن يقول لم فعل الله
1 ـ روضة الكافي 8 : 42 / 10.
2 ـ أصول الكافي 1 : 358 / 17 باب ما يفصل بن دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة ، من كتاب الحجة.


(242)
ذلك ؟ وإن الإمامة خلافة الله عزّوجلّ في أرضه ، وليس لأحد أن يقول لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن عليهما السّلام ؛ لمن الله تبارك وتعالى هو الحكيم في أفعاله ( لا يُسألُ عَمَّا يفعلُ وَهمْ يُسألونَ ) (1) » (2).
    ومن هنا ندرك أن السرّ في مسألة حصر الإمامة بذرية الإمام الحسين عليه السّلام أعمق بكثير مما قد نتصوّره سبباً لاختيار الله عزّوجلّ لتلك الصفوة الطاهرة من عباده ، كسمو أرواحهم ، وعظمة اخلاقهم ، وانقطاعهم لله عزّوجلّ ، ونحو ذلك من الأسباب الظاهرة التي تندرج في قائمة المثل العليا في الإسلام ؛ وإلاّ لتساووا عليهم السّلام مع المتقين الأبرار الذين سلكوا طريقتهم المثلى ، ومضوا على محجّتهم الواضحة.

    3 ـ الاختلاف من جهة الأم اسماً ونسباً :
    أما عن الاختلاف في اسم الأم ، فهو أوضح من نار على علم ، وأين اسم ( هند ) من اسم ( نرجس ) ؟ ويقال لها عليهاالسّلام ( صقيل ) كما مرّ عن الإمام الصادق في بيان هوية الإمام المهدي عليهما السّلام ؛ من باب تسمية الشيء ببعض صفاته ، ولهذا تعددت اسمائها لجمال خَلْقها وخُلقها سلام الله عليها.
    وأما الاختلاف في نسب الأم ؛ فإن أم محمد بن عبد الله بن الحسن ،
1 ـ سورة الانبياء : 21 / 22.
2 ـ إكمال الدين 2 : 358 ـ 359 / 57 باب 33.


(243)
هي : هند بنت أبي عبيدة.
    وأمها : قريبة بنت يزيد بن عبد الله بن وهب.
    وأمها : خديجة بنت محمد بن طليب بن أزهر بن عبد عوف.
    وأمها : أم مسلم بنت عبدالرحمن بن أزهر بن عبد عوف.
    وأمها : قدة بنت عرفجة بن عثمان بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
    وأمها : الدنيبة بنت عبد عوف بن عبد الحرث بن زهرة.
    وأمها : بنت العداء بن هرم بن رواحة.
    وأمها : رزا بنت وهب بن ثعلبة بن وائلة من بني فهر.
    وأمها : من بني الاحمر بن الحرث بن عبد مناف بن كنانة (1).
    فهو إذن من جهة الأمّهات لم تلده إلاّ عربية قرشية في جميع أمهاته وجداته ، ولهذا يقال له : صريح قريش.
    بينما يعدّ الإمام المهدي عليه السّلام من جهة الأم ابن خيرة الإماء كما مرّ في أحاديث الهونية عن الإمام الصادق عليه السّلام ، وفي روايات أخرى عنه عليه السّلام انه ابن سيدة الإماء.
    ومن طريف ما يروى في الردّ على مهدوية الحسني من هذه الجهة ، ما عن ابن أبي حازم في قصة من احتج عليه من أنصار محمد بن عبد الله بن
1 ـ مقاتل الطالبيين : 206.

(244)
الحسن المثنى ـ وكانوا من المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد الكذاب ـ بأن محمداًً هذا ابن مُهَيْرَة ـ أي : عربية حرّة محضة ، فجاء إلى الإمام الصادق عليه السّلام وأخبره باحتجاجهم ، فأجابه عليه السّلام بقوله : « أو لم تعلموا منه ـ يعني : الإمام المهدي عليه السّلام ـ ابن سبية » (1).

