حقيقة الإعتقاد بالإمام المهدي المنتظر ::: 31 ـ 45
(31)
ج‍ 3 ص 363 ]. واستعان عمر بعبد الله بن أبي سرح ، وكان من المقربين إليه ، [ راجع تاريخ الطبري ج‍ 5 ص 59 ، والبداية والنهاية ج‍ 8 ص 214 ]. وعبد الله ابن أبي سرح هذا هو الذي افترى على الله الكذب ، وأباح الرسول دمه حتى لو تعلق بأستار الكعبة ، ثم أتمها عمر على بني أمية ، ووضع الأساس المتين لحكمهم يوم عهد عملياً بالخلافة لعثمان.
    واستعان عمر بقوة أبي الأعور السلمي الذي شهد حنين مشركاً ، [ راجع الإصابة ج‍ 2 ص 540 ، وأسد الغابة ج‍ 6 ص 82 ]. وكان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب ، وقد أمّره عمر ، وجعله على مقدمة جيش. [ راجع الإصابة ج‍ 2 ص 541 ].
    وأمر عمر يعلى بن منبه على بعض بلاد اليمن ، وكان من الحاقدين على علي بن أبي طالب ، فقد أعان الزبير بأربعماءة ألف عندما خرج على علي ، واشبرى لعائشة أم المؤمنين جملاً يقل له ( عسكر ) ، وجهز سبعين رجلاً من قريش لقتال علي بن أبي طالب. [ راجع الاستيعاب ج‍ 3 ص 662 ـ 663 ].
    واستعان عمر ببسر بن أرطأة ، وأياس بن صبيح ، وهو من أصحاب مسيلمة الكذاب ، أسلم وولاه عمر القضاء على البصرة ، [ راجع الاصابة ج‍ 1 ص 120 ]. واستعان عمر بطليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد النبي ، وقد أعجب عمر به ورضى عنه ، وكتب إلى أمرائه أن يشاوروه. [ راجع البداية والنهاية ج‍ 7 ص 130 ]. وابن عدي الكلبي الرجل النصراني الذي تلفظ بالشهادتين ، وفوراً دعا له عمر برمح فولاه الإمارة ، قال عوف بن خارجة ، ما رأيت رجلاً لم يصلّ صلاة أمر على جماعة من المسلمين قبله ، [ راجه الإصابة ج‍ 1 ص 116 ]. واستعمل عمر أبا زبيد على صدقات قومه وكان نصرانياً ، ولأنه قوى استعمله ، ولم يستعمل نصرانياً غيره. [ راجع الاستيعاب ج‍ 4 ص 80 ]. واستعان عمر بكعب الأحبار اليهودي الذي أسلم فصار من خلص الخليفة وأصفيائه ومرجعه وموضع أسراره ، والمجيب الموثوق على كل تساؤلاته ، وتولى كعب عملية القص في المساجد وصار القص سنّة. [ راجع الإصابة ج‍ 3 ص 316 ] ، فكان كعب يقص ما يحلو له


(32)
في مسجد رسول الله ، في الوقت الذي منعت فيه دولة الخلافة كتابة ورواية أحاديث رسول الله نفسه !!
    ولما مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها العامة غاصة بأصحاب « القوة » من الفاسقين والمنافقين ، وقد استخدمهم الخليفة ليستعين بقوتهم ، كما قال ونفاقهم وفسقهم على أنفسهم.
    ولما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه ، رفع شعار صلة الرحم ، بدلاً من القوة ، فعمر كان يبحث عن الأقوياء ليستعين بقوتهم ، أما عثمان فقد كان يبحث عن الأرحام ليصلها ، ومن نافذة الأرحام وبابها الواسع دخل الأمويون كلهم ، ودخل معهم أولياؤهم إلى ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها ، فما من مصر من الأمصار ، وما من عمل من الأعمال ، إلا وواليه أموي ، أو موالٍ لبني أمية. وكان أول الداخلين من هذا الباب الحكم بن العاص ، طريد رسول الله وعدوه اللدود ، لعنه رسول الله وطرده وحرم عليه دخول المدينة ، ولما آلت الخلافة لعثمان أعاده للمدينة معززاً مكرماً ، ولما مات بنى على قبره فسطاطاً ، ومع الحكم دخل ابنه مروان. قالت عائشة أم المؤمنين لمروان : « أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه ». قل الذهبي وابن عبد البر وغيرهما : « مروان أول من شق عصا المسلمين بلا شبهه ». [ راجع الإصابة ج‍ 1 ص 69 ]. وكان مروان من أسباب قتل عثمان. [ راجع الإصابة ج‍ 6 ص 157 ]. ومع أن مروان ملعون على لسان نبيه ، إلا أنه تولى الخلافة ، ولقب بأمير امير المؤمنين وتوارث أبناؤه ملك النبوة. وقد وصف مران بن الحكم وضع دولة الخلافة بآخر أيام عثمان ، وصفاً دقيقاً فقال لجموع الثوار الذين احتشدوا حول دار عثمان : « ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه ، كل إنسان آخذ بإذن صاحبه إلا من أريد ، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ، اخرجوا عنا ، غب رأيكم ، ارجعوا إلى منازلكم ، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا ». [ راجع تاريخ الطبري ج‍ 5 ص 110 ].
    والخلاصة أن دولة الخلافة تحولت إلى ملك أموي خالص ، وأن الأمويين قد غلبوا على كل شيء وأن الأكثرية الساحقة مع بني أمية طمعاًًً بما هم غالبون


