كتاب كشف الغطاء ::: 321 ـ 330
(321)
     قال الصادق عليه السلام : « المغرور في الدنيا مسكين وفي الآخرة مغبون ، لأنّه باع الأفضل بالأدنى ». (1)
     ولما كان لمعرفة مداخل الآفات ومجاري الفساد مدخل في الاحتياط والاجتناب حسن التنبيه عليها إجمالاً.
     فنقول :فرق المغترّين غير محصورة وجهات غرورهم موفورة.
     فمنهم الكفّار بأسرهم. ومن جهات غرورهم كون نقد الدنيا أحسن من نسيئة الآخرة ، وفساده ظاهر ، لأنه صحيح مع التساوي في المقدار والمقصود والنفع والبقاء والا فالتاجر يتعب نفسه بأنواع المتاعب ويبذل نقوده مع إيقاعها في الأخطار لتحصيل النسيئة والمريض يصرف نقده في الدواء والطبيب للصحّة التي هي نسيئة والزارع يبثّ بذره في التراب طلباً للنسيئة وكذا سائر الناس في حرفهم وصنائعهم ، فإذا رجحت نسيئة الدنيا مع تناهيها وقلّتها وفنائها وشوبها بالكدورات وأنواع المنغّصات على نقدها فالآخرة لمن عرف نسبة الدنيا إليها أجدر بالتر جيح لكونها دائمة صافية عن الكدورات ، ولو حصل اليقين بوجود الواجب وحقّية الرسول بالبراهين صدّقهما في الأخبار الصادرة عنهم مما ذكر سيّما مع تأكّدها بالتجربة والعيان.
     وإمّا أنّ لذّة الدنيا يقينية والآخرة لم يرها أحد حتى يعلم ما فيها ، وفساده أيضاً ظاهر ، إذ لاشكّ في الآخرة بعد ما يرى من اتّفاق العقلاء والعظماء من الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء عليها فمن لم يعرف المرض والداء يطمئنّ نفسه بما يقوله أرباب فنّ الطبّ فيهما ولا يطالبهم بالدليل أصلاً ، وهذا مدرك عامّ يشمل طبقات الناس بأسرهم لحصول اليقين ، وللخواصّ مسلك آخر ، وهو كشف حقائق الأشياء على ما هي عليها بطريق الوحي والالهام.
1 ـ مصباح الشريعة : الباب 36 ، في الغرور.
(322)
     وإما التقديرات الوهمية الكاذبة مثل أن المؤمن لو كان له حظ عند الله لكان ذاحظ من الدنيا ، فحسن حالنا فيها يدل عليه في الآخرة وأنه لو لم يحبنا لما أحسن إلينا ، وفسادها ظاهر أيضاً ، بل هذا هو الغرور بالله العظيم ، كما أشار إليه في كتابه الكريم ، لأن نعماء الدنيا مهلكات مبعدات عن الله يحمي بها أولياءه كما يحمي الوالد الشفيق ولده المريض عن لذائذ الأطعمة حباً له ، فمن كان له عبدان يمنع أحدهما من اللهو واللعب ويلزمه التعلم والأدب والاحتياط من لذائذ الأطعمة المضرة له ويأمره بالأدوية النافعة ويهمل الآخر فلا يسأل عن حاله ولا يبالي بأفعاله ، فهذا الفعل منه يدل على حبه للأول دون الثاني لا العكس ، وقد كان السلف يحزنون من إقبال الدنيا ويقولون : ذنب عجلت عقوبته ، ويفرحون بإدبارها ويقولون : مرحباً بشعار الصالحين ، والمغرور بالعكس ، حيث يظن الأول كرامة ، والثاني إهانة كما أخبر الله تعالى عنه ولو تدبر كلمات الله ورسله وأوليائه ولاحظ أحوالهم وأيقن بالله وصفاته لم يغتر بهذه الخيالات الفاسدة ، ونظر إلى حال الفراعنة الماضين وما انتهى إليه أمرهم من الهلاك والبوار وانقطاع الآثار.
     « أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين* نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون » (1) « سنستدرجهم من حيث لايعلمون » (2) « فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ». (3)
     ومنهم عصاة أهل الحق وفساقهم ومن جهات غرورهم مضافاً إلى ما ذكر ، رحمة الله وفضله وحلمه وصفحه ، وما ورد في مدح الرجاء ، وربما اغتروا بالأنساب كالذرية العلوية ، فيطمئنون من كثرة المعاصي والخروج عن طريقة أجدادهم بذلك ، وقد تقدم في بحث الرجاء أن من رجا شيئاً طلبه ،
1 ـ المؤمنون : 56 ـ 57.
2 ـ الأعراف : 182.
3 ـ الأنعام : 44.

(323)
فالذي لم ينكح أو نكح ولم يجامع ولم ينزل وهو يرجو الولد فهو مغرور أحمق.
     وقد قال الله : « وأن ليس للإنسان الا ما سعى * وأنّ سعيه سوف يرى * ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى ». (1)
     وقال : « كلّ نفس بما كسبت رهينة ». (2)
     فالرجاء بدون العمل تمنّ وغرور.
     وكذا النسب لا نفع له ، والله تعالى يقول :
     « فلا أنساب بينهم يومئذ ولايتساءلون ». (3)
     ويقول : « ولا تزر وازرة وزر أخرى ». (4)
     فمن زعم أنّه ينجو بصلاح أبيه كمن زعم أنّه يشبع بأكلة أبيه ويصل إلى المنزل بمشي أبيه أو يصير عالماً بعلم أبيه ، هيهات بل التقوى فرض عين على كلّ أحد ، « ولا يجزي والد عن ولده » (5) بل « يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه » (6) ولا شفاعة الا مع حصول شرائطها « ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ». (7)
     ومنهم العلماء أمّا في تحصيل العلوم فمنهم من يقتصر على الكلام والجدال ومعرفة آداب التعرّض في أندية الرجال من غير تحصيل العقائد الحقّة أو رسوخ فيها فهو كخيط مرسل في الهواء تفيّؤه الريح تارة كذا وتارة كذا ، وهو يظنّ أنّه أعلم الناس بالله وصفاته وأفعاله وآياته.
     ومنهم المقتصر على العلوم الآلية ظنّاً منه أنّها مقدّمات للعلوم
1 ـ القمر : 39 ـ 41.
2 ـ المدثر : 38.
3 ـ المؤمنون : 101.
4 ـ الأنعام : 164.
5 ـ لقمان : 33.
6 ـ عبس : 34.
7 ـ الأنبياء : 28.

(324)
الشرعية ، فيفني عمره في طلبها ولم يحصل شيئاً ممّا خلق لأجلها (لأجله ظ).
     ومنهم المقتصر على الفقهيات أو بعضها أو بعضها كالمعاملات أو مع مقدّماتها القريبة كأصول الفقه معرضاً عمّا خلق لأجله من المعارف الحقّة ، وتزكية نفسه عن ذمائم الصفات وتحلّيها بمحاسن الملكات وشرائف الطاعات.
     ومنهم من تعمّق في جميع العلوم بأسرها مهملاً للقوّة العملية معرضاً عن تزكية نفسه عن الرذائل الخلقية أو مكتفياً فيها بالظاهر الجلي بدون تعمّق في إدراك الخفايا المكنونة في الزوايا فإنّها أغمض وأدقّ من كلّ شيء كما أشرنا مراراً إليه.
     وقد بيّنا لك ما به يحصل النجاة ويفوز المرء بالسعادات.
     وإمّا في صفات القلب حيث يتكبّر ويسمّيه إعزازاً للدين وإرغاماً لأنف الجاهلين ويحسد ويغتاب ويسمّيه ردّاً على المبطلين وغضباً للحقّ والدين ويرائي ويسمّيه إرشاداً للمسلمين.
