كتاب كشف الغطاء ::: 551 ـ 560
(551)
فصل
     في الصلاة ، وفيه مطالب :

المطلب الأوّل :
     الصلاة معجون سماوي وتركيب إلهي مركّبة من أجزاء مختلفة :
     فمنها : ما هو بمنزلة الروح.
     ومنها : ما هو بمنزلة الأعضاء الرئيسة.
     ومنها : ما هو بمنزلة سائرها.
     توضيحه : أنّ الإنسان لايكون كاملاً في إنسانيّته الا بمعنى باطني هو الروح يتوقّف [ عليه ] أصل وجوده وأعضاء محسوسة بعضها في جوفه كالقلب والكبد والمعدة والدماغ ، وبعضها ظاهر لاينعدم بانعدامه الا أنّه يرتفع به تماميّته ويصير ناقصاً كاليد والرجل وأمثالهما ، وبعضها ظاهر لايصير ناقصاً عرفاً بانعدامه الا أنّه يفوت به حسنه كا لحاجبين وتناسب الخلقة وسواد اللحية وامتزاج البياض بالحمرة ، فكذا الصلاة حقيقة مركّبة صوّرها الشارع من أمور متفاوتة تعبّدنا باكتسابها ، فروحها النيّة والقربة والحضور والإخلاص ، وأركانها من تكبيرة الاحرام والركوع والسجود والقيام كالأعضاء الرئيسة يفوت بفواتها حقيقة الصلاة ، ولاتصحّ بدونها ، وسائر واجباتها كالقراءة والأذكار والطمأنينة والهويّ ورفع الرأس ونحو ذلك بمنزلة اليدين والرجلين قد تفوت بفواتها كالعمد والجهل ، وقد لاتفوت كالسهو والنسيان والجهل في بعض المواضع ، وآدابها ومستحبّاتها من القنوت وسائر الأدعية والأذكار ونحوها ممّا لاتفوت بفواتها حقيقة الصلاة ، بل حسنها وكمالها وزيادة الثواب ، ولها أيضاً تفاوت في الفضل والثواب كتفاوت ما يفوّت حسن الإنسان في تفويت أصل الحسن أو كماله فتصير بفواتها مكروهة غير مرغوب فيها.


(552)
     إذا عرفت ذلك فاعلم أن الصلاة تحفة وهديّة تهديها وتتقرّب بها إلى حضرة ملك الملوك كفرس يهديها طالب القرب من السلاطين إليهم ، وهي تعرض عليه تعالى وترد عليك يوم العرض الأكبر ، فإليك الأمر في تقبيحها أو تحسينها ، فهل ترضى بإهداء عبد ميّت بلا روح أو فرس حيّ أعمى أو أبكم أو أصمّ أو مقطوع الأطراف أو قبيح الصورة إلى ملك من ملوك الدنيا أو تجتهد في تحصيل الفرد الأجود منها بقدر وسعك ، فإن لم ترض الا بالثاني فما بالك لاتجتهد ولاتهتمّ في تجويد هديّتك التي تهديها إلى مالك الملوك ومذلّ رقاب الجبابرة والمنعم عليك بكلّ شيء حتى بصلاتك التي تهديها إليه ، وهل (1) رضاك بالأوّل في حقّه تحقير بالنسبة إليه وهتك لناموس ملكه وسلطنته وحرمة عزّه وجبروته ، وقد ورد في الأخبار أنّ كلّ صلاة لايحسن الإنسان ركوعها وسجودها فهي أوّل خصم على صاحبها يوم القيامة وتقول : مابالك ضيّعتني ضيّعك الله تعالى. (2)

