حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: 136 ـ 150
(136)
لقد أعرب النوفلي عن مخاوفه من هؤلاء الذين يحاججهم الامام لأنهم لا يبغون الوصول إلى الواقع ، والتعرف على الحق ، وهم دوما يعتمدون على المغالطات للوصول إلى أهدافهم الرخيصة.
    وأزال الامام ما في نفس النوفلي من المخاوف قائلا أتخاف أن يقطعوا علي حجتي ؟ ... :
    انهم أمام بحر من العلم ، وطاقات هائلة من الفضل ، فكيف يقطعون على الامام حجته ، وسارع النوفلي فقال : لا والله ما خفت عليك قط ، وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم ، إن شاء الله ...
    وانبرى الامام قائلا : يا نوفلي ، أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ ...
    نعم ...
    إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أهل المقالات بلغاتهم ، فإذا قطعت كل صنف ، ودحضت حجته ، وترك مقالته ، ورجع إلى قولي ، علم المأمون أن الذي هو بسبيله ليس بمستحق له ، فعند ذلك تكون الندامة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ....
    لقد كشف الامام عليه بهذه الكلمات عما يملكه من ثروات علمية لا تحد ، وانه باستطاعته أن يناظر جميع أهل الأديان والمذاهب ، ويفند أوهامهم ، ويوضح لهم الحق ، وإذا استبان ذلك للمأمون فإنه يندم على هذه الاجراءات ، ويظهر له أنه على غير صواب.
    ولما انقضى النهار ، واقبل اليوم الثاني خف الفضل بن سهل مسرعا إلى الإمام ( عليه السلام ) ، فقال له : جعلت فداك ان ابن عمك ـ يعني المأمون ـ ينتظرك ، اجتمع القوم ، فما رأيك في اتيانه ؟ ....
    فأجابه الامام أنه مستعد للحضور ، وانه قادم على المأمون ، وخرج الامام ، وهو بهيبة تعنو لها الجباه ، فكان يلهج بذكر الله ودخل على المأمون وكان المجلس


(137)
مكتظا بالطالبيين والهاشميين ، وقادة الجيش والعلماء ، من مسلمين وغيرهم ، وقام المأمون وجميع من في المجلس تكريما وتعظيما للامام ، وجلس الامام ، والناس وقوف احتراما له ، فأمرهم المأمون بالجلوس ، وبعدما استقر المجلس بالامام التفت المأمون إلى الجاثليق.
    فقال له : يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، وابن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فأحب أن تكلمه وتحاجه ، وتنصفه ....
    وانبرى الجاثليق قائلا : يا أمير المؤمنين ، كيف أحاج رجلا يحاج علي بكتاب أنا منكره ونبي لا أو من به ....
    لقد حسب الجاثليق أن الإمام ( عليه السلام ) يستدل على ما يذهب إليه بآيات من القرآن الكريم ، أو بكلمات من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو لا يؤمن بذلك ، وانما يبغي دليلا وبرهانا من كتبهم.
    ورد الامام عليه مقالته : يا نصراني فان احتججت عليك بإنجيلك أتقر به ؟ ....
    وسارع الجاثليق قائلا : هل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل ، نعم والله أقربه ....
    سل عما بدا لك ، واسمع الجواب ...
    س 1 ـ ما تقول في نبوة عيسى ، وكتابه هل تنكر منهما شيئا ؟ ...
    ج 1 ـ أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشر به أمته ، وأقرت به الحواريون ، وكافر بنبوة عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه ، ولم يبشر به أمته ....
    وسارع الجاثليق قائلا : أليس انما تقطع الاحكام بشاهدي عدل ؟ ....
    بلى ....
    فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا ....
    وصدق الامام مقالته ، فقد جاء بالنصف قائلا : الآن جئت بالنصفة ، الا تقبل مني العدل ، والمقدم عند المسيح بن مريم ؟ ....


