كفاية الاصول ::: 46 ـ 60
(46)
    وقد يقرر هذا وجها على حدة ، ويقال (1) : لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة ، على ما ارتكز لها من المعاني ، فلو كان المشتق حقيقة في الاعم ، لما كان بينها مضادة بل مخالفة ، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.
    ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الاجلة (2) من المعاصرين ، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط ، لما عرفت من ارتكازه بينها ، كما في مبادئها.
    إن قلت : لعل ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق ، لا الاشتراط.
    قلت : لا يكاد يكون لذلك ، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء ، لو لم يكن بأكثر.
    إن قلت : على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الاغلب مجازا ، وهذا بعيد ، ربما لا يلائمه حكمة الوضع.
    لا يقال : كيف ؟ وقد قيل : بأن أكثر المحاورات مجازات. فإن ذلك لو سلم ، فإنما هو لاجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد. نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي ، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه. لكن أين هذا مما إذا كان دائما كذلك ؟ فافهم.
1 ـ البدائع / 181 ، في المشتق.
2 ـ المراد من بعض الاجلة ، هو صاحب البدائع ، البدائع / 181. الشيخ الميرزا حبيب الله بن الميرزا محمد علي خان القوجاني الرشتي ، ولد عام 1234 ه‍ ، حضر بحث صاحب الجواهر والشيخ الانصاري ، كان من أكابر علماء عصره ، أعرض عن الرئاسة ولم يرض أن يقلده أحد لشدة تورعه في الفتوى ، ولم يتصد للوجوه ، له تصانيف كثيرة منها « بدائع الاصول » و « شرح الشرائع » و « كاشف الظلام في علم الكلام » وغيرها ، توفي ليلة الخميس 14 / ج 2 عام 1312 ه‍ ودفن في النجف الاشرف. ( طبقات أعلام الشيعة ، نقباء البشر 1 / 357 رقم 719 )


(47)
    قلت : مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد ، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه ، إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس ، مع أنه بمكان من الامكان ، فيراد من جاء الضارب أو الشارب ـ وقد انقضى عنه الضرب والشرب ـ جاء الذي كان ضاربا وشاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدأ ، لا حينه بعد الانقضاء ، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال ، وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه ، ضرورة أنه لو كان للاعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين.
    وبالجملة : كثرة الاستعمال في حال الانقضاء يمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الاطلاق ، إذ مع عموم المعنى وقابلية كونه حقيقة في المورد ـ ولو بالانطباق ـ لا وجه لملاحظة حالة أخرى ، كما لا يخفى ، بخلاف ما إذا لم يكن له العموم ، فإن استعماله ـ حينئذ ـ مجازا بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكنا ، إلا أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الامكان ، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية وملاحظة العلاقة ، وهذا غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة ، كما لا يخفى ، فافهم.
    ثم إنه ربما أورد (1) على الاستدلال بصحة السلب ، بما حاصله : إنه إن أريد بصحة السلب صحته مطلقا ، فغير سديد ، وإن أريد مقيدا ، فغير مفيد ، لان علامة المجاز هي صحة السلب المطلق.
    وفيه : إنه إن أريد بالتقييد ، تقييد المسلوب الذي يكون سلبه أعم من سلب المطلق ـ كما هو واضح ـ فصحة سلبه وإن لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه ، إلا أن تقييده ممنوع ، وإن أريد تقييد السلب ، فغير ضائر بكونها علامة ، ضرورة صدق المطلق على أفراده على كل حال ، مع إمكان
1 ـ البدائع / 180 ، في المشتق.

