حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: 166 ـ 180
(166)
    وانبرى الامام فأقام الدليل القاطع على ما ذهب إليه قائلا :
    لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة ، والله تعالى يقول : ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) (1).
    وأضاف الامام يقول : فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم ... هم الذين وصفهم الله في كتابه ، فقال : ( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) وهم الذين قال رسول الله (ص) : إني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي ؟؟ أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، انظروا كيف تخلفوني فيهما ، أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم (2).
    وسارع العلماء قائلين بصوت واحد : أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة هم الآل ، أو غير الآل ؟.
    فقال ( عليه السلام ) : هم الآل .... واعترضوا على الامام قائلين : هذا رسول الله (ص) يؤثر عنه أنه قال : أمتي آلي ، وهؤلاء أصحابه يقولون : بالخبر المستفيض الذي لا يمكن دفعه آل محمد أمته ...
    وأخذ الامام يرد على افتعال الحديث وعدم صحته قائلا : أخبروني هل تحرم الصدقة على آل محمد ...
    نعم ....
    هل تحرم ـ أي الصدقة ـ على الأمة ؟.
    لا ...
    وسارع الامام بعد إقامة الحجة عليهم قائلا : هذا فرق بين الآل ، وبين الأمة ، ويحكم أين يذهب بكم !! ( أصرفتم عن الذكر صفحا ، أم أنتم قوم مسرفون ) ؟ أما علمتم انما وقعت الرواية في الظاهر على المصطفين المهتدين دون سائرهم.
1 ـ سورة فاطر / آية 29.
2 ـ حديث الثقلين : متواتر ، قطعي الصدور روته الصحاح والسنن.


(167)
    وقالوا جميعا : من أين قلت : يا أبا الحسن ؟ ...
    وأخذ الامام يتلو عليهم فضل العترة الطاهرة قائلا : من قول الله : ( لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) (1).
    فصارت وراثة النبوة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين ، أما علمتم أن نوحا سأل ربه فقال : ( رب إن ابني من أهلي وان وعدك الحق ) (2).
    وذلك أن الله وعده أن ينجيه وأهله ، فقال له تبارك وتعالى : ( إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) (3).
    وتميز المأمون غضبا وغيظا قائلا : هل فضل الله العترة على سائر الناس ؟ ...
    وبادر الامام قائلا : إن الله العزيز الجبار فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه ...
    وراح المأمون يقول : أين ذلك من كتاب الله.
    وانبرى الامام يتلو عليه كوكبة من الآيات الكريمة التي أشادت بفضل أهل البيت ( عليهم السلام ) قائلا : ( ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض ) (4).
    وقال الله في موضع آخر : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) (5).
    ثم رد المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المسلمين فقال : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم ) (6) يعني الذين أورثهم الكتاب والحكمة ،
1 ـ سورة الحديد / آية 26.
2 ـ سورة هود / آية 40.
3 ـ سورة هود / آية 46.
4 ـ سورة آل عمران / آية 32.
5 ـ سورة النساء / آية 57.
6 ـ سورة النساء / 59.


(168)
وحسدوا عليهما بقوله : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين ، والملك ها هنا الطاعة لهم ....
    وانبرى العلماء قائلين : هل فسر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب ؟ ...
    وأجابهم الامام : فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا :
    فأول ذلك قول الله : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (1) ـ ورهطك المخلصين ـ هكذا في قراءة أبي بن كعب ، وهي ثابتة في مصحف عبد الله بن مسعود ، فلما أمر عثمان زيد بن ثابت أن يجمع القرآن خنس هذه الآية (2) وهذه منزلة رفيعة ، وفضل عظيم وشرف عال حين عنى الله عزوجل بذلك الآل فهذه واحدة.
    والآية الثانية : في الاصطفاء قول الله : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) وهذا الفضل الذي لا يجحده معاند لأنه فضل بين.
    الآية الثالثة : حين ميز الله الطاهرين من خلقه أمر نبيه في آية الابتهال فقال : ( قل ـ يا محمد ـ تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (3) فأبرز النبي (ص) عليا والحسن والحسين وفاطمة ( عليهم السلام ) فقرن أنفسهم بنفسه.
    ثم التفت الامام إلى العلماء فقال لهم : هل تدرون ما معنى قوله : ( وأنفسنا وأنفسكم ) ؟.
    وأجاب العلماء : عنى به نفسه. فقال ( عليه السلام ) : غلطتم انما عنى به عليا (4) ومما يدل على ذلك قول النبي (ص) : حين قال :
1 ـ سورة الشعراء / آية 214.
2 ـ خنس : اي ستر.
3 ـ سورة آل عمران / آية 58 وليس في القرآن كلمة يا محمد ، وانما هو توضيح منه.
4 ـ وبالإضافة إلى ما ذكره الإمام ( عليه السلام ) من الدليل فإنه لا معنى لان يدعو الانسان نفسه فلا بد أن يكون المراد به عليا ( عليه السلام ).


