كتاب كشف الغطاء ::: 31 ـ 40
(31)
يبصربه ... » الحديث. (1)
     وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام إشارة إليه أيضاً حيث قال : « إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ، ـ إلى أن قال ـ : فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه ، وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس ». (2)
     وقال عليه السلام في وصف الراسخين في العلم : « هجم بهم العلم على حقيقة البصرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا مااستوعره المترفون ، وأنسوا بما استو حشه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان معلّقة بالمحملّ الأعلى ». (3)
     وهذا العلم عبادة النفس وقربة السرّ ، فكما لا تصحّ الصلاة الظاهرة الا بتطهير من الظاهره ، فكذا لا تصحّ عبادة الباطن الا بتطهيره من الأخباث الباطنة ، كيف لا والملائكة لايدخلون بيتاً فيه كلب ، فكيف تفاض الأنوار الإليّة في بيوت مملوءه من كلاب نابحة؟ فكم من دقائق المعاني وغوامض الأسرار ، تخطر على قلب المتجرّد للأذكار والأفكار ممّا تخلو عنها كتب التفاسير والأخبار ، ولا يتفطّن بها علماء الدهور وفضلاء الأعصار ، وبعد عرضها عليهم يستحسنونها ويعلمون أنّها من تنبيهات القلوب الزكيّة وألطافه البهيّة السنيّة بذوي الهمم العالية المتوجّهة إليه تعالى بالقلوب الصافية.
     فظهر أنّ ما يحصل من المجادلات الفكريّة والمباحثات النظريّة من دون
1 ـ الكافي : 2/252 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين ، ح8.
2 ـ بحار الأنوار : 2/56 عن نهج البلاغة.
3 ـ نهج البلاغة : الحكمة 147 مع اختلاف.

(32)
تصقيل لمىآتالنفس عن أخباث الطبيعة ممّا لا يستحقّ أن يطلق عليه الا الخوص في فنون البطاعة وتفتيح أبواب الجهالة ، فإن للعلم الحقيقي أثراً ظاهراً ونوراً باهراً وبهجة وسروراً وطمأنينة وظهوراً وانقطاعاً عن الدنيا إلى الآخرة ، وخوضاً في لجج البحار الغامرة من أبحر عظمة الله وصفاته الباهرة ، وأنّى لهم الرصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهنّ حتوفن فما يسمونه علماً او يقيناً إمّا تصديق مشوب بشبهة أو اعتقاد جازم خال عن النور والجلاء لأجل الصداء الحاصل لقلوبهم من الجهل والعماء.

فصل
     الخلق ملكة للنفس تقتضي سهولة صدور الأفعال عنها من غير فكر ورويّة ، والملكة كيفيّة نفسانيّة بطيئة الزوال ، وبالأخير خرج الحال ، وسبب وجوده الطبيعة تارة ، فإنّ بعض الأمزجة في أصل الخلقة تقتضي استعداد صاحبها لحال من الأحوال ، كالخوف بأدنى سبب ، والضحك من أدنى تعجّب ، والعادة أخرى ، كأن يفعل فعلاً بالفكر والاختيار على سبيل التكلف ، ثمّ من كثرة المداومة والممارسة يأنس به إلى أن يصدر عنه بسهولة ، ويصير ملكة له.
     وقد قيل بأنّ الأخلاق كلّها طبيعية يمتنع زوالها كالحرارة للنار ، والبرودة للعلماء ، لأنّها تتبع المزاج ، وهو مما لا يتبدّل ، ولا ينافيه اختلاف مزاج شخص واحد في مراتب سنّه لتبعيّتها لجميع مراتبه.
     ويؤيّده قوله صلى الله عليه وآله : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام ». (1)
     وقوله عيله السلام : « إذا سمعتم أنّ جبلاً زال عن مكانه فصدّقوه ، وإذا سمعتم
1 ـ مسند أحمد : 2/257.
(33)
أنّ جلاً زال عن خلقه فلا تصدّقوه ، فإنّه سيعود إلى ما جبل عليه ». (1)
     وفيه أنّ توابع المزاج من المقتضيات الممكنة زوالها لا من اللوازم ، لكون النفوس متفّقة الحقيقة ، وخلوّها في بدو الفطرة عن جميع الأخلاق والأحوال كما هو شأن العقل الهيولاني ، فهي كصحائف خالية عن النقوش وما يحصل منها إمّا من مقتضيات العادة بالاختيار والرويّة ، أو استعداد الأمزجة ، والمقتضى ممكن الزوال ، كالبرودة للماء ، ولا يمتنع انفكاله كالزوجيّة للأربعة ، والخبران بعد ثبوتهما لا دلالة لهما أصلاً.
     وقيل ليست طبيعيّة ولا منافية للطبيعة ، بل هي خالية في بدو الفطرة عن جميعها ، فما يوافق مزاجه يسهل تصييرها ملكة بالممارسة والاعتياد ، وما يخالفه يصعب تحصيله فيحتاج إلى تكلّف.
     ويظهر وجهه ممّا ذكرناه.
     وربما يقرّر الحجّة هكذا : الأخلاق قابلة للتغيير ، وكلّ ما كان كذلك فليس طبيعيّاً والكبرى ضروريّة ، والصغرى وجدانيّة لما نجد من صيرورة الخيّر شريراً بمصاحبته وبالعكس ، وتأثير التأديب والتعليم في زوالها ولولاه لم يكن للفكر فائدة ، وبطلت السياسات.
     ويؤيّده ورود الأمر به في الآيات والأخبار.
     قال تعالى : « قد أفلح من زكّيها ». (2)
     وقال صلى الله عليه وآله : « بعثت لأتّمم مكارم الأخلاق ». (3)
     وقال صلى الله عليه وآله : « حسّنوا أخلاقكم ». (4)
     وردّ بمنع الكلّية لما نشاهد من عدم قبول بعضها للتغيير سيّما ما يتعلّق بالقوّة النظريّة كالحدس والتحفّظ وجودة الذهن ومقابلاتها ، ويكفي فبول
1 ـ جامع السعادات : 1/24.
2 ـ الشمس : 9.
3 ـ المحجة البيضاء : 5/89.
4 ـ المحجة البيضاء : 5/99.