    ثالثاًً ـ من نتائج توعية الإمام الصادق عليه السّلام :
    لعل من أبرز نتائج الثقافة المهدوية التي بثّها الإمام الصادق عليه السّلام في ذلك الحين ، تنصل قادة المعأرضة الحسنية للسلطة العباسية من دعوى المهدوية جملة وتفصيلاً ، بما في ذلك عبد الله بن الحسن الذي رجاها في ابنه محمد ، وكذلك محمد نفسه الذي إدعاها كما مرّ.
    فقد روى يحيى بن مساور ، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن قال : « لما حُبِسَ أبي ـ عبد الله بن الحسن ـ وأهل بيته ، جاء محمد بن عبد الله الى أمي ، فقال : يا أم يحيى ، أدخلي على أبي السجن ، وقولي له : يقول لك محمد : بأنه يُقْتَل رجل من آل محمد ـ يعني بذلك نفسه ـ خير من أن يُقْتل بضعة عشر رجلاً. قالت : فاتبعته ، فدخلت عليه السجن ، فاذا هو متكىء على برذعة ، في رجله سلسلة ، قالت : فجزعت من ذلك ، فقال : مهلاً يا أم يحيى فلاتجزعي فما بتُّ ليلة مثلها !قالت : فابلغته قول محمد ، قالت : فاستوى جالساً ثم قال : حفظ الله محمداً ، لا ولكن قولي له فليأخذ في الأرض مذهباً ، فو الله ما يحتج عندالله غداً ، إلاّ أنّا خلقنا وفينا من
1 ـ كتاب الغيبة / النعماني 229 ـ 230 / 12 باب 13.

(245)
يطلب هذا الأمر » (1).
    وروى ابن الأثير ما خلاصته : إنّ المنصور العباسي لما حبس بني الحسن في المدينة وصيّرهم بعد رجوعه من الحج الى الربذة كانا محمد وإبراهيم يأتيانه كهيئة الأعراب فيتشاوران مع أبيهما ، وإنه قال لهما : « إن منعكما أبو جعفر ـ يعني المنصور ـ من تعيشا كريمين ، فلا يمنعكما أن تموتا كريمين » (2).
    وهذه الكلمات تكاد تنطق بتحول عقيدة الأب في ابنه ، وتنازل الابن نفسه عن دعوى المهدوية وتنصله منها.
    أما قول محمد لأبيه في رواية أخيه يحيى ، فيكشف دوران أمره بين تسليم نفسه للقتل مقابل الافراج عن أبيه وباقي الحسنيين ، او التضحية بها وبأهل بيته المسجونين ، وكلاها يعبر عن تبخر ذلك الوهم الكبير في من يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
    وأما أبوه عبد الله فقد آثر لهما ـ برواية ابن الأثير ـ مصارع الكرام على العيش بذلّ الاستسلام ، ولو كان يعتقد مهدوية ابنه محمد كما كان قبل دخوله السجن ، لأخذ بروع محمد ابنه ، وطمأنه على حياته ومستقبل مهدويته ، بأنها أعظم من أن تزول على يد الدوانيقي المخذول ، ولقال له : يا بني عجّل بالظهور ، فإن روح الله عيسى بن مريم عليه السّلام سينزل لنصرتك ،
1 ـ مقاتل الطالبيين : 193.
2 ـ الكامل في التاريخ 5 : 144 ، في حوادث سنة / 144 هـ.


(246)
وسيصلي خلفك ، حتى تكون مشارق الأرض ومغاربها أن ملكك.
    بفضل هذه التوعية أيضاً أنكر آخرون أن يكون محمد بن عبد الله هو المهدي.
    منهم : جد محمد بن عبد الله لأمه مروان بن محمد ، الذي أثّر فيه حديث الإمام الصادق عليه السّلام في بيان هوية الإمام عليه السّلام ، والذي لابدّ ومن يكون قد وصل الى أسماعه.
    ويدل عليه ما قاله أبو العباس الفلسطي ، قال : « قلت لمروان جد محمد بن عبد الله ؛ فإنه ـ يعني : ابن عبد الله ـ يدّعي هذا الأمر ويتسمى بالمهدي ! فقال : ما لي وله ، ما هو به ، ولا من أبيه ، وإنه لابن أم ولد » (1) يعني ابن سبّية.
    ومنهم : خديجة بنت عمر بن على بن الحسين عليهماالسّلام ، حيث كانت تسخر من القول بمهدوية محمد بن عبد الله بن الحسن (2).
    ومنهم : الكلبي النسابة ، حيث أخذ معرفة هذا الأمر وحقيقته من الإمام الصادق عليه السّلام مباشرة ، ولم يطع عبد الله بن الحسن في شيءٍ مما قاله (3).
1 ـ مقاتل الطالبيين 219 و 228.
2 ـ أصول الكافي 1 : 358 / 17 باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة ، من كتاب الحجة.
3 ـ اصول الكافي 1 : 348 ـ 351 / 6 من الباب السابق.