(169)
لينتهي ؟؟ بنو وليعة (1) لأبعثن إليهم رجلا كنفسي يعني عليا ( عليه السلام ) (2) فهذه خصوصية لا يتقدمها أحد ، فضل لا يختلف فيه بشر ، وشرف لا يسبقه إليه خلق ، إذ جعل نفس علي كنفسه ، فهذه الثالثة :
    وأما الرابعة : فاخراجه الناس من مسجده ما خلا العترة ، حين تكلم الناس في ذلك ، وتكلم العباس فقال : يا رسول الله تركت عليا ، وأخرجتنا ، فقال رسول الله (ص) : ما أنا تركته وأخرجتكم ، ولكن الله تركه ، وأخرجكم وفي هذا بيان قوله لعلي ( عليه السلام ) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى.
    وقال العلماء : فأين هذا من القرآن ؟.
    فأجابهم الامام : ان ذلك موجود في القرآن الكريم ، فقالوا له : هات فتلا عليهم قول الله تعالى : ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة ) (3).
    ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى ، وفيها أيضا منزلة علي ( عليه السلام ) من رسول الله (ص) ومع هذا دليل ظاهر في قول رسول الله (ص) : إن هذا المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض إلا لمحمد وآل محمد.
    وأنكرت العلماء معرفة ذلك ، وقالوا للامام : هذا الشرح ، وهذا البيان لا يوجد ، أعندكم معشر أهل بيت رسول الله (ص) ؟.
    فأجابهم الامام : ومن ينكر لنا ذلك ؟ ورسول الله (ص) يقول : أنت مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلا معاند ، ولله عزوجل الحمد على ذلك ، فهذه الرابعة.
1 ـ بنو وليعة : حي من كنده.
2 ـ في العيون : عنى بأنفسنا عليا وعنى بالأبناء الحسن والحسين وعنى بالنساء فاطمة ( عليهم السلام ) ، وقد اتفق جمهور المفسرين على ذلك.
3 ـ سورة يونس / آية 87.