(34)
بعضها له لصحّة السياسات والأوامر المذكورة وتحقّق فائدة البعثة ، كما أنّ صحّة علم الطب لاتنافي عدم قبول بعض الأمراض للعلاج.
     والجواب : أنّ عدم القبول في البعض على سبيل الامتناع كما هو شأن الطبيعي ممنوع ، غاية ما هناك كون بعضها عسرة الحصول صعبة القبول على مقتضى الأمزجة ، والمقتضى ليس من اللوازم كما ذكرنا.
     وقيل : يكون بعضها طبيعية وبعضها عادية ، ويظهر وجهه مما ذكر مع جوابه. فخير الأقوال أوسطها. قال المعلّم الأوّل : يمكن صيرورة الأشرار أخياراً بالتأديب.

فصل
     المراد من تهذيب الأخلاق تعديلها إلى الوسط من الإفراط والتفريط ، وردّ كلّ قوّة إلى كمالها ، وهو المراد من التغيير لا إماطة القوّة رأساً ، لأنّ لكلّ من القوى فائدة ضروريّة خلقت لأجلها ، وهي بمنزلة الآلة لما هو مقصود لذاته ، ولولاها لضاع المقصود الأصلي ، فتعديل القوّة الغضبية خلوّ النفس عن الجبن والتهوّر ، وكونها بحيث يحصل منه (1)الغضب المحمود شرعاً وعقلاً ، ولا يحصل المذموم كذلك ، وكذا الشهوة ، ولا ريب في إمكانه ، فكما أن النواة يمكن صيرورتها بالتربية نخلاً لوجود قوة النخليّة فيها وتوقّف فعليّتها على التربية التي هي بيد الإنسان ، فكذا تعديل قوّتي الشهوة والغضب بالمجاهدة ممكن ، وإن لم يمكن رفعها بالكلّية.
     ثم أنّه تختلف مراتب التأديب والسياسة باختلاف الاشخاص في الأمزجة ورسوخ العادة ، والأسهل قبولاً لها الأطفال ، لخلوّ نفوسهم عن الأضداد المانعة ، فيجب على أوليائهم تأديبهم بالآداب الحسنة ، وزجرهم عن الأفعال الذميمة ، حتّى تعتاد نفوسهم بذلك ، والمؤدّب الأوّل هو الناموس الإلهي ، والثاني أرباب المعارف الحقّة الراسخون في العلم ،
1 ـ كذا ، والظاهر : منها.
(35)
الحاملون لها ، فيجب تقييدهم بقيود النواميس الإلهيّة ، وتنبيههم بالحكم والمواعظ الشافية.