(48)
منع تقييده أيضا ، بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق ، فيصح سلبه مطلقا بلحاظ هذا الحال ، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس ، فتدبر جدا.
    ثم لا يخفى أنه لا يتفاوت (1) في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ ، بين كون المشتق لازما وكونه متعديا ، لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا غير متلبس بالضرب ، وكان متلبسا به سابقا ، وأما إطلاقه عليه في الحال ، فان كان بلحاظ حال التلبس ، فلا إشكال كما عرفت ، وإن كان بلحاظ الحال ، فهو وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة ، لكون الاستعمال أعم منها كما لا يخفى.
    كما لا يتفاوت في صحة السلب عنه ، بين تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه ، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس ـ أيضا ـ وإن كان معه أوضح.
    ومما ذكرنا ظهر حال كثير من التفاصيل ، فلا نطيل بذكرها على التفصيل.
    حجة القول بعدم الاشتراط وجوه :
    الاول : التبادر.
    وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.
    الثاني : عدم صحة السلب في مضروب ومقتول ، عمن انقضى عنه المبدأ.
    وفيه : إن عدم صحته في مثلهما ، إنما هو لاجل أنه أريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال ، ولو مجازا. وقد انقدح من بعض المقدمات أنه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في محل البحث والكلام ومورد النقض والابرام ، اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازا ، وأما لو أريد منه نفس ما وقع على الذات ، مما صدر
1 ـ التفصيل لصاحب الفصول ، الفصول / 60 ، فصل حول إطلاق المشتق.

(49)
عن الفاعل ، فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع ـ كما عرفت ـ لا بلحاظ الحال أيضا ، لوضوح صحة أن يقال : إنه ليس بمضروب الآن بل كان.
    الثالث : استدلال الامام ـ عليه السلام ـ تأسيا بالنبي ـ صلوات الله عليه ـ كما عن غير واحد من الاخبار (1) بقوله « لا ينال عهدي الظالمين » (2) على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الامامة والخلافة ، تعريضا بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة ، ومن الواضح توقف ذلك على كون المشتق موضوعا للاعم ، وإلا لما صح التعريض ، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة.
    والجواب منع التوقف على ذلك ، بل يتم الاستدلال ولو كان موضوعا لخصوص المتلبس.
    وتوضيح ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة ، وهي : إن الاوصاف العنوانية التي تؤخذ في موضوعات الاحكام ، تكون على أقسام :
    أحدها : أن يكون أخذ العنوان لمجرد الاشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعا للحكم ، لمعهوديته بهذا العنوان ، من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلا.
    ثانيها : أن يكون لاجل الاشارة إلى علية المبدأ للحكم ، مع كفاية مجرد صحة جري المشتق عليه ، ولو فيما مضى.
    ثالثها : أن يكون لذلك مع عدم الكفاية ، بل كان الحكم دائرا مدار صحة الجري عليه ، واتصافه به حدوثا وبقاء.
    إذا عرفت هذا فنقول : إن الاستدلال بهذا الوجه إنما يتم ، لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الاخير ، ضرورة أنه لو لم يكن المشتق
1 ـ الكافي 1\175 ، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ، الحديث 1.
2 ـ البقرة / 124.


(50)
للاعم ، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهرا حين التصدي ، فلابد أن يكون للاعم ، ليكون حين التصدي حقيقة من الظالمين ، ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم. وأما إذا كان على النحو الثاني ، فلا ، كما لا يخفى.
    ولا قرينة على أنه على النحو الاول ، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثاني ، فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الامامة والخلافة وعظم خطرها ، ورفعة محلها ، وإن لها خصوصية من بين المناصب الالهية ، ومن المعلوم أن المناسب لذلك ، هو أن لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا ، كما لا يخفى.
    إن قلت : نعم ، ولكن الظاهر أن الامام ـ عليه السلام ـ إنما استدل بما هو قضية ظاهر العنوان وضعا ، لا بقرينة المقام مجازا ، فلا بد أن يكون للاعم ، وإلا لماتم.
    قلت : لو سلم ، لم يكن يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازا ، بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبس ـ كما عرفت ـ فيكون معنى الآية ، والله العالم : من كان ظالما ولو آنا في زمان سابق (1) لا ينال عهدي أبدا ، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال ، لا بلحاظ حال التلبس.
    ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به ، باختيار عدم الاشتراط في الاول ، بآية حد السارق والسارقة ، والزاني والزانية ، وذلك حيث ظهر أنه لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقا ، ولو بعد انقضاء. المبدأ ، مضافا إلى
1 ـ في « ب » : السابق.