(170)
    وأما الخامسة : فقول الله عزوجل : ( وآت ذا القربى حقه ) (1) ، خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها ، واصطفاهم على الأمة.
    فلما نزلت هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال :
    أدعو لي فاطمة ، فدعوها له.
    فقال : يا فاطمة.
    فقالت : لبيك يا رسول الله.
    فقال : إن فدكا لم يوجف عليها بخيل ، ولا ركاب ، وهي لي خاصة دون المسلمين ، وقد جعلتها لك ، لما أمرني الله به ، فخذيها لك ولولدك. فهذه الخامسة.
    وأما السادسة : فقول الله عزوجل : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) (2).
    فهذه خصوصية للنبي ( صلى الله عليه وآله ) دون الأنبياء ، وخصوصية للآل دون غيرهم ، وذلك أن الله حكى عن الأنبياء ، في ذكر نوح ( عليه السلام ) : ( ويا قوم ! لا أسألكم عليه مالا ، إن أجرى إلا على الله ، وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم ، ولكني أراكم قوما تجهلون ) (3).
    وحكى عن هود ، قال : ( لا أسألكم عليه أجرا ، إن أجري إلا على الذي فطرني ، أفلا تعقلون ) (4).
    وقال لنبيه : ( قل لا أسألكم عليه أجرا ، إلا المودة في القربى ) ، ولم يفرض الله مودتهم ، الا وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين أبدا ، ولا يرجعون إلى ضلالة أبدا.
    وأخرى : أن يكون الرجل وادا للرجل ، فيكون بعض أهل بيته عدوا له ، فلا يسلم قلب ، فأحب الله أن لا يكون في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على المؤمنين شئ ، إذ فرض عليهم مودة ذوي القربى ، فمن أخذ بها ، وأحب رسول الله (ص) وأحب أهل بيته ( عليهم السلام ) لم يستطع رسول الله (ص) أن يبغضه.
    ومن تركها ، ولم يأخذ بها ، وأبغض أهل بيت نبيه (ص) ، فعلى رسول الله (ص) أن يبغضه ، لأنه قد ترك فريضة من فرائض الله ، وأي فضيلة ، وأي شرف يتقدم هذا ؟
    ولما أنزل الله على نبيه (ص) : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قام رسول الله (ص) في أصحابه ، فحمد الله ، وأثنى عليه وقال : ( أيها الناس إن الله قد فرض عليكم فرضا ، فهل أنتم مؤدوه ؟ فلم يجبه أحد فقام فيهم
1 ـ سورة الإسراء / آية 28.
2 ـ سورة الشورى / آية 22.
3 ـ سورة هود / آية 31.
4 ـ سورة هود / آية 53.


(171)
يوما ثانيا ، فقال مثل ذلك ، فلم يجبه أحد فقام فيهم اليوم الثالث ، فقال : أيها الناس ! إن الله قد فرض عليكم فرضا ، فهل أنتم مؤدوه ؟ فلم يجبه أحد.
    فقال أيها الناس إنه ليس ذهبا ولا فضة ، ولا مأكولا ولا مشروبا ، قالوا : فهات إذا فتلا عليهم هذه الآية فقالوا : اما هذا فنعم ، فما وفى به أكثرهم.
    وأضاف الامام قائلا : حدثني أبي عن جدي آبائه عن الحسين بن علي ( عليهم السلام ) قال : اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله (ص) قالوا : إن لك يا رسول الله مؤونة في نفقتك ، وفيمن يأتيك من الوفود ، وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارا ، مأجورا اعط ما شئت ، وامسك ما شئت من غير حرج ، فأنزل الله عزوجل عليه الروح الأمين ، فقال : يا محمد ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) لا تؤذوا قرابتي من بعدي ، فخرجوا فقال أناس منهم : ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده ، إن هو إلا شئ افتراه في مجلسه ، وكان ذلك من قولهم عظيما ، فأنزل الله هذه الآية ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ) (1) فبعث إليهم النبي (ص) فقال : هل من حدث ؟
    فقالوا : أي والله يا رسول الله ، لقد تكلم بعضنا كلاما عظيما فكرهناه ، فتلا عليهم رسول الله (ص) فبكوا واشتد بكاؤهم فأنزل الله تعالى ( وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) (2). فهذه السادسة.
    وأما السابعة : فيقول الله : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) (3) وقد علم المعاندون منهم أنه لما نزلت هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟
    فقال : تقولون : اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد. والتفت الامام إلى العلماء فقال لهم : هل في هذا اختلاف ؟
    فقالوا جميعا ؟؟ بصوت واحد.
1 ـ سورة الأحقاف / آية 7.
2 ـ سورة الشورى / آية 24.
3 ـ سورة الأحزاب / آية 56.


