حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: 121 ـ 135
(121)
مجذوذ ) (2) وقال عزوجل : ( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ) (3) فهو عزوجل يعلم ذلك لا يقطع عنهم الزيادة .. أرأيت ما أكل أهل الجنة ، وما شربوا يخلف مكانه ؟ ....
    بلي ...
    أفيكون يقطع ذلك عنهم ، وقد أخلف مكانه ؟ ....
    لا ...
    ومضى الإمام ( عليه السلام ) يقرر ما ذهب إليه قائلا : فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم ...
    وراح سليمان يتمسك بالشبه والأوهام ثم يزيله عنها هذه الحجج البالغة التي أقامها الامام قائلا : بلى يقطعه عنهم ، ولا يزيدهم ....
    وانبرى الامام فأبطل ذلك بقوله : إذا يبيد فيها ، وهذا يا سليمان ابطال الخلود ، وخلاف الكتاب ، لان الله عزوجل يقول : ( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) (4).
    ويقول عزوجل : ( عطاء غير مجذوذ ) ويقول عزوجل : ( وما هم عنها بمخرجين (5).
    ويقول عزوجل : ( خالدين فيها أبدا ) (6).
    ويقول عزوجل : ( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ).
    ووجم سليمان ، وحار في الجواب ، وراح يسد عليه كل نافذة يسلك فيها لاثبات شبهة قائلا له : يا سليمان الا تخبرني عن الإرادة أفعل هي أم غير فعل ... ؟.
    بل هي فعل ...
    ورد الامام عليه : فهي محدثة لان الفعل كله محدث .... إن كل ممكن معلول ومصنوع وحادث أما واجب الوجود تعالى فهو عار عن
2 ـ سورة هود / آية 108
3 ـ سورة الواقعة / آية 33.
4 ـ سورة ق / آية 35.
5 ـ سورة الحجر / آية 48.
6 ـ سورة البينة / آية 8.


(122)
صفات الممكن ، ومستحيلة عليه ....
    ولم يستطع سليمان أن يقول شيئا ، وراح يناقض نفسه فقال : ليست ـ أي الإرادة ـ بفعل ...
    وقد اعترف سليمان سابقا بأنها فعل ، والتفت إليه الامام فقال :
    فمعه ـ أي مع الله ـ غيره لم يزل ؟ ....
    وراوغ سليمان ، ولم يجب الامام عن سؤاله ، وقال : الإرادة هي الانشاء ....
    فأجابه الامام : هذا الذي عبتموه على ضرار (1) وأصحابه من قولهم : إن كل ما خلق الله عزوجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب ، أو خنزير ، أو قرد ، أو انسان ، أو دابة ، إرادة الله ، وان إرادة الله تحيى ، وتموت ، وتذهب ، وتأكل وتشرب ، وتنكح ، وتلذ ، وتظلم ، وتفعل الفواحش ، وتكفر ، وتشرك ، فيبر أ منها ، ويعاد بها وهذا حدها.
    عرض الإمام ( عليه السلام ) إلى الآراء الفاسد ة التي التزم بها ضرار والتي عابها على سليمان وأصحابه فان هذه اللوازم الفاسدة كلها ترد على سليمان إلا أنه لم يع مقالة الامام.
    وراح يقول : إنها ـ أي الإرادة ـ كالسمع والبصر والعلم ....
    لقد كرر سليمان ما قاله سابقا من أن الإرادة كالسمع والبصر وقد أبطل الامام ذلك ، فقال ( عليه السلام ) له : أخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع ؟ ....
    لا .... وانبرى الامام يدله على تناقض كلامه قائلا : فكيف نفيتموه ؟ قلتم لم يرد ، ومرة قلتم : أراد ، وليست ـ أي الإرادة ـ بمفعول له ...
    وراح سليمان يتخبط عشواء فقال : انما ذلك كقولنا : مرة علم ، ومرة لم يعلم ....
    فأجابه الامام ببالغ الحجة قائلا :
1 ـ ضرار من شيوخ المعتزلة في علم الكلام ، وهو من الأباضية.