المطلب الثاني
     المعاني الباطنية التي هي روح الصلاة وحقيقتها سبعة :
     أحدها : الإخلاص في النية ، وقد تقدّم.
     وثانيها : حضور القلب ، أي تفريغه عن غير ما هو متلبّس به حتّى يكون عالماً بما يقوله ويفعله من دون ذهول وغفلة ، ويعبّر عنه بالإقبال والتوجّه والخشوع والخضوع ، وهو يتعلّق بالقلب بتفريغ الهمّة لها والإعراض عمّا سواها ، حتى لايكون في القلب غير المعبود ، وبالجوارح بغضّ البصر وترك الالتفات والعبث والتثاؤب والتمطّي وفرقعة الأصابع وغيرها من المكروهات التي لاتتعلّق بالصلاة.
1 ـ كذا ، والمناسب : أليس.
2 ـ المحجّة البيضاء : 1/365 ويظهر منه أنّه فهم أبي حامد من الأخبار لا أنّه خبر ، نعم نسبة إلى المعصوم النراقي في جامع السعادات : 3/323 بلفظ « قد ورد » ، ويؤيّد عدم كونه رواية أيضاً ما رواه في الكافي : 3/268 ، الحديث 4 فراجع.

(553)
     والثالث : فهم المعنى زيادة على الحضور مع اللفظ لتفارقهما والناس فيه على تفاوت عظيم ، فكم من دقائق ولطائف تنكشف على بعض المصلّين في أثنائها لم تنكشف على غيره ولا عليه قبلها ، ولذا تنهى عن الفحشاء والمنكر.
     والرابع : التعظيم وهو أمر وراء حضور القلب والتفهّم.
     والخامس : الهيبة ، أي الخوف الناشي من التعظيم ، فمن لايخاف لايسمى هائباً ، وكم من خوف ناش عن غير التعظيم.
     والسادس : الرجاء زائداً على الخوف منه لبرّه وإحسانه.
     والسابع : الحياء الناشي من استشعار قصور أو تقصير في الخدمة ، وكون هذه السبعة بمنزلة الروح لها ظاهر ، إذ الغرض الأصلي كما عرفت تصفية النفس وتصقيلها ، فكلّ ما يكون أثره أشدّ فهو أفضل ، والمقتضي لصفائها وصقالتها عن الأخباث والكدورات الحاصلة لها من مزاولة الشهوات ليس الا ما ذكر ، وليس للحركات الظاهرة مدخل فيها الا من حيث التقوية كما عرفت.
     هذا ، مع أن الصلاة مناجاة ، وإفشاء عمّا في الضمير ، ولامناجاة ولا إفشاء مع الغفلة وعدم الحضور وحركة اللسان على مقتضى العادة ، وكيف تصير هذه الحركة العادية مع سهولة خطبها عماداً للدين ، فاصلاً بين الكفر والإيمان ، مقدّماً على كلّ عبادة موصولاً بها إلى كل خير وسعادة ، ولذا ورد الحثّ على ذلك في الآيات والأخبار ممّا لاتحصى ، والذّم على الغفلة والوساوس الشيطانية أيضاً فيها خارج عن حدّ الاستقصاء وتظاهرت الأخبار بكون الأنبياء والأولياء في حالتها على غاية الإقبال والخشوع والخوف.
     (الّذين هم في صلاتهم خاشعون). (1)
1 ـ المؤمنون : 2.
(554)
     « ولا تكن من الغافلين ». (1)
     « فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون ». (2)
     وفي أخبار موسى عليه السلام : « يا موسى إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئنّاً ، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك وراء قلبك ، وإذا قمت بين يديّ فاجعل قيامك قيام العبد الذليل ، وناجني بقلب وجل ولسان صادق ». (3)
     وقال علي عليه السلام : « طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ... ». (4)
     وروي انّ الخليل عليه السلام كان يسمع تأوّهه على حدّ ميل ، وكان في صلاته يسمع له أزيز كأزيز المرجل ، وكذلك كان يسمع من صدر النبي صلى الله عليه وآله. (5)
     وقالت بعض أزواجه : إذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه. (6)
     وكان علي عليه السلام إذا توضّأ تغيّر وجهه خوفاً ، وإذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلوّن ، فقيل له في ذلك ، فقال : « جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ». (7)
     وأخرج النصل من رجله في حالة صلاته فلم يشعر بها. (8)
     وكان السجّاد عليه السلام إذا توضّأ اصفرّ لونه ويقول : « أتدرون بين يدي من
1 ـ الأعراف : 205.
2 ـ الماعون : 4 ـ 5.
3 ـ المحجّة البيضاء : 1/372 ـ 373.
4 ـ الكافي : 2/16 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الإخلاص ، ح3.
5 ـ المحجّة البيضاء : 1/351 نقلاً عن عدّة الداعي.
6 ـ المحجّة البيضاء : 1/350 ـ 351.
7 ـ المحجّة البيضاء : 1/351.
8 ـ المحجّة البيضاء : 1/379 ـ 398.

