حقيقة الإعتقاد بالإمام المهدي المنتظر ::: 151 ـ 165
(151)
    الفصل الثالث :
الخلط وتمييع النصوص
ومحاولات صرف هذا الشرف عن أهل البيت
    عندما خص الله نبيه محمداً الهاشمي بالنبوة والرسالة جنّ جنون بطون قريش فحسدت الهاشميين شرف النبوة ، فوحدت صفوفها تحت راية الشرك وعقدت العزم على صرف شرف النبوة عن بني هاشم. فتصدت للنبي وقاومته بشراسة طوال مدة ال‍ 15 سنة التي قضاها في مكة قبل الهجرة ، وتأمرت على قتله مرات متعددة ، وحاصرته وبني هاشم وقاطعتهم ، وبعد الهجرة جيشت الجيوش واستْعدَتْ العرب ، وشنت حروبها العدوانية على النبي طوال ثماني سنوات ، ولما أحيط بها ، واستنفذت سهامها وتكسرت سيوفها ورماحها في حربها للنبي ، استسلمت واضطرت مكرهة لإعلان إسلامها وللاعتراف بالنبوة الهاشمية.
    وعندما اختار الله تعالى أهل بيت النبوة ثقلاً آخر ، وقيادة ، مرجعية للأمة من بعد النبي ، وصدع النبي بما أوحى إليه ، وأعلن الاختيار الإلهي ، جن جنون بطون قريش لانها كرهت أن يجمع الهاشميون المُلك والنبوة ، على حد تعبير الخليفة عمر بن الخطاب ، فصممت أن تصرف شرف المُلك عن الهاشميين فوحدت صفوفها ، ولكن تحت خيمة الإسلام هذه المرة وانتظرت موت النبي بفارغ الصبر لتصرف شرف الملك عن آل محمد ولتستولي بالكثرة والقوة والتغلب على الملك الذي تمخضت عنه النبوة ، وعندما قعد النبي على فراش المرض ، أحست البطون بأنه ميت ، عندئذٍ أظهرت نواياها ، وشرعت بتنفيذ مخططها الرامي إلى


(152)
الاستيلاء على ملك النبوة بالكثرة والتغلب ، ونقض الترتيبات الإلهية وصرف شرف الملك عن أهل البيت ، فقالت البطون للنبي مواجهة : أنت تهجر ، ولا حاجة لنا بكتابك ، ولا بوصيتك لأن القرآن يغنينا عنك !! وقد وثقنا ذلك. ومات النبي وهو كسير الخاطر ، واستولت البطون على المُلك. ومن ذلك التاريخ وشبح الجريمة يلاحقها ، وصار أهل بيت النبوة هاجساً وصارت الخلافة ملكاً لمن غلب ، وسخر الغالب إمكانيات دولة الخلافة ومواردها وإعلامها لقلب الحقائق ، وإثبات أنه صاحب الحق الشرعي بالخلافة وآل محمد وأهل بيته ينازعونه حقه ، ويسعون لتفريق الأمة وشق عصا الطاعة بطلبهم ما ليس لهم !!!!!
    كان لا بد من استحضار هذه المقدمة لفهم العقلية الحاكمة التي وضعت المناهج التربوية والتعليمية ، والتي منعت رواية وكتابة أحاديث الرسول قرابة مائة عام ، وبعد المائة عام أذنت برواية وكتابة الأحاديث النبوية ، في مناخ الدولة المعادي لأهل بيت النبوة ، وتحت إشراف أو مراقبة أركان دولة الخلافة الذين تدخلوا واشتركوا بهذا العداء.

    لما اكتشف علماء الحديث الأعلام من أهل السنة هذا الكم الهائل من الأحاديث النبوية التي تتحدث عن حتمية ظهور المهدي المنتظر ، وأن هذا المهدي من أهل بيت النبوة ، ومن صلب علي بن أبي طالب ، ومن ولد فاطمة بنت النبي ، فوجئت دولة الخلافة ، وفوجىء أركانها تماماً ، وقدروا أن المهدي المنتظر الذي تتحدث الأحاديث النبوية عن دعم إلهي ، مطلق له سيكشف ذات يوم كل شيء ، وسيضع النقاط على الحروف ، وسيطلع العالم على هول الظلم الذي لحق بالإسلام ، وأهل بيت النبوة ، وسيقلب التاريخ كله رأساً على عقب.
    لذلك وبواسطة أوليائهم وضعوا خطة ذات أربع شعب لمواجهة سيل الأحاديث الصحيحة والمتواترة المتعلقة بالمهدي المنتظر ، بعد أن قطعوا وتيقنوا بأنه من أهل بيت النبوة ومن أحفاد النبي الذين شردوهم وطاردوهم وقتلوهم تقتيلاً ، عبر التاريخ وكان قصدهم من هذه الخطة :