(172)
    لا ....
    وانبرى المأمون ، فقال : هذا ما لا اختلاف فيه ، وعليه الاجماع ، فهل عندك في الآل شئ أوضح من هذا في القرآن.
    وأخذ الامام يدلي بمزيد من الأدلة الحاسمة على فضل آل البيت ( عليهم السلام ) قائلا : أخبروني عن قول الله : ( يس والقرآن الحكيم ، إنك لمن المرسلين ، على صراط مستقيم ) فمن عنى بقوله : ( يس ) ؟.
    فقالت العلماء : عنى بذلك محمدا ( صلى الله عليه وآله ) ، ما في ذلك شك.
    والتفت الامام للحاضرين فقال لهم : اعطى الله محمدا وآل محمد من ذلك فضلا لم يبلغ أحد كنه وصفه ، لمن عقله ، وذلك أن الله لم يسلم على أحد إلا على الأنبياء صلوات الله عليهم فقال تبارك وتعالى : ( سلام على نوح في العالمين ) (1).
    وقال : ( سلام على إبراهيم ) (2).
    وقال : ( سلام على موسى وهارون ) (3) ولم يقل : سلام على آل نوح ، ولم يقل : سلام على آل إبراهيم ، ولا قال : سلام على آل موسى وهارون ، وقال عزوجل : ( سلام على آل يس ) (4). يعني آل محمد.
    والتفت المأمون إلى الامام فقال له : لقد علمت أن في معدن النبوة شرح هذا وبيانه.
    واما الثامنة : فقول الله عزوجل : ( واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) (5) فقرن سهم ذي القربى مع سهمه وسهم رسول الله (ص) فهذا فصل بين الآل والأمة لان الله جعلهم في حيز وجعل الناس كلهم في حيز
1 ـ سورة الصافات / آية 77.
2 ـ سورة الصافات / آية 109.
3 ـ سورة الصافات / آية 120.
4 ـ سورة الصافات / آية 130.
5 ـ سورة الأنفال / آية 42.


(173)
دون ذلك ، ورضي لهم ما رضي لنفسه ، واصطفاهم فيه وابتدأ بنفسه ، ثم ثنى برسوله ، ثم بذي القربى في كل ما كان من الفئ والغنيمة ، وغير ذلك مما رضيه عزوجل لنفسه ، ورضيه لهم ، فقال : ـ وقوله الحق ـ ( واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ).
    فهذا توكيد مؤكد وأمر دائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب الله الناطق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وأما قوله : ( واليتامى والمساكين ).
    فان اليتيم إذا انقطع يتمه خرج من المغانم ، ولم يكن له نصيب في المغنم ، ولا يحل له أخذه ، وسهم ذي القربى إلى يوم القيامة قائم ، للغني والفقير ، لأنه لا أحد أغنى من الله ، ولا من رسوله (ص) فجعل لنفسه منها سهما ، ولرسوله سهما ، فما رضي له ولرسوله رضيه لهم وكذلك الفئ ما رضيه لنفسه ولنبيه (ص) رضيه لذي القربى ، كما جاز لهم في الغنيمة فبدأ بنفسه.
    ثم برسوله (ص) ثم بهم وقرن سهمهم بسهم الله وسهم رسوله (ص) وكذلك في الطاعة قال عزوجل : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (1).
    فبدأ بنفسه ثم برسوله ثم بأهل بيته وكذلك آية الولاية ( انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) (2) فجعل ولايتهم مع طاعة الرسول مقرونة بطاعته ، كما جعل سهمه مع سهم الرسول مقرونا بأسهمهم في هذا البيت ، فلما جاءت قصة الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله ) (3).
    فهل تجد في شئ من ذلك أنه جعل لنفسه سهما أو لرسوله (ص) أو لذي القربى لأنه لما نزههم عن الصدقة نزه نفسه ، ونزه رسوله ، ونزه أهل بيته لا بل حرم عليهم ، لان الصدقة محرمة على محمد وأهل بيته.
    وهي أوساخ الناس لا تحل لهم ، لأنهم طهروا من كل دنس ووسخ ، فلما طهرهم واصطفاهم رضي لهم ما رضي لنفسه ، وكره لهم ما كره لنفسه. وأما التاسعة : فنحن أهل الذكر الذين قال الله في محكم كتابه : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (4).
1 ـ سورة النساء / آية 64.
2 ـ سورة المائدة / آية 60.
3 ـ سورة التوبة / آية 60.
4 ـ سورة النحل / آية 45.