(123)
ليس ذلك سواء لان نفي المعلوم ليس كنفي العلم ، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون ، لان الشئ إذا لم يرد لم تكن إرادة ، فقد يكون العلم ثابتا ، وان لم يكن المعلوم بمنزلة البصر ، فقد يكون العلم ثابتا ، وان لم يكن المعلوم بمنزلة البصر ، فقد يكون الانسان بصيرا ، وإن يكن المبصر وقد يكون العلم ثابتا ، وان لم يكن المعلوم ...
    وأجاب سليمان : إنها ـ أي الإرادة ـ مصنوعة ...
    وأبطل الامام قول سليمان ، قائلا : فهي محدثة ، ليست كالسمع والبصر لان السمع والبصر ليسا بمصنوعين ، وهذه مصنوعة ....
    فقال سليمان : إنها صفة من صفاته لم تزل ....
    ورد عليه الامام قائلا : فينبغي أن يكون الانسان لم يزل لان صفته لم تزل ...
    وأخذ سليمان يراوغ في كلامه قائلا : لا ، لأنه لم يفعلها ...
    فأنكر الامام عليه ذلك وقال : يا خراساني ما أكثر غلطك ، أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء ؟ ...
    وأصر سليمان على خطئه قائلا : لا ....
    فأجابه الامام : إذا لم تكن بإرادته ، ولا مشيئته ، ولا أمره ، ولا بالمباشرة فكيف يكون ذلك ؟ تعالى الله عن ذلك ....
    وحار سليمان ، فلم يستطع أن يقول شيئا ، وراح الامام يفند شبه سليمان ، وما تمسك به من أوهام قائلا له : ألا تخبرني عن قول الله عزوجل : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) (1). يعني بذلك أنه يحدث إرادة ؟ ....
1 ـ سورة الإسراء / آية 16.

(124)
وسارع سليمان قائلا : نعم ....
    فأجابه الامام : فإذا أحدث إرادة ، كان قولك : إن الإرادة هي هو أو شئ منه باطلا ، لأنه لا يكون أن يحدث نفسه ، ولا يتغير عن حالة تعالى الله عن ذلك ....
    وانبرى سليمان قائلا : إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة ...
    فما عنى به ؟ ... عني فعل الشئ ...
    فزجره الامام قائلا : ويلك كم تردد هذه المسألة ، وقد أخبرتك ان الإرادة محدثة ، لان فعل الشئ محدث ....
    فليس لها معنى ....
    قد وصف نفسه عندكم ، حتى وصفها بالإرادة بما له معنى فإذا لم يكن لها معنى قديم ، ولا حديث بطل قولكم ، ان الله عزوجل لم يزل مريدا ....
    وراح سليمان يتمسك بالشبه قائلا : إنما عنيت أنها ـ أي الإرادة ـ فعل من الله تعالى لم يزل ...
    ورد عليه الامام قائلا : ألم تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولا وقديما وحديثا في حالة واحدة.
    وحار سليمان في الجواب ، فقد أبطل الامام جميع شبهه ، وأوضح له ان كل ممكن حادث وليس أزليا ، وإرادة الله تعالى ليست على غرار صفات الممكن.
    وراح الامام يقيم عليه الحجة قائلا : لا بأس أتمم مسألتك ....
    ان الإرادة صفة من صفاته ....
    وأنكر الامام عليه تكراره لهذه المسألة قائلا : كم تردد علي أنها صفة من صفاته ، فصفته محدثة أو لم تزل ؟ ....
    محدثة ....
    الله أكبر فالإرادة محدثة ، ان كانت صفة من صفاته لم تزل فلم يرد شيئا ...