(153)
    1 ـ أن يخلطوا الحق بالباطل وتلك صناعة أتقنوها ومهروا بها.
    2 ـ أن يحصنوا الرعية من تأثير هذه الأحاديث أو أن يتحكموا بتأثيرها على الرعية.
    3 ـ محاولة يائسة لصرف هذا الشرف الشامخ عن أهل بيت النبوة.

    الادعاء بأنه لا مهدي إلا عيسى ابن مريم
    بنفس الوسائل التي تستخرج فيها الأحاديث استخرجوا حديثاً يحصر « المهدي بعيسى ابن مريم » ، وقد أخرج هذا الحديث ابن ماجة في سننه ج‍ 2 ص 1340 ح 4039 ، وابن ماجة نفسه كان قد أخرج حديث : « المهدي حق وهو من ولد فاطمة » ج‍ 2 ص 1368 ح 4086 ، والحديث الأخير صحيح ومتواتر. وحديث لا مهدي إلا عيسى هو الحديث الوحيد الذي ينفي أن يكون المهدي من أهل البيت أو من غيرهم ، ويحصره حصراً بعيسى ابن مريم ، وقد عالجنا وأثبتنا فساد هذا الحديث وبطلانه في الباب الثاني من هذا الكتاب.

    الادعاء بأن المهدي رجل من الأمة
    وقد أخرجوا حديثاً جاء فيه : « يخرج رجل من أمتي يعمل بسنتي ، ينزل الله له البركة من السماء ، وتخرج له الأرض بركتها ، يملأ الأرض عدلاً ، كما ملئت جوراً » ... [ راجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج‍ 1 ص 134 ـ 136 ، وهذا الحديث أيضاً هو الوحيد الذي يجعل المهدي رجلاً من الأمة ] !!!

    الادعاء بأن المهدي المنتظر من ولد الإمام الحسن
    وليس من ولد الحسين كما يجمع أهل البيت !!

    روى أبو داود في سننه ج‍ 4 ص 108 ح 4290 قول علي بن أبي طالب : « إن ابني هذا سيد كما سماه النبي ، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم


(154)
يُشبهه في الخُلق ولا يشبهه في الخَلْق يملأ الأرض عدلاً » ...
    والمدهش أيضاً بأن هذا هو الحديث الوحيد الذي يجعل المهدي من ولد الإمام الحسن !!! وجاء في كتاب : « المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي » إصدار مركز الرسالة ص 62 ، وما فوق أن هذا الحديث باطل من سبعة وجوه :
    1 ـ اختلاف النقل عن أبي داود فقد نقل الجزري الشافعي في كتابه : أَسمى المناقب في تهذيب أسنى المطالب ص 165 ـ 168 كلمة « الحسين » بدلاً من كلمة الحسن.
    2 ـ إن سند الحديث منقطع حيث أن السبيعي لم تثبت له رواية واحدة سماعاً عن طريق على ، كما صرح بذلك المنذري « مختصر سنن أبي داود للمنذري ج‍ 6 ص 162 ح 4121.
    3 ـ إن سنده مجهول : « حيث قال : « حُدثت عن هارون بن المغيرة ، ولا يعلم من الذي حدثه ».
    4 ـ أن الحديث المذكور أخرجه أبو صالح السليلي عن الإمام موسى بن جعفر وفيه اسم الحسين بدلاً من الحسن.
    5 ـ إنه معارض بأحاديث كثيرة من طرق أهل السنة تصرح بأن المهدي من ولد الحسين.
    6 ـ احتمال التصحيف في الاسم من الحسين إلى الحسن.
    7 ـ يحتمل وضع الحديث لأن بعض أنصار محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط الذي قتل 145 في زمن المنصور العباسي كانوا يظنون بأنه المهدي.
    8 ـ وعلى فرض أنه حديث فإنه مجرد خبر لا قيمة له أمام الصحيح والمتواتر.

