كتاب كشف الغطاء ::: 501 ـ 510
(501)
الشكر والسرور. (1)
     وقلب العبد أشدّ قسوة من الحجارة ، ولاتزول الا بالبكاء.
     وأوحى الله تعالى إلى داود : « أنّي رضيت بالشكر مكافاة لأوليائي ». (2)
     ولما نزل في ادّخار الأموال ما نزل قالوا للنبي صلى الله عليه وآله : فماذا نتّخذ؟ فقال : « ليتّخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً ». (3)
     وعن ابن مسعود : الشكر نصف الايمان. (4)
     ثم الشكر حالة مستفادة من علم مثمرة لعمل.
     أمّا العلم فهو العلم بحقيقة النعمة ووصفها في حقّه ، وذات المنعم وصفاته التي بها يتمّ الإنعام ، وهذا في حقّ الغير.
     وأمّا في حقّه تعالى فبالتوحيد الفعلي المشار إليه ، فإنّ من أنعم عليه الملك بشيء فإن رأى لوزيره مثلاً دخلاً في تيسيره وإيصاله كان إشراكاً له في نعمته فلم يرها منه من كلّ وجه ويتوزّع فرحه عليهما ، وإن رآها بتوقيعه المكتوب بالقلم والكاغذ مع العلم بأن ليس لهما مدخل فيه فلا يفرح منهما لعلمه بأنّهما مسخّران تحت حكمه مضطرّان إلى قدرته فيرى الوزير والخازن كالكاغذ والقلم في ذلك فلم يورث ذلك شركاً في توحيده في إضافة النعمة إليه ، فكذا لو علمت أنّ جميع الأفعال صادرة عن الله وأنّ كلّ شيء مسخّر بيد قدرته حتى من له اختيار من العباد وأنّ من يحسن إليك فإنّما يحسن بأسباب مخلوقة من الله فيه كالإرادة وتهييج المحبّة والإلقاء في قلبه أنّه خير له في دنياه أو آخرته ، فقد أعطاك وأحسن إليك لغرض نفسه ، ولو لم ير فيه نفعاً لنفسه لما نفعك فليس منعماً عليك ، بل المنعم مسخّر القلوب ومحبّبك
1 ـ المحجّة البيضاء : 7/142.
2 ـ المحجّة البيضاء : 7/143 ، وفيه : « إلى أيّوب » و « من أوليائي ».
3 ـ المحجّة البيضاء : 7/143.
4 ـ المحجّة البيضاء : 7/143.

(502)
إليها ، تيسر (1) لك حينئذ شكره ، بل كانت هذه المعرفة بنفسها شكراً منك له كما في الخبر المشهور عن موسى عليه السلام. (2)
     ومما ذكرنا يظهر أن هذا أزيد من التوحيد ، لأن معرفة كونه منعماً خاصة بجميع النعم وأن كل منعم مسخر تحت حكمه شيء وراء التقديس ، فينطوي فيها مضافاً إليه كمال القدرة والانفراد بالفعل والعناية بالعباد.
     ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله : « من قال سبحان الله فله عشر حسنات ، ومن قال لا إله إلا الله فله عشرون ، ومن قال الحمد الله فله ثلاثون ». (3)
     ولا تظن أنها بإزاء تحريك اللسان من غير انكشاف لمعانيها وشهود لحقائقها ، بل هي بإزاء المعارف التي هي من أبواب الإيمان اليقين.
     وأما الحالة المستفادة منه وهي الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع وهي الشكر حقيقة ، وإن كانت أصل المعرفة أيضاً كذلك إلا أنها متوقفة على شرط هو كون الفرح بالمنعم دون النعمة والانعام ، فمن يفرح بأصل النعمة من حيث إنها لذيذة حاصلة له وموافقة لغرضه بعيد عن معنى الشكر لقصور نظره عليها وفرحه بها دون المنعم ، فلا يكون شاكراً للمنعم بل للنعمة.