(555)
أريد أن أقوم؟ ». (1)
     وقال عليه السلام : « إنّ العبد لايقبل من صلاته الا ما أقبل فيها ». (2)
     وكان عليه السلام إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه وإذا سجد لم يرفع رأسه حتّى يرفضّ عرقاً ، وكان في الصلاة كأنّه ساق شجرة لا حركة له الا ما حرّكت الريح. (3)
     وخرّ الصادق عليه السلام مغشّياً عليه في الصلاة ، فقيل له في ذلك ، فقال : مالت أردّد هذه الآية على قلبي حتّى سمعتها من المتكلّم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ، قيل : وكانت لسان الإمام في تلك الحالة كشجرة طور حين قالت : إنّي أنا الله. (4)
     وحينئذ تعلم أنّ من الناس من يتمّ صلاته ولايحضر قلبه لحظة ، ومن يغفل في بعضها ويحضر في بعض ، ويختلف ذلك بحسب أختلاف الحضور والغفلة في الكثرة والقلّة ، ومن يحضر في صلاته بأسرها ولايغفل لحظة لاستيعاب همّه بها بحيث لايحسّ بما يجري عليه أو بين يديه ، ولايستبعد هذا بعد مشاهدة من استغرق همّه عند الدخول على الملوك أو على المعشوق مع خساسة حظّه ، فلكلّ درجات ممّا عملوا ، وحظّ كلّ واحد بقدر خضوعه وخشوعه لما عرفت أنّ الله لاينظر إلى الجوارح ، بل إلى القلوب ولاينجو الا من أتى الله بقلب سليم.
     فإن قلت : يظهر ممّا ذكرت عدم قبول ما ليس فيه إقبال وهو خلاف فتوى الفقهاء فيما سوى النيّة والتكبير؟
     قلت : فرق بين القبول والإجزاء ، فمرادنا من الأوّل مايحصل له التقرّب إلى الله ، ومن الثاني ما يسقط به التكليف والخروج عن العهدة
1 ـ المحجّة البيضاء : 1/351.
2 ـ المحجّة البيضاء : 1/352.
3 ـ المحجّة البيضاء : 1/352.
4 ـ المحجّة البيضاء : 1/352.

(556)
والناس مختلفون فيه ، إذ ليس التكليف الا بالمقدور ولايمكن تلكيف الجميع بالحضور في كلّ الصلاة ، بل لا يقدر عليه الا الأقلّون ، ولعدم التمكّن سقط الوجوب الا عن القدر المقدور للجميع وهو الجزء اليسير من النيّة والتكبير فاقتصر عليه ، والمرجوّ من الله سبحانه أن لايكون حال الغافل في جميع صلاته عند الله كالتارك بالمرّة لإقدامه على الفعل وإحضاره القلب ولو في لحظة.

