كتاب كشف الغطاء ::: 41 ـ 50
(41)
وغاية فعله نفسه ، لأنّ الخير المحض مقصود لذاته ، ولا يفعف ما هو كذلك الا لذاته ، لكنه موقوف على أن ينتفي عنه الوارض النفسانية ويصفو عن الشهوات الرديّة ، ويمتلأ قلبه من شعائر الله ومعرفته وحبّه والانس به ومشاهدة حضرته والحقائق الحقّة ، ويكون ذلك كالقضايا الأولية في نفسه ، بل أوضح وألطف وأظهر وأشرف ، فلا يبقى في نفسه شيء من جلب نفع أو دفع ضرّ أو غيرهما ، فيصير هو في نفسه خيراً محضاً ، ولا يطلب الا ما هو كذلك ، فيكون ذاته غاية لفعله ، وفعله غرضاً بذاته ، وإن ترتّبت على فعله فوائد أخرى كثيرة على الغير بالعوض.
     تنبيه : لابدّ في سعادة المرء من إصلاح جميع صفاته وأفعاله على طريق الاستمرار والدوام ، بحيث لا يتغيّر حاله بتغيّرات الأزمان والأحوال ، فلا يزول صبره بحدوث النوائب والفتن وورود المصائب والمحن ، ولا يقينه بكثرة الشبهات ، ولا رضاه وشكره بتواتر البليّات ، ولو كان مثل بلاء أيّوب النبي عليه السلام مثلاً ، ولا يحصل التفاوت في حاله لكن لا لنقصان فهمه وقلّة إدراكه وعدم إحساسه ، بل لكبر نفسه وشهامة ذاته وارتفاع همتّه ، فلا يكون لتقلّبات الأوار فيها تصرّف ، بل ربّما خرج بذلك عن تصرّف الطبائع الفلكية والكواكب السماوية ، فلا يتأثّر بسعدها ونحسها وقمرها وشمسها وربّما حصلت لهم قوّة على التصرّف في مواد الكائنات وتغييرها عن مقتضى طبائعها كما حصل لسيّد الرسل صلى الله عليه وآله من شقّ القمر وردّ الشمس وغير ذلك.
فصل
     اللذّة الانفعالية تنفعل بعروض الأحوال المختلفة لها وتتبدّل بالزيادة والنقيصة بخلاف الفعلية لكونها ذاتية ، واللذّات الحسيّة كلها انفعالية لما نرى من تغيرها بالتزايد مع تزايد القوّة الحيوانيّة وضعفها بضعفها إلى أن ينتفي بالمرّة فتصير بنفسها آلاماً ، واللذّة الفعلية المتربتة على السعادة ذاتية عقلية


(42)
إلهية ، فلا زوال لها ولا اضمحلال ، مع انّ اللذّات الحسيّة ليست لذّات حقيقيّة ، بل هي رفع آلام ، ولو كانت لذّات فلاشكّ في كونها محفوفة بالمكاره والآلام الغير المحصورة ، كما قال سيّد الساجدين عليه السلام :
     « عجبت من قوم يطلبون الراحة في الدنيا مع أنّها مخلوقة في الآخرة ». (1)
     وأيضاً فإنّ اللذّة إدراك الملائم والنفس لتجرّدها إنما تميل إلى المجرّدات من سنخها من الأمور العقلية والأنوار العلميّة ومشاهدة الذوات المجرّدة وهي لاتفنى بفناء البدن ، وكذا ما يلائمها فلذّتها دائمة أبدية ، بخلاف اللذّات الحسيّة لا ستنادها إلى الجسمانيّات الفانية فهي زائلة فانية.
     وللشيخ الرئيس هنا كلام يؤكّد ويوضح ما أدرجناه في بحث السعادة من أوّله إلى هنا.
     قال في الشفاء : « يجب أنّ يعلم أن لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة يخصها وخيراً ، وأذى يخصّها وشراً ، فلذّة الشهوة وخيرها أن يتأدّى إليها كيفية مخصوصة ملائمة للحمية (2) ، ولذّة الغضب الظفر ، ولذّة الوهم الرجاء ، ولذّة الحفض تذكّر الأمور الموافقة الماضية ، وأذى كل واحد منها ما يضاده ، ويشترك كلها نوعاً من الشركة هي أنّ الشعور لملائمها وموافقها (3)هو الخير ، واللذّة الخاصّة بها وموافق كلّ واحد منها بالذات والحقيقة حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل.