(51)
وضوح بطلان تعدد الوضع ، حسب وقوعه محكوما عليه أو به ، كما لا يخفى.
    ومن مطاوي ما ذكرنا ـ ها هنا وفي المقدمات ـ ظهر حال سائر الاقوال ، وما ذكر لها من الاستدلال ، ولا يسع المجال لتفصيلها ، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات.
    بقي أمور :
    الاول : إن مفهوم المشتق ـ على ما حققه المحقق الشريف (1) في بعض حواشيه (2) ـ : بسيط منتزع عن الذات ـ باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به ـ غير مركب. وقد أفاد في وجه ذلك : أن مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا ، وإلا لكان العرض العام داخلا في الفصل ، ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشيء ، انقلبت مادة الامكان الخاص ضرورة ، فإن الشيء الذي له الضحك هو الانسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري. هذا ملخص ما أفاده الشريف ، على ما لخصه بعض الاعاظم (3).
    وقد أورد عليه في الفصول (4) ، بأنه يمكن أن يختار الشق الاول ، ويدفع الاشكال بأن كون الناطق ـ مثلا ـ فصلا ، مبني على عرف المنطقيين ،
1 ـ المير سيد علي بن محمد بن علي الحسيني الاسترابادي ، ولد المحقق الشريف سنة 740 ه‍ بجرجان وكان متكلما بارعا ، باهرا في الحكمة والعربية ، روى عن جماعة منهم العلامة قطب الدين الرازي ، واخذ منه العلامة المذكور ، له شرح المطالع وشرح على مواقف القاضي عضد الايجي في علم أصول الكلام ، عده القاضي نور الله من حكماء الشيعة وعلمائها. وتوفي في شيراز سنة 816 ه‍. ( الكنى والالقاب 2 / 358 ).
2 ـ في حاشيته على شرح المطالع عند قول الشارح : الا أن معناه شيء له المشتق منه ... الخ ، شرح المطالع / 11.
3 ـ الفصول / 61 ، التنبيهات.
4 ـ الفصول / 61 ، التنبيهات.


(52)
حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات ، وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك.
    وفيه : إنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا ، بل بماله من المعنى ، كما لا يخفى.
    والتحقيق أن يقال إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي ، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه ، وإنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه ، بل لا يكاد يعلم ، كما حقق في محله ، ولذا ربما يجعل لازمان مكانه إذا كانا متساوي النسبة إليه ، كالحساس والمتحرك بالارادة في الحيوان ، وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق ، فإنه وإن كان عرضا عام ، لا فصلا مقوما للانسان ، إلا أنه بعد تقييده بالنطق واتصافه به كان من أظهر خواصه.
    وبالجملة لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق ، إلا دخول العرض في الخاصة التي هي من العرضي ، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي ، فتدبر جيدا.
    ثم قال : إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا ، ويجاب بأن المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا ، بل مقيدا بالوصف ، وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة ، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا. انتهى.
    ويمكن أن يقال : إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب ، فإن المحمول إن كان ذات المقيد وكان القيد خارجا ، وإن كان التقييد داخلا بما هو معنى حرفي ، فالقضية لا محالة تكون ضرورية ، ضرورة ضرورية ثبوت الانسان الذي يكون مقيدا بالنطق للانسان وان كان المقيد به بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا ، فقضية ( الانسان ناطق ) تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما قضية ( الانسان إنسان ) وهي


(53)
ضرورية ، والاخرى قضية ( الانسان له النطق ) وهي ممكنة ، وذلك لان الاوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم تكون أوصافا ، فعقد الحمل ينحل إلى القضية ، كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ ، وقضية ممكنة عند الفارابي (1) ، فتأمل.
    لكنه ( قدس سره ) تنظر فيما أفاده بقوله : وفيه نظر لان الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ، إن كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة وإلا صدق السلب بالضرورة ، مثلا : لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد [ الكاتب ] (2) بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة. انتهى.
    ولا يذهب عليك أن صدق الايجاب بالضرورة ، بشرط كونه مقيدا به واقعا لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية ، ضرورة صدق الايجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة ، كما لا يكاد يضر بها صدق السلب كذلك ، بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا ، لضرورة السلب بهذا الشرط ، وذلك لوضوح أن المناط في الجهات ومواد القضايا ، إنما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجهة بأي جهة منها ، ومع أية منها في نفسها صادقة ، لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك ، وإلا كانت الجهة منحصرة بالضرورة ، ضرورة صيرورة الايجاب أو السلب ـ بلحاظ الثبوت وعدمه ـ واقعا ضروريا ، ويكون من باب الضرورة
1 ـ أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الحكيم المشهور ، صاحب التصانيف في الفلسفة والمنطق والموسيقى وغيرها من العلوم ، أقام ببغداد برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران ثم رجع إلى بغداد ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها وسلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان ، ويحكى أن الآلة المسماة « القانون » من وضعه ، وكان منفردا بنفسه لا يجالس الناس ، أكثر تصانيفه فصول وتعاليق ، توفي عام 339 بدمشق وقد ناهز ثمانين سنة وصلى عليه سيف الدولة ودفن بظاهر دمشق. ( وفيات الاعيان 5 / 153 رقم 701 ).
2 ـ أثبتناها من ( ب )