(33)
عليه وأنه لم يبق من الإسلام السياسي إلا لقب الخليفة « أمير المؤمنين » ، وأن الولايات والأعمال والوظائف العامة بالكامل مع بني أمية من جميع الوجوه ، بمعنى أن الدولة بكل مؤسساتها قد أصبحت تحت سيطرة الذين عادوا رسوا الله وحاربوه بالأمس ، وأن الفئة المؤمنة مهشمة بالكامل ، وأقلية ، وليس لها من أمر الدولة شيء. ولو تولى الخلافة بعد عثمان أي رجل في الدنيا غير علي بن أبي طالب لما استطاع أن يصمد بمثل هذه الظروف أكثر من ساعة من الزمان ، لأن الملك الأموي ، وسلطان المنافقين والفاسقين ، قد توطّد وضربت جذوره في الأرض وفي النفوس والمصالح طوال عهود الخلفاء الثلاثة ، ووفقاً للمعايير التي عممتها الدولة ، فلا فرق بين أي صحابي من السابقين في الإيمان ، ومن أهل البلاء وبين أبي سفيان ، أو الحكم بن العاص ، فهم بدون تفصيلات صحابة ، لانهم شاهدوا النبي ، وكلهم عدول والتفاضل بينهم في الآخرة ، وليس في الدنيا ، والأهم من ذلك هو اعتقاد الاكثرية ، بأن أبا سفيان والحكم بن العاص أصلح لامارة الناس من أصحاب السابقة ، ومن أهل البلاء في سبيل الله ، ممن قامت الدولة النبوية على أكتافهم وبسواعدهم ، أما أهل بيت النبوة ، فقد تم التعتيم رسمياً على كل فضائلهم ولا يجرؤ أحد على ذكرهم بخير ، وهم في أحسن الظروف صحابة مثلهم مثلٍ أبي سفيان ، ومروان بن الحكم ، ومعاوية بل إن هؤلاء وأمثالهم أعظم شاناً عند الأكثرية والأولى بالطاعة من أهل بيت النبوة لأن وسائل إعلام الدولة الرسمية نفخت الثلاثة وأمثالهم وأعطتهم أحجاماً أسطورية ليست لهم في الحق والحقيقة ، بينما تجاهلت وسائل إعلام الدولة التاريخية أهل بيت النبوة ، وعتمت على صورهم ، وسخرت الدولة كافة مواردها لإبراز أهل بيت النبوة بصورة النكرات !!! واستقرت تلك الأوهام التي خلقتها وسائل الإعلام ، وإمكانيات دولة الخلافة في قلوب الأكثرية الساحقة من أبناء الأمة لأن تلك الأوهام كانت بمثابة القناعات الرسمية التي تبنتها دولة البطون ، وعلى منوالها سارت عهود الخلافة التاريخية.
    وباختصار شديد فإن أهل بيت النبوة ، وأولياء النبي وهم علماء الإسلام وأساتذته الذين قامت دعوة الإسلام ودولة النبوة على أكتافهم ، قد أُخروا بالقوة ،


(34)
وصاروا رعايا ومحكومين ، لا تقدم مواقفهم ولا تؤخر مع إجماع أغلبية ساحقة ، أما الذين قاوموا النبي والنبوة قبل الهجرة وحاربوا النبي بعد الهجرة ، وجهلوا أحكام الدين فقد غلبوا بعد وفاة النبي ، وتسلموا بالقوة أو بالعهد والتسلل مقاليد الدولة ، فصاروا هم السادة والحكام والأساتذة وأصحاب الكلمة المسموعة ، لأن بيدهم النفوذ والجاه والمال والسلطة ، ومؤهلهم الوحيد هو القوة. تلك حقيقة لا يماري فيها إلا جاهل ، أو متجاهل أو عابد هواه.

    بيّّنا بأن رسول الله وقبل أن ينتقل إلى جوار ربه ، حذر المسلمين وبأنهم إن لم يلتزموا بما أمرهم به ، فإن الإسلام سيتفكك ، وستحل عراه عروة بعد عروة ، فكلما انقضت عروة تثبت الناس بالتي تليها ، وأن أول عرى الإسلام نقضاً الحكم ، وآخرها نقضاً الصلاة. [ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، راجع كنز العمال ج‍ 1 ص 238 ].
    وكرر النبي التحذير في مناسبات متعددة ، وأطلعهم على ما هو كائن وبالتصوير الحي البطيء ، وأحيط الجميع علماً بما حذر منه الرسول ، وقامت الحجة على الجميع. ولخص الرسول الموقف للجميع ، وأكد هذا التلخيص بكل وسائل التأكيد ، وبيّنه وبكل طرق البيان ، وحذر المسلمين بأنهم لن ينجوا ولن يهتدوا ، ولن يتجنبوا الضلالة من بعده ، إلا إذا تمسكوا بالثقلين كتاب الله ، وعترة النبي أهل بيته.
    ثم بعد ذلك مرض النبي ، وكان ما كان ، فما أن مرض النبي حتى تنكرت له الأكثرية الساحقة رغبة أو رهبة ، وقالوا له وجهاً لوجه : « أنت تهجر !! والقرآن وحده يكفينا ، ولسنا بحاجة لوصيتك » !! بل والأعظم من ذلك أن هذه الأكثرية بعد أن استولت على مقاليد الحكم منعت رواية وكتابة احاديث رسول الله منعاً باتاً ، ورفعت شعار « حسبنا كتاب الله » !! و صارت رواية أحاديث الرسول من الجرائم الكبرى التي يستحق مرتكبها القتل ، فكان حذيفة يقول : « لو كنت على شاطىء