     وأيضاً فهذه وإن اشتركت في هذه المعاني فإنّ مراتبها في الحقيقة مختلفة ، فالذي كماله أدوم وأتمّ ، والذي كماله أكثر والذي كماله أوصل إليه ، والذي هو في نفسه أكمل وأفضل ، والذي في نفسه أشدّ إدراكاً ، فاللذّة التي له أبلغ وأوفر.
1 ـ بحار الأنوار : 73/92 مع اختلاف يسير.
2 ـ كذا ، وفي المصدر : « كيفيّة محسوسة ملائمة من الخمسة ».
3 ـ كذا ، وفي المصدر : في أنّ الشعور بملائمتها وموافقتها.

(43)
     وأيضاً فإنه قد يكون كمال ما بحيث يعلم أنه كائن ولذيذ ولا يتصوّر كيفيّته ولا يشعر باللذّة ، ومالم يشعر لم يشتق ، ولم ينزع نحوه مثل العنين ، فإنه متحقّق عنده أنّ للجماع لذّة ولكنه لايشتهيه ، ولا يحنّ نحوه ، وكذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة ، والأصم عند الألحان المنتظمة. وربّما يتيسّر للقوّة الدرّاكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضدّه مثل كراهة بعض المرضى الطعم الحلو وشهوتهم الطعوم الرديّة ـ إلى أن قال ـ : وقد تكون القوّة الدرّاكة ممنوّة بضدّما هو كمالها ، ولا تحسّ به ولاتنفر عنه حتى إذا زال العائق عنها تأذّت به كلّ التأذّي مثل الممرورين ، فربما لم يحسّ بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه فحينئذ ينفر عن الحالة العارضة له ، وقد يكون الحيوان غير مشته للغذاء وهو أوفق شيء له بل كارهاً له ، ويبقى عليه مدّة طويلة فإذا زال العايق عاد إلى واجبه في طبعه فاشتدّ جوعه وشهوته للغذاء حتّى لا يصبر عنه أو يهلك عند فقدانه ، وكذلك قد يحصل سبب الألم العظيم مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير ، الا أنه يحسّ البدن آفة (1) فلا يتأذّى البدن به حتّى تزول الآفة ، فيحسّ حينئذ بالالم العظيم.
     ثمّ قال : إذا تقرّرت هذه الأصول فنقول : إنّ النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن يصير عالماً عقليّاً مرتسما فيها صورة الكلّ والنظام المعقول في الكلّ والخير الفائض في الكل مبتدءاً من مبدأ الكل وسالكاً إلى الجواهر الشريفة التي هو مبدأ لها (2) ، ثم الروحانيّة المتعلّقة نوعاً بالأبدان ، ثمّ الأجسام العلويّة بهيئاتها وقواها ، ثم كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيأة الوجود كلّه فتصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كلّه ، مشاهدة لما هو الحسن المطلق والجمال الحق ومتّحدة به منتقشة بمثاله وهيأته ، منخرطة في
1 ـ كذا ، وفي المصدر : الا أنّ الحسّ مؤوف.
2 ـ كذا ، وفي المصدر : مبتدأة من مبدأ الكلّ ، سالكة إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة ثم ...

(44)
سلكه صائرة إلى جوهره ، فليقس هذه بالكمالات المعشوقة للقوى الاخر ، فتجد هذا في المرتبة بحيث يقبح أن يقال : إنّه أفضل وأتمّ منها ، بل لانسبة لها إليه بوجه من الوجوه تماماً وفضيلة وكثرة ، أمّا الدوام فكيف يقاس الدوام الأبدي بدوام المتغير الفاسد ، وأمّا شدّة الوصول فكيف يقاس ما وصوله بملاقاة السطوح مع ما هو سار في جوهره حتى يكون بلاانفصال ، إذ العقل والعاقل والمعقول واحد ، وأمّا المدرك في نفسه فالأمر لا يخفى (1).
     ثم قال : ولكنّا في حال كوننا في البدن وأنعماسنا في الرذائل لانحسّ بتلك اللذّة ، إذا حصل عندنا شيء من أسبابها ، ولذلك لانطلبها ولا نحنّ إليها ، اللّهمّ الا أن يكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما عن أعناقنا وطالعنا شيئاً من تلك اللذّة ، فحينئذ ربّما نتخيّل منها خيالاً طفيفاً ضعيفاً خصوصاً عند انحلال المشكلات واستيضاح المطلوبات النفسيّة والتذاذنا بذلك شبيه بالالتذاد الحسيّ من المذوقات اللذيذة بروائحها من بعيد ، وأما إذا انفصلنا عن البدن و كانت القوة العقلية بلغت من النفس حدّاً من الكمال الذي يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال الذي لها أن تبلغه كان مثلنا مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ وتعرّض للحالة الاشهى وكان لا يشعر به فزال عنه الخدر وطالع اللذّة العظيمة دفعة فتكون تلك اللذّة لا من جنس اللذّة الحسّية الحيوانية ، بل لذّة تشاكل الأحوال الطيّبة التي للجواهر المحضة [ وهي ] أجل من كلّ لذّة وأشرفها ، وهذه هي السعادة.