(54)
بشرط المحمول.
    وبالجملة : الدعوى هو انقلاب مادة الامكان بالضرورة ، فيما ليست مادته واقعا في نفسه وبلا شرط غير الامكان.
    وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده ( رحمه الله ) بإبطال الوجه الاول ، كما زعمه ( قدس سره ) ، فإن لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقهما ، إنما يكون ضروريا مع إطلاقهما ، لا مطلقا ، ولو مع التقيد إلا بشرط تقيد المصاديق به أيضا ، وقد عرفت حال الشرط ، فافهم.
    ثم إنه لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل ، ضرورة أن مصداق الشيء الذي له النطق هو الانسان ، كان أليق بالشرطية الاولى ، بل كان أولى (1) لفساده مطلقا ، ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي ، ضرورة بطلان أخذ الشيء في لازمه وخاصته ، فتأمل جيدا.
    ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة ، بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل زيد الكاتب ، ولزومه من التركب ، وأخذ الشيء مصداقا أو مفهوما في مفهومه.
    إرشاد :
    لا يخفى أن معنى البساطة ـ بحسب المفهوم ـ وحدته إدراكا وتصورا ، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شيء واحد لا شيئان ، وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين ، كانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية ، مع وضوح بساطة مفهومهما.
    وبالجملة : لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية ـ بالتعمل العقلي ـ وحدة المعنى
1 ـ في « ب » : الاولى.

(55)
وبساطة المفهوم كما لا يخفى ، وإلى ذلك يرجع الاجمال والتفصيل الفارقان (1) بين المحدود والحد ، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا ، فالعقل بالتعمل يحلل النوع ، ويفصله إلى جنس وفصل ، بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا ، وشيئا فاردا تصورا ، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق.
    الثاني : الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما ، أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ، ولا يعصي عن الجري عليه ، لما هما عليه من نحو من الاتحاد ، بخلاف المبدأ ، فإنه بمعناه يأبى عن ذلك ، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره ، لا هو هو ، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية ، وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما ، من أن المشتق يكون لا بشرط والمبدأ يكون بشرط لا ، أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل ، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه ، وصاحب الفصول (2) ( رحمه الله ) ـ حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين ، بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد ـ أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك ، لاجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات ، وإن اعتبرا لا بشرط ، وغفل عن أن المراد ما ذكرنا ، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس والفصل ، وبين المادة والصورة ، فراجع.
    الثالث : ملاك الحمل ـ كما أشرنا إليه ـ هو الهوهوية والاتحاد من وجه ،
1 ـ في « أ و ب » : الفارقين.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبيه الثاني من تنبيهات المشتق. هو الشيخ محمد حسين بن محمد رحيم الطهراني الحائري ، ولد في « إيوان كيف » ، أخذ مقدمات العلوم في طهران ، ثم اكتسب من شقيقه الحجة الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب « هداية المسترشدين » في اصفهان ، ثم هاجر إلى العراق فسكن كربلاء ، كان مرجعا عاما في التدريس والتقليد ، وقد تخرج من معهده جمع من كبار العلماء ، أجاب داعي ربه سنة 1254 ه‍ وله آثار أشهرها « الفصول الغروية » في الاصول ( طبقات اعلام الشيعة الكرام البررة 1 / 390 رقم 795 ).