    4 ـ المهدي ليس من أهل بيت النبوة ولا من ذرية النبي
    إنما هو من ولد العباس !!

    بدليل : 1 ـ الأحاديث المتعلقة بالرايات السود المقبلة من خراسان ، والتي ذكرت بأن فيها خليفة الله المهدي. [ راجع مسند أحمد ج‍ 5 ص 277 ، وسنن


(155)
ابن ماجة ج‍ 2 ص 1236 ح 4082 ، وما رواه الترمذي في ج‍ 4 ص 53 ح 2269 ، وهي أحاديث مجملة وقد ضعفها ابن القيم في المنار المنيف ص 137 ـ 138 ].
    2 ـ وجود أحاديث تخبر بأن المهدي : « من ولد العباس عمي ». [ أورده السيوطي في الجامع الصغير ج‍ 2 ص 672 ، وقال حديث ضعيف ، وقال المناوي الشافعي في فيض القدير ، رواه الدار قطني في الأفراد ، وقال ابن الجوزي فيه محمد بن الوليد المقري ، قال ابن عدي : يضع الحديث ويصله ، ويسرق ويقلب الأسانيد والمتون ، وقال ابن أبي معسر هو كذاب ، وقال السمهودي ، ما بعده وما قبله أصح منه ، وأما هذا ففيه محمد بن الوليد وضاع ، راجع فيض القدير شرح الجامع الصغير ج‍ 6 ص 278 ح 9242. وضعفه السيوطي في الحاوي ج‍ 2 ص 85 وابن حجر في صواعقه ص 166 ، والصبان في إسعاف الراغبين ص 151 ، وأبو الفيض في إبراز الوهم المكنون ص 563 ].
    ومثله حديث ابن عمر الذي رواه ابن الوردي في فريدة العجائب ص 199 وهو مرسل عن مرسل عن ابن عمر وموقوف عليه فلا حجة فيه ، فضلاً عن أنه لم يصرح باسمه المهدي.
    ومثله حديث أم الفضل سنة 135 لك لولدك منهم السفاح ومنهم المنصور ، ومنهم المهدي ، وهذا الحديث وارد في تاريخ بغداد ج‍ 1 ص 63 ، وتاريخ دمشق ج‍ 4 ص 178 لابن عساكر. قال الذهبي في ميزان الاعتدال ج‍ 1 ص 97 : أن أحمد بن راشد هو الذي اختلقة بجهل ، راجع المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي ص 52 ـ 55.
    وما يثير الدهشة أن المهدي العباسي المتوفى سنة 169 ـ كانت دولته دولة للنساء. قال الطبري في تاريخه ج‍ 3 ص 466 أن الخيزران زوجة الخليفة المهدي تدخلت في شؤون الدولة في زمنه وأنها استولت على زمام الأمور في عهد ابنه الهادي. ثم إن المهدي العباسي نفسه لم يدع بأنه المهدي المنتظر الذي عناه الرسول ، ولم تتحقق في زمنه أي علامة من العلامات المرادفة لظهور المهدي ، ولا ساد العالم ولا انتشر الرخاء في عهده ، إنما كانت هنالك طبقة مترفة تشرف


(156)
على الموت من التخمة ، وأكثرية ساحقة معدمة تكاد أن تموت من الجوع ، وهذا يتعارض بالكمال مع مضامين الأحاديث النبوية التي وصفت المهدي وصفاً دقيقاً ، وتحدثت عن ظهوره ، ووصفت عهده الراشد وحال الدين والمسلمين فيه.