(138)
    من هذا العدل سمه لي ؟ ....
    ما تقول : في يوحنا الديلمي ؟ ....
    وسارع الجاثليق قائلا : بخ بخ ، ذكرت أحب الناس إلى المسيح ...
    وانبرى سليل النبوة قائلا : أقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال ، إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي : وبشرني به ، أنه يكون من بعدي ، فبشرت به الحواريين ، فآمنوا به ...
    ولم يسع الجاثليق انكار ذلك إلا أنه قال : إن يوحنا لم يسمه لنا ، حتى نعرفه.
    ورد عليه الامام : فان جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد ، وأهل بيته ، وأمته أتؤمن به ؟ ....
    وقال بصوت خافت : أمر سديد ....
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى نسطاس الرومي ، فقال له : كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل ؟ ....
    ما أحفظني له ...
    وخاطب الإمام ( عليه السلام ) الجاثليق فقال له : ألست تقرأ الإنجيل ؟ ...
    بلى ...
    خذ على السفر الثالث ، فان كان فيه ذكر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي ، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي .... وتلا الامام عليه السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) التفت إلى الجاثليق فقال له : إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل ؟ .....
    نعم ....
    ثم قرأ ما في السفر الثالث من ذكر النبي وأهل بيته وأمته ، وأضاف قائلا : ما تقول : هذا قول عيسى بن مريم ، فان كذبت ما نطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى ، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك ، القتل لأنك تكون قد


(139)
كفرت بربك ونبيك ، وكتابك ....
    وراح الجاثليق يقول : لا أنكر ما قد بان لي من الإنجيل ، واني لمقر به ....
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الحاضرين ، فطلب منهم الشهادة على اقراره ثم قال له : يا جاثليق سل عما بدا لك .... وسارع الجاثليق سائلا :
    س 2 ـ اخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدتهم ، وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟ ....
    ج 2 ـ على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا وكان أفضلهم وأعلمهم ( لوقا ) واما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال :
    يوحنا الأكبر ـ يا حي ـ و يوحنا بقرقيسيا ، ويوحنا الديلمي بزخار ، وعنده كان ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكر أهل بيته ، وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به وأضاف الامام قائلا :
    والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) وما ننقم على عيسى شيئا إلا ضعفه ، وقلة صيامه وصلاته ...
    وحينما سمع الجاثليق الكلمات الأخيرة من هذا فصاح : أفسدت ، والله علمك ، وضعف أمرك ، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الاسلام ....
    وقابله الامام بهدوء فقال له : وكيف ذلك ؟ ....
    وفقد الجاثليق صوابه ، وراح يقول : من قولك : إن عيسى كان ضعيفا ، قليل الصوم والصلاة ، وما أفطر عيسى يوما قط ، وما نام بليل قط ، وما زال صائم الدهر ، قائم الليل ...
    وانبرى الامام ينسف العقيدة المسيحية الزاعمة بأن المسيح إله يعبد من دون الله ، فقال ( عليه السلام ) : لمن كان يصوم ـ أي المسيح ـ ويصلي ؟ ....
    فانقطع الجاثليق عن الجواب ، ولم يدر ما يقول :
    والتفت الامام إليه قائلا :


(140)
إني أسألك عن مسألة ؟ ....
    سل فان كان عندي علمها أجبتك ....
    ووجه الامام إليه السؤال التالي : ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله ؟ ... وأجاب الجاثليق : أنكرت ذلك من قبل ، ان من أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لان يعبد ...
    ورد الامام عليه مقالته : فان اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى ( عليه السلام ) ، مشى على الماء ، وأحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم لا تتخذه أمته ربا ، ولم يعبده أحد من دون الله عزوجل ، فأحيى خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة.
    يا رأس الجالوت ، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة اختارهم ( بخت نصر ) من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ، ثم انصرف بهم إلى بابل ، فأرسله الله عزوجل إليهم ، فأحياهم ، هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكر ....
    وبهر الجاثليق بمعلومات الامام عنهم ، وقال : قد سمعنا به ، وعرفناه ....
    والتفت الامام إلى يهودي كان في المجلس ، فأمره أن يقرأ إحدى فصول التوراة ، فأخذ في قراءتها ، وكان فيه ذكر لبعض الأنبياء.
    واقبل الامام على رأس الجالوت فقال له : أهؤلاء ـ يعني الأنبياء ـ كانوا قبل عيسى ، أم عيسى كان قبلهم ؟ ....
    بل كانوا قبله ....
    وأخذ الامام يتلو عليهم بعض معجزات جده الرسول الأعظم خاتم الأنبياء قائلا : لقد اجتمعت قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسألوه أن يحيى لهم موتاهم ، فوجه معهم علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فقال له : اذهب إلى الجبانة ، فناد بأسماء هؤلاء الرهط ، الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك ، يا فلان ، يا فلان يقول لكم محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قوموا بإذن الله عزوجل ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ، ثم أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا ، فقالوا : وددنا أنا أدركناه ، فنؤمن به ، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص


(141)
والمجانين ، وكلمته البهائم والطير والجن والشياطين ، ولم نتخذه ربا من دون الله ، ولم ننكر لاحد من هؤلاء فضلهم فان اتخذتم عيسى ربا جاز لكم ان تتخذوا اليسع وحزقيل ربين ، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم ، من احياء الموتى وغيره.
    ثم إن قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت ، فأماتهم الله في ساعة واحدة ، فعمد أهل القرية فحظروا عليهم حظيرة ، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم ، وصاروا رميما ، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ، ومن كثرة العظام البالية ، فأوحى الله أتحب ان أحييهم لك فتنذرهم ؟
    قال : نعم. فأوحى الله أن نادهم ، فقال أيتها العظام البالية قومي بإذن الله ، فقاموا احياء أجمعين ينفضون التراب عن رؤوسهم ، ثم إبراهيم خليل الله حين اتخذ الطير فقطعهن قطعا ، ثم وضع على كل جبل منهم جزءا ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه ، ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم ، صاروا معه إلى الجبل ، فقالوا له : إنك قد رأيت الله فأرناه. فقال لهم : إني لم أره.
    فقالوا : لن نؤمن حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم ، فبقي موسى وحيدا.
    فقال : يا رب ! اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم ، فارجع أنا وحدي ، فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منها ؟ فأحياهم الله عزوجل من بعد موتهم ، وكل شئ ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه ، لان التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به ، فان كان كل من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتخذ ربا من دون الله ، فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا ، ما تقول يا نصراني ؟.
    لقد نعى الإمام ( عليه السلام ) على النصارى اتخاذهم السيد المسيح ربا من دون الله لأنه أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص فقد جرت أمثال هذه المعاجز إلى سيد الأنبياء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وبعض الأنبياء العظام ، ولم يتخذوا أربابا يعبدون من دون الله تعالى. وانبرى الجاثليق فخاطب الامام بعد ما سمع منه هذه الكلمات المشرقة فقال :


(142)
    القول : قولك ، ولا إله إلا الله ....
    والتفت الامام إلى رأس الجالوت ، فقال له : اقبل علي ، أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران ، هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأمته إذا جاءت الأمة الأخيرة اتباع راكب البعير ، يسبحون الرب جدا ، جدا ، تسبيحا جديدا في الكنايس الجدد ـ أراد بها المساجد ـ فليفزع بنو إسرائيل إليهم ، والى ملكهم ، لتطمئن قلوبهم ، فان ما بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض ، هكذا هو مكتوب في التوراة ....
    وبهر الجالوت ، وراح يقول : نعم انا لنجد ذلك كذلك ...
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الجاثليق فقال له : كيف علمك بكتاب شعيا ؟ ....
    اعرفه حرفا ، حرفا ...
    وخاطب الامام الجاثليق ورأس الجالوت فقال لهما : أتعرفان هذا من كلامه : يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار ، لابسا جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوءه ضوء القمر ...
    وطفقا قائلين : قد قال ذلك شعيا ...
    والتفت الامام إلى الجاثليق فقال له : أتعرف قول عيسى : اني ذاهب إلى ربكم وربي ، و البار قليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له ، وهو الذي يفسر لكم كل شئ ، وهو الذي بيده فضائح الأمم ، وهو الذي يكسر عمود الكفر ....
    وبهر الجاثليق ، وقال : ما ذكرت شيئا من الإنجيل الا ونحن مقرون به ...
    وراح الامام يقرره ان ما ذكره ثابت في الإنجيل قائلا : أتجد هذا في الإنجيل ثابتا ؟ ...
    نعم ...
    يا جاثليق : الا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه ؟