(174)
    واعترض العلماء على الامام فقالوا له : إنما عنى بذلك اليهود والنصارى.
    وأبطل الامام ما ذهبوا إليه فقال : وهل يجوز ذلك إذا يدعونا إلى دينهم ؟ ويقولون : انه أفضل من دين الاسلام ؟.
    والتفت المأمون إلى الامام يطلب منه المزيد من الايضاح فيما قاله قائلا : هل عندك في ذلك شرح يخالف ما قالوا ؟
    و نعم : الذكر رسول الله (ص) ونحن أهله ، وذلك يبين في سورة الطلاق. ( فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد انزل إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ).
    فالذكر رسول الله ونحن أهله ، فهذه التاسعة.
    وأما العاشرة : فقول الله عزوجل في آية التحريم : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ) (1).
    وخاطب الامام العلماء فقال لهم : أخبروني هل تصلح ابنتي أو ابنة ابني أو ما تناسل من صلبي لرسول الله (ص) أن يتزوجها لو كان حيا ؟. فقالوا مجمعين : لا ....
    وسألهم الامام ثانيا فقال لهم : أخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوجها ؟.
    بلى ...
    ففي هذا بيان أنا من آله ، ولستم من آله ، ولو كنتم من آله لحرمت عليه بناتكم ، كما حرمت عليه بناتي ، لأنا من آله ، وأنتم من أمته فهذا فرق بين الآل والأمة ، لان الآل منه ، والأمة إذا لم تكن الآل فليست منه ، فهذه العاشرة.
    وأما الحادية عشرة : فقوله في سورة المؤمن حكاية عن قول رجل : ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه أتقتلون رجلا يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) (2) وكان ابن خال فرعون فنسبه إلى فرعون بنسبه ، ولم يضيفه إليه بدينه ،
1 ـ سورة النساء / آية 22.
2 ـ سورة المؤمن / آية 28.


(175)
وكذلك حصصنا نحن إذ كنا من آل رسول الله (ص) بولادتنا منه ، وعممنا الناس بدينه ، فهذا فرق بين الآل والأمة ، فهذه الحادية عشرة.
    وأما الثانية عشرة فقوله : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) (1) فخصنا بهذه الخصوصية إذ أمرنا مع أمره.
    ثم خصنا دون الأمة ، فكان رسول الله (ص) يجئ إلى باب علي وفاطمة ( عليهما السلام ) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات : فيقول : الصلاة يرحمكم الله.
    وما أكرم الله أحدا من ذراري الأنبياء بهذه الكرامة التي أكرمنا بها وخصنا من جميع أهل بيته ، فهذا فرق ما بين الآل والأمة ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد نبيه (2).
    وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض احتجاجات الإمام الرضا ( عليه السلام ) وهي تمثل جانبا من حياته العلمية ، ونضاله في الدفاع عن الاسلام.
1 ـ سورة طه / آية 132.
2 ـ تحف العقول 425 ـ 436 ، عيون أخبار الرضا ، المجالس.


(177)
    مؤلفاته ونقل المؤرخون والرواة أن الإمام الرضا ( عليه السلام ) الف مجموعة من الكتب كان بعضها بطلب من المأمون ، وقد خاض في بعضها في بيان أحكام الشريعة ، ومهمات مسائل الفقه ، كما دون في بعضها ما أثر عن جده الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) من الأحاديث.
    وقد سمي هذا بمسند الإمام الرضا (ع) ومن بين مؤلفاته الرسالة الذهبية في الطب ذكر فيها الإمام ( عليه السلام ) ما يصلح بدن الانسان ومزاجه ، وما يفسده ، وهي من أمهات الكتب الموجزة في هذا الفن ...
    ونعرض فيما يلي لبعض مؤلفاته :

    1 ـ رسالته في جوامع الشريعة : وأوعز المأمون إلى وزيره الفضل بن سهل أن يتشرف بمقابلة الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، ويقول له :
    إني أحب أن تجمع لي من الحلال والحرام والفرائض والسنن ، فإنك حجة الله على خلقه ، ومعدن العلم ، وأجاب الامام طلب المأمون ، وأمر بدواة وقرطاس فأحضرتا له ، وأمر الفضل أن يكتب فأملى عليه بعد البسملة هذه الرسالة الجامعة لغرر أحكام الشريعة ، وفيما يلي نصها :
    حسبنا شهادة أن لا إله إلا الله ، أحدا ، صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، قيوما ، سميعا ، بصيرا ، قويا ، قائما ، باقيا ، نورا ، عالما لا يجهل ، قادرا لا يعجز ، غنيا لا يحتاج ، عدلا لا يجور خلق كل شئ ، ليس كمثله شئ ، لا شبه له ، ولا ضد ، ولا ند ، ولا كفو ..
    ان محمدا عبده ورسوله ، وأمينه وصفوته من خلقه ، سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، وأفضل العالمين ، لا نبي بعده ، ولا تبديل لمثله ، ولا تغيير ، وأن جميع ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وآله ) انه هو الحق المبين ، نصدق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله وأنبيائه وحججه ،