(157)
    الفصل الرابع :
الجذور التاريخية لهذا المخطط
    الخلط والتمييع ومحاولة صرف هذا الشرف عن أهل بيت النبوة
    بعد موت النبي مباشرة وعندما اشتد الجدل والصراع على الخلافة بين قيادة بطون قريش ومن والاها من جهة ، وبين علي بن أبي طالب الإمام الشرعي وابنة النبي الزهراء وسبطي النبي الحسن والحسين ومن والاهم من جهة أخرى ، عرضت قيادة البطون على العباس بن عبد المطلب عم النبي أن تجعل له ولعقبه شيئاً من هذا الأمر : « أي الخلافة » مقابل أن يتخلى عن دعمه لأهل بيت النبوة وأن يقف مع البطون ، وقدرت قيادة البطون أن انحياز العباس لجانبها يشكل ضربة فنية ومعنوية قاصمة لأهل بيت النبوة وادعائهم بالحق بقيادة الأمة !! لأنها تكون بهذه الحالة قد ضربت عم النبي بابن عم النبي الآخر وبابنة النبي وسبطيه فتتصدع وحدة البطن الهاشمي وتتهدم كافة حجج أهل البيت ، ويشب الصراع بين آل محمد وآل أبي طالب من جهة ، وبين آل العباس من جهة أخرى ، وتتحول قيادة البطون إلى قاضٍ وخصم معاً ، تتفرج على هذا الصراع ، واكتشف العباس مضامين وأهداف قيادة بطون قريش من هذا العرض ، فرفضه رفضاً قاطعاً وبإباء ، ورد عليهم بحزم ورجولة ، وقد حاول الخليفة الثاني ، والثالث ومعاوية أن يجتذبوا إلى جانبهم عبد الله بن العباس خاصة ، والعباسيين عامة ، لذات الغرض لينافس عبد الله الحسن والحسين بعد أن أخفقوا بأن يجعلوا العباس ينافس الإمام على ، ويبدو أن


(158)
تلك المحاولات قد نجحت إلى حد ما. صحيح أن العباسيين لم يقفوا ضد علي وضد الحسن والحسين ، ولكنهم لم يقفوا معهم أيضاً ، لقد قرر العباسيون أن يعملوا لصالحهم الخاص ، وقدروا أن عملهم لصالحهم الخاص لن يؤتي أكله ولن يثمر ، ما دام سبطا النبي الحسن والحسين أحياء !! لأنه ليس بإمكان أي عباسي أن يدانيهما بالشرف والقربى والمكانة. لقد قرر عبد الله بن العباس أن يعتزل وأن يتخلى عن الإمام علي ، والإمام أحوج ما يكون إليه ، لقد كانت فعلة عبد الله جرحاً نازفاً في قلب الإمام ، تحمل آلامه العميقة في صمت وبلا إعلام. ومع الإمام الحسن قد عهد لعبيد الله بن العباس بقيادة أول جيش يشكله ومع أن معاوية هو القاتل عملياً لطفلي عبيد الله ، إلا أن عبيد الله لم يجد حرجاً ولا فضاضة عندما استمال ثلثي الجيش الذي سلمه الإمام الحسن قيادة وانضم إلى معاوية عدو آبائه وأجداده وأحد قادة قدامى المحاربين ضد الله ورسوله !! فكانت فعلة عبيد الله الضربة المعنوية القاتلة التي أصابت من الحسن ومعسكره مقتلاً يصعب علاجه !! فإذا كان عبيد الله ابن عم النبي ينضم لمعسكر معاوية طمعاً بما عنده من دنيا ، فما الذي يجبر أَعرابياً لا دين له على البقاء في طاعة الإمام الحسن !! إنها من ضربات قيادة البطون ومن ثمرة ثقافاتها ، لأن قيادة البطون وثقافتها المعادية لآل محمد تعرف بالتجربة المقاتل تماماً !!
    إنه ليس من المستبعد أن يتولى أعداء أهل بيت النبوة الذين أشربوا الثقافة المعادية لأهل بيت النبوة وضع عدة أحاديث تبين أن المهدي المنتظر الذي بشر به الرسول من ذرية العباس عم النبي ، وليس من أهل البيت كما يزعمون !! والعقد نفسه يتمثل باستعداء العباسيين على أهل البيت وعزل أهل بيت النبوة عن الأمة ، ومحاولة صرف هذا الشرف عنهم ، خاصة وأن كافة الأحاديث النبوية قد رويت وكتبت في عهد بني العباس ، وأن رواة هذه الأحاديث الذين جمعوا يخضعون للحكم العباسي ، وما هي مصلحة بني العباس بنفي هذا الشرف عنهم ، إن مجرد الزعم بأن المهدي من بني العباس يشكل دعماً لنظامهم ، وتثبيتاً لأركان ملكهم !! ثم ما هو الفرق بينهم وبين آل أبي طالب !! أليس العباس عم النبي كأبي طالب !!!