فصل
     لما كان شرف كلّ علم بشرف موضوعه ولذا كان الطب أشرف من الدباغة ، كان هذا العلم أشرف العلوم وأبهاها وأنفعها وأعلاها ، لأنّ موضوعه النفس الناطقة التي هي حقيقة الإنسان ، وهي أشرف أنواع الأكوان ، كما تبيّن في محلّه باوضح بيان ، وقد اشرنا إليه سابقاً ، ولهم عرض عريض يتّصل أوّله بأخسّ الموجودات ، ويلحق آخره بأشرفها ، وغايته إكمالها وإيصالها من أوّل مدارجها إلى أعلى معارجها ، فبه تتمّ الإنسانيّة ، وأيّ علم أشرف ممّا يوصل أخسّ الموجودات إلى أشرفها ، بل هو الاكسير الأعظم ، ولذا بالغ السلف في تدوينه وتعليمه قبل سائر العلوم ، فكما أنّ المريض لايغذّى بالأغذية اللذيذة المقوّية الا بعد نقاء البدن عن الأخلاط الفاسدة ، ولو غذي بها [ قبله ] زاد مرضه ، فكذا النفوس الغير المتخليّة عن ذمائم الأخلاق لا يزيدها التعلّم بسائر العلوم الا فساداً ، كما نشاهد في عصرنا هذا من كون بعض المتزيّين بزيّ العلماء أسوأ حالاً وأعظم شقاوة وأقسى قلباً وأشدّ جرأة على المعاصي ومتابعة الشهوات من الجهّال والعوام ، بل فساد حال هؤلاء ناش في الحقيقة منهم.
فصل
     قد تبيّن لك أنّ للنفس الحيوانيّة قوّة محرّكة تنقسم إلى الشهويّة والغضبيّة ، وهي الباعث لها على الفعل بالاختيار والإرادة بعد إدراك مايلائمها بالمدركة ، وللنفس الانسانيّة قوّة عقليّة بها تدرك حقائق الأمور وتميّز الخيرات عن الشرور ، وتميل إلى فعل ما تستحسنه وترك ما تستقبحه ، فهي أيضاً باعثة الفعل والترك بالرويّة والاختيار ، لكنّها تبعث على ملازمة


(36)
ما هو كمال لها من الاتّصال بعالم الملكوت ، والتشبّه بالملائكة المقدّسين ، والأوليان تبعثانها على ملازمة المآلك والملابس والمناكح والمشارب وفعل الأذيّات ودفع المضارّ والإقدام على الأهوال وشوق التسلّط على الناس.
     وأمّا القوى المدركة الحيوانيّة فيمن شأنها الإدراكات الجزئيّة ، وليس من شأنها التحريك والبعث بالارادة ، فهي كالجنود لهذه الثلاث تعرض ماتدركه عليها ، فإن كان الحكم للعاقلة أخذ (1) من مدركاتها مايلائمها وترك ما ينافرها ، وكذا الاخريان.
     وفائدة الشهويّة بقاء البدن الذي هو آلة لكمال القوّة العقليّة.
     وفائدة الغضبيّة كسر سورة الشهويّة ، فإنها لتمرّدها لاتطيع العاقلة بسهولة ، بخلاف الغضبيّة ، فإنها تتأدب وتطيع بيسر.
     قال افلاطون في الغضبية : هي بمنزلة الذهب في اللين والانعطاف ، وفي البهيميّة : هي بمنزلة الحديد في الكثافة والامتناع.
     فمن صعب عليه تسخير الشهويّة فليستعن فيه بالغضبيّة ، وليجتهد ولاييأس من روح الله ، فإنّه تعالى وعد المجاهدين في سبيله بالهداية ، فإن طاوعت الشهوية والغضبية العاقلة اتّحدت الثلاثة ، وحصل الأثر المطلوب من كل منها في وقته ، وتحقّق الكمال المطلوب منها برأسه ، بحيث يتخيّل أنّ المؤثّر واحد بلا ضدّ منازع ، ولا جله قيل انّها قوى ثلاثة لنفس واحدة.
     وهي المعبّر عنها حينئذ بالمطمئنّة لسكونها تحت حكم العاقلة ، وحينئذ صلحت النفس وقواها ، و « قد افلح من زكّيها » (2) وإن لم تفوّضا إليها الأمر ولم تطاوعاها وقعت المخالفة بينها ، فكلّما صارت العاقلة مغلوبة عنهما بارتكاب المعاصي حصل للنفس لوم وندامة ، وهي المعبّر عنها حينئذ باللوّامة ، إلى أن تصير مغلوبة عنهما بالمرّة مذعنة لهما من دون دفاع
1 ـ كذا ، والظاهر أخذت وتركت.
2 ـ الشمس : 9.