     وكلّ هذا تغرير لنفسه والله مطلع على سريرته.
     ومن أعظم ما اغترّ به [ بعض ] علماء عصرنا الخوض في أموال اليتامى والمساكين ، وصرفها في شهواتهم ومن يختلف إليهم بنوع من الأنصار والمريدين ظنّاً منهم أنهم يستحقّون بذلك جزيل الأجر والمثوبة بإعانة الفقراء ذوي المتربة وتخليص الأغنياء عن اشتغال الذمّة بالحقوق الواجبة وترويجاً للعلم بإعانة الطلبة والله مطّلع على سرائرهم عالم بما في ضمائرهم.
     وبالجملة فجهات الغرور سيّما في هذا الزمان أكثر من أن يسطر ببنان البيان ، بل انتهى الأمر إلى كونهم قطّاع طريق الاسلام والمسلمين ، فهلاكهم


(325)
أنفع للإيمان والمؤمنين ، لأنّهم عملة الجبت والطاغوت والشياطين ، فإلى الله المشتكى منهم ، ونسأله أن يخلّص الناس بظهور قائمهم عنهم. (1)
     ومنهم الوعّاظ ، فمنهم المتكلّم في شرائف الملكات ومرغّب الناس في فضائل الصفات ، ومحذّرهم عن الذمائم والآفات مع كون المسكين مليّاً من الرذائل خليّاً من الفضائل ، فيزعم أنّه بمجرّد قوله واطّلاعه على الاصطلاحات وفهمه لمعاني الألفاظ والعبارات يعدّ من جملة السالكين وبإصلاحه الخلق وإهدائهم إلى الحقّ يستحقّ الأجر الجزيل من ربّ العالمين ، مع ما عرفت من أنّه من أعظم الناس حسرة يوم القيامة ، وأشدّهم تأسّفاً وندامة.
     « يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا لا تفعلون ». (2)
     ومنهم المشتغل بالطامّات وتلفيق كلمات خارجة عن قوانين الشرع والعقل مع تصنّعات في التشبيهات والاستعارات وتزيينات للألفاظ والعبارات طلباً للأعوان والأنصار بكثرة التواجد والرغبات والتذاذاً من ضجّة الناس وتحريك رؤوسهم على ما يلفّقه من الكلام وفرحاً من تكاثر المريدين من العوام الذين هم كالأنعام ، وربما لم يبال بالكذب في نقل
1 ـ من شؤون فقهائنا العظام الولاية على أموال اليتامى وتخليص الأغنياء عن اشتغال الذمة بالحقوق الواجبة وترويج العلم باعانة الطلبة وغير ذلك ، ولابدّ في كل عصر وزمان منهم حتّى يرجع الناس إليهم في الفتيا والحلال والحرام وسائر امورهم الدينية ويجب على الناس أيضاً الرجوع إليهم والأخذ منهم. نعم يمكن أن يوجد في كل زمان من يتصدّى هذا المقام وليس أهلاً له ولكن هذا لا يختص بهم فكم من مدّع للسير والسلوك أيضاً في كل عصر وزمان وليس عنده الا الدعوى الفارغ من الواقع.
2 ـ الصف : 2 ـ 3.

(326)
الأخبار الغريبة ، وتلفيق الحكايات العجيبة حرصاً منه على حصول وقع لمقالته في الصدور مع أنّه في غاية الحمق والغرور ، وإنّما هو شرّ الناس ، بل أضرّبهم من الخنّاس لقصر همّته على ذكر ما يؤدي إلى سرورهم ويزيد في غرورهم من تقوية رجائهم وازدياد رغبتهم في المعاصي واجترائهم ، وهو يظنّ انّه سالك مسلك الهداية وإنقاذ الهكى من الجهالة والغواية ، مع أنّ ضرره أبقى وأدوم وفساده أكثر وأعظم.