(159)
    وليس من المستبعد أيضاً بأن النبي عندما أخبر الأمة بما كان وما هو كائن ، أن يكون قد قال للعباس بأن ذرية العباس ستستولي على الخلافة بالقوة يوماً ما ، وأن من جملة ملوكهم أو خلفائهم رجال يلقبون أحدهم بالسفاح والآخر بالمنصور ، والثالث بالمهدي. مصطلح المهدي مجرد لقب لُقّب به وعرف به ، وهذا اللقب لا يجعل منه المهدي الذي بشر به الرسول فإذا سميت ابنك أو أحد الملوك بالمهدي فهل يصبح بموجب هذه التسمية المهدي الذي بشر به رسول الله ؟!
    ومن المؤكد أن العباسيين كانت لهم دولة ، وكانت لهذه الدولة أجهزتها السرية المكلفة بدعم النظام والمحافظة عليه بالأساليب الخفية ، كما تفعل الدول اليوم ، ومن الجائز أن تكون الدولة قد استغلت إخبار الرسول للعباس ، بما هو كائن فطورت هذا الحديث واختلقت توابعه !! مع أن كافة الأحاديث المتعلقة بمهدي العباسيين ساقطة بكل الموازين التي أوجدها علماء الحديث ، ومعارضة لأحاديث المهدي المنتظر الصحيحة والمتواترة عندهم.
    وليس من المستبعد أن تكون أحاديث مهدي العباسيين ، ومهدي الأمة المجهول ، أو نفي فكرة المهدي عن الجميع وقصرها على عيسى ابن مريم من اختلاق الأمويين وأوليائهم لنفس الغايات والأهداف التي أشرنا إليها وتفصيل ذلك :
    أن الخلفاء الثلاثة الأُول كانوا قد منعوا كتابه ورواية الأحاديث النبوية ، وأحرقوا المكتوب منها ، ورفعوا شعار « حسبنا كتاب الله » ، ولم يأذنوا برواية إلا ما يتفق مع توجهاتهم وسياساتهم.
    وعدما آلت الخلافة إلى علي بن أبي طالب بدأ نشر الحديث بأسلوب المناشدة والاستشهاد بقدامى المحاربين من الصحابة ، وأوشكت الأمور أن تتضح ، وكاد الحبل أن يفلت من بناة دولة الخلافة وأوليائهم ، ولكن في بداية الطريق برز معاوية بن أبي سفيان وإلي الشام ، وأحد مؤسسي نظام الخلافة ، وأبرز أركان دولة الخلفاء الثلاثة الأُول ، وعندما غلب معاوية أمة محمد واستولى بالقوة على منصب الخلافة ، قاد بنفسه حملة کبرى لرواية وكتابة أحاديث الرسول