(247)
    ومنهم : موسى بن عبد الله بن الحسن أخي محمد بن عبد الله بن الحسن ، الذي اعترف بصحة وقوع كل ما أخبر به الإمام الصادق عليه السّلام ، وقد مر حديثه.
    ومنهم : إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو شيخ كبير ، قتله الحسنيون بعدما أبي عن بيعة محمد هذا ، لحديث رواه عن الإمام الباقر عليه السّلام في مصرعه وقد أيّده الإمام الصادق عليه السّلام ، وقد قتله أنصار محمد في مساء ذلك اليوم الذي امتنع فيه عن البيعة لهم (1).
    ومنهم : علماء آل أبي طالب كما مرّ في كلام أبي الفرج ، ويأتي الإمام الصادق عليه السّلام في طليعتهم ، وقد يكون عليه السّلام هوالمعني أولاًً وآخراً بكلامه.
    ومنهم : بعض الحسنيين كما مرّ في قول ابن أخى الزهري لعبد الله ابن الحسن لمّا أصرّ على أن المهدي هو ابنه محمد ، فقال له : « يأتي ذلك أهل بيتك » وفيه إشارة إلى وجود جملة من بني الحسن لا يرون صحّة القول بمهدويته ؛ نظراً لما وصل اليهم من أخبار المهدي الموعود عليه السّلام ، فضلاً عمّا كان يقوله إمامنا الصادق عليه السّلام للحسنيين ويخلص لهم النصيحة في ذلك.
    ومنهم : عمرو بن عبيد ، الذي « كان ينكر أن يكون محمد بن عبد
1 ـ اصول الكافي 1 : 363 ـ 364 / 17 من الباب السابق ؟

(248)
الله هو المهدي ، ويقول : كيف وهو يقتل ؟ » (1).
    ومنهم : أبو جعفر المنصور العباسي كما سيأتي في دعوى مهدوية أبنه محمد الملقّب زوراً بـ : ( المهدي العباسي ).
1 ـ مقاتل الطالبييين : 218.

(249)
    أولاًً ـ من كان وراء القول بمهدويته :
    1 ـ أبو جعفر المنصور :
    يُعَدُّ المنصور الدوانيقي ( الخليفة ) العباسي ( 136 ـ 158 / هـ ) الرجل الأول وراء القول بمهدوية ابنه ( محمد ) ، بعدما كان في طليعة من أشاع القول بمهدوية محمد النفس الزكيّة ، مع أنه لم يكن معتقداً بها ولا بمهدوية أبنه قط ، وإنّما رامها لأسباب سياسية بحتة كما سيوافيك.
    وقد كان المنصور ـ قبل وصول أخيه السفّاح إلى السلطة ( سنة / 132 هـ ) متملقاً للحَسنيين ، مداهناً معهم ، يحسب لمستقبله السياسي ألف حساب ؛ إذ سبق له ومن أمسك بركاب محمد النفس الزكيّة ، طالباً منه أن يذكر له هذا الموقف فيما لو أثمرت مهدويته ، وصار خليفة للمسلمين !! ولكنه سرعان ما نكث بيعته ، وغدر به بعد تولي السلطة بموت السفّاح ( سنة / 136 هـ ) ، فكفر بمهدويته ، وأطاح بحركته ، وأقدم على قتله وأخيه إبراهيم ( سنة / 145 هـ ). وبعد مرور سنتين ـ أي : في