(37)
وتجاذب ، فتؤدّي إلى انحلال الآلة وهلاك النفس وقوامها « وقد خاب من دسّيها » (1) ، وهي المعبّر عنها بالامّارة.
     وحينئذ يصير الرئيس مرؤوساً ، والملك مملوكاً ، وهذا هو الظلم العظيم ، بل الكفر بالله الكريم ، وتعطيل نعمه وأياديه ، ووضع الشيء فيما لا يقتضيه. أعاذنا الله من نقمه بمنّه وجوده وكرمه.

فصل
     قد أشرنا إلى أنّ النفوس في بدوا الخلقة خالية عن جميع الأخلاق الا أنّها مستعدّة لها وبتوسّط القوى تكتسبها وترتسم بالصور والأعمال إلى أن تتقوّم بها وتصل إلى ما هو المقصود منها ، ولمّا كانت القوى متخالفة في البعث والتحريك فما لما يغلب أحدها لم تدخل النفس في العالم الذي يخصّها فتدخل مع غلبة العاقلة في الملائكة ، والشهويّة في البهائم ، والغضبيّة في السباع.
     واعلم أنّ هذا النزاع إنّما هو بين العاقلة والاخريين ، فإنّ نفوس الحيوانات لفقدان العاقلة يفها ليس فيها تنازع ، والملائكة لفقدان الاخريين في نفوسهم ليس فيها تدافع ، فالجامع لعوامل الكل المخصوص بالصفات المتقابلة هو الإنسان ، ولذا صار أشرف المخلوقات لاحاطته بجميع المراتب المتباينة وسيره في جميع المدارج المتخالفة من الجمادية والنباتية والحيوانية ولملكية ، ثم التجاوز إلى مرتبة الفناء المحض والوحدة الصرفة.
     قال أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ الله سبحانه خصّ الملك بالعقل دون الشهوة والغضب ، وخصّ الحيوانات بهما دونه ، وشرّف الإنسان بإعطاء الجميع ، فإن انقاد شهوته وغضبه لعقله صار أفضل من الملائكة لوصوله إلى هذه
1 ـ الشمس : 10.
(38)
المرتبة مع وجود المنازع ، والملائكة ليس لهم مزاحم ». (1)

فصل
     الغاية في تهذيب الأخلاق هو الوصول إلى الخير والسعادة.
     والخير إمّا غاية الوجود وهو المطلق أو آلة الوصول إليه وهو المضاف ، وهو إما ذاتي الشرف كالعقل والحكمة ، أو ممدوح كأنواع الفضائل والأفعال الجميلة ، أو خي بالقوّة ، وهو الاستعداد لما ذكر ، أو نافع في الوصول إليه كاثروة.
     والسعادة وصول الشخص بحركته النفسانيّة إلى كماله ، فتختلف بالنسبة إلىالأشخاص بخلاف الخير لا شتراك الكل فيه ، واختلفوا في اختصاصها بالنفس أو شمولها للبدن أيضاً.
     فقيل بالأوّل وأنها محصورة في الفضائل الأربع النفسانية ، لأن حقيقة الانسان عندهم عبارة عن النفس الناطقة والبدان آلة لهان فلو كان صاحب هذه الفضائل الأربع خامل الذكر ناقص الأضاء فقيراً ممتحناً بأنواع المحن والبلاء كان سعيداً الا مرضاً يمنع نفسه عن اقتناء تلك الفضائل الأربع كفساد العقل ورداءة الذهن ، وفرعوا عليه عدم حصول السعادة الحقيقيّة لها الا بعد مفارقتها عن البدن ، وأنّ كدورات الجسمية وأخباث الطبيعة مانعة لها عن انكشاف الحقائق لها كما هو حقّه وقبولها للآثار الحقة والأنوار الالهية وشاغلة لها بالضروريات البدنية والشواغل الجسمية ، وبعد المفارقة ترتفع عنها الحجب الظلمانية وتصفو لقبول الأنوار الحقة الربانية.
     وقال المعلم الأوّل وأتباعه : بأنّ من السعادة ما يتعلّق بصحّة البدن وسلامة الحواس واعتدال المزاج ، وما يتعلّق بالأموال والأعوان حتى يتوصّل
1 ـ جامع السعادات : 1/34 ، ونحوه في الوسائل : كتاب الجهاد ، باب وجوب غلبة العقل ، ح2.
(39)
بها إلى الكرام والمواساة وسائر الأفعال الموجبة للمدح ، وما يتعلق بحسن الحديث وذكر الخير حتى يشيع ثناؤه وإحسانه بين الناس فيرغبوا إليه ويهتدوا به ، وما يتعلق بإنجاح المقاصد وحصول المآرب على مقتضى الارادة ، وما يتعلّق بجودة الذني وصحّة الفكر والسلامة عن الخطا في المعارف الحقّة ، فمن حصلت له هذه الخمسة فهو سعيد تام ، والا فهو ناقص.
     ثم قالوا : يستقبح العقل أن يكون المعتقد للعقائد الحقة المواظب على الخيرات الجامع لأنواع الفضائل الكامل بذاته المكمّل لغيره الموسوم بخلافة الله تعالى المشغول بإصلاح خلق الله تعالى شقيّاً وبمجرّد مفارقة روحه عن البدن يصير سعيداً ، بل لها مراتب تحصل تدريجاً بقدر السعي والهمّة إلى أن يصل إلى أقصى مراتبها فيصير سعيداً تاماً وإن كان حيّاً ولا ينحل بمفارقة البدن.
     وقال المتأخّرون : السعادة على ضربين :
     أحدهما : ما يتعلق بالنفس حال تعلّقها بالبدن ، وهو الأدنى ، لأنّ لها في هذه الحالة جنبتين روحانية وجسمانية. والثانية كالآلة للأولى ، فما لم يستجمع فضائلها لا يتيسّر له اقتناء الفضائل الروحانية ، الا أنّ لها أيضاً مرتبتين أدناهما حصول الفضائل الجسمانية لها بالفعل مع الشوق التامّ إلى اقتناء الفضائل النفسانية ، وأعلاهما حصول الفعلية والشوق كليهما لها في الفضائل النفسانية ، الا أنّ التفاتها إلى تنظيم العالم الجسماني واقتناء فضائله بالعرض.
     والثاني : ما يتعلّق بالنفس بعد انقطاعها عنه فهي لا ستغنائها حينئذ عن السعادة البدنية لا سعادة لها الا الملكات الفاضلة ومشاهدة الجمال الأقدس والاستغراق في بحار الأنوار الإلية. والاولى لشوبها بالآلام الدنياوية ناقصة كدرة ، ولا يحصل للنفس لا حتجابها بحجاب البدن وتقيّدها بسجن الطبيعة العقل الفعلي والانكشاف التام واللذّة الكاملة الحقيقية الخالية عن