(143)
    ومن وضع لكم هذا الإنجيل ؟ ...
    وأخذ الجاثليق يتخبط خبط عشواء قائلا : ما افتقدنا الإنجيل الا يوما واحدا ، حتى وجدناه غضا طريا ، فأخرجه إلينا يوحنا ومتى ...
    فرد عليه الامام قائلا : ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه ، فان كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل ؟ وانما الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم ، فان كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه ، ولكني مفيدك علم ذلك ، اعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم ، فقالوا لهم : قتل عيسى بن مريم ، وافتقدنا الإنجيل ، وأنتم العلماء فما عندكم ؟ فقال لهم الوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى ان الإنجيل في صدورنا نخرجه إليكم سفرا في كل أحد ، فلا تحزنوا عليه ، ولا تخلوا الكنائس فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه كله.
    وأضاف الامام قائلا : ان الوقا ، ومرقانوس ، ويوحنا ومتى وضعوا لكم هذا الإنجيل ، بعدما افتقدتم الإنجيل الأول وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ الأولين أعلمت ذلك ؟ ...
    وراح الجاثليق يبدي اكباره للامام ، ويعترف له انه لا علم له بذلك قائلا : أما قبل هذا فلم اعلمه ، وقد علمته الآن ، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل ، وقد سمعت أشياء كما علمته ، شهد قلبي أنها حق ، واستزدت كثيرا من الفهم ...
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى المأمون ، والى من حضر من أهل بيته وغيرهم ، فطلب منهم أن يشهدوا عليه.
    فقالوا : شهدنا.
    ووجه كلامه صوب الجاثليق فقال له : بحق الابن وأمه ، هل تعلم أن متى قال في نسبة عيسى أنه المسيح بن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهود ، بن خضرون ؟ وقال : مرقانوس في نسبة عيسى انه كلمة الله أحلها في الجسد الآدمي فصارت انسانا !! وقال ـ ( الوقا ) : ان عيسى بن مريم وأمه كانا انسانين من لحم ودم فدخل فيهما


(144)
روح القدس ؟ ثم انك تقول : في شهادة عيسى على نفسه ، حقا أقول لكم : انه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها ، إلا راكب البعير خاتم الأنبياء ، فإنه يصعد إلى السماء وينزل فما تقول في هذا القول ؟
    واعترف الجاثليق بما قالوه في المسيح ، وما قاله السيد المسيح في نفسه ، فقال : هذا قول عيسى لا ننكره ...
    فقال له الامام : فما تقول في شهادة الوقا ومرقانوس ومتى على عيسى وما نسبوا إليه ؟ ...
    وراح الجاثليق يزكي السيد المسيح ، ويكذب ما نسبوه له قائلا : كذبوا على عيسى ....
    والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى من حضر في مجلسه من القادة والعلماء قائلا : يا قوم أليس قد زكاهم ، وشهد انهم علماء الإنجيل وقولهم حق ؟ ...
    وبان الانكسار على الجاثليق وراح يلتمس من الامام أن لا يسأله فقال : يا عالم المسلمين أحب ان تعفيني من أمر هؤلاء.
    فأعفاه الامام ، ثم قال له : سلني عما بدا لك ...
    وبهر الجاثليق من علوم الامام التي هي امتداد ذاتي لعلوم جده سيد الكائنات محمد ( صلى الله عليه وآله ).
    وقال بخضوع واكبار للامام : ليسألك غيري ، فوالله ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك ...
    وأطرق الجاثليق برأسه إلى الأرض ، وعج المجلس بالتهليل والتكبير ، واستبان للمأمون وغيره ان الإمام ( عليه السلام ) نفحة قدسية من نفحات الملة ، فقد وهبه لهذه الأمة كما وهب آباءه ، ومنحهم من العلوم التي لا حد لها.