(35)
نهر ، وقد مددت يدي لأغترف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أُقتل ». [ راجع كنز العمال ج‍ 3 ص 345 نقلاً عن ابن عساكر ] وروى البخاري في صحيحه [ كناب العلم ج‍ 1 ص 34 ] عن أبي هريرة أنه قد قال : « حفظت من رسول الله وعائين ، فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم » !! وقال : « اني لأحدث احاديثاً لو تكلمت بها في زمن عمر أو عند عمر لشجّ رأسي ». [ راجع البداية لابن كثير ج‍ 8 ص 107 ] وفي عهد عمر بن الخطاب عزم اُُبي بن كعب أن يتكلم في الذي لم يتكلم به وفاة الرسول فقال : « لأقولن قولاً لا أبالي أَستحييتموني عليه أو قتلتموني ». [ راجع ابن سعد ، الطبقات الکبرى ج‍ 3 ص 501 والحاكم باختصار ج‍ 2 ص 329 و ج‍ 3 ص 303 ]. ووعد أن يكشف الحقائق أمام الناس يوم الجمعة ، وترقب الناس ذلك اليوم الذي يكشف فيه الحقائق ما سمعه من رسول الله ، ولكن في يوم الأي يكشف فيه أبي بن كعب ما سمعه من رسول الله ، ولكن في يوم الأربعاء مات الصحابي العظيم الذي وعد بكشف الحقائق قال قيس بن عباد : رأيت الناس يموجون ، فقلت : ما الخبر ؟ فقالوا : مات سيد المسلمين أبي بن كعب ، فقلت : ستر الله على المسلمين حيث لم يقم لشيخ ذلك المقام ». [ راجع المسترشد لابن جرير الطبري ص 28 ومعالم الفتن لسعيد أيوب ج‍ 1 ص 257 ].
    والخلاصة أن منع رواية وكتابة أحاديث الرسول قد تحوّل إلى قانون أساسي ، نافذ المفعول في كل أرجاء دولة الخلافة ، ولكن لا بأس برواية الأحاديث التي تمدح القائمين على الحكم ، وتضفي طابع الشرعية والمشروعية على تصرفاتها ، فرواية مثل هذه الأحاديث مباحة حتى وإن كانت مختلفة ، ورواة هذه الأحاديث من المقربين ، حتى وإن كانوا أعداء لله ولرسوله !!
    وبمدة وجيزة ، حلت عرى الإسلام كلها عروة بعد عروة ، ولم يبق غير الصلاة ، وحُشر المؤمنون الذين كانوا يصلون على طريقة رسول الله ، وضُيق الخناق عليهم على اعتبار « أنهم شواذ » يخالفون جماعة المسلمين وإمامهم ، ويتفردون بصلاة تختلف عن صلاة الأمة !! قال حذيفة أمين سر رسول الله : « لقد ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف ». [ راجع صحيح البخاري ج‍ 1 ص 180 كتاب الجهاد والسير ]. وقال حذيفة أيضاً : « فابتلينا حتى جعل الرجل منا