(250)
( سنة / 147 هـ ) ـ احتال على عمّه عيسى بن موسى الذي كان السفّاح قد عهد إليه بالخلافة بعد المنصور ؛ فخلعه منها ، وعهد بها إلى ولده ( محمد ) ولقّبه المهدي ! (1).
    وترجع محأولاًًت المنصور في استغلال العقيدة المهدوية لصالحة إلى أواخر السلطة الأموية ، يوم كان ابنه ( محمد ) طفلاً صغيراً لا يتجاوز الخامسة من عمره ؛ إذ وُلِدَ ( سنة / 127 وقيل : 126 هـ ) ، أي : قبل تسلَّم العباسيين السلطة بخمس أو ست سنين . ومنذ ذلك التاريخ ظلّ حلم المهدية يراود مخيلة المنصور إلى أن تمكن من إعلانه رسمياً على الملأ ( سنة / 147 هـ ) ، قبل شهادة الإمام الصادق عليه السّلام ( سنة / 148 هـ ) بسنة واحدة
    ويدلّ على ما ذكرناه ما قاله أبو سلمة المصبحي ، قال : حدثني مولى لابي جعفر ، قال : أرسلني أبو جعفر ـ يعني المنصور ـ فقال : اجلس عند المنبر فاسمع ما يقول محمد بن عبد الله ، قال : فذهبت وجلست عند المنبر فسمعت محمد بن عبد الله بن الحسن يخاطب الناس و يقول : « إنكم لا تشكّون إنّي أنا المهدي ، وأنا هو. قال : فأخبرت أبا جعفر بذلك ، فقال : كذب عدو الله بل هو ابني » (2).
    أقول : ليت أحداً قال له في ذلك الحين : وأنت يا عدو الله ألم تكذب وتقول في محمد بن عبد الله بن الحسن نفسه : هذا مهدينا أهل البيت ؟
1 ـ راجع : تاريخ الخلفاء / السيوطي : 210.
2 ـ مقاتل الطالبيين : 212.


(251)
    ومن الواضح إنَّ هذا التراجع من المنصور لم يكن في زمان سلطته ولا في زمان أخيه السفاح ؛ إذ كان المهدي الحسني في تلك الفترة متواريا عن انظار ولاة المدينة لبني العباس ، وبقي هكذا إلى أن فاجأ المنصور بالثورة عليه سنة / 145 هـ ، وعليه فلا بدّ وأن يكون هذا التحول بُعيد مبايعته لمحمد بن عبد الله الحسني ووصفه بالمهدي ، إذ علم من الإمام الصادق عليه السّلام مصير تلك المهدوية والسلطة معاً ، فما يمنعه إذن من استخدام سلاح الحسنيين أنفسهم في الدعوة إلى ابنه ، لا سيما وأن اسمه ( محمد ) ، واسم أبيه المنصور ( عبد الله ) يمنعه ، والحديث الموضوع : ( واسم ابيه اسم أبي ) لم يزل ساري المفعول في زمانه.
    وقد مرّ عنه قوله ـ بعدما سمع من الإمام الصادق عليه السّلام ما سمع ـ بأنه ما خرج من المجلس إلاّ ودبّر أمره !! فانظر كيف نظر وفكّر فدبر ؟!
    وروى أبو الحجّاج الجمّال ما هو صريح بتراجع المنصور عن القول بمهدوية محمد النفس الزكيّة قبل قتله ، قال أبو الحجّاج : « إنّي لقائم على رأس أبي جعفر المنصور ، وهو يسألني عن مخرج محمد بن عبد الله بن الحسن ، فبلغه أن عيسى بن موسى هُزِم ، وكان أرسله إلى قتال محمد. قال : وكان المنصور متكئاً ، فجلس ، فضرب بقضيب معه مصلاه ، وقال : كلا فأين لعب صبياننا بها على المنابر ، ومشاورة النساء » (1).
    والسؤال هنا : أنه لو كان معتقدا بمهدوية الحسني ، فلماذا هذا التحوّل
1 ـ مقاتل الطالبيين 241 ، وتاريخ الطبري 7 : 598 ، والبداية والنهاية 10 : 90 في حوادث سنة / 145 هـ.