(125)
ان ما لم يزل لا يكون مفعولا ...
    وراح سليمان يغالط نفسه قائلا : ليس الأشياء إرادة ، ولم يرد شيئا ....
    ورد الامام عليه قائلا : وسوست يا سليمان ، فقد فعل ، وخلق ما لم يزل خلقه ، وفعله وهذه صفة من لا يدري ما فعل ؟ تعالى عن ذلك ....
    وغالط سليمان فقال : يا سيدي فقد أخبرتك انها كالسمع والبصر والعلم ...
    وصاح به المأمون قائلا : ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والتردد ؟ اقطع هذا ، وخذ في غيره ، إذ لست تقوى على غير هذا الرد ...
    والتفت الامام إلى المأمون ، قائلا : دعه يا أمير المؤمنين ، لا تقطع عليه مسألته ، فيجعلها حجة ....
    ونطر الامام إلى سليمان قائلا : تكلم يا سليمان ..
    ومضى سليمان قائلا : قد أخبرتك أنها ـ أي الإرادة ـ كالسمع والبصر والعلم ...
    فرد عليه الامام : لا بأس اخبرني عن معنى هذه ؟ أمعنى واحد أم معان مختلفة ؟ ....
    معنى واحد ....
    فمعنى الإرادات كلها معنى واحد ؟ .. نعم ..
    ورد عليه الامام ببالغ الحجة قائلا : فإذا كان معناها واحدا كانت إرادة القيام وإرادة القعود وإرادة الحياة وإرادة الموت ، إذا كانت ارادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضا ، ولم يخالف بعضها بعضا ، وكانت شيئا واحدا ....
    وأجاب سليمان قائلا : إن معناها مختلف ....


(126)
    وأشكل الامام عليه قائلا : اخبرني عن المريد أهو الإرادة أم غيرها ؟ ...
    بل هو الإرادة ...
    فأجابه الامام : المريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة ...
    يا سيدي ليس الإرادة المريد ...
    وأشكل الامام عليه قائلا : فالإرادة محدثة ، وإلا فمعه غيره ...
    إنها اسم من أسمائه ..
    هل سمى نفسه بذلك ؟ ...
    لا ، لم يسم نفسه بذلك ؟ ...
    فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه ...
    وراوغ سليمان ، فقال : قد وصف نفسه بأنه مريد ...
    وقال الامام : ليس صفته نفسه ، انه مريد اخبار عن أنه إرادة ولا اخبار عن أن الإرادة اسم من أسمائه ....
    لان ارادته علمه ...
    واجابه الامام : إذا علم الشئ فقد اراده ....
    أجل ....
    إذا لم يرده لم يعلمه.
    أجل ...
    وانبرى الامام يوضح فساد ما ذهب إليه سليمان قائلا : من أين قلت ذلك ؟ وما الدليل على أن ارادته عمله ؟ وقد يعلم ما لا يريده أبدا ، وذلك قوله عزوجل : ( لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) (1) فهو يعلم كيف يذهب به ، وهو لا يذهب به ابدا ...
1 ـ سورة الإسراء / اية 86.

(127)
وقال سليمان : لأنه قد فرغ من الامر فليس يزيد فيه شيئا ...
    ورد الامام عليه قائلا : هذا قول اليهود : فكيف قال تعالى : ( ادعوني استجب لكم ) (1).
    وأنكر سليمان ذلك وقال : انما عنى بذلك ، انه قادر عليه ....
    واجابه الامام : أفيعد ما لا يفي به ؟ فكيف قال : ( يزيد في الخلق ما يشاء ) (2).
    وقال عزوجل : ( يمحو الله ما يشاء وعنده أم الكتاب ) (3).
    وقد فرغ من الامر ... و ( ؟ ) سليمان.
    فقد سد الامام عليه كل نافذة ، فأين ما اتجه فالامام يواجهه ببالغ الحجة ، وقوة البرهان في ابطال ما يذهب إليه ..
    ومضى الإمام ( عليه السلام ) في ابطال شبه سليمان قائلا :
    يا سليمان هل يعلم أن انسانا يكون ، ولا يريد أن يخلق انسانا أبدا ، وان انسانا يموت اليوم ، ولا يريد أن يموت اليوم ...
    وسارع سليمان قائلا : يعلم أنهما يكونان جميعا ...
    وأجابه الامام بما يترتب على قوله من التناقض قائلا : إذا يعلم أن انسانا حي ميت ، قائم ، قاعد ، أعمى ، بصير ، في حالة واحدة ، وهذا هو المحال ....
    وراح سليمان يكثر من التناقض في كلامه الذي ألزمه به الامام قائلا :
1 ـ سورة المؤمن / آية 60.
2 ـ سورة فاطر / آية 1.
3 ـ سورة الرعد / آية 39.