     ومن يفرح بها من حيث أنها عطية من المنعم دالة على عنايته به والتفاته إليه واستدلاله (4) منه على الإنعام في المستقبل فهو شاكر للمنعم إلا أنه ليس شكراً له لذاته ، بل لعطائه ورجاء زيادة نعمائه وهو شكر الصلحاء الذين يعبدون الله طمعاً في ثوابه أو خوفاً من عقابه.
     ومن يفرح بها للوصول بها إلى قرب المنعم وكونها وسيلة له إليه ووصلة للنزول في جواره والنظر إلى وجهه فهو الشاكر للمنعم حقيقة ، وهذه الرتبة العليا ، وعلامتها أن لايفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة
1 ـ جواب « لو علمت أن جميع الأفعال ... ».
2 ـ المحجة البيضاء : 7/146 ، 151 ـ 152.
3 ـ المحجة البيضاء : 7/145.
4 ـ كذا.

(503)
ويحزن عن كلّ نعمة ملهية له عن ذكر الله وصادّة له عن سبيله ، ولا يدرك هذه المرتبة من انحصرت لديه اللذّات في الحسيّات وخلا قلبه عن اللذّات العقلية ، فكم من فرق بين من يريد المنعم للنعمة وعكسه.
     وأمّا الثمرة المترتّبة عليها من العمل فهي إما بالقلب بإضمار الخير للمسلمين أو باللسان بالاظهار بالألفاظ الدالّة عليه أو بالجوارح باستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقّي من الاستعانة على معصيته ، فشكر العينين ستر كلّ عيب يراه من مسلم ، والسمع ستر كلّ عيب مسموع ، واللسان إظهار الرضا من الله وهكذا ، فالمراد من خلق الدنيا وأسبابها الاستعانة على الوصول إلى الله ولا وصول الا بالمحبّة له والانس به وبغض الدنيا والتجافي عن لذّاتها وعلائقها ، ولا انس الا بدوام الذكر ، ولا محبّة الا بالمعرفة الحاصلة من دوام الفكر ، ولا يمكن الذكر والفكر الا بواسطة البدن ولا بقاء له الا بالأرض والماء والهواء والنار ، ولايتمّ ذلك الا بخلق السماء والأرض وما بينهما وكلّ ذلك للبدن وهو مطيّة للنفس المطمئنّة الراجعة إلى الله فكلّ من استعمل شيئاً في غير طاعة الله فقد كفر بنعمة الله في جميع الأسباب التي لابدّ منها لإقدامه على تلك المعصية.
     بحث وتحقيق
     فإن قيل : كيف يتمّ الشكر على النعمة مع أنّه إنما يتمّ في حقّ منعم ذي حظّ من الشكر وهو محال في حقّه تعالى لتنزّهه من الحظوظ والأغراض ، ولأنّ جميع مانتعاطاه باختيارنا نعمة أخرى مضافة إلى نعمه ، إذ جوارحنا وقدرتنا واختيارنا وسائر أسباب حركاتنا من الله تعالى فكيف نشكر نعمته بنعمته؟
     قلت : قد خطر هذا الخاطر لموسى وداود عليه السلام وناجيا به ربّهما فأوحى إليهما : « إذا عرفت هذا المعنى فقد شكرتني ». (1)
1 ـ المحجّة البيضاء : 7/151 ـ 152.