(160)
المتعلقة « بلافضائل فقط » فأصدر سلسلة من المراسيم الملكية إلى كافة ولاته وأمرائه وعماله أمرهم فيها :
    1 ـ بأن يرووا فضائل الخلفاء الثلاثة الأُول وأن يركزّوا تركيزاً خاصاً على فضائل الخليفة الثالث ، وبعد ذلك يروون فضائل الصحابة.
    2 ـ أن لا يتركوا فضيلة لعلي بن أبي طالب أو أحد من أهل البيت إلا ويضعوا فضيلة لأحد من الصحابة تنقضها وتشابهها. [ راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج‍ 3 ص 595. وما فوق نقلاً عن المدائني في كتابة الأحداث : « تحقيق حسن تميم » ] وأمر معاوية الولاة والعمال والأمراء بأن يقربوا الرواة ويجزلوا لهم العطايا والإقطاعات. وفجأة انشقت الأرض عن آلاف الرواة الذين رووا عشرات الألوف من أحاديث الفضائل التي لا أصل لها ، والتي اختلقت لإرغام أنوف بني هاشم كما يقول ابن نفطويه ، ولما تحقق لمعاوية ما أراد ، وقدّر أن فضائل أهل بيت النبوة قد ضاعت ، أو فقدت قيمتها ، وأن مكانتهم الدينية قد تلاشت تماماً أمر معاوية بتدريس هذه المرويات في المدارس والجامعات والمعاهد ، وفرض على العامة والخاصة تعلمها وحفظها ، ودامت الحال حتى أواخر عهد الأمويين وبعد سقوط الدولة الأموية ، ورفع الحظر والمنع عن رواية وكتابة أحاديث الرسول في بداية العهد العباسي نقل علماء الحديث كافة الروايات التي تمخضت عنها حملة معاوية ، والتي احتضنتها الدولة الأموية وعممتها ، وهي روايات متقنة من حيث الشكل لأنها قد وضعت تحت إشراف دولة ومن الممكن جداً بل ونكاد أن نقطع ، بأن « لا مهدي إلا عيسى ، والمهدي من ولد العباس ، والمهدي رجل من الأمة » ، كانت من هندسة معاوية وولاته وروُاته لأنها تتفق مع المراسيم الملكية التي أصدرها في بداية عهده ، وتخدم ذات الغاية : « لا تتركوا فضيلة لأبي تراب أو لأحد من أهل بيته إلا وتـأتوني بمناقض لها من الصحابة وكون المهدي من صلب على فضيلة بموازين معاوية ، وحتى تنقض هذه الفضيلة لا بد من نفي فكرة المهدي ، وإلصاقها بشخص آخر ، وليكن عيسى ابن مريم ولما أدرك رجال معاوية أن النفي غير ممكن جعلوا المهدي نكرة من أفراد الأمة ، ولما أدركوا عدم معقولية الفكرة ، جعلوا المهدي من ولد العباس.


(161)
و جاء علماء الحديث فنقلوا مرويات معاوية وطاقمه ، كما هي ودوّنوها في صحاحهم ومسانيدهم ومؤلفاتهم باعتبارها جزءاً من وثائق الدولة الإسلامية ، ولأن رعايا الدولة كلها قد أطلعوا عليها ، وتعلموها. هذه هي الجذور التاريخية لأحاديث « لا مهدي إلا عيسى ، والمهدي رجل من الأمة ، والمهدي رجل من ولد العباس » ، وهي محض اختلاق ، وأثر من اثار حملة الرواية التي قادتها دولة معاوية وطواقمها.
    وهذه الأحاديث « لا مهدي إلا عيسى والمهدي مجرد رجل من الأمة ، والمهدي من ولد العباس » تتعارض مع الأحاديث الصحيحة والمتواترة ومع إجماع الأمة ومع إجماع أهل بيت النبوة وأوليائهم وهي ساقطة بكل موازين علم الحديث. والأهم أن وقائع التاريخ تناقضها وتكذبها تماماً ».


(162)
    الفصل الخامس :
المهدي المنتظر يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما
ملئت جوراً وظلماً
    من السمات البارزة ، والبنى الأساسية التي تستند عليها نظرية المهدي المنتظر في الإسلام هي التأكيدات النبوية القاطعة ، بأن المهدي الذي بشر النبي بظهوره ذات يوم سوف يملأ الأرض بالقسط والعدل تماماً ، كما ملئت قبل ظهوره بالجور والظلم.
    فأهل بيت النبوة مجمعون على أنهم قد سمعوا تلك التأكيدات القاطعة من رسول الله ، وأنهم قد تناقلوها جيلاً بعد جيل ، وورثوها من النبي مع نفائس علمي النبوة والكتاب ، وسماعهم لهذه التأكيدات واستيعابهم لها من الأمور اليقينية التي لا يشكون إطلاقاً بصحتها ، وهي متواترة عندهم ويرسلها الكبير والصغير منهم إرسال المسلمات ، وتبعاً لإجماع أهل بيت النبوة المشهود لهم إليهاً ، بالطهر والتميز والملازمة الدائمة لرسول الله أثناء حياته ، وبوراثتهم لعلمي النبوة والكتاب أجمعت شيعتهم على أن هذه التأكيدات قد صدرت من الرسول بالفعل ، فهي مع بقية البنى الأساسية من نظرية المهدي المنتظر تشكل جزءاً أساسياً من معتقدهم الإسلامي ، وسمة مميزة من مذهبهم الديني.
    أما الخلفاء التاريخيون وشيعتهم « أهل السنة » فقد توصلوا إلى ذات النتائج المتعلقة بهذه التأكيدات ، فصحت عندهم كافة الأحاديث النبوية التي تؤكد بأن