(178)
ونصدق بكتابه الصادق ، ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وانه كتابه المهيمن على الكتب كلها ، وانه حق من فاتحته إلى خاتمته ، نؤمن بمحكمه ومتشابهه ، وخاصه وعامه ، ووعده ووعيده ، وناسخه ومنسوخه ، وأخباره لا يقدر واحد من المخلوقين أن يأتي ؟؟ بمثله.
    وان الدليل والحجة من بعده أمير المؤمنين والقائم بأمور المسلمين ، والناطق عن القرآن ، والعالم بأحكامه أخوه ، وخليفته ووصيه ، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى ، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وامام المتقين وقائد الغر المحجلين ، يعسوب المؤمنين ، وأفضل الوصيين بعد النبيين ، وبعده الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، واحدا بعد واحد إلى يومنا هذا ، عترة الرسول.
    وأعلمهم بالكتاب والسنة ، وأعدلهم بالقضية ، وأولاهم بالإمامة في كل عصر وزمان ، وانهم العروة الوثقى ، وأئمة الهدى والحجة على أهل الدنيا حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين ، وان كل من خالفهم ضال مضل ، تارك للحق والهدى وانهم المعبرون عن القرآن ، الناطقون عن الرسول بالبيان من مات لا يعرفهم بأسمائهم ، وأسماء آبائهم مات ميتة جاهلية وان من دينهم الورع والعفة ، والصدق والصلاح.
    والاجتهاد وأداء الأمانة إلى البر والفاجر ، وطول السجود والقيام بالليل واجتناب المحارم ، وانتظار الفرج بالصبر ، وحسن الصحبة ، وحسن الجوار ، وبذل المعروف ، وكف الأذى ، وبسط الوجه والنصيحة والرحمة للمؤمنين.
    وحكى هذا المقطع الثناء على الله تعالى وتمجيده ، وذكر بعض صفاته ، كما حفل بالثناء على الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) وانه الملهم الأول لفكر الانسان بالخير والفضل ، وانه هو الذي اختاره الله تعالى لرسالته ، وانقاذ عباده من حضيض الجهل ، وقد أتحفه تعالى بالمعجزة الخالدة ، وهي القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الدستور لاصلاح الانسان ، ومعالجة جميع قضاياه ومشاكله. كما عرض ؟؟
    الإمام ( عليه السلام ) إلى رائد الحق والعدالة في الاسلام وصي الرسول وخليفته من بعده الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وإمام المتقين وأفضل الوصيين ، وأشاد ( عليه السلام ) بالأئمة الطاهرين الذين هم على الخير أدلة هذه الأمة إلى الجنة ومسالكها ، الناطقون عن الرسول (ص) والمعبرون عن القرآن فقد أدوا أمانة الله وأوضحوا احكامه وبلغوا رسالته ..
    وبعد هذا العرض شرع الإمام ( عليه السلام ) في بيان جوامع الشريعة الغراء قال :