     ويجب أن لايتوهّم العاقل أنّ كل لذّة فهو كما للحمار في بطنه وفرجه وأنّ المبادىء الاولى المقربة إلى ربّ العالمين عادمة للذّة والغبطة ، وأنّ ربّ العالمين ليس له في سلطانه وعظمته وخاصيّته البهاء الذي له وقوّته الغير المتناهية أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجلّه عن أن نسميّه لذّة ،
1 ـ كذا ، وفي المصدر : وأما أنّ المدرك في نفسه أكمل فأمر لايخفى.
(45)
وللحمار والبهائم حالة طيّبة ولذّة ، كلا ، بل أيّ نسبة تكون لذلك مع هذه الخسيسة ، ولكنّا نتخيّل هذا ونشاهده ولم نعرف ذلك بالاستشعار بل بالقياس ، فحالنا عنده كحال الأصمّ الذي لم يسمع قط ولم يتخيّل اللذة اللحنيّة. انتهى » (1).

فصل
     ثم أنّ الشقوة ضدّ السعادة ، ولها أيضاً مراتب ، فمن لم يحصّل في دار الدنيا تصوّراً ولا تصديقاً ولم تقبل نفسه من المبادىء العالية صوراً ، وتسامح في أداء الطاعات والأعمال الحسنة ولم يتخلّ عن الرذائل الخلقيّة ولم يتحلّ بالفضائل النفسيّة وأهمل قوّتيه العلمية والعملية فإن كان له شعور جملي بالكمال وتصوّر إجمالي لما هو مركوز في جبلّه من تمييز الحسن عن القبيح ، والممدوح عن المذموم ، فهذا الرجل بعد كشف غشاوة الحجب الظلمانية عنه يدرك حقيقة حرمانه عن ملائمات جوهره وانهماكه في منافيات روحه وانقطاع ما كان يراه لذّة وملائماً ، وانسداد أبواب ما كان يطلبه مع رسوخ رغبته وميله في نيله عنه ويصل إليه من الالم والعذاب مايكون نسبته إلى سائر الآلام كنسبة عذاب الآخرة إلى الدنيا ، وهذه هي الشقاوة الحقيقية ، و ...
     ولعلّ مراد من قال بتجسّد الأعمال وأنّ الهيأة النفسانيّة إذا صارت ملكة تصير متمثّلة في عالم الباطن بما يناسبها ، لأنّ صور الأشياء تختلف باختلاف العوالم كالعلم المدرك في اليقظة بالعقل أو الوهم وفي النوم باللبن وكالسرور المتصوّر في النوم بالبكاء ، فإنّ الحقيقة متحدّة ، الا أنها تتجلّى في كل عالم بصورة ، هو أنّ موادّ الأشخاص الاخروية هي الملكات النفسية
1 ـ الهيات الشفاء : المقالة التاسعة ، الفصل السابع في العاد. مع تقديم وتأخير ، وقد كانت بعض العبارات مشوّشةً صحّحناها من المصدر.
(46)
والنيّات القلبية المتصوّرة بصور روحانية وجودها الادراك ، فإذا انقطعت علاقة النفس عن دار الفناء وحان أو ان مسافرتها إلى دار البقاء وارتفعت عنها حجب الموادّ الظلمانية وخلصت عن عوائق الدنيا الدنيّة والتفتت إلى صحيفته صار الادراك فعلياً والعلم عينيّاً ، فيشاهد ويرى أفعاله.
     « فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد » (1) ، « اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ». (2)
     وبهذا المعنى يصحّ حديث الخلود ، فإنّ القول والعمل الفانيين لو كانا هما السبب ، لبقي المسبب مع زوال السبب ، وهو محال مع أنّه يقبح على الحكيم التعذيب أبداً على فعل قصير المدّة.