(36)
لا يصلي إلا سراً ». [ راجع صحيح مسلم ج‍ 2 ص 179 ، ورواه أحمد في الفتح الرباني ج‍ 23 ص 40 ، و ج‍ 2 ص 462 من معالم الفتن ]. وروي البخاري أن الزهري قد دخل على أنس بن مالك فوجده يبكي ، فقال له ما يبكيك ؟ فقال أنس : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت. [ راجع الفتح الرباني ج‍ 1 ص 200 ]. وقال أنس بن مالك مرة أخرى : « لا أعرف شيئاً اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله !! فقلنا : فأين الصلاة ؟ فقال أولم تضعوا بالصلاة ما قد علمتم ؟ » ! [ رواه أحمد والترمذي ، وحسنه وقال في الفتح الرباني ج‍ 1 ص 199 روى عن أنس من غير وجه ].
    هذه شهادة حذيفة أمين سر رسول الله وتكتسب شهادته أهمية خاصة لانه أمين سر رسول الله بإجماع المسلمين ، ولأنه بقي على عهد رسول الله لم يُبدل ولم يتبدل ، ولم يرجع القهقرى على عقبيه ، تدعمها شهادة أنس بن مالك الذي وعى عملياً الصلاة بحكم خدمته للنبي ، وان أنس إلى جانب السلطة دائماً عايشها وتعايش معها ، ولم يثنه عن الولاء لهذه السلطة تبدلها ولا تغيرها ، وكان يسمع مسبته من رجالها بصبر بالغ.
    فإذا ثبت بأن المخلصين من الصحابة كانوا يصلون سراً ، وهم في حالة خوف ، من غضب السلطة ، أو من غضب الجماهير الموالية لها ، وإذا كان أحد الذين خدموا الرسول فترة طويلة ، وشاهد رسول الله مئات المرات وهو يصلي عملياً يشهد ويقر ويعترف بأن الصلاة قد ضيعت بالفعل ونقضت من أصولها ، ففي هذا دليل قاطع على أن آخر عروة من عرى الإسلام ، وهي الصلاة قد حلت تماماً بشهادة شهود عيان عاصروا حكومة الرسول ، وحكومة الخلفاء الثلاثة ، وحكومة بني أمية ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله قد أخبر الأمة بما هو كائن ، مثلما أخبر الأمة بأن عرى الإسلام ستنقض عروة بعد عروة ، وأن نقض نظام الحكم هو أول عرى الإسلام نقضاً ، وأن نقض الصلاة هو آخر عرى الإسلام نقضاً ، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله صادق فيما أخبر ، وأنه لم ينطق عن الهوى ـ على الأقل في هذه الأخبار ـ حتى نتجنب معارضة أولئك الذين يزعمون بأن محمداً بشر يتكلم في الغضب والرضى !! ثم إنه من المحال


(37)
عقلاً أن يخبر الرسول الأمة بهذه الأخبار الخطيره على مسؤوليته ، وباجتهاد منه ، وبدون تفويض إلهي !! ومن الناحية الواقعية فقد تحقق ما أخبر به الرسول وحذر منه ، فلا أحد من أولياء الخلفاء ، ومن شيعة الخلافة التاريخية يمكنه أن يزعم بأن الإسلام كله قد بقي على حاله. أو ينكر بأن عرى الإسلام كلها لم تنقض. لقد بيّن الرسول ما هو كائن وما سيكون إشفاقاً ورحمة بالامة ، وقياماً بواجب البيان ، ولقد حذر وأنذر إقامه للحجة على المكذبين والمكابرين ، وإرشاداً للصادقين ليبقوا دائماً على الصراط المستقيم. وكان الرسول صادقاً في بيانه ورحمته ، وتحذيره وإنذاره ، وأنه لم يخبر بتلك الأخبار المستقبلية اجتهاداً منه كما كانوا يتصورون ، أو تحليلاً شخصياً ، إنما كانت تلك الأخبار الموثوقة ثمرة وحي الهي صدقه ما وقع في المستقبل ، لأن الله ورسوله لا يقولان إلا الحق والحقيقة.


(38)
    الفصل الثالث :
مظاهر نقض عرى الإسلام ووسائله
    1 ـ استبعاد النبي !!
    أول وأخطر مظاهر نقض عرى الإسلام هو مواجهة بطون قريش وزعامتها للنبي أثناء مرضه ، والحيلولة بين النبي وبين كتابه توجيهاته النهائية وتجاهلهم لوجوده تجاهلاً تاماً ، قولهم على مسمعه : إن النبي يهجر !! استفهموه إنه يهجر ، ولا حاجة لنا بكتابه ، حسبنا كتاب الله !!! [ راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج‍ 7 ص 9 و ج‍ 4 ص 31 و ج‍ 1 ص 37 ، وصحيح مسلم آخر كتاب الوصية ج‍ 11 ص 95 ، مسند أحمد بن حنبل ج‍ 4 ص 356 ح 2992 ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ج‍ 2 ص 230 وكتابنا نظرية عداله الصحابة ص 287 وما فوق ].
    كانت هذه أول عروة وأخطر عروة تنقض من عرى الإسلام ، فقد تجاهلت زعامة بطون قريش وجود النبي ، وأعلنت وبكل صراحة ، أن القرآن يكفي ، ولا حاجة لما قاله النبي أو سيقوله !!
    وقد مهدت زعامة بطون قريش لهذا الموقف المدمر ، فبثت سلسلة من الشائعات التي تنصب كلها على ضرورة عدم الوثوق بكل ما يقوله النبي ، لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضى ، ودوره مقتصر على تلاوة القرآن وتبليغ الناس ، ما يوحى إليه من هذا القرآن فقط. وقد وثقنا ذلك في كتابنا « المواجهة » مع رسول الله وآله. وعندما تسلمت هذه الزعامة قيادة الأمة بعد وفاة النبي ترجمت أقوالها