     ومنهم من وصل إلى الدرجة العليا في تهذيب الصفات وتصفية النفس عن لوث الكدورات وتخليصها عن الشواغل والعوائق وقطع الموانع والعلائق ، وصرف طمعه عن الخلائق إلى الخالق ، وإنّما دعته إلى سلوك سبيل الهداية والارشاد مجرّد الرحمة والشفقة على العباد ، الا أنّه بعد الاشتغال بذلك وجد الشيطان سبيلاً إلى ما هنالك ، فدعاه إلى الرئاسة دعاء خفيّاً ، ثمّ لم يزل يربو وينمو إلى أن صار قويّاً فصار يتصنّع لهم في الألفاظ والنغمات ، ثم في الزيّ والهيأة والحركات ، فقبله الناس قبولاً عميماً وآثروه بأموالهم وأنفسهم إيثاراً عظيماً ، وصاروا له بمنزلة الخدم والعبيد ، فعند ذلك ذاق لذّة مالها من مزيد ، وابتلي بشهوة هي فوق الشهوات ، ووقع في آفة هي من أعظم الآفات ، بعد ما كان مطمئناً بتركه لجميع اللذّات ، فابتلاه الشيطان بالاثم الأعظم وغرّه من حيث لايعلم ، وربما ترقّى فاطّلع على هذه المكيدة واجتهد في استخلاص نفسه فترك ما كان يفعله خوفاً من المفسدة فأعجبه علمه بكيد الشيطان وفراره من شروره ، فوقع في غرور آخر بعد غروره ، ولو كان سالكاً مسلك النجاة لم يأمن كيد الشيطان في حال من الحالات ، بل كان مواظباً على التضرّع والابتهال والاستعانة في دفع غوائله من الكريم المتعال ، خائفاً على نفسه من سلب ما أوتي ثم من خطر الخاتمة الذي لايمكن منه التفصّي.
     قيل : ظهر الشيطان لبعض الأولياء في حالة النزع وقد بقي له نفس ،


(327)
فقال : أفلت منّي يا فلان؟ فقال : لابعد.
     ومنهم : العبّاد والزهّاد.
     فمنهم الغالب عليه الوسواس في الطهارات والنيّات ، والمبالغة في إجراء البعيد من الاحتمالات فيها ، وفي أداء الحروف من المخارج في الصلوات وأمثال ذلك من الجزئيات ، ثم يعكس تقديراته في المأكل وأخذ الأموال بطلب محامل بعيدة لتبديل الحرام بالحلال ، ظانّاً أنّه محتاط في تصحيح عباداته مع أنّه مضيع أوقاته ، وصارف عمره فيما لا يعنيه ، [ وتارك للتوجّه ] (1) والحضور وغيرهما ممّا يعنيه ، فهو من أقبح أنواع الغرور والجهل بمواقع الأمور.
     ثم من أغلب ما يقعون فيه العجب والرياء في العبادات ، مع ظنّهم أنّهم على تقوى وإخبات ، وربما يصومون في غالب الأوقات ، زعماً منهم انه مجرّد كفّ عن المفطرات ، مع عدم احتفاظهم عن الغيبة وسائر الأذيّات والافطار على المحرّمات وهم يرجون فيه جزيل الثواب من الكريم الوهّاب ، وكذا يحجّون بالمال الحرام من غير ردّ للمظالم وقضاء للديون الواجبات ، وعدم الاحتفاظ على الصوات والطهارات والتجنّب عن النجاسات ، مع قلوب ملوّثة بذمائم الصفات ورذائل الملكات ، وه يظنّون انّهم مسارعون إلى الخيرات.
     ومنهم من يترك نفائس الملابس ولذائذ الممطاعم ، زعماً منه أنّه سالك مسلك الزهّاد مع حبّه للرئاسة باشتهاره بذلك بين العباد ، فقد ترك الأهون فساداً لأعظم الفساد.