(40)
الكدورات ، ولو حصل لبعض المتجردين عن جلباب البدن مرّ كالبرق الخاطف ، بخلاف الثانية ، حيث أنّها لخلوصها عن الكدورات المذكورة واتّصالها بعالم القدس يشاهده كما هو حقّه ، وهي حينئذ سعادة أبدية لاانقطاع لها ولازوال ، فهذه أعلى من المرتبة الاولى ، وهن السعادة الحقيقية التامّة ، ولا تحصل إلا بعد مفارقة النفس عن البدن.
     واعلم أنّ تفسير السعادة بالعشق أو الحبّ أو الزهد أو غير ذلك من الألفاظ المتداولة في ألسن العرفاء وعلماء الشريعة مبني على كونها من آثار المعارف الحقّة والوصول إلى مرتبة الوحدة الصرفة ومشاهدة تلك الحضرة المقدسة ، فهي من لوازمها الغير المنفكّة عنها ، فالسعادة في الحقيقة ليست الا تلك المعارف الحقّة كما فسّرها الحكماء الالهيّون ، وانّما وقع التعبير عن الملزوم باللازم مجازاً والمدّعى واحد.
تتميم
     قيل : أول مراتب السعادة أن يصرف الهمّة نحو مصالح نفسه وبدنه من الأمور الحسّية وما يتّصل بهما بتدبير متوسّط بين الافراط والتفريط ، وهو في هذه الحالة إلى مايلزم أن يفعله أقرب ممّا لابدّ أن يتركه.
     ثم أن يصرف الهمّة فيما هو أفضل من إصلاح نفسه وبدنه من غير ملابسة للشهوات الدنيوية والتفات إلى المقتضيات الحسيّة الا بقدر الضرورة ، ولهذا النوع من الفضيلة مراتب غير محصورة لا ختلاف طبائع الناس وعاداتهم و مدارج معرفتهم وفهمهم وشوقهم وعلمهم وصبرهم على المشاقّ وهممهم ، وربما كان للبخت والاتّفاق مدخل فيه أيضاً.
     ثم أن يصرف الهمّة نحو الفضيلة الالهيّة وهي آخر مراتبها ، ولها أيضاً مراتب غير محصورة بحسب اختلاف الأشواق والهمم وقوّة الطبع وصحّة العقيدة وهي التشبّه بالمبدأ والاقتداء به في افعاله ، فلا يفعل الا الخير المحض ،
كشف الغطاء ::: فهرس