(39)
وشائعاتها وقناعاتها إلى قوانين ملزمة للرعية بالقوة الجبرية ، فمنعت رواية وكتابة الحديث النبوي ، وأحرقت المكتوب منه ، وصار من المعروف عند العامة والخاصة أن عقوبة من يروى أحاديث النبي المتعلقة بالأمور الأساسية عقوبته قطع البلعوم على حد تعبير أبي هريرة ، أو الاستحياء والقتل ، كما عبر عنهما أبي بن كعب رضي الله عنه.
    وهكذا واعتباراً من اللحظة التي قعد فيها رسول الله على فراش المرض تم استبعاده بالكامل ، وجمدت كافة أوامره وتوجيهاته ، ولم ينفذ منها شيء ، وإن نفذت فقد جاء التنفيذ متأخراً وبالقدر الذي يخدم توجيهات زعامة بطون قريش ، وخير مثال على ذلك جيش أسامة ، أو بعث أسامة ، فالملك ملك النبوة ، وزعيم البطون رسمياً هو خليفة النبي ، والمتصرف بالملك الذي بناه النبي ، والأمة هي أمة النبي. ومع هذا فلا يجوز لأي فرد من أفراد الأمة أن يروى أو يكتب حديثاً عن النبي !!!
    لأن رواية وكتابة أحاديث النبي تسبب الخلاف والاختلاف بين الناس ، كما ذكر ذلك الخليفة الأول في أول تصريح له حسب رواية الذهبي في تذكرة الحفاظ وبنفس التصريح أمر الخليفة رعاياه قائلاً : « فمن سألكم عن شيء فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله » !!! فعلى العموم ، الرسول شخصياً مستبعد « کما في حالة مرضه » ، وأحاديثه التي تضمنت توجيهاته مستبعدة من التأثير على الحركة الكلية للمجتمع ، إلا إذا كانت هذه تخدم الملك ، وتوجهاته الجديدة والقائمين عليه ، فعندئذٍ تعمم هذه الأحاديث وتعامل بقداسة ، وتروى وتبرز كأدلة قاطعة على شرعية نظام البطون !! يمكن لمن يشاء أن يروى ما يشاء من أشعار الجاهلية ، وخرافات الأقدميين ونجاسات الشرك ، ويمكن لفئة أن تقص القصص وأساطير بني إسرائيل في مسجد الرسول نفسه ، فلا خطر من ذلك على ألفة الأمة ووحدتها وانقيادها لزعامة البطون. ولكن لا يمكن حتى لأبي بن كعب أن يروى حديثاً عن النبي يمس واقع المجتمع أو مستقبله ، لأن مثل هذا الحديث يسبب الخلاف ، والاختلاف على حد تعبير الخليفة الأول وبهذه الحالة وأمثالها فالقرآن وحده يكفي !!!


(40)
    2 ـ استبعاد آل محمد وأهل البيت والهاشميين ومن والاهم !!!
    ومن مظاهر حل عرى الإسلام ان زعامة بطون قريش التي استولت على السلطة بعد وفاة النبي ، قد استبعدت آل محمد الذين يصلي عليهم المسلمون في صلاتهم ، كما استبعدت أهل بيت النبوة الذين شهد الله لهم بالطهارة ، ثم هم أبناء النبي ، ونساؤه ، وكنفسه كما هو ثابت بآية المباهلة ، وبعد يوم واحد من دفن النبي هددت زعامة البطون علي بن أبي طالب بالقتل ، وأحضرت الحطب وشرعت بحرق بيت فاطمة بنت الرسول على من فيه وفيه ، فاطمة والحسن والحسين سبط رسول الله ، وحرمتهم من إرثهم من النبي ومن تركته وصادرت كافة الإقطاعات التي أعطاها النبي لهم حال حياته ، وجردهم من كافة ممتلكاتهم ، ولأسباب إنسانية تعهد الخليفة الجديد بتقديم المأکل والمشرب لهم لا يزيد عن ذلك !! وصورت السلطة الجديدة أهل بيت النبوة بصورة الشاقين لعصا الطاعة المفارقين للجماعة ، فأذلتهم وعزلتهم عزلاً تاماً ، فتجنبهم الناس ، ونفروا منهم مع أن آل محمد وأهل بيته قد ورثوا علم النبوة كاملاً وعُزٍل الهاشميون وهم بطن النبي وتجنبهم الناس ، واتخذوا منهم موقفاً حذراً على ضوء موقف السلطة ، وأدعت بطون قريش أنها الأقرب للنبي لأن محمداً من قريش !!!
    ويحذر بالذكر ، أن بطون قريش ال‍ 23 وقفت وقفة رجل واحد ضد النبي ، فقاومته قبل الهجرة ، وحاربته بعد الهجرة ، ولم يقف مع النبي عملياً ولم يحمه من شرور بطون قريش إلا البطن الهاشمي ، وعندما أشعلت بطون قريش حربها الآثمة ضد النبي ، كان الهاشميون أول من قاتل وأول من قتل وبقوا إلى جانب النبي حتى انتقل إلى جوار ربه ، هناك مزقت بطون قريش سجلات بني هاشم الحافلة بالأمجاد والشرف وعزلتهم وعاملتهم معاملة العبيد والسوقة.
    وأحكمت بطون قريش الحلقة عندما عاملت أولياء آل محمد وأهل بيت النبوة معاملة جائرة بجرم موالاتهم لأهل البيت ، وقولهم بأن آل محمد كما قد عرفوا من النبي أولى بسلطانه.
    وخوفاً من هذه الدعوى استبعدت بطون قريش آل محمد ، وأهل بيته ، وبني هاشم ، ومن والاهم أو قال بمقالهم أو بمقالتهم أو تتلمذ على أيديهم. ومع أن الخلفاء