(128)
جعلت فداك ، فإنه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر ....
    فقال الامام : لا بأس ، فأيهما يكون الذي أراد أن يكون ، أو الذي لم يرد أن يكون ؟ ....
    وراح سليمان يتخبط خبط عشواء ، لم يدر ما يقول ، وما يترتب على كلامه من التهافت فقال : أراد الذي أن يكون ....
    وغرق القوم في الضحك ، وضحك الإمام الرضا ، والمأمون.
    فقال الامام : غلطت ، وتركت قولك : إنه يعلم أن أنسانا يموت اليوم ، وهو لا يريد أن يموت اليوم ، وانه يخلق خلقا ، وانه لا يريد أن يخلقهم ، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون ، فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون ؟ ....
    وراح سليمان يوجه ما قاله : فإنما قولي : إن الإرادة ليست هو ولا غيره ....
    وانبرى الامام يدله على تناقض قوله : إذا قلت : ليست هو فقد جعلتها غيره ، وإذا قلت : ليست هي غيره ، فقد جعلتها هو ...
    وقال سليمان : كيف فهو يعلم ـ أي الله ـ كيف يصنع الشئ ؟ .... نعم ... فان ذلك اثبات للشئ ...
    فأجابه الامام بمنطق الحكمة والعلم قائلا : أحلت ـ أي تكلمت بالمحال ـ لان الرجل قد يحسن البناء وان لم يبن ، ويحسن الخياطة ، وإن لم يخط ، ويحسن صنعة الشئ ، وان لم يصنعه ابدا. يا سليمان هل تعلم أنه واحد لا شئ معه ؟ ....
    نعم ....
    فيكون ذلك اثباتا للشئ ....
    وأنكر سليمان ما قاله سابقا. ليس يعلم أنه واحد لا شئ معه ....
    فأجابه الامام :


(129)
أفتعلم أنت ذاك ؟ ...
    نعم ....
    فأنت يا سليمان إذا أعلم منه ؟ ...
    وراح سليمان يقول : المسألة محال ....
    فرد الامام عليه قائلا : محال عندك ، إنه واحد ، لا شئ معه وانه سميع بصير ، حكيم قادر ...
    نعم ...
    وأجابه الامام بمنطق العلم والحكمة قائلا : كيف أخبر عزوجل انه واحد ، حي سميع ، بصير ، حكيم ، قادر عليم ، خبير ، وهو لا يعلم ذلك ، وتكذيبه .. تعالى الله عن ذلك.
    وأضاف الامام قائلا : كيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ، ولا ما هو ؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشئ قبل أن يصنعه فإنما هو متحير ... تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ...
    وراح سليمان يتخبط فقال : إن الإرادة القدرة ...
    فرد الامام عليه بقوله : وهو عزوجل يقدر على ما لا يريده أبدا ، ولا بد من ذلك ، لأنه قال تبارك وتعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد ان يذهب به لقدرته ....
    وبان العجز على سليمان ، ووقف حائرا أمام هذا البحر المتلاطم من العلم والفضل ، فانقطع عن الكلام.
    والتفت إليه المأمون مشيدا بمواهب الامام وعبقرياته قائلا : يا سليمان هذا أعلم هاشمي ....
    واحتوت هذه المناظرة على بحوث فلسفية بالغة الأهمية دلت على مدى ما يحمله الإمام الرضا ( عليه السلام ) من طاقات علمية هائلة أثبتت صدق وواقعية ما تذهب إليه الشيعة الإمامية من أن الامام لا بد ان يكون أعلم أهل عصره ، وبذلك فقد


(130)
باءت بالفشل محاولة المأمون الذي أراد تعجيز الامام ولو بمسألة واحدة ليتخذ منها وسيلة للطعن في معتقدات الشيعة بالامام.
    وقد علق الشيخ الصدوق نضر الله مثواه على هذه المناظرة بقوله : كان المأمون يجلب على الرضا من متكلمي الفرق والأهواء المضلة كل من سمع به حرصا على انقطاعه عن الحجة مع واحد منهم ، وذلك حسدا منه له.
    ولمنزلته من العلم ، فكان لا يكلمه أحد إلا أقر له بالفضل وألزم الحجة له عليه ، لان الله تعالى ذكره يأبى إلا أن يعلي كلمته ، ويتم نوره ، وينضر حجته ، وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه فقال : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) (1) يعني بالذين آمنوا الأئمة الهداة ، واتباعهم العارفين بهم.
    والآخذين عنهم بنصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا ، وكذلك يفعل بهم في الآخرة وان الله عزوجل لا يخلف الميعاد (2).
    