    مناظرته مع رأس الجالوت : وكان رأس الجالوت ، يمثل الطائفة اليهودية في ذلك المجلس الذي أعده المأمون لامتحان الامام.
    فقال له الامام : تسألني أو أسألك ؟ ....
    بل أسألك ، ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من


(145)
زبور داود ، أو ما في صحف إبراهيم وموسى ...
    فأجابه الامام بالموافقة على هذا الشرط قائلا : لا تقبل مني حجة إلا بما نطق به التوراة على لسان موسى بن عمران ، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم ، والزبور على لسان داود ( عليهم السلام ) ....
    س 1 ـ من أين تثبت نبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ...
    ج 1 ـ شهد بنبوته موسى بن عمران ، وعيسى بن مريم ، وداود خليفة الله في الأرض ...
    وطلب رأس الجالوت اثبات ذلك قائلا : أثبت قول موسى بن عمران ....
    فقال الامام : تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنه سيأتيكم نبي فيه (1) فصدقوا ، ومنه فاسمعوا فهل تعلم أن لبني إسرائيل أخوة غير ولد إسماعيل ؟ ان كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل ، والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم.
    واعترف رأس الجالوت بذلك قائلا : هذا قول موسى : لا ندفعه ...
    والزمه الامام بالحجة والبرهان قائلا : هل جاءكم من اخوة بني إسرائيل غير محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ...
    لا ...
    وانبرى الامام قائلا : أليس هذا قد صح عندكم ؟ ....
    نعم ، ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة ؟ ...
    وتلا الامام عليه قطعة من التوراة قائلا : هل تنكرون التوراة تقول لكم : جاء النور من قبل طور سيناء وأضاء للناس من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران ...
    وأقر رأس الجالوت بهذه الكلمات ، إلا أنه طلب من الامام تفسيرها ، فقال ( عليه السلام ) له :
1 ـ هكذا في النسخ المخطوطة والمطبوعة ، والصواب فيه بالباء والمعنى إن أدركتم صحبته وفيه ، اي قصدوه واسمعوا ما يقوله.

(146)
أنا أخبرك بها ، أما قوله : جاء النور من قبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء.
    وأما قوله : وأضاء للناس في جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم وهو عليه.
    واما قوله : واستعلن علينا من جبل فاران فذاك جبل من جبال مكة ، وبينه وبينها يومان ؟ أو يوم ...
    قال شعيا النبي : فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، فمن راكب الحمار ، ومن راكب الجمل ؟ ...
    ولم يعرف رأس الجالوت ذلك رغم انه موجود في التوراة فطلب من الامام ايضاح ذلك له.
    فقال ( عليه السلام ) : أما راكب الحمار فعيسى ، وأما راكب الجمل فمحمد ( صلى الله عليه وآله ) أتنكر هذا في التوراة ؟ ...
    ووجه الامام إليه السؤال التالي : هل تعرف حبقوق النبي ؟ ....
    نعم اني به لعارف ...
    وأخذ الإمام ( عليه السلام ) يقرأ ما أثر عنه قائلا : فإنه قال : ـ وكتابكم ينطق به ـ جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته ، يحمل خيله في البحر ، كما يحمل في البر يأتينا بكتاب جديد ـ يعني القرآن الكريم ـ بعد خراب بيت المقدس ، أتعرف هذا وتؤمن به ؟ ...
    واعترف رأس الجالوت بذلك.
    والتفت إليه الامام فأقام عليه حجة أخرى ، وهي ما جاء في الزبور ، من التبشير بالرسول الأعظم محمد ( صلى الله عليه وآله ) قائلا : فقد قال داود في زبوره ـ وأنت تقرأه ـ اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة ، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ...
    وأخذ رأس الجالوت يراوغ ، وينكر الحق قائلا : هذا قول داود نعرفه ولا ننكره ، ولكنه عنى بذلك عيسى ، وامامه هي