(41)
التاريخيين ، وبقوة الدفع النبوي ، وبالآلية التي أوجدها النبي ، وبالجيش الذي أسسه النبي قد فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، إلا أنه لم يرو راو قط أن أحداً من الخلفاء قد أمّر أحداً من آل محمد أو من أهل بيته ، أو أحداً ممن يواليهم ، بل على العكس كان الخلفاء يختارون الأمراء والعمال والولاة من الكارهين لآل محمد والحاقدين عليهم ، أو ممن كانوا لا يرون لآل محمد أي فضل أو تميز عن الناس. ولم تكتف زعامة قريش بذلك إنما حاولت أن تضرب آل محمد ببعضهم وأن توقع بينهم كما فعلت عندما وعدت العباس ببعض الأمر لتتمكن من الانفراد بعلي بن أبي طالب ، وإبطال حجته ، وحاولت أن تفتت وحدة البطن الهاشمي ، ولكن محاولاتها فشلت في البدايه ونجحت فيما بعد !!
    ورصت زعامة البطون ، وقادت بنفسها حملة كبرى هدفها طرد وتقتيل وتشريد وإذلال آل محمد ، فهددت علياً بالقتل ، وشرعت بحرق بيت فاطمه على من فيه وفيه ابناء الرسول الحسن والحسين ، وحرمتهم من ميراث النبي وتركته وصادرت ممتلكاتهم ، ثم سمت الحسن ، ثم قتلت الحسين ، وأبادت أهل بيت النبوة ، وتجاهلت ومعها الأكثرية الساحقة من المسلمين نداءات النبي التي لم تتوقف ، ووصاياه المتلاحقة : « اتقوا الله في أهل بيتي » ، وقد عبر الإمام زين العابدين عن هذا الهول بقوله : « لو أن رسول الله قد حرض المسلمين علينا ما زادوا على ما فعلوا .. ».
    وهكذا تم استبعاد أهل بيت النبوة ، وحرمانهم ، والتنكيل بهم و إذلالهم ، ومعاقبة أوليائهم ، فقد مر على المسلمين حين من الدهر كان فيه حب آل محمد أو موالاتهم من جرائم الخيانة العظمى التي عقوبتها القتل وهدم الدار ، والحرمان من العطاء ، والتجريد من كافة الحقوق المدينة ، بحيث لا تقبل وشهادة من يحب آل محمد ، [ راجع كتاب الأحداث للمدائني برواية ابن أبي الحديد في شرح النهج ج‍ 3 ص 595 تحقيق حسن تميم ].
    فإذا عرفت أن أهل بيت النبوة هم أحد الثقلين بالنص الشرعي ، وأن الهدى لن يدرك إلا بالتمسك بهما : « كتاب الله وعترة النبي أهل بيته » تكتشف بيسر بأن كافة عرى الإسلام قد حلّت بالفعل ، وأن الذين حكموا بأسم الإسلام كانوا يصيبون


(42)
من الإسلام المقاتل ، ويجردونه من كل مضامينه ، ويهدمون كل أركانه ، ولا يبقون منه إلا الشكليات اللازمة للمحافظة على الملك !!!
    والمدهش بالفعل ، أن أهل بيت النبوة قد استغاثوا فلم يُغثهم أحد ، واستنصروا فلم ينصرهم أحد ، وشرعت السلطة بحرق بيت فاطمة على من فيه وفيه ابنا الرسول ، وحرمت السلطة أهل البيت من ميراث النبي ، ومن تركته ، وجردتهم من ممتلكاتهم. ومع هذا لم يُنكر على السلطة مُنكر ، ولم يأمرها أحد بمعروف ، ولم ينهها عن منكر ، والمدهش أيضاً أن تجنّد السلطة مائة ألف مقاتل لقتال الحسين ومن معه ، وهم لا يزيدون عن مائة رجل ومع هذا لم ينكر عليها منكر ، ولم يأمرها أحد بمعروف أو ينهها عن منكر ، وبعد أن قتل كل من كان مع الحسين وبقي وحيداً شن جيش الخلافة هجوماً شاملاً على رجل واحد !! ولهم غاية محددة وهي قتله ، والتمثيل به ، ومع هذا لم ينكر على الخليفة أو جيشه منكر ، ولم يُؤمروا بمعروف أو يُنهوا عن منكر !! وهذا ما لم يحدث حتى في مجتمع الفراعنة !!! وهكذا حدث ما أخبر به الرسول ، وحذر منه. ولاقى أهل بيته القتل والتشريد والتطريد واقترف هذه الجرائم زعماء القوم الذين سمعوا النبي وهو يخبر بما كان ، وما هو كائن ، ويحذر ، وشاهدوه وهو يبكي على ما يفعل القوم بأهل بيته من بعده ، وبعد موت النبي تذكرت زعامة القوم تحذيرات النبي ، واستذكرت دموعه الشريفة ، ولكن تلك الزعامة ارتكبت جرائمها مع سبق الترصد والإصرار ، وهي نفس الجرائم التي حذرها النبي منها.