(252)
السريع ؟ ثم من أين لأبي جعفر الدوانيقي أن يعلم بكل هذا لو لم يأخذه من عين صافية ؟
    نعم ، أخذه من الإمام الباقر عليه السّلام في زمان الدولة الاموية (1) كما أخذه من الإمام الصادق عليه السّلام يوم خاطب عبد الله بن الحسن بمحضر منه ومن أخيه السفاح قائلاً : « إن هذا الأمر والله ليس إليك ولا إلى إبنيك ، وإنّما هو لهذا ـ يعني السفاح ـ ثم لهذا ـ يعني المنصور ـ ثم لِوُلْدِهِ من بعده ، لا يزال فيهم حتى يأمّروا الصبيان ، ويشاوروا النساء » (2).
    وهكذا كان للمنصور العباسي الدور الأول في خداع الأمة والتحايل على عقيدتها في الإمام المهدي الموعود عليه السّلام تارة بادّعائها للحسني ، وأخرى لولده ، هذا في الوقت الذي كان يعتقد فيه اعتقاداً راسخاً بأن المهدي الموعود غيرهما. والدليل عليه ما قاله يوسف بن فتيبة بن مسلم ، قال : « أخبرني أخي مسلم بن قتيبة ، قال : أرسل إلى أبو جعفر ـ المنصور ـ ، فدخلت عليه ، فقال : قد خرج محمد بن عبد الله وتسمّى بالمهدي ، ووالله ما هو به. واُخرى أقولها لك لم أقلها لأحد قبلك ، ولا أقولها لأحد بعدك : وابني هذا والله ما هو بالمهدي الذي جاءت به الرواية ، ولكنني تيمّنت به ، وتفاءلت به » (3).
    ويدلّ عليه أيضاً ما أخرجه الشيخ المفيد عن سيف بن عميرة ، قال :
1 ـ كما في روضة الكافي 8 : 178 / 256.
2 ـ مقاتل الطالبيين : 226.
3 ـ مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الأصبهاني : 307.


(253)
« كنت عند أبي جعفر المنصور ، فقال ابتداءً ، ياسيف بن عميرة ، لا بدّ من منادٍ ينادي من السماء باسم رجل من ولد أبي طالب.
    فقلت : جعلت فداك ! أتروي هذا ؟ قال : أي والذي نفسي بيده ، لسماع أذني له ، ثم قال : يا سيف إنه لحقّ ، وإذا كان فنحن أول من يجيبه ، أما أن النداء إلى رجل من بني عمّنا.
    فقلت : رجل من ولد فاطمة ؟
    فقال : نعم يا سيف ، لولا إني سمعته من أبي جعفر محمد بن على يحدّثني به ، وحدّثني به أهلُ الأرض كلّهم ما قبلته منهم ! ولكنه محمد بن علي » (1).
    أقول : ومع كل هذا فلم يرتدع حتى أعلن مهدوية ابنه رسمياً على الملأ ، ولم يفصح لأحد بما أفصح به من قبل لمسلم بن قتيبة كما مرّ ، وبقي معانداً للحقّ فأشاع تلك البدعة الشنعاء ، وقد وقف إلى جانبه الوضّاعون والشعراء المتملّقون كما سنرى.

    2 ـ الوضّاعون :
    كان للوضّاعين الكذّابين دور كبير في إشاعة مهدوية المهدي العباسي على الناس أمثال :
    مقاتل بن سليمان المشهور بالكذب ووضع الحديث ، ولما كان هذا الرجل الكذوب على علم بأن خروج الدجال من علامات ظهور المهدي الموعود من عقيدة الأمة بلا خلاف ، ومن هنا أراد اقناع الناس بأن
1 ـ الإرشاد / الشيخ المفيد 2 : 370 ـ 371.