(147)
الفترة ...
    فرد عليه الامام قائلا : جهلت ان عيسى موافقا لسنة التوراة حتى رفعه الله إليه ، وفي الإنجيل مكتوب ان ابن البرة ـ اي عيسى ـ ذاهب ، والبارقليطا جاء من بعده ، وهو الذي يحفظ الآصار ، ويفسر لكم كل شئ ، ويشهد لي كما شهدت له ، أنا جئتكم بالأمثال ، وهو يأتيكم بالتأويل ، أتؤمن بهذا في الإنجيل ؟ ...
    وطفق رأس الجالوت يقول : نعم لا أنكره ....
    ووجه الامام إليه السؤال التالي : أسألك عن نبيك موسى بن عمران ؟ ....
    سل ....
    ما الحجة على أن موسى تثبتت نبوته ؟ ...
    واخذ رأس الجالوت يستدل على نبوة موسى قائلا : انه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله ...
    مثل ماذا ؟ ...
    مثل فلق البحر ، وقلبه العصا حية تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، واخراجه يده بيضاء للناظرين ، وعلاماته لا يقدر الخلق على مثلها ....
    وصدق الامام مقالته قائلا : صدقت في أنها حجة على نبوته ..
    إنه جاء بما لم يقدر الخلق عل مثله ، أفليس كل من أدعى أنه نبي ، وجاء بما لم يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ ...
    وأنكر اليهودي مقالة الامام قائلا : لا ، لان موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه ، وقربه منه ، ولا يجب علينا الاقرار بنبوة من ادعاها ، حتى يأتي من الاعلام بمثل ما جاء به ...
    ونقض الامام كلام اليهودي قائلا : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى ، ولم يفلقوا البحر ، ولم يفجروا من الحجر اثني عشر عينا ، ولم يخرجوا أيديهم مثل اخراج موسى يده بيضاء ، ولم يقلبوا العصا حية تسعى ...
    وأجاب اليهودي :


(148)
قد خبرتك انه متى جاءوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ، ولو جاءوا بمثل ما جاء به موسى أو كانوا على ما جاء به موسى وجب تصديقهم ....
    ورد الإمام ( عليه السلام ) حجته قائلا : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم وكان يحيى الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ...
    وراوغ اليهودي فقال : يقال : انه فعل ذلك ، ولم نشهده ...
    ورد الامام عليه ببالغ الحجة قائلا : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته ؟ أليس إنما جاءت الاخبار من ثقات أصحاب موسى انه فعل ذلك ...
    بلى ...
    والزمه الامام بالحجة القاطعة قائلا : كذلك أيضا أتتك الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم ، فكيف صدقتم بموسى ، ولم تصدقوا بعيسى ؟ ...
    ووجم رأس الجالوت ، فقد سد عليه الامام كل نافذة ، وأقام عليه الحجة البالغة ، وبان عليه العجز.
    وأضاف الإمام ( عليه السلام ) يقول : وكذلك أمر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وما جاء به ، وأمر كل نبي بعثه الله ، ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا ، راعيا أجيرا ، ولم يتعلم ، ولم يختلف إلى معلم ، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء ( عليهم السلام ) واخبارهم حرفا ، حرفا ، واخبار من مضى ، ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم كان يخبرهم بأسرارهم ، وما يعلمون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة ...
    وقطع رأس الجالوت على الامام كلامه قائلا : لم يصح عندنا خبر عيسى ، ولا خبر محمد ، ولا يجوز أن نقر لهما بما لا يصح ...
    وفند الإمام ( عليه السلام ) كلام اليهودي قائلا : فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمد شاهد زور ؟ ...
    وأخرس رأس الجالوت ، ووجم ، وهو كظيم ، وراح يفتش في حقيقة مغالطاته