    3 ـ غربة الإسلام والايمان
    بعد أن حُلت عرى الإسلام كلها بدءاً من الحكم وانتهاء بالصلاة ، أصبح الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد غريباً على المجتمع ، إذا لم يبق من الإسلام إلا الشكليات الضرورية لبقاء الملك ، والسيطرة على البلاد المفتوحة باسمه ، والمسلمون المؤمنون الحقيقيون الذي بنيت دولة النبي على أكتافهم صاروا فئة قليلة معزولة غريبة غربة تامة عن مجتمع دولة الخلافة ، لأن هذه الفئة تمسكت بالقرآن ووالت أهل بيت النبوة ، كما أُمرت وشكلت مع أهل بيت النبوة الشيعة المؤمنة التي تحمل إرث الأنبياء والتي عاشت معزولة طوال التاريخ البشري ،


(43)
فأفراد هذه الفئة المؤمنة هم الذين وقفوا مع النبي في لحظات شدته ، وهم الذين نهلوا علوم النبوة يوماً بيوم ، وطبقوها فصلاً فصلاً ، حتى صاروا هم أساتذة المجتمع وينابيع الدين النقية ، ولما استولت بطون قريش بالقوة والتغلب عل منصب الخلافة واكتشفت أن هذه الجماعة المؤمنة موالية لله ولرسوله ولأهل بيت النبوة ، وأن ولاءها الثلاثي هذا لن يتجزأ لأن هذا الولاء بعرفها هو الدين الحقيقي ، عندئذ أدركت دولة الخلافة خطورة هذه الفئة فنقمت عليها ، وعزلتها تماماً كما عزلت أهل بيت النبوة ، واعتبرت أفرادها غرباء متطرفين ، واعتبرت تعاليمهم خطراً على وحدة الدولة ، ووحدة الأمة ، وحذرت دولة الخلافة افراد تلك الفئة بأنهم إن لم يلتزموا بالطاعة ، وإعلان الولاء للدولة ، ستُسند لهم تهمة مفارقة الجماعة ، وشق عصا الطاعة ، وتفريق الأمة الواحدة وهي جرائم عقوبتها الموت ، وكان واضحاً لأفراد تلك الفئة المؤمنة ، بأن العامة ينتظرون إشاره دولة الخلافة لقتل كافة أفراد هذه الفئة ، وسبي ذراريهم ، ونهب أموالهم ، لأن العامة لا مطمع فعلي لها إلا المال ورضى الخليفة الغالب طمعاً بما في يديه ، وتلك حقيقة فلن يكون لأي فرد من أفراد هذه الفئة المؤمنة أهمية أعظم من علي بن أبي طالب ، أو من فاطمة بنت محمد ، أو من سادات بني هاشم ، وقد سمع الجميع ما حل بهم ، وما آلت إليه أحوالهم من الذل والهوان والعزلة !!
    لذلك من الأفضل لأفراد هذه الفئة أن يتجاهلوا تاريخهم الحافل بالأمجاد ، وعلاقتهم الحميمة الخاصة بالنبي ، وأن يتبالهوا ، فيقوموا بدور التلاميذ الذين يسمعون الأستاذه !!!
    صحيح أن الأمراء طلقاء لا يفهمون من الدين شيئاً ، وأن أفراد الفئة المؤمنة هم العلماء ، وكان ينبغي أن يكون أفراد الفئة المؤمنة هم الأمراء ، والأساتذة ، الذين يفيضون علومهم على الجميع ، لكن الخليفة الغالب قد قرر الاستعانة بقوة « الطلقاء » وإثم الطلقاء على أنفسهم كما قال عمر بن الخطاب ، فأصبح الطلقاء أمراء ومن حق الأمير أن يطاع وأن يوجه ويقود المأمورين !! وكان بيد دولة الخلافة وأركانها آلية الحكم الخاصة ، فمن يعصي الخليفة الغالب الذي يتربع عملياً على ملك الدنيا ونفوذها ، يتصرف به على الوجه الذي يريد بلا رقيب ولا حسيب ،