(254)
ظهور الدجال سيكون في زمان محمد بن عبد الله المنصور الملقب كذباً على الله ورسوله بالمهدي ، ولهذا كان يقول : « إن لم يخرج الدجال الأكبر سنة خمسين ومائة فاعلموا أني كذّاب !! ، وكان يحدث بهذا الحديث عن الكلبي ويقول : حدثنا أبو النظر ! فلقيه الكلّبي ، وقال له : أنا أبو النظر وما حدثتك بهذا قط ! فقال مقاتل : اسكت يا أبا النظر ، فإن تزيين الحديث لنا إنما يكون بالرجال » !
    ومن جرأته في الكذب على الله ورسوله ، أنه قال للمهدي العباسي ذات يوم : « إن شئت وضعت لك أحاديث في العباس ! فقال : لا حاجة لي فيها » ويظهر مما سيأتي أن كثرة تلك الأحاديث الموضوعة في العباس وولده جعلت ابن المنصور في غنى عن أحاديث مقاتل ، في حين كان المفروض عليه أن يُلَقِّن هذا الدجال درساً بليغاً ليكون عبرة لأن اعتبر ، ولكن ( الخليفة ) و ( أمير المؤمنين ) و ( المهدي ) لم يفعل !!
    وقد سبق لمقاتل هذا ، وأن قال للمنصور : « انظر ما تحب أن أُحَدِّث فيك » ! وكل هذا وغيره مما نقله مترجموه ، واتفقوا على كذبه ودجله (1).
    إلى غير ذلك من أصناف الوضّاعين والكذّابين ، والمجاهيل والمهملين ، والضعفاء والمتروكين الذين أسهموا في إشاعة وترويج مهدوية المهدي
1 ـ تجد هذه الأقوال وغيرها في كتاب الجرح والتعديل / ابن ابي حاتم 4 : 1 / 354 ، والمجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين / ابن حبان 3 : 14 ، والضعفاء والمتروكين / الدارقطني : 376 / 527 ، والكامل في ضعفاء الرجال / ابن عدي 6 : 24 ـ 27 ، والضعفاء والمتروكين / ابن الجوزي 3 : 136 ، وميزان الاعتدال / الذهبي 4 : 173.

(255)
العباسي ، من أمثال :
    إبراهيم بن المهاجر ، وأحمد بن راشد الهلالي وإسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر ، والحسن بن أحمد اًلعطاردي ، وزيد بن عوف أبي ربيعة القطعي ، وسالم الأعشى ، ومحمد بن جابر بن سيّار الحنفي ، ومحمد بن زياد أبي بكر ، ومحمد بن مخلد ، ومحمد بن الوليد المقريء مولى بني العباس ، وإليك جملة من رواياتهم :

    الأحاديث الموضوعة في ترويج مهدوية المهدي العباسي :
    لا بأس هنا بالإشارة السريعة إلى تلك الأحاديث الموضوعة والملفقة المقلوبة في مهدوية محمد بن المنصور الذي عرف بشرب الخمور :
    منها : حديث رجل مجهول رفعه إلى كعب الأحبار وفيه : « المهدي من ولد العباس » ، رواه ابن حماد ، عن الوليد ، عن شيخ ، عن يزيد بن الوليد الخزاعي ، عن كعب (1).
    ولم يعرف أحد اسم هذا الشيخ ، والإسناد منقطع لاشتماله على أحد الرواة بلفظ مبهم ، ويسمى مجهولاً أيضاً ، زيادة على إرساله ؛ إذ لم يرفعه كعب ، هذا فضلاً عمّا في كعب الأحبار من كلام.
    ومنها : ما أسنده بعضهم إلى ابن عباس مرفوعاً : « هذا عمي أبو الخلفاء الأربعين أجود قريش كفاً وأجملها ، من وُلْدِه : السفاح ، والمنصور ، والمهدي ، بي يا عم فتح الله هذا الأمر ويختمه برجل من ولدك » .
1 ـ الفتن / ابن حمّاد : 103 ؛ وعنه الخطيب في تاريخ بغداد 1 : 85 باب من أخبار أبي جعفر المنصور.
غيبة الإمام المهدي ::: فهرس