(149)
شبهة يتمسك بها فلم يجد ، وسيلة يتمسك بها لدعم أباطيله.
    مناظرته مع الهربذ الأكبر :
    وبعدما فشلت رؤساء المذاهب والأديان في امتحان الامام ، وبان عليها العجز ، ولم يبق إلا الهربذ الأكبر المرجع الاعلى للمجوس.
    فالتفت إليه الإمام ( عليه السلام ) فقال له : اخبرني عن زردشت الذي تزعم أنه نبي ، ما حجتك على نبوته ؟ ...
    فقال الهربذ : إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ، ولم نشهده ولكن الاخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل بنا ما لم يحله لنا غيره ، فاتبعناه ...
    وانبرى الامام فقال له : أفليس انما أتتكم الاخبار فاتبعتموه ؟ ...
    بلى ....
    وراح الامام يقيم عليه الحجة التي لا مجال لانكارها قائلا : فكذلك سائر الأمم السالفة اتتهم الاخبار بما أتى به النبيون وأتى به موسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) فما عذركم في ترك الاقرار بهم ، إذ كنتم انما أقررتم بزردشت من قبل الأخبار الواردة بأنه جاء بما لم يجئ به غيره ....
    واستولت عليه الحيرة والذهول وحار في الجواب ، فانقطع عن الكلام ، والتفت سليل النبوة إلى من حضر من رؤساء الأديان
    فقال لهم : يا قوم ان كان فيكم أحد يخالف الاسلام ، وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم .. (1).

    مناظرته مع الامام في طليعة هذا البحث : لقد أفحمت هذه المناظرات القوى المعادية للاسلام ، وأثبتت بوضوح مدى الطاقات الهائلة من العلوم التي منحها الله للامام ، والتي دللت على صحة ما تذهب إليه الشيعة من أن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) قد منحهم الله ثروات علمية ، وانهم أعلم هذه الأمة لا في المجالات التشريعية ، وانما في جميع أنحاء العلوم. وقد عجت أندية خراسان بهذه المناظرات التي تغلب الامام فيها على من
1 ـ الاحتجاج 2 / 199 ـ 212 عيون أخبار الرضا 2 / 154 ـ 168.

(150)
ناظرهم ، وفي نفس الوقت الهبت مشاعر المأمون وعواطفه بالحقد والعداء للإمام ( عليه السلام ) ، فقد باء بالفشل لما كان يرومه من تعجيز الامام ليتخذ من ذلك وسيلة للتشهير به ، وعزله عن ولاية العهد ، وأخذ يسعى جاهدا للتخلص من الامام فرأى أن لا وسيلة له إلا باغتياله ، ودس السم إليه ، وسنوضح ذلك بمزيد من التفصيل في البحوث الآتية.

    مناظرته مع زنديق : وخف زنديق متمرس في الزندقة والالحاد إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) وكان في مجلسه جماعة.
    والتفت الامام إليه قائلا : أرأيت إن كان القول قولكم ـ من انكار الله تعالى ـ وليس هو كما تقولون : السنا وإياكم شرعا سواء ، ولا يضرنا ما صلينا ، وصمنا وزكينا ، وأقررنا ؟ ...
    فسكت الزنديق ، أمام هذه الحجة الدامغة ، فإنه لو كان الامر كما يذهب إليه الزنادقة من انكار الله تعالى ، فما الذي يضر الموحدين من صلاتهم وصومهم.
    وأضاف الامام بعد ذلك قائلا : وان لم يكن القول قولكم ، وهو كما نقول : ألستم قد هلكتم ، ونجونا ....
    وأراد الامام انه إذا انكشف الامر لهم من وجود الخالق العظيم المدبر لهذه الأكوان ، فقد هلك الملحدون ، وباؤوا بالخزي والعذاب الأليم ، وفاز المؤمنون والمتقون.
    وقدم الزنديق إلى الإمام ( عليه السلام ) الأسئلة التالية :
    س 1 ـ رحمك الله ، أوجدني كيف هو ـ يعني الله ـ وأين هو ؟ ....
    ج 1 ـ ان الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أين الأين ، وكان ، ولا أين ، وهو كيف الكيف ، وكان ، ولا كيف ولا يعرف بكيفوفته ، ولا بأينونته ، ولا يدرك بحاسة ، ولا يقاس بشئ ....
    ان الله تعالى نور السماوات والأرض ، ويستحيل ان يتصف بالأين والكيف وغيرهما من صفات الممكن الذي مثاله إلى العدم ، فهو سبحانه لا يدرك بحاسة ، ولا يقاس بشئ.
    س 2 ـ إذن انه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس.
    ج 2 ـ ويلك لما عجزت حواسك عن ادراكه ، أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنا أنه ربنا ، وانه شئ بخلاف الأشياء ...
حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: فهرس