(179)
الوضوء كما أمر الله في كتابه غسل الوجه واليدين ، ومسح الرأس والرجلين ، واحد فريضة ، واثنان اسباغ ، ومن زاد اثم ، ولم يوجر ، ولا ينقض الوضوء إلا الريح والبول والغائط ، والنوم ، والجنابة.
    ومن مسح على الخفين فقد خالف الله ورسوله وكتابه ، ولم يجز عنه وضوءه ، وذلك أن عليا ( عليه السلام ) خالف في المسح على الخفين فقال له عمر : رأيت النبي (ص) يمسح ، فقال علي : قبل نزول سورة المائدة أو بعدها ؟ قال : لا أدري ، قال علي : ولكني أدري ان رسول الله (ص) لم يمسح على خفيه مذ نزلت سورة المائدة.
    إن أول ما عرض له الإمام ( عليه السلام ) من مناهج الشريعة الغراء هو الوضوء الذي هو نور وطهارة للانسان ، وهو من ألمع مقدمات الصلاة التي يسمو بها الانسان ، ويتشرف بالاتصال بخالقه العظيم ... وقد تناول عرض الامام للوضوء ما يلي :
    1 ـ أفعال الوضوء :
    أما أفعال الوضوء فهي كما يلي :
    أ ـ غسل الوجه من قصاص شعر الرأس إلى طرف الذقن طولا وما دارت عليه الابهام والوسطى عرضا.
    ب ـ غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع.
    ج ـ مسح الرأس ، وهو مقدمه مما يلي الجبهة ، ولا بد أن يكون المسح على البشرة أو على الشعر المختص بالمقدم بشرط أن يخرج بمده عن حده.
    د ـ مسح ظاهر القدمين من رؤس الأصابع إلى الكعبين ، وهما قبتا القدمين ، ويجب أن يكون المسح على البشرة ، ولا يجوز المسح على الحائل كالخف والجورب ، ومن مسح عليهما فقد خالف كتاب الله ، وسنة رسوله ولم يجز عنه وضوءه حسب ما أعلن الإمام ( عليه السلام ) ، وتواترت بذلك النصوص عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ).
    2 ـ نواقض الوضوء :
    وذكر الإمام ( عليه السلام ) نواقضا للوضوء ، ومبطلاته وهي :
    1 ـ الريح الذي يخرج من الدبر.
    2 ـ البول.
    3 ـ الغائط.


(180)
    4 ـ النوم الغالب على العقل.
    5 ـ الجنابة.
    وهذه الأمور من نواقض الوضوء ، ومن مبطلاته قال ( عليه السلام ) :
    والاغتسال من الجنابة ، والاحتلام ، والحيض ، والغسل من غسل الميت فرض.
    والغسل يوم الجمعة ، والعيدين ، ودخول مكة والمدينة ، وغسل الزيارة ، وغسل الاحرام ، ويوم عرفة ، وأول ليلة من شهر رمضان وليلة تسع عشرة منه ، واحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين منه سنة.
    من روائع التشريع الاسلامي وبدائع حكمه وسننه تشريعه للغسل الذي يقي الأبدان من الإصابة بكثير من الأمراض ، وفي نفس الوقت فإنه موجب لنظافة البدن ، وإزالة الأوساخ عنه ، وهو على قسمين واجب ومندوب ، وقد عرض الإمام ( عليه السلام ) إلى كل منهما.
    1 ـ الأغسال الواجبة :
    ويجب الغسل في الأمور التالية وهي :
    أ ـ غسل الجنابة :
    أما سبب الجنابة فأمران :
    الأول خروج المادة المنوية ، التي تتوفر فيها الشهوة ، والدفق ، وفتور الجسد ، فمن احتلم وخرجت منه هذه المادة ، فهو جنب ويجب عليه الغسل
    ( الثاني ) الجماع ، ولو لم ينزل ، ويتحقق بادخال الحشفة في القبل أو الدبر من غير فرق بين الواطئ والموطوء.
    ب ـ غسل الحيض :
    الحيض دم تعتاده النساء خلقه الله تعالى في الرحم لمصالح ، وهو في الغالب دم أسود أو أحمر له دفع وحدة وحرقة ، فإذا اعرض للمرأة ، وانتهت منه وجب عليها الغسل ، ويحرم عليها في أثناء الحيض مس اسم الله تعالى وأسماء الأنبياء والأئمة الطاهرين ومس كتابة القرآن ، واللبث في المساجد ، والدخول فيها بغير الاجتياز وغير ذلك.
    ج ـ غسل مس الميت :
    يجب الغسل بمس بدن الانسان الميت بعد برده ، وقبل غسله أما غير الانسان من الحيوانات فان مسها بعد الموت لا يجب فيه الغسل.
حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الجزء الأول ::: فهرس