(504)
     وتوضيح ذلك على الوجه الذي يسكن إليه النفس هو أنّ الملك غذا بعد عبد من عبيده عنه فأرسل إليه زاداً ومركوباً وعدّة لوصوله إليه واشتغاله بخدمة عيّنها له فلا يخلو إمّا أن يكون قصده من ذلك قيامه ببعض مهامّه ، ويحصل له غنى بخدمته أو لايكون له حظّ من ذلك ، فلا يزيد حضوره في ملكه شيئاً كما لاينقص غيابه عنه ، بل قصده من ذلك الإنعام عليه واللطف بالنسبة إليه ليحظى بقربه وينال سعادة حضرته فيصل النفع إليه لا إلى نفسه ، والأوّل محال بالنسبة إليه تعالى ، وإنّما الثابت في حقّه الثانية وفي هذا القسم إنما يتصوّر الشكر باستعمال العبد ما أنفذه إليه الملك فيما أحبّه له لأجل نفسه ، والكفران إمّا بالتعطيل أو بالاستعمال فيما يزيد بعده عنه ، فإذا ركب المركوب وصرف الزاد والعدّة في طريق الوصول إليه فقد شكره أي استعمل نعمته فيما أحبّه لأجله وإن ركبه واستدبر عن حضرته أخذ طريق البعد عنه فقد كفر النعمة ، أي استعملها فيما كرهه له ، وإن جلس ولم يركب ولم يبعد ولم يقرب فقد عطّل نعمته وهو أيضاً كفران وإن كان أدون ممّا قبله ، فالخلق في بدو فطرتهم لمّا احتاجوا إلى استعمال الشهوات لتكميل أبدانهم بعدوا بذلك عن حضرته تعالى ، ولمّا كان سعادتهم بالقرب أعد لهم ما قدروا بها على نيل درجة القرب كما قال :
     « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثمّ رددناه أسفل سافلين * الا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ... ». (1)
     والله تعالى لم يفعل لم يفعل ذلك الا لطفاً بهم وإرادة لنفعهم وسعادتهم ، فمن استعملها فيما أحبّه الله لهم فقد شكر لموافقة فعله لما أحبّه مولاه له ، ومن لم يستعملها فيه فقد كفر بفعله مالم يرض تعالى له ، فإنّ الله لايرضى لعباده الكفر ، فالطاعة والمعصية داخلان في المشيّة دون المحبّة والكراهة ، فربّ مشية محبوبة وربّ مشيّة مكروهة ، فقولك إنه لايصل إلى المشكور حظ اتّضح
1 ـ التين : 4 ـ 6.
(505)
جوابه ، وكذا كلامك الثاني فإنّ مرادنا من الشكر صرف نعمة الله في جهات محبّته ، فإذا تحقّق ذلك حصل المراد وظهر سرّ الزيادة المترتّبة على الشكر أيضاً ، إذ النعمة الحقيقية هي القرب فإذا صرف العبد الزاد والركوب في طريق الوصول إلى المولى فقد قرب ، وبقطع كلّ منزل من المنازل يزداد القرب وهو واضح.
     ثمّ إن كان صرف النعمة فيما أحبّه الله محمولاً على ظاهرة من استناد الأفعال إلى العباد ، فنسبة الشكر إلى العبد واضحة ، وإن نظر إلى خلق الآلات والأسباب من الله تعالى فتكون الأفعال كلّها من الله بناء على معنى التوحيد الفعلي المتقدّم إليه الإشارة كان معنى شاكريّة العبد كونه محلاً للشكر وقابلاً له كما هو معنى علمه وقدرته وسائر صفاته فافهم.
     وممّا ذكر ظهر جواب آخر بناء على نظر التوحيد الفعلي ، فإنّه الشكر حينئذ حقيقة كما أنّه المشكور ، فإنّ من عرف أن ليس في الوجود غيره وأنّ « كلّ شيء هالك الا وجهه » (1) إذ الغير ما كان قوامه بنفسه وهو محال ، إذ كلّ ما في الوجود سواه تعالى فهو موجود قائم بالغير ولو لم يعتبر الغير ولم يلتفت إليه بل إلى ذاته بذاته لم يكن له قوام ولا وجود بالمرّة ، والموجود حقيقة مالو فرض عدم غيره كان موجوداً بنفسه وهو القائم بنفسه ، فإذا كان قوام كل شيء به أيضاً كان قيّوماً والقيّوم واحد لاتعدّد له « الله لا إله الا هو الحيّ القيّوم » (2) فهو مصدر كلّ الأشياء ومرجعها ، فيكون (3) هوالمحبّ والمحبوب والشاكر والمشكور.
     روي أنّ النبي صلى الله عليه وآله لمّا قرأ « نعم العبد إنّه أوّاب » (4) قال : « واعجباه
1 ـ القصص : 88.