     ومنهم المغترّ بفعل النوافل والمستحبّات مع عدم معرفته بحدود الفرائض والواجبات ولأأخذ لمسائله الدينية على وجه يحصل له البراءة ، اليقينيّة.
1 ـ ساقط من « الف » و « ب ».
(328)
     ومنهم الصوفية.
     وفمنهم القلندرية المنكرون لعقائد أهل الايمان ، والتاركون لشعائر الاسلام ، والجاهلون بمسائل الحلال والحرام ، الصارفون عمرهم في في التكدّي وإيذاء الأنام ، ظنّاً منهم أنّهم معرضون من كلّ لذّة وشهوة ، ولو أقبل عليهم شيء منها بغتة ماتوا من الفرح فجأة ، فهم أرذل البريّة ، وأجهلهم في الفكر والرويّة.
     ومنهم من اكتفى من التصوّف بالنطق والزيّ واللبس وخفض الصوت وإطراق الرأس وتنفّس الصعداء وفعل ما يشبه البكاء سيّما إذا سمعوا كلاماً في العشق والوحدة مع عدم معرفة معناه بالمرّة ، وربما يتجاوز بعضهم إلى الرقص والصعيق وإبداء الشهيق والنهيق واختراع الأذكار والتغنّي بالأشعار وسائر الحركات الشنيعة والهيئات القبيحة الفظيعة ، ظنّاً منهم الوصول بأمثال هذه الحركات إلى أعلى المنازل والمقامات ، مع أنّها يقرب العبد إلى سخطه تعالى وعذابه ، ويستوجب بها الأليم من عقابه ، وبعض منهم يطوي بساط الشرع والأحكام ، والفصل بين الحلال والحرام متكالباً على الشبهات والمحرّمات تاركاً للسنن بل الواجبات مدّعياً أن الله غنّي عن الطاعات وأنّه لا عبرة بعمل الجوارح بل العبرة بالقلوب وأنّها واصلة إلى المطلوب والهة في مشاهدة المحبوب فيخوض في الشهوات الدنيوية زاعماً أنّها لاتصدّ عن المعارف الحقيقية مع قوة النفوس وثبات الأقدام ، وإنّما المحتاج إلى رياضة البدن خصوص العوام ، ولا يتفكّرون في أنّ أنبياء الله المرسلين وأولياء الله المقرّبين مع كونهم المقصود من خلق السماوات والأرضين وعن أدناس السيّئات والمعاصي طاهرين معصومين يبكون على ترك الراجح بل المرجوح (1) سنين متوالية ويحسبونها صادّة عن الدرجات الرفعية العالية ، فهم أضعف الناس عقلاً وأشدّهم حمقاً وجهلاً ، وربّما ادّعى بعضهم غاية
1 ـ كذا ، ولعل الصحيح : يبكون على فعل المرجوح ، بل ترك الراجح.
(329)
المعرفة واليقين ، والوصول إلى أعلى درجات المقرّبين ومشاهدة المعبود ومجاورة المقام المحمود ، ووالملازمة في عين الشهود ملفّقاً من الطامّات كلمات مزخرفات ، زاعماً أنّه المطلع على عالم الملك والملكوت ، بل ساحة القدس والجبروت ، ناظراً إلى الصلحاء والفقهاء والمحدّثين وسائر العلماء بعين الحقارة والازدراء ، مدّعياً لنفسه من خوارق العادات مالم يدّعه أحد من الأنبياء والأولياء مع أنّه لم يعرف من المعارف الا ألفاظاً مسموعة وكلمات موضوعة لم يتفطّن لحقائقها ولا أدرك دقائقها ، وربما ارتكب بعضهم قبائح الأعمال وشنائع الأفعال المزيلة للمروءات ، زعماً منه أنّه كسر النفس وإزالة لرذائل الملكات ، ولايدري أنّها بنفسها من ذمائم الصفات.