    مناظرة أبي قرة للامام : وتصدى الإمام الرضا ( عليه السلام ) لتزييف الشبه وإبطالها ، التي أثيرت حول العقيدة الاسلامية ، وقد قصد أبو قرة خراسان ؟؟ لامتحان الإمام ( عليه السلام ) ، وطلب من صفوان بن يحيى وهو من خواص الامام أن يستأذن منه للدخول عليه ، فأذن الامام له ، فلما تشرف بالمثول أمامه سأله عن أشياء من الحلال والحرام ، والفرائض والاحكام فأجابه عنها ، ثم سأله عن بعض قضايا التوحيد وهي :
    س 1 ـ أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى ؟ ....
    ج 1 ـ الله أعلم بأي كلمه بالسريانية أم بالعبرانية ....
    وأخرج أبو قرة لسانه ، وقال : إنما أسألك عن هذا اللسان ومعنى ذلك أنه هل كلمه بلسان كلسان الانسان ؟
    فرد الامام عليه ذلك بقوله : سبحان الله عما تقول : ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ، ولكنه تبارك وتعالى ليس كمثله شئ ، ولا كمثله قائل ولا فاعل ....
    وانبرى أبو قرة قائلا : كيف ذلك ؟ .....
1 ـ سورة المؤمن / آية 51.
2 ـ عيون أخبار الرضا 1 / 182 ـ 191.


(131)
    فقال ( عليه السلام ) : كلام الخالق لمخلوق ، ليس ككلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بشق فم ولسان ، ولكن يقول : ( كن ) فكان بمشيئته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردد في نفس ؟ ....
    ان كلام الله تعالى ليس بواسطة الجارحة كما في كلام الانسان ، فإنه تعالى يستحيل عليه ذلك ، إذ ليس كمثله شئ ، ولا قائل.
    س 2 ـ ما تقول في الكتب ؟ ....
    ج 2 ـ التوراة والإنجيل والزبور ، والفرقان ، وكل كتاب انزل كان كلام الله ، أنزله للعالمين نورا وهدى ، وهي كلها محدثة ، وهي غير الله حيث يقول : ( ويحدث لهم ذكرا ) (1) وقال : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم إلا استمعوه وهم يلعبون ) (2) والله أحدث الكتب كلها التي أنزلها ...
    س 3 ـ هل تفنى ؟ ـ أي الكتب ـ.
    ج 3 ـ أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فان ، وما سوى الله فعل الله ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان فعل الله ، ألم تسمع الناس يقولون : رب القرآن وان القرآن يقول يوم القيامة : يا رب هذا فلان ـ وهي أعرف به منه ـ قد أظمأت نهاره وأسهرت ليله ، فشفعني فيه وكذلك التوراة والإنجيل والزبور وهي كلها محدثة ، مربوبة.
    أحدثها من ليس كمثله شئ ، هدى لقوم يعقلون ، فمن زعم أنهن لم يزلن معه ، فقد أظهر : أن الله ليس بأول قديم ، ولا واحد ، وان الكلام لم يزل معه ، وليس له بدو ، وليس بإله ....
    س 4 ـ إنا روينا : إن الكتب كلها تجئ يوم القيامة ، والناس في صعيد واحد ، قيام لرب العالمين ، ينظرون حتى ترجع فيه ، لأنها منه ، وهي جزء منه ، فإليه تصير ..
    ج 4 ـ هكذا قالت النصارى في المسيح انه روحه ، جزء منه ، ويرجع فيه ، وكذلك قالت المجوس : في النار والشمس أنهما جزء منه ترجع فيه. تعالى ربنا أن يكون متجزيا أو مختلفا ، وإنما يختلف ، ويأتلف المتجزي لان كل متجزي متوهم
1 ـ سورة طه / آية 113.
2 ـ سورة البقرة / آية 21.