     وهذا حال الناقصين في الكمالات العلمية ، سواء كانوا ناقصين في الكمالات العملية أيضاً أم لا ، فإنّ العمل لايجدي مع نقصان العلم ، وأمّا من كان كاملاً في العلم ناقصاً في العمل منقاداً لقوّتيه الشهوية والغضبية ، فهو وإن لم يحصل له الالتذاذ بما له من الكمالات بعد مفارقة روحه عن البدن ، فإنّ غفلة النفس وعدم التذاذها بالكمال مادام (3) في البدن ليست لانطباعها فيه لتجرّدها بل للعلاقة التي لها معه وشوقها إلى تدبيره والاشتغال بآثاره ، فلو فارقته على هذه الحالة فكأنّها لم تفارقه لبقاء الشوق والعلاقة ، بل هو في هذه الحالة أسوء حالاً من السابق ، لأنّه من جهة حصول اللذّات الحسّية له بالفعل لم يكن متأذّياً من فقد الكمال العقلي ، فكان كالمريض الممرور ، وفي هذه الحالة لما انقطعت عنه اللذّات الحسّية لفقدان آلتها مع بقاء ميله إليها وحصول الشوق الأصلي المغفول عنه أولّاً على وجه آكد لعدم شاغل عنه حينئذ ، فالميل البدني يجذبه إلى السفل ، الشوق يجذبه إلى العلو ، فيحدث له من الحركات المشوشة ما يعظم أذاه
1 ـ ق : 22.
2 ـ السراء : 14.
3 ـ اذا ، والظاهر : مادامت.

(47)
جدّاً ، على أنّ الهيأة البدنية الراسخة فيه الغير الزائلة عنه مضادّة لا محالة لجوهر ذاته ، فهي مؤلمة غاية الألم ، الا أنّه ليس لأمر ذاتي بل لأمر عرضي غريب هو حصول الملكات الردية من كثرة الاتيان بالملائمات الحسّية ، فبعد انقطاع آلتها عنه يضعف الميل تدريجاً إلى أن يفنى ويزول ، فلا يكون مخلداً في هذا النوع من العذاب ، بخلاف شوق الكمال العلمي ، فإنه لايزول أبداً فلو لم يحصّل في دار الدنيا شيئاً منه بقي ألمه أبداً ، وماذكرناه من أحوال الصنفين فإنّما هي للنفوس الذكيّة.
     وأمّا النفوس الساذجة الغير المستشعرة بكمالها الحقيقي الغير المكتسبة له فلا يخلو إما أن يكون معتقداً للعقائد الحقّة على سبيل التقليد مع اجتماع شرائط التقليد فيه أو لا.
     ولأوّل إن حصّل من الكمالات العملية الائقة بحاله بقدر ما اكتسبه من العقائد الحقّة ولو على سبيل التقليد فهو أيضاً من السعداء وهم المعبّرعنهم بالبله في قوله صلى الله عليه وآله : « أكثر أهل الجنّة البله ». (1)
     وسعادتهم جسميّة لعدم إدراكهم العقلية والباعث لهم على اقتناء الملكات الحسنة واجتنابهم عن الأخلاق الذميمة والأعمال القبيحة هو الطمع في لذّة مجانسة لللذّات الجسميّة وإن كانت أرفع وألطف وأدوم وأشرف ، أو الخوف من الآلام المجانسة لهذه الآلام الجسمانيّة وإن كانت أشدّ وأدوم منها ، إذ لايتصوّر في حقّهم غير ذلك ، فنفوسهم بعد المفارقة عن البدن شائقة جاذبة إلى الأجسام العنصرية لا ستحالة التناسخ سواء قلنا بتعلّقها بالأجسام الشريفة السماوية على تفاوت مراتبهم ودرجاتهم كما هو رأي المشّائين ، أو بالأبدان المثالية كما هو رأي العرفاء والاشراقيين.
     وإن لم يحصّلها ، بل حصّل الهيئات المردية والملكات الشهويّة
1 ـ الجامع الصغير : 1/53.
(48)
والغضبيّة ، فهو من صنف الأشقياء الواصلين إلى الكمال العلمي دون العملي يعذّب ولايخلّد ، وإن كان شقاوته أهون وعذابه أخفّ من شقاوتهم وعذابهم ، والكلام في جنس ألمه وعذابه كما ذكرناه ، ولما كان أغلب الناس من هذين الصنفين فالمواعيد الشرعية ترغيباً وترهيباً منساقة إليهم.
     وإن لم يجتمع فيه شرائط التقليد لم ينفعه تقليده ولا الأعمال الصالحة الصادرة عنه ، وكان كالمعتقد للعقائد الباطلة من صنف من لم يحصّل من الكمالين شيئاً ، مخلّداً في الألم والعذاب الحاصل لأولئك.