2 ـ البقرة : 255.
3 ـ هذا دالّ على خبر إنّ المذكورة آنفاً.
4 ـ ص : 30.

(506)
أعطى وأثنى ». (1)
     قيل : فيه إشارة إلى أنّ ثناءه على إعطائه ثناء على نفسه.
     وقيل في قوله تعالى : « يحبّهم ويحبّونه » يحبّهم لأنّه لايحبّ الا نفسه ، فإن الصنع إذا أحب صنعه فقد أحب نفسه والوالد إذا أحب ولده فقد أحب نفسه ، وكل ما سوى الله فهو صنيعه فإن أحبّه فما أحبّ الا نفسه ، والتوحيد بهذا المعنى هو الذي يعبّر عنه ... بقناء النفس أي استغرق في جلال الله وصفات كبريائه فلا يرى في الكون الا وجوده وآثار وجوده من حيث إنّها آثار وجوده « ياكائناً قبل كلّ شيء ويا كائناً بعد كلّ شيء ، ويا مكّون كلّ شيء » (2) وهذه المرتبة لايدركها أكثر الناس ، بل يخصّ بها الصدّيقون.
     قيل : لمّا نزل قوله تعالى : « واسجد واقترب » (3) قال النبي صلى الله عليه وآله في سجوده : « أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك ، لاأحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ». (4)
     فأوّل مقاماته صلى الله عليه وآله آخر مقامات الكمّل وهو التوحيد الفعلي أي مشاهدة الأفعال طرّاً من الله تعالى.
     ثمّ ترقّى إلى التوحيد الوصفي أعني المعاني الكلّية للأفعال وهي الصفات ، ثم رآه نقصاً بالنظر إلى التوحيد الذاتي وهو مشاهدة الذات من غير ملاحظة صفة أو فعل ، ثم لاحظ كونه فارّاً منه إليه وهو مستلزم لإثبات نفسه وملاحظتها فوجده نقصاً لحقّه ، ففنى عنها فقال : « أنت كما أثنيت على نفسك » فانظر إلى ماوصل إليه في درجات القرب ، ولمّا كان كلّ درجة عنده
1 ـ المحجّة البيضاء : 7/153 ونسبة فيه إلى رجل مسمّى بحبيب بن أبي حبيب لا إلى النبي صلى الله عليه وآله. وكذا في الاحيا : 4/86.
2 ـ بحار الأنوار : 95/225 ، باب الأدعية والأحراز لدفع كيد الأعداء ، ح23.
3 ـ العلق : 19.
4 ـ المحجّة البيضاء : 7/155.

(507)
نقصاً بالنظر إلى مافوقه قال : « وإنّه ليغان على قلبي حتّى أستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة ». (1)
     فإنّ مقامات أهل السلوك تصل إلى هذا المقدار بل تزيد في طرف البداية ، فإنّ هذه مقامات النبي في حال نبوتّه وللوصول إليها مقامات غير محصورة ، وقد عرفت أنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين والاستغفار منها لازم للعارف بكونها نقصاً وسيّئة.
     إنارة
     لابدّ للسالك الشاكر من معرفة ما يحبّه الله عمّا يكرهه حتّى يمكنه الصرف في الأوّل دون الثاني ، ومدرك هذه المعرفة إما الشرع حيث كشف عن جميع ذلك وعبّر عن الأوّل بالواجبات والمستحبّات ، وعن الثاني بالمحرّمات والمكروهات ، فمعرفة ذلك موقوفة على معرفة الأحكام بأسرها وإلّأ لم يمكنه القيام بحقّ الشكر ، وإمّا العقل لتمكّنه من إدراك بعض وجوه الحكم في الموجودات ، إذ ما من شيء في عالم الوجود الا يترتّب على وجود حكم كثيرة تحتها مقاصد ومصالح محبوبة لله ، فمن استعمله على الوجه المؤدّي إلى المقاصد المطلوبة فقد شكر نعمته تعالى والا فقد كفربها ، وتلك الحكم إمّا جليّة كحكمة حصول الليل والنهار في وجود الشمس وحكمة انشقاق الأرض بأنواع النبات في وجود الغيم ونزول المطر والإبصار في العين والبطش في اليد وحصول الأولاد وبقاء النسل في آلات التناسل ونحوها ، أو خفيّة كحكم الكواكب السيّارة والثابتة واختصاص كلّ منها بوضع خاصّ وقدر معيّن وحكمة آحاد العروق والأعصاب والعضلات وما فيها من التجاويف والالتفات والدقّة والغلظ والانحراف وغيرها حيث لايعرفها كلّ أحد والعارف لايعرف منه الا اليسير من الحكم المتوسّطة التي يعرفها المتفكّرون في خلق السماوات والأرض وأكثر الحكم الدقيقة لايعرفها
1 ـ المحجّة البيضاء : 7/17 ، مع اختلاف.