(132)
والكثرة والقلة مخلوقة دالة على خالق خلقها ...
    س 5 ـ إنا روينا : إن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ، فقسم لموسى الكلام ولمحمد ( صلى الله عليه وآله ) الرؤية ؟ ....
    ج 5 ـ فمن المبلغ عن الله الثقلين : الجن والإنس ، إنه لا تدركه الابصار ، ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شئ ، أليس محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ....
    بلى ...
    وأوضح الإمام ( عليه السلام ) له الامر ، وكشف ما التبس عليه قائلا : كيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم : أنه جاء من عند الله ، وانه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول : إنه لا تدركه الابصار ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شئ ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علما ، وهو على صورة البشر ، أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ؟ أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر .....
    س 6 ـ إنه يقول : ( ولقد رآه نزلة أخرى .. ) (1).
    ج 6 ـ ان بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) يقول : ما كذب فؤاد محمد ( صلى الله عليه وآله ) ما رأت عيناه ، فقال : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) فآيات الله غير الله وقال : ( ولا يحيطون به علما ) (2) فإذا رأته الابصار فقد أحاط به العلم ، ووقعت المعرفة ....
    س 7 ـ فنكذب بالرواية ؟ ...
    ج 7 ـ إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه ـ أي الله تعالى ـ لا يحاط به علما ، ولا تدركه الابصار ، وليس كمثله شئ ....
    لقد وضع الإمام ( عليه السلام ) لصفة الخبر وزيفه مقياسا وهو أن الخبر ان اتفق مع القرآن الكريم فهو صحيح ، وإلا فهو باطل.
    س 8 ـ ما معنى قوله تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ... ) (3) ؟
1 ـ سورة النجم / آية 13 وما بعدها.
2 ـ سورة طه / آية 11.
3 ـ سورة الإسراء / آية 1.


(133)
    ج 8 ـ لقد أخبر الله تعالى أنه أسرى به ، ثم أخبر ـ أي الله ـ أنه لم أسري به ـ أي أخبر الله عن العلة في هذا الاسراء ـ فقال : ( لنريه من آياتنا ) (1) فآيات الله غير الله ، فقد اعذر ، وبين لم فعل به ذلك ، وما رآه ، وقال : ( فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون ) (2).
    س 8 ـ أين الله ؟ ....
    ج 8 ـ الأين مكان ، وهذه مسألة شاهد عن غائب ، فالله تعالى ليس بغائب ، ولا يقدمه قادم ، وهو بكل مكان ، موجود مدبر ، صانع ، حافظ ، ممسك السماوات والأرض ...
    س 9 ـ أليس هو فوق السماء دون ما سواها ؟ ...
    ج 9 ـ هو الله في السماوات ، وفي الأرض ، وهو الذي في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وهو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء وهو معكم أينما كنتم ، وهو الذي استوى إلى السماء وهي دخان ، وهو الذي استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، وهو الذي استوى على العرش ، قد كان ولا خلق ، وهو كما كان إذ لا خلق ، لم ينتقل مع المنتقلين .....
    س 10 ـ فما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء ؟ ...
    ج 10 ـ ان الله استعبد خلقه بضروب من العبادة ولله مفازع يفزعون إليه ، ومستعبد فاستعبد عباده بالقول والعلم ، والعمل والتوجه ، ونحو ذلك استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكعبة ، ووجه إليها الحج والعمرة واستعبد خلقه عند الدعاء ، والطلب ، والتضرع ببسط الأيدي ، ورفعها إلى السماء حال الاستكانة ، وعلامة العبودية والتذلل له ...
    س 11 ـ من أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض ؟ ....
    ج 11 ـ ان كنت تقول بالشبر والذراع ، فان الأشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض ، يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله ، ويدبر أوله من حيث يدبر آخره من غير عناء ، ولا كلفة ولا مؤنة ، ولا مشاورة ، ولا نصب وان كنت تقول : من أقرب إليه في الوسيلة ، فأطوعهم له وأنتم ترون أن أقرب ما
1 ـ سورة الإسراء / آية 1.
2 ـ سورة الجاثية / آية 5.