المطلب الثالث
     ثم إنّ لهذه السبعة أسباباً لاتتمّ بدونها ، فسبب الحضور الاهتمام ، فإنّ القلب يتبع ما يهمّه ويحضر عند همّه شاء أم لم يشأ ، فهو مجبول عليه ، مسخّر تحت حكمه ، فعدم حضوره في الصلاة إنّما هو لأجل حضوره فيما يهمّه من أمور الدنيا ، إذ لايبقى متعطّلاً ، ولذا تراه حاضراً إذا حضرت عند ملك من ملوك الدنيا مستغرقاً همّه فيه فلا يمكن إحضاره للصلاة الا بصرف همّه إليها وهو لايمكن الا باليقين بكون الآخرة خيراً وأبقى ، والصلاة وسيلة إليها مع حقارة الدنيا ، فعدم الحضور في الصلاة ليس الا من ضعف الإيمان ، فلابدّ من السعي في تقويته.
     وسبب التفهمّ بعد الحضور إدمان الفكر وصرف الذهن إلى فهم المعنى. وعلاجه بما ذكر مع الإقبال على الفكر والتشمّر لرفع الخواطر الشاغلة بقطع موادّها من علائق الدنيا التي حدث الخاطر النفساني بسببها ، فمن أحبّ شيئاً أو أبغضه أو خاف منه أكثر ذكره ، فذكرها يغلب على القلب ضرورة.
     وأما التعظيم فإنّه حالة للقلب تتولّد من معرفتين :
     إحديهما : معرفة جلاله تعالى ، إذ لاتذعن النفس لتعظيم أحد الا بعد اعتقاد عظمته ، وهذه من أصول الايمان.
     والثانية : معرفة حقارة النفس وذلّتها وكونها مسخّرة تحت حكمه تعالى


(557)
غير قادرة على نفع أو ضرّ فيتولّد منها الاستكانة والانكسار والخشوع ، ويعبّر عنها بالتعظيم ، ولا يتحقّق بدون انضمام الثانية إلى الأولى ، إذ من استغنى عن غيره وأمن منه على نفسه لم يعظّمه ولم يخشع له ، وإن عرف جلاله وعظمته.
     وأمّا الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولّد من المعرفة يقدرته وسطوته ونفوذ مشيّته فيه ، وأنّه لو أهلك الأوّلين والآخرين لم ينقص من ملكة شيء مع تذكّر ما جرى علىالأنبياء والأوصياء من المصائب وأنواع البلاء مع قدرته على دفعها ، فكلّما ازداد العلم بالله وصفاته وأفعاله زادت الخشية والهيبة.
     وأمّا الرجاء فسببه معرفة لطف الله وإكرامه وعميم إحسانه وإنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنّة بالصلاة ، فإذا حصل اليقين بوعده ولطفه انبعث الرجاء.
     وأمّا الحياء فسببه استشعار القصور في المعرفة والتقصير في الطاعة وعلمه بالعجز عن القيام بتعظيم حقّ الله ، ويقوى ذلك بمعرفة عيوب النفس وآفاتها وقلّة إخلاصها وخبث باطنها وميلها إلى الحظّ العاجل في جميع أفعالها مع علمها بجميع ما يقتضيه جلال الله وعظمته واطلاعه على السرائر وخطرات الضمائر وإن كانت خفيّة ، فبعد حصول هذه المعارف ينبعث الانفعال والحياء ضرورة.
     ثم العلاج في تحصيل هذه الأسباب يتمّ بتحصيل معرفة الله وجلاله وعظمته واستناد الأشياء باسرها إليه وعلمه بكلّ شيء ، ولابدّ من كونها يقينيّة ليترتّب عليها الأثر ، إذ مالم يحصل اليقين بأمر لايحصل التشمّر في طلبه والهرب عنه ، وهذه المعرفة يعبّر عنها بالإيمان ، ثمّ تفريغ القلب عن مشاغل الدنيا ، إذ لا ينفكّ العارف المذكور عن المعاني المذكورة الا لتفرق الفكر وغفلة القلب الغير الحاصلين الا من الخواطر الرديّة الشاغلة فالدواء في الإحضار بعد المعرفة المذكورة رفع تلك الخواطر بدفع أسبابها وهي إما