     ومنهم من اشتغل بالرياضات وقطع بعض المراحل ووصل إلى بعض المقامات ، فتوقّف في البين ظنّاً منه الوصول إلى العين ، فإنّ لله سبعين حجاباً من نور لايصل السالك إلى واحد منها ، [ الا ] (1) وهو يظنّ أنّه لامجال للتعدّي عنها.
     قال بعض العرفاء (2) : وإليه الاشارةت في الكتاب الكريم في حكاية إبراهيم ـ على نبيّنا وعليه أفضل التحيّة والتسليم ـ حيث رأى كوكباً فقال : « هذا ربّي » ثم انتقل إلى القمر ، ثم إلى الشمس ، إذ ليس المراد منها الأجسام المضيئة ، لأنّ شأنه أرفع من ذلك وأجلّ من أن يكون سلوكه من هذه المسالك ، بل استعيرت للأنوار الالهيّة المرئيّة للسالك الحاجبة عن الوصول إلى ما هنالك مع عدم إمكانه الا بالوصول إليها والتعدّي عنها ، وبعضها أعظم من بعض ، فلم يزل الخليل يصل عند سيره إلى حجاب أكبر بعد تجاوزه عن الحجاب الأصغر فيترائى له في باديء الرأي الوصول إلى المقصد ، ثم يكشف له أن وراءه أمراً آخر فيترقّى إليه ، فيقول : « هذا أكبر » ، ومتى
1 ـ ساقط من « الف » و « ج ».
2 ـ هو أبو حامد الغزالي.

(330)
ظهر له إنّه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص عن ذروة الكمال ، قال : « لا أحبّ الآفلين » (1).
     ومن أصغر تلك الحجب القلب لكونه من سنخ عالم الربوبية ونوراً من أنوار الحضرة الالهية يتجلّى فيه صور الأشياء بأسرها ، فيشرق إشراقاً عظيماً يظهر به عوالم الوجود على ماهي عليها ، وقد كان محجوباً عنه في الابتداء ، فلمّا أشرق نور الله الأسنى ورأى بعد الالتفات إليه جمالاً فائقاً أسنى أدهشه ذلك ، فربّما سبق إلى لسانه كلمة أنا الحقّ ، فإن لم يتّضح له بعد ذلك ماكان محجوباً عنه من الحجب الاخر كان فيه هلاكه ، مع أنّه كان مغترّاً بأصغرها.
     وهذا محلّ الالتباس لأنّ المتجلّي ملتبس بما يتجلّى فيه كالمرآة الملتبس نورها بنور ماظهر فيها ، ولذا قيل :
رقّ الزجاج ورقّت الخمر فكأنّما خمر ولا قدح فتشابها وتشاكل الأمر وكأنّما قدح ولا خمر
     وبهذه العين نظرت النصارى في المسيح فرأوا إشراق نور الله متلألئاً فيه فغلطوا فيه كمن يرى كوكباً في المرآة فيظنّ أنّه فيها أو في الماء فيمدّ يده إليه وهو مغرور.
     انتهى ملخّصاً (2).
     ومنهم الأغنياء وأصحاب الدول ، فمنهم من يحرص على بناء المساجد
1 ـ راجع سورة الأنعام : 76 ـ 78.
2 ـ المحجة البيضاء : 6/342 ـ 343. لا يخفى أن الصوفية ـ خذلهم الله ـ هم أصحاب البدع والتأويلات يحرّفون الكلم عن مواضعه ، يفسرون القرآن بالرأي ويؤوّلون الروايات حسب أهوائهم ويعتمدون على آرائهم وآراء أقطابهم الفاسدين ومرشديهم المبطلين في الدين فالتفصيل بين فرقهم والحكم بأنّ بعضهم مغترّون والسكوت بالنسبة إلى آخرين منهم لاوجه له.
كشف الغطاء ::: فهرس