(44)
ويطيع علياً بن أبي طالب المؤمن الذي لا يملك شروي نقير ، ومن يعصي معاوية بن أبي سفيان وإلى الشام المتصرف بخيراتها تصرف المالك بملكه ، ويطيع عمار بن ياسر ، وأبا ذر الغفاري ، أو المقداد بن عمرو ، الفقراء المغضوب عليهم من دولة الخلافة. صحيح أن معاوية بن أبي سفيان مثلاًً طليق وابن طليق ، وأحد أبرز قادة معسكر الشرك الذي قاوم وحارب رسول الله وبكل قواه حتى أُحيط به فاضطر مكرهاً للاستسلام والاسلام ، وصحيح أيضاً أن معاوية لا يعرف شيئاً من الإسلام لأنه حديث العهد ، ولا قدرة له على تعريف أهل البلاد المفتوحة بالإسلام ، وصحيح أيضاً بأن عمار وأبا ذر والمقداد من أعمدة الإسلام ومن رواده المؤسسين وبُناته ومن علمائه ، لكن هذا تاريخ ، ومثاليات ، بعيدة عن إمكانية التطبيق فالواقع المفروض والوحيد الذي يجب أن يُطاع ، والمعلم الديني ، وان عمار والمقداد وأبا ذر وأمثالهم مأمورين ومتعلمين ، ويجب أن يرهفوا أسماعهم لمعاوية العالم الديني ، وأن يتعودوا على طاعة معاوية الأمير !! وإن لم يفعلوا ذلك فهم عصاة أو مشاغبون يهددون الأمن ووحدة الامة !! والقانون الاسلامي يطبق على الجميع لا فرق بين عربي وعجمي ، ولا سابق بالايمان ولا طليق ، تلك هي الآلية القانونية التي أوجدتها دولة الخلافة !!!
    وقد يخطر ببال عمار مثلاً ، وكما حدث بالفعل حسب رواية ابن الأثير في تاريخه أن يقدم احتجاجاً خطياً إلى الخليفة الرمز يشكو له من أمور لا يمكن تبريرها ، حتى وفق آلية الدولة ، عندئذٍ يأمر الخليفة بعض أعونه الطلقاء فيضربوا عمار بن ياسر ، حتى يكسروا أضلاعه ، ويرموه أخوار أسوار قصر الخليفة ، لأنه تجرأ على ذكر مثل تلك الأمور ، وتجرأ على الشكوى ، وقد حدث هذا بالفعل كما روي ابن الأثير وغيره ، وقد يخطر ببال أبي ذر أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، ويحذر من مظاهر البذخ وسوء العاقبة ، فيفسر عمل أبي ذر هذا بأنه « إفساد في الأرض » وإفساد للناس ، فقد كتب معاوية إلى الخليفة ، بأن أبا ذر في طريقه لإفساد الشام وأهلها ، عندئذ يأمر الخليفة بنفيه ، وينفي من مكان إلى مكان بالفعل خوفاً على أمة محمد من أن يفسدها صاحبه أبو ذر ، ويعيش الرجل مطارداً


(45)
منفياً ، ويموت منفياً وحيداً !!! وقد تتولى دولة الخلافة قتل من لا تقوى على تدجينهم من المؤمنين السابقين ، وتسند تهمة القتل إلى الجن ، كما فعلت مع سعد بن عبادة سيد الخزرج ، فالرسالة الرسمية المصححة والمطلوب من المسلمين المؤمنين الصادقين أن يتناسوا بالكامل كل تاريخهم وعلومهم وعلاقتهم بالنبي ، وأن يغضّوا أبصارهم تماماً عما يجري ، وان يشهدوا بصمت عملية نقض عرى الإسلام كلها ، وأن يراقبوا عملية التغيير « الإسلامية الكبرى » فأن فعلوا ذلك نجوا ، ولن يتعرض لهم أحد ، ويمكن لكل واحد منهم أن يأخذ عطاءه السهري ، ولن يغضب الخليفة منه ، وليس من المستبعد أن يرضى الخليفة وأعوانه عليه !!!
    هذه الآلية العجيبة عزلت الفئة المؤمنة عملياً ، وحيّدتها تحييداً تاماً عن التأثير على حركة الأحداث التي أدت لنقض عرى الإسلام كلها ، وبالتالي فقد أصبح الإسلام والايمان وكافة مضامينهما الحقيقية مفاهيم غريبة تماماً ، لا تنتمي لحركة الأحداث ، ولا تؤثر على الأحداث ، وهي عرضة للتبديل والتحوير والتغيير ، لأن هذه المضامين وفي أحسن الظروف مجرد اجتهادات ، لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تقيد الخليفة ، فرسول الله مثلاً كان يوزع العطاء بين الناس بالسوية ، لا يفرق بين عربي وعجمي وأسود وأبيض ، لأن حاجات الناس الأساسية متشابهة ومضى الخليفة الأول على هذه السنّة ، ولما جاء الخليفة الثاني اكتشف بأنه ليس من العدل أن يأخذ العربي كالعجمي ، وأن يأخذ القرشي كغيره من العرب ، لذلك اجتهد فأوجد موازين خاصة ومراتب للناس ، وألغى فكرة التسوية بالعطاء ، وأعطى الناس حسب مراتبهم عنده حتى أنه لم يساو بالعطاء بين زوجات الرسول ، فلعائشة أم المؤمنين ، ولحفصة ابنته وأم المؤمنين درجة أعظم من أم سلمة مثلاً ، فكانت عائشة مثلاً تأخذ اثني عشر ألفاً ، وكان المئات من الناس لا يحصلون على معشار هذا المبلغ ، ونتيجة هذا الاجتهاد نشات الطبقية فوجدت فئة يملك كل واحد من أفرادها الملايين ، بل المليارات ، ووجدت الملايين من الناس التي لا تدرك رغيف العيش إلا بشق الأنفس !! واكتشف الخليفة بعد بضع سنين خطورة الآثار المدمرة لاجتهاده ، فصرح بأنه إن عاش العام المقبل سيرجع إلى سُنّة صاحبه ويوزع المال بالسوية ، كما كان يفعل الرسول وأبوبكر !!!. ولا يخفى على عاقل
حقيقة الإعتقاد بالإمام المهدي المنتظر ::: فهرس