(508)
الا خالقها ، سيّما المجرّدات والروحانيات.
     ثمّ ماعدا الانسان مستعمل ذواتها وأجزاءها وما يتعلّق بها على الوجه الذي هو مقتضى المصلحة المقصودة منها والإنسان لكونه محلّ الاختيار قد يستعمل ما بيده استعماله على ذلك الوجه أيضاً فيسمّى شاكراً ، وقد يستعمله على خلافه فيكون كافراً ، فضرب الغي باليد كفران بنعمة اليد ، فإنّ خلقها لأخذ ما ينفعه ودفع ما يؤذيه لا إيذاء الغير وإهلاكه.
     وكذا النظر إلى غير المحرم كفران بنعمة العين وادّخار النقدين كفران لنعمة الله فيهما لكونهما حجرين لا غرض في أعيانهما ، بل القصد كونهما حكمين يحصل بهما التعديل والتقدير بين الأعمال والأموال المتباينة المتباعدة فنسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة ، ولذا يكون المالك لهما كأنّه مالك كلّ شيء بخلاف مالك الطعام والثوب مثلاً ، واستواء نسبة الشيء إلى المختلفات إنّما يكون مع فقد صورة خاصّة مقيّدة لها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكي عن كلّ لون ، والحرف لا معنى له في نفسه ، وتظهر به المعاني فكذا النقدان لاغرض في أعيانهما ، بل التحكيم بين الأموال ومعرفة المقادير المختلفة وتقويم الأشياء المتباينة والتوصّل بهما إلى سائر الأموال ، فلابدّ من إطلاقهما ليتداولهما الأيدي ويحصل المقصود منهما فادّخارهما وحبسهما إبطال للحكمة وكفر للنعمة وحبس لحاكم أهل الاسلام في سجن الظلمة اللئام.
     ومنه يظهر أنّ من اتّخذ الأواني منهما أو عامل فيهما معاملة الربا فقد كفر النعمة وأبطل الحكمة أيضاً لما عرفت من أنّه لا غرض في أعيانهما للشارع فالمتّجر فيها قد اتّخذها مقصوده لأنفسها على خلاف وضع الحكمة ، وكذا حكمة الطعام إغتذاء الناس به ، ولذا ورد المنع عن الاحتكار ، وكذا الربا فيها لأنّه صرف للحكمة المقصودة فيها ، وقس على ذلك جميع الأفعال ، فلايخلو فعل عن شكر أو كفران ، ولا يتصوّر انفكاكه عنهما فخلق


(509)
اليمين مثلاً أقوى من اليسار ، واستحقّ بذلك الفضيلة عليه فتفضيل الناقص عليه عدول عن الحكمة المقصودة ، بل لابدّ من تخصيصه بالأفعال الشريفة وصرف الأضعف إلى الأعمال الخسيسة ، وكذا استقبال القبلة بالبول كفران للنعمة في خلق الجهات ، إذ خلق الجهات متّسعة متعدّدة وشرّف بعضها بوضع بيته فيها ، فالعدل استقباله الشريفة كالصلاة والذكر والاغتسال والوضوء وأمثالها دون الخسيسة كقضاء الحاجة ، وكذا كسر الغصن من شجرة ظلم وكفر بنعمة اليد إذ لم يخلقها للعبث ، والشجر إذ خلقه بعروقه وساق إليه الماء وأعطاه قوّة الاغتذاء والانتماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده ، فكسره قبله لا على وجه الانتفاع مخالفة لمقصود الحكمة ، نعم إذا كان فيه غرض صحيح جاز إذ الشجر والحيوان جعلا فداء للانسان ، فإنّها جميعاً فانية ، فإفناء الأخسّ في بقاء الأشرف ولو مدّة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما معاً.