(56)
والمغايرة من وجه آخر ، كما يكون بين المشتقات والذوات ، ولا يعتبر معه (1) ملاحظة التركيب بين المتغايرين ، واعتبار كون مجموعهما ـ بما هو كذلك ـ واحدا ، بل يكون لحاظ ذلك مخلا ، لاستلزامه المغايرة بالجزئية والكلية.
    ومن الواضح أن ملاك الحمل لحاظ نحو اتحاد بين الموضوع والمحمول ، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات ، بل لا يلحظ في طرفها إلا نفس معانيها ، كما هو الحال في طرف المحمولات ، ولا يكون حملها عليها إلا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد ، مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار.
    فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام. وفي كلامه موارد للنظر ، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.
    الرابع : لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما ، وإن اتحدا عينا وخارجا ، فصدق الصفات ـ مثل : العالم ، والقادر ، والرحيم ، والكريم ، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال ـ عليه تعالى ، على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته ، يكون على الحقيقة ، فإن المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا ، إلا أنه غير ذاته تعالى مفهوما.
    ومنه قد انقدح ما في الفصول ، من الالتزام بالنقل (2) أو التجوز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى ، بناء على الحق من العينية ، لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق ، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما ، ولا اتفاق على اعتبار غيرها ، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره ، كمالا يخفى ، وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات ومبادئ الصفات.
1 ـ اشارة إلى ما افاده صاحب الفصول ، الفصول ، 62 التنبيه الثاني.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق.


(57)
    الخامس : إنه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة ـ كما عرفت ـ بين المبدأ وما يجري عليه المشتق ، في اعتبار قيام المبدأ به ، في صدقه على نحو الحقيقة.
    وقد استدل من قال (1) بعدم الاعتبار ، بصدق الضارب والمؤلم ، مع قيام الضرب والالم بالمضروب والمؤلم ـ بالفتح ـ.
    والتحقيق : إنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولى الالباب ، في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها ، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص ، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة ، واختلاف الهيئات أخرى ، من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه ، أو انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا ، كما في صفاته تعالى ، على ما أشرنا إليه آنفا ، أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع عنه ، كما في الاضافات والاعتبارات التي لا تحقق لها ، ولا يكون بحذائها في الخارج شيء ، وتكون من الخارج المحمول ، لا المحمول بالضميمة ، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما ، وقائما به عينا ، لكنه بنحو من القيام ، لا بأن يكون هناك اثنينية ، وكان ما بحذائه غير الذات ، بل بنحو الاتحاد والعينية ، وكان ما بحذائه عين الذات ، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الامور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة ، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ، ولو بتأمل وتعمل من العقل. والعرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم ، لا في تطبيقها على مصاديقها.
    وبالجملة : يكون مثل العالم ، والعادل ، وغيرهما ـ من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره ـ جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد ، وإن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد ، وكيفية التلبس بالمبدأ ، حيث أنه بنحو العينية فيه تعالى ، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره ، فلا وجه لما التزم به في
1 ـ الفصول / 62 ، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق.

(58)
الفصول (1) ، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى ، كما لا يخفى ، كيف ؟ ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى ، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلا بما يقابلها ، ففي مثل ما إذا قلنا : إنه تعالى عالم ، إما أن نعني أنه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام ، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى ، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإما أن لا نعني شيئا ، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة ، وكونها بلا معنى ، كما لا يخفى.
    والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره ، وهو كما ترى ، وبالتأمل فيما ذكرنا ، ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين والمحاكمة بين الطرفين ، فتأمل.
    السادس : الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة ، التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض ، كما في الماء الجاري ، بل يكفي التلبس به ولو مجازا ، ومع هذه الواسطة ، كما في الميزاب الجاري ، فاسناد الجريان إلى الميزاب ، وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز ، إلا أنه في الاسناد ، لا في الكلمة ، فالمشتق في مثل المثال ، بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي ، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازي ، ولا منافاة بينهما أصلا ، كما لا يخفى.
    ولكن ظاهر الفصول (2) بل صريحه ، اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة ، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد والمجاز في الكلمة ، وهذا ـ هاهنا ـ محل الكلام بين الاعلام ، والحمد لله ، وهو خير ختام.
1 ـ الفصول / 62 ، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق.


(59)
المقصد الاول
الاوامر


(60)
كفاية الاصول ::: فهرس