(163)
المهدي المنتظر سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلماً ، تواترت هذه التأكيدات ، وأرسلها علماء أهل السنة الأعلام إرسال المسلمات أيضاً ، وجزموا بأن التأكيدات قد صدرت عن رسول الله بالفعل.
    مما يعني أن الأمة بشقّيها : « أهل بيت النبوة ومن والاهم والخلفاء التاريخيون ومن والاهم » ، مجمعون على أن رسول الله قد بيّن للمسلمين وأكد لهم بأن المهدي المنتظر سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما مُلئت جوراً وظلماً ، وهم جيمعاً قد جزموا بان هذه الأحاديث قد صدرت من رسول الله بالفعل ، وهم على يقين بأن هذه المهمة : « ملء الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً » من المبررات والأسباب الأساسية ، لظهور المهدي المنتظر ، ويعتقد الجميع بذلك ، ويؤمنون به ، وقد شكل هذا الاعتقاد جزءاً من عقيدة المسلمين الدينية.
    فبعد موت النبي بقليل حُلت عرى الإسلام كلها ، عروة بعد عروة ، ورفع الحكم الإلهي من الأرض ، وصار الملك الذي تمخضت عنه النبوة. بحوزة من غلب ، وحيل بين المرجع الديني المعتمد من الله ورسوله ، وبين ممارسة مهام مرجعيته ، وبموت النبي وانتهاء عهده العظيم ، وبتحييد المرجع الديني ، فَقَد العالم النموذج الأمثل ، وحلّ الرأي محل النص ، وشاع الاجتهاد مع وجود النص ، وإن جرت محاولات لتطبيق النصوص الشرعية ، فإنها قد فشلت ، لأن تطبيق النصوص الشرعية يحتاج إلى أهلية وإعداد خاص لا يتوفر إلا بالنبي ، أو الإمام المؤهل إلهياً من بعده ، وهذا مبدأ مسلّم به حتى في القوانين الوضعية ، فالجهة المؤهلة لإصدار حكم قطعي مبرم حائز على الحقيقة القانونية هي محكمة التمييز ، أو محكمة النقض ، وأعضاؤها يشكلون أو من المفترض أن يشكلوا ويكونوا قمة الفهم والوعي القانوني ، بحيث لا يعلوا فهمهم فهم ، ولا وعيهم وعي ، فإذا كانت القوانين التي يضعها البشر قد وصلت إلى هذا المستوى من التقنية القانونية ، فلا تتعجب من قولنا بأن النص الشرعي يحتاج تطبيقه إلى نبي ، أو إمام مؤهل ومُعد إلهياً فضلاً عن ذلك فإن الإسلام كشريعة لا يؤتي أكله كاملاً إلا إذا طبق كاملاً ، وبقيت عراه ـ خاصة نظام الحكم ـ كلها متماسكة ، ولم تُحل.