(134)
يكون العبد إلى الله ، وهو ساجد ، ورويتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق وأحدهم من أسفل الخلق.
    وأحدهم من شرق الخلق ، وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال : من عند الله أرسلني بكذا وكذا ، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل ...
    س 12 ـ أتقر أن الله محمول ؟ ...
    ج 12 ـ كل محمول مفعول ، ومضاف إلى غيره محتاج فالمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل ، وهو في اللفظ ممدوح ، وكذلك قول القائل : فوق ، وتحت ، وأعلى ، وأسفل ، وقد قال الله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.
    ولم يقل في شئ من كتبه انه محمول بل هو الحامل في البر والبحر ، والممسك للسماوات والأرض ، والمحمول ما سوى الله ، ولم نسمع أحدا آمن بالله وعظمه قط ، قال في دعائه : يا محمول ....
    س 13 ـ أفنكذب بالرواية ؟ ان الله إذا غضب يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش ، يجدون ثقله في كواهلهم فيخرون سجدا ، فإذا ذهب الغضب ، خف فرجعوا إلى مواقفهم ...
    ج 13 ـ اخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا ، والى يوم القيامة ، فهو غضبان على إبليس ، وأوليائه أو عنهم راض ؟ ...
    وأيد أبو قرة كلام الامام قائلا : نعم هو غضبان عليه ...
    وانبرى الامام قائلا : ويحك كيف تجترئ ان تصف ربك بالتغير من حال إلى حال ، وانه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟ سبحانه لم يزل مع الزائلين ، ولم يتغير مع المتغيرين ...
    واستولى الذهول على أبي قرة ، وحار في الجواب وانهزم من المجلس ، وهو مندحر قد أترعت نفسه بالغيظ ، والحقد على الامام.
    مناظرته مع الجاثليق :
    ومن بين الاجراءات التي اتخذها المأمون لامتحان الامام لعله يظفر بتعجيزه أنه
1 ـ الاحتجاج 2 / 185 ـ 189.

(135)
أوعز إلى وزيره الفضل بن سهل أن يجمع له الاعلام المتكلمين من أصحاب المقالات والأديان ، مثل الجاثليق (1). ورأس الجالوت (2) ، والهربذ الأكبر (3) وأصحاب زردهشت (4) ونسطاس الرومي (5) وسائر المتكلمين فجمعهم الفضل في بلاط المأمون ، ثم أدخلهم عليه فقابلهم بمزيد من الحفاوة والتكريم ، وعرض عليهم ما يرومه قائلا :
    إنما جمعتكم لخير ، وأحببت أن تناظروا ابن عمي المدني ، القادم علي ، فإذا كان بكرة فاغدوا علي ، ولا يتخلف منكم أحد ....
    فأجابوه بالسمع والطاعة ، والامتثال لامره.
    وأمر المأمون ياسر الخادم أن يدعو الامام لمناظرة علماء الأديان في اليوم الثامن ، فخف ياسر إلى الامام وأبلغه مقالة المأمون فأجابه إلى ذلك
    والتفت الامام إلى الحسن بن محمد النوفلي فقال له : يا نوفلي أنت عراقي ، ورقة العراقي غير غليظة ، فما عندك في جمع ابن عمي علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات ...
    وعرف النوفلي غاية المأمون ، فقال للامام :
    جعلت فداك يريد الامتحان ، ويحب أن يعرف ما عندك ، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان ، وبئس والله ما بنى ...
    وسارع الامام قائلا : وما بناؤه في هذا الباب ؟ ....
    وعرض النوفلي على الامام ما يحذره ويخافه عليه منهم قائلا :
    ان أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلمون ، وأهل الشرك أصحاب انكار ومباهتة ، إن احتججت عليهم بأن الله واحد ، قالوا : صحيح وحدانيته ، وإن قلت : إن محمدا ( صلى الله عليه وآله ) رسول ، قالوا : ثبت رسالته ، ثم يباهتون الرجل ـ وهو مبطل عليهم بحجته ـ ويغالطونه حتى يترك قوله ، فاحذرهم جعلت فداك ....
1 ـ الجاثليق : رئيس الأساقفة.
2 ـ الجالوت : هو أحد علماء اليهود.
3 ـ الهربذ : هو من علماء الهنود.
4 ـ في نسخة : زرادشت وهو من تلاميذ بعض الأنبياء ، وقيل : إنه مرسل من قبل بعض الأنبياء إلى بني إسرائيل.
5 ـ النسطاس : عالم بالطب.
حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: فهرس