     ثمّ هذه الأفعال المتّصفة بالكفران قد يوجب نقصان القرب وانحطاط المنزلة ، وقد يوجب البعد بالمرّة ، ويعبّر عن الأوّل بالكراهة في لسان أهل الشرع ، والثاني بالحرمة ، ولكلّ منهما درجات مختلفة ، الا أنّها في لسان أهل القلوب متّصفة بالحضر مطلقاً ولا يسامحون في شيء منهما أبداً.

تفصيل
     النعمة عبارة عن كلّ خير ولذّة وسعادة ، بل كلّ مطلوب ، وهو إمّا لذاته ويختصّ بالآخرة وهو النظر إلى وجه الله وسعادة لقائه وسائر لذّات الجنّة من البقاء الذي لافناء له ، والسرور الذي لاغمّ فيه ، والعلم الذي لا جهل فيه ، والغني الذي لا فقر بعده ، فإنّها لاتطلب لغاية مقصودة وراءها فهي النعمة الحقيقية واللذّة الواقعية. ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله : « لا عيش الا عيش الآخرة ». (1)
1 ـ المحجّة البيضاء : 7/182.
(510)
     أو لغيره ولايخلو عن أربعة :
     أوّلها الأقرب الأخص : الفضائل النفسانية ، وهي الأربعة المذكورة في هذا الكتاب ، ويحمعها الإيمان وحسن الخلق ويدخل في الأوّل العلم بالله ورسله وصفاته وأفعاله ، وعلم المعاملة ، أي ما به يحصل التوسّط في الأخلاق وكمال النفس في قوّته العمليّة ، وفي الثاني ترك مقتضيات الشهوة والغضب ومراعاة الاعتدال فيها ، ولايتمّ هذه الأربعة غالباً الا بثانيها أعني الفضائل البدنية وهي أيضاً أربعة : الصّحة والجمال والقوّة وطول العمر.
     ولايتهيّأ هذه الأربعة الا بثالثها ، أي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أيضاً أربعة : المال والأهل والجاه وكرم العشيرة ، ولا ينتفع بشيء منها الا برابعها ، أي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسية الداخلة ، وهي أيضاً أربعة : هداية الله ورشده وتأييده وتسديده ، فحاجة السعادة الأخروية إلى الأربعة الأولى ضررورية (1) واضحة ، إذ لا سبيل إليها الا بها ، وليس لأحد في الآخرة الا ماتزوّد من الدنيا وكذا حاجة الثانية إلى صحّة البدن ، وحاجتها مع صحّة البدن إلى المال والجاه والأهل والأولاد نافعة إجمالاً إذ بفقدها ربّما تطرّق الخلل إليها وذلك لجريانها مجرى الجناح المبلّغ ولاآلة المسهّلة للمقصود.
     فطالب العلم والكمال بدون كفاية كالساعي إلى الهيجاء من غير سلاح.
     ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله : « نعم العون على تقوى الله المال » (2) كيف ومن عدمه صار مستغرق الأوقات في تهيئة أسباب معيشته وضروريّاتها والتعرّض لأنواع الهموم والغموم والأذيّات المانعة عن الفكر والذكر.
1 ـ قال في المحجّة البيضاء : (7/183) نقلاً عن أبي حامد : وهذه الجملة (أي مجموع هذه النعم) يحتاج البعض منها إلى البعض إمّا حاجة ضروريّة أو نافعة.
2 ـ المحجّة البيضاء : 7/183.
كشف الغطاء ::: فهرس