(164)
    والخلاصة أنه وبعد موت النبي ، وحل عُرى الإسلام ، والاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة والتغلب ، وحلول الآراء محل النصوص والعمل بالأجتهادات ، مع وجود النصوص الشرعية ، رُفع الحكم الإسلامي عملياً من واقع الحياة ، ولم يبق من الإسلام إلا الهيكل أو الشكل الخارجي اللازم للمحافظة على المُلك وتوسيعه باسم الإسلام.
    بمعني أن حكماً وضعياً له طبيعة دينية قد دخل الساحة الدولية المكتظة بالأحاكم والمنظومات الوضعية ، والمستندة إلى الآراء الشخصية القابلة للصواب والخطأ ، وأن الساحة الدولية قد خلت تماماً من أي منظومة حقوقية إلهية ، ومن أي ترشيد إلهي عملي لحركة العالم السياسية ، مما يعني أن المُناخ الملائم لنشوء الظلم ونموه وترعرعه قد نشأ ، وأخذ ساعد الظلم يشتد بهذا المُناخ يوماً بعد يوم ، حتى ألقي الظلم أجرانه على الأرض فعلاً ، فالناس يقدسون اليوم عقيدة وضعية ، وتتبناها دوله ، وتقدمها على أساس أنها أكسير الحياة ، وبعد تطبيقها وبوقت يطول أو يقصر يكتشف الناس فساد هذه العقيدة ، وتعترف الدولة بهذا الفساد وتأتي عقائد أخرى ، ثم تموت ، ولا تثمر إلا الظلم والمعاناة ، حتى صار الظلم من أبرز الموجودات على وجه الأرض.
    بعد أن يجرب العالم كل شيء ، ويلجأ لكل رأي ، ويختبر كل عقيدة وضعية ، ثم يكتشف أن ما جرب وما لجأ إليه ، وما اختبر ، لم يثمر إلا الظلم وعندما يحسّ كل واحد من أفراد الجنس البشري بوطأة الظلم وهوله ، وعندما تمتلىء الكرة الأرضية ، ويكتوي الجميع بنار الظلم ، هنالك فقط يعرفون قيمة القسط والعدل ، عندئذٍ يظهر الإمام المهدي المنتظر ومعه عقيدة الإسلام من أنقى المصادر ، فيقوم بتطبيقها ، فتثمر الحكم الإلهي ويثمر الحكم الإلهي العدل والقسط ، وعندما يذوق أبناء الجنس البشري طعم العدل الحقيقي يعشقونه ، ويعشقون الذي جاء به ويكرهون الظلم الذي كوى قلوبهم ، وبفترة وجيزة ، تُقتلع جذور الظلم من الكرة الأرضية ، ويحل محلها العدل المطلق ، والقسط المطلق الذي يتولى المهدي المنتظر وبالإشراف الإلهي نشرهما ، حتى يلقيا أجرانهما في الأرض. وهذا هو الجانب الحقوقي من عصر المهدي المنتظر الذهبي.


(165)
    1 ـ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « لا تقوم الساعة حتى تمتلىء الأرض ظلماً وعدواناً ، ثم يخرج رجل من عترتي أو أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً ». [ راجع معجم أحاديث المهدي ج‍ 1 ص 104 ، ومسند أحمد ج‍ 3 ص 36 ، وابن حبان ج‍ 8 ص 290 ـ 291 ، والحاكم ج‍ 4 ص 557 ] ...
    2 ـ « لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي ... يملاء الأرض عدلاً كما ملئت قبله ظلماً ... ». [ راجع مسند أحمد بن حنبل ج‍ 3 ص 17 ، وأبو يعلى ج‍ 1 ص 367 ح 1128 ، وابن حبان ج‍ 8 ص 291 ، ومجمع الزوائد ج‍ 7 ص 314 ، والحاوي للسيوطي ج‍ 2 ص 63 ، ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج‍ 1 ص 108 ـ 110 ].
    3 ـ « تملأ الأرض ظلماً وجوراً ، ثم يخرج رجل من عترتي ... فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ». [ الحاكم ج‍ 4 ص 558 ، وعقد الدرر ص 16 ، نقلاً عن البيهقي ، ومسند أحمد ج‍ 3 ص 28 ... ومعجم أحاديث المهدي » ج‍ 1 ص 110 ـ 111 ].
    4 ـ « يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي ... يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ». [ تذكرة الخوص ص 363 ، منهاج السنة لابن تيمية ج‍ 4 ص 261 ].
    5 ـ « لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً ». [ ابن أبي شيبة ج‍ 15 ص 198 ، وأبو داود ج‍ 4 ص 107 ، والبزار ج‍ 1 ص 104 ... ومعجم أحاديث الأمام المهدي ج‍ 1 ص 119 ـ 122 ].
    6 ـ ومثله قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « المهدي مني .. يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ». [ ابن حماد ص 100 ، عبد الرزاق ج‍ 11 ص 372 ، والترمذي على ما في مطالب السؤول ، والمنار المنيف ، والنسائي على ما في عقد الدرر ، والطبراني على ما في بيان الشافعي ، والحاكم ج‍ 1 ص 57 ... وراجع معجم أحاديث الإمام المهدي ج‍ 1 ص 126 128 ].
حقيقة الإعتقاد بالإمام المهدي المنتظر ::: فهرس