     فقد ظهر ممّا فصّلناه أنّ انحصار اللذّة في الجسمانيّات كما يظنّه المسجونون بسجن الطبيعة ، فإنّ غاية همّتهم وشوقهم في تحصيل الملكات الفاظلة والأعمال الصالحة هي الوصول إلى أشرف أنواع اللذّات الحسّية ، كالجنّة والحور والغلمان ، وفي ترك الرذائل الخلقية والأفعال الفاظحة الخوف من أدوم أنواع آلامها كالنار والحيّات والعقارب ، إنّما يصدر توهّمه من عدم خلاص النفس عن سجن الطبيعة ورسوخ العلاقة بالجسم وما يلزمه من قواه الشهويّة والغضبيّة ، وكيف يرضى من له أدنى قريحة بأن يكون غاية همّته ونهاية سلوكه الوصول إلى أشرف لذّات البهائم ، ويكون نفسه المخلوقة لأمر عظيم خادماً في هذه المدّة للنفس البهيميّة. أو ما يتفكّر في أنّ ذلك عبادة الأجراء والعبيد؟ أو لم يسمع قول سيّد الموحّدين :
     « إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك ، بل لمّا وجدتك أهلاً للعبادة عبدتك ». (1)
     بل كما قاله الشيخ : كيف يرضى بأن يكون ربّ العالمين الذي ليس له في بهائه وعظمته وكبريائه من يوازيه مسمّياً لهذه اللذّات لذّات قاصداً لها ممّا يكرّره في كتابه الكريم ويؤكّد عليه بلسان نبيّه الرسول الصادق الأمين ، وكذا المبادىء العالية المنزهّة عن هذه اللذّات الحسيّة لا يكون لها لذّة وغبطة أصلاً ،
1 ـ البحار : 41/14 مع اختلاف.
(49)
لكنه تعالى ألقى بواسطة النبوّة إلى كافة الناس ما تحتمله أفهامهم وتصل إليه أوهامهم.
     قال الغزالي في المضنون : اللذّة المحسوسة الموعودة في الجنان من أكل وشرب ونكاح يجب التصديق بها لإمكانها وهي حسّي وخياليّ وعقليّ.
     أمّا الحسّي فبعد ردّ الروح إلى البدن كما ذكرناه. ولا كلام في أنّ بعض هذه اللذّات ممّا لا يرغب فيها كلّ أحد كاللبن والاستبرق والطلح المنضود والسدر المخضود ، وقد خوطب بهذا جماعة يعظم ذلك في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة ، وفي كلّ صنف واقليم مطاعم ومشارب ومالبس يختصّ بقوم دون قوم ، ولكلّ أحد في الجنّة ما يشتهيه.
     « ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون ». (1)
     وربما عظّم الله شهوة في الآخرة لا يشتهيه أهل الدنيا في الدنيا كالنظر إلى ذاته سبحانه ، فإنّ الرغبة الصادقة فيها إنّما يكون في الآخرة دون الدنيا ، ـ إلى أن قال ـ :
     وأمّا الوجه العقلي فهو أن يكون هذه المحسوسات أمثلة لللذات العقلية الغير المحسوسة ، لكنّها تنقسم إلى أنواع مختلفة الذات كالحسيّات ، فتكون أمثلة لها ، وكلّ واحد منها مثالاً للأخرى ، وإن كانت ممّا لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فيجوز أن يجمع بين الكلّ ، ويجوز أن يكون نصيب كلّ واحد بقدر استعداده ، فالمشغوف بالتقليد المتقيّد بقيد الصورة الذي لم ينفسح له طريق الحقائق يمثّل له هذه الصور ، والعارفون المستبصرون يفتح لهم من لطائف السرور واللذّات العقليّة ما يليق بهم ويشفي شوقهم وشهوتهم ، إذ حدّ الجنّة أنّ فيها لكلّ امرىء ما يشتهيه ، فإذا اختلف الشهوات اختلفت العطيّات واللذّات ، والقدرة واسعة ، والقوّة البشريّة عن الاحاطة بعجائب القدرة قاصرة ، والرحمة الالهيّة ألقت بواسطة
1 ـ فصلت : 31.
(50)
النبوّة إلى كافّة الناس ما احتملته أفهامهم فيجب التصديق بما فهموه والاقرار بما وراء منتهى الفهم من أمور تليق بالكرم الإلهي ولا تدرك بالفهم البشري ، وإنّما تدرك في مقعد صدق عند مليك مقتدر. انتهى ملخّصاً.
كشف الغطاء ::: فهرس