(558)
أمور خارجة مثل ما يظهر للبصر أو يقرع على السمع فإنّه قد يختطف الهمّ حتّى يتبعه ويتصرّف فيه ، ثم ينجرّ منه إلى غيره ، ويتسلسل فيصير النظر الأوّل باعثاً لفكر ، وذلك الفكر لآخر وهكذا. فعلاج هذا القسم بغضّ البصر واختيار مكان مظلم ضيّق خال عن الأشياء الملهية كما كان ذلك عادة لأكابر السلف.
     وإمّا أمور باطنة في نفسه ، وهي أشدّ فإنّ من تفرّقت همومه وكثرت مشاغله وعلائقه في الدنيا لم ينحصر فكره في فنّ واحد ، بل لايزال يطير من جانب إلى آخر ، فلا يغنيه غضّ البصر وأخواته لكفاية ما وقع في القلب سابقاً في الهمّ.
     وعلاجه ردّ نفسه قهراً إلى ما يشغلها به من غيره ويعينه بالإعداد له قبل التحريم بتجديد ذكر الآخرة وعظم خطر المقام بين يدي الله تعالى وهول المطّلع فيفرغ قلبه قبل التحريم عمّا يهمّه من أمور الدنيا فلا يترك لنفسه شيئاً يلتفت إليه ، فإن سكن داؤه بهذا الدواء والا فلا ينجيه الا المسهل الذي يقمع مادته من أعماق العروق بأن نظر فيما يصرفه من إحضار القلب ، ومآله إلى مهمّاته التي اهتمّ بها لأجل علائقه وشهواته فليعاقب نفسه بالنزوع عنها وقطعها لكونها مضادّة لدينه ومعاونة لعدوّه الذي هو الشيطان في إخراجه عن الجنّة التي يستحقّها بصلاته وهذا هو الدواء الحقيقي القامع للمادّة والنافع في قطع الشهوة القويّة التي لاتزال تجاذب وتجادل حتّى تغلب فتنقضي الصلاة في الجدال معها والا فالأوّل ينعف فيما يضعف من الشهوات والهموم الشاغلة لحواشي القلب ، فمن جلس تحت شجرة لمطالعة أو فكر يهتمّ به فإن أصوات العصافير تؤذيه وتشوّش عليه فكره ، فالأول بمنزلة تطهيرها بالعصا ، ثم إذا عاد إلى فكره عادت العصافير وهكذا ، والثاني بمنزلة قطع الشجرة فلا تعود العصافير أبداً ، وكذلك شجرة الشهوة إذا استقلت وتفرّعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار والذياب إلى الأقذار ،


(559)
ويطول الشغل في دفعها ويجمعها حبّ الدنيا وهو رأس كلّ خطيئة ، فمن انطنوى باطنه عليه ومال إلى شيء منها لا ليتزوّد بها إلى الآخرة فلا يطمعنّ في أن يصفو له لذّة المناجاة ، فهمّة الرجل مع قرّة عينه ، فهذا هو الدواء ولمرارته استبشعته الطباع وصار الداء عضالاً مزمناً.
     هذا كلّه في الخواطر الناشئة عن مشاغل الدنيا وعلائقها.
     وأمّا الوساوس الباطلة الحاصلة من دون اختيار للعبد في خطورها مع عدم تعلّقها بعمل دنيوي فالأمر فيها أصعب وإن كان لقطع حبّ الدنيا وقلع شهواتها عن القلب مدخل عظيم فيها أيضاً ، وقد تقدّم التفصيل في ذلك في بحث الوساوس.

المطلب الرابع
     في كلّ من الشروط والأركان والأفعال أسرار وإشارات ينبغي لسالك الآخرة أن لايغفل عنها ، فإذا سمعت الأذان تنبّه لنداء يوم القيامة وهوله وتشمّر للاجابة والمسارعة ، فإنّ المسارعين إلى هذا النداء ينادون بالطلف هناك ، واعرض قلبك عليه ، فإن وجدته فرحاً راغباً إلى المسارعة فأبشر بالنداء بالبشرى والفوز يوم الجزاء ، كما قال سيّد الرسل صلى الله عليه وآله : « أرحنا يا بلال » (1) إذ كانت قرّة عينه وسروره فيها.
     واعتبر بفصوله كيف افتتحت بالله واختتمت به ، فإنّه الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، ووطّن قلبك بالتعظيم عند سماع التكبير واستحقر الدنيا بما فيها حتّى لاتكون كاذباً فيه ، واسلب عن خاطرك كلّ معبود سواه بالتهليل ، وأحضر النبيّ صلى الله عليه وآله وتأدّب بين يديه واشهد له بالرسالة مخلصاً وصلّ عليه وآله أداء لبعض حقوقهم وحرّك نفسك ووسّع قلبك وقالبك عند الدعاء إلى الصلاة وما يوجب الفلاح وما هو خير الأعمال وجدّد عهدك بالتكبير واختمه به كما بدأت واجعل بدأك منه وعودك إليه وقوامك به
1 ـ المحجّة البيضاء : 1/377.
(560)
وحولك وقوتّك بحوله وقوتّه.
     واعتبر من الوقت ميقاتاً وقتّه ربّك لتقوم فيه بخدمته وتنال الفوز بحضرته ، وأظهر على قلبك السرور ووجهك البهجة بدخوله لكونه سبباً لقربك وفوزك ، واستعدّ له بالطهارة والنظافة ، ولبس ما يصلح للمناجاة كما تتأهّب للقدوم على ملوك الدنيا ، وتلقّاه (1) بالسكينة والوقار والخوف والرجاء واستحضر عظمته وجلاله وكمال قدرته ونقصانك عن القابليّة للقيام بخدمته وقصورك عن أداء وظائف الطاعة.
     وإذا أتيت بالطهارة في مكانك وهو الظرف الأبعد ، وثيابك وهو غلافك الأقرب ، وبشرتك وهي قشرك وهي قشرك الأدنى فلا تغفل عن ذاتك ولبّك ، أي نفسك وقلبك فطهّره بالتوبة والندم على مافرّط والعزم على الترك في المستقبل ، فإنّه موضع نظره ، وغذا سترتت مقابح بدنك عن أبصار الخلق فاستحضر قبائح باطنك التي لا يطّلع عليها الا ربّك وطالب نفسك بسترها ، فحيث أذعنت بأنهّ لايستتر عن الله شيء الا بتكفيره بالخوف والندامة والحيء انبعثت منها جنودها فتذّل وتستكين وتقوم بين يدي الملك الحقّ المبين كالعبد المسيء الآيق المسكين الذي ندم من تفريطه في جنب مولاه في فعله فجاءه خائفاً مستحيياً راجياً لعفوه وصفحه وفضله.
     قال الصادق عليه السلام : « أزين اللباس للمؤمن لباس التقوى وأنعمه الإيمان ». قال الله تعالى : « ولباس التقوى ذلك خير ». (2)
     وأمّا اللباس الظاهر فنعمة من الله يستر بها عورات بني آدم وهي كرامة أكرم الله بها عباده ذرّية آدم مالم يكرم بها غيرهم ـ إلى أن قال ـ : فإذا لبست ثوبك فاذكر ستر الله عليك ذنوبك برحمته وألبس باطنك بالصدق كما ألبست ظاهرك بثوبك ، وليكن باطنك في ستر الرهبة وظاهرك في ستر
1 ـ كذا ، والظاهر : تلقّه.
2 ـ الأعراف : 26.
كشف الغطاء ::: فهرس