كفاية الاصول ::: 61 ـ 75
(61)
    وفيه فصول :
    الاول : فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات ، وهي عديدة :
    الاولى : إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة ، منها الطلب ، كما يقال ، أمره بكذا.
    ومنها الشأن ، كما يقال : شغله أمر كذا.
    ومنها الفعل ، كما في قوله تعالى : « وما أمر فرعون برشيد » (1).
    ومنها الفعل العجيب ، كما في قوله تعالى : « فلما جاء أمرنا » (2).
    ومنها الشيء ، كما تقول : رأيت اليوم أمرا عجيبا.
    ومنها الحادثة
    ومنها الغرض ، كما تقول : جاء زيد لامر كذا.
    ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ، ضرورة أن الامر في ( جاء زيد لامر ) ما إستعمل في معنى الغرض ، بل اللام قد دل على الغرض ، نعم يكون مدخوله مصداقه ، فافهم ، وهكذا الحال في قوله
1 ـ هود : 97.
2 ـ هود : 66 ، 82.


(62)
تعالى « فلما جاء أمرنا » (1) يكون مصداقا للتعجب ، لا مستعملا في مفهومه ، وكذا في الحادثة والشأن.
    وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول (2) ، من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الاولين.
    ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، هذا بحسب العرف واللغة.
    وأما بحسب الاصطلاح ، فقد نقل (3) الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص ، ومجاز في غيره ، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه الاشتقاق ، فإن معناه ـ حينئذ ـ لا يكون معنى حدثيا ، مع أن الاشتقاقات منه ـ ظاهرا ـ تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم ، لا بالمعنى الاخر ، فتدبر.
    ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه ، نعم القول المخصوص ـ أي صيغة الامر ـ إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الامر ، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.
    وكيف كان ، فالامر سهل لو ثبت النقل ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة ، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة ، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة ، ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز.
    وما ذكر في الترجيح ، عند تعارض هذه الاحوال ، لو سلم ، ولم يعارض بمثله ، فلا دليل على الترجيح به ، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الاصل في مقام العمل ، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه ، ولو إحتمل أنه كان للانسباق من الاطلاق ، فليحمل عليه ، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه
1 ـ هود : 66 ، 82.
2 ـ الفصول / 62 ، القول في الامر.
3 ـ الفصول / 62 ـ 63 ، القول في الامر.


(63)
بالخصوص ، أو فيما يعمه ، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الاول.
    الجهة الثانية : الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر ، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا ، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية ، كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء ، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه.
    وأما إحتمال اعتبار أحدهما فضعيف ، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ، وتوبيخه بمثل : إنك لم تأمره ، إنما هو على استعلائه ، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه ، وإنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه ، وكيف كان ، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل ، ولو كان مستعليا كفاية.
    الجهة الثالثة : لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب ، لانسباقه عنه عند إطلاقه ، ويؤيد قوله تعال « فليحذر الذين يخالفون عن أمره » (1) وقوله صلى الله عليه وآله (2) : ( لو لا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) وقوله صلى الله عليه وآله (3) : ـ لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول الله ؟ ـ : ( لا ، بل إنما أنا شافع ) إلى غير ذلك ، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ، وتوبيخه على مجرد مخالفته ، كما في قوله تعالى « ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك » (4).
    وتقسيمه إلى الايجاب والاستحباب ، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه ، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو
1 ـ النور : 63.
2 ـ غوالي اللآلي : 2 / 21 الحديث 43.
3 ـ الكافي : 5 / 485 ، التهذيب : 7 / 341 ، الخصال : 1 / 190.
4 ـ الاعراف : 12.


(64)
الحقيقة ، كما لا يخفى.
    وأما ما أفيد (1) من أن الاستعمال فيهما ثابت ، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز ، فهو غير مفيد ، لما مرت الاشارة إليه في الجهة الاولى ، وفي تعارض الاحوال (2) ، فراجع.
    والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة فهو فعل المأمور به ، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى ، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي ، وإلا لا يفيد المدعى.
    الجهة الرابعة : الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الامر ، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل الطلب الانشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا ، بل طلبا إنشائيا ، سواء أنشئ بصيغة إفعل ، أو بمادة الطلب ، أو بمادة الامر ، أو بغيرها.
    ولو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الانشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا ، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الانشائي ، كما أن الامر في لفظ الارادة على عكس لفظ الطلب ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الارادة الحقيقية (3) واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة ، من المغايرة بين الطلب والارادة ، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة ، من اتحادهما.
    فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام ، وإن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما تكن عن المحذور خالية ، والاعادة بلا فائدة ولا إفادة ، كان المناسب هو التعرض ها هنا أيضا.
    فاعلم ، أن الحق كما عليه أهله ـ وفاقا للمعتزلة وخلافا للاشاعرة ـ هو اتحاد الطلب والارادة ، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء
1 ـ أفاده العلامة ( ره ) نهاية الاصول / 64 مخطوطة.
2 ـ في الامر الثامن من المقدمة ص 20.
3 ـ في « ب » : الحقيقة.


(65)
أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة الانشائية ، وبالجملة هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا أن الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متحد مع الارادة الحقيقية (1) التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الامس. فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والامر به حقيقة كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فإن الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها ، يكون هو الطلب غيرها ، سوى ما هو مقدمة تحققها ، عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق لفائدته ، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لاجلها.
    وبالجملة : لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والارادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب ، فلا محيص (2) عن إتحاد الارادة والطلب ، وأن يكون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك ، مسمى بالطلب والارادة كما يعب به تارة وبها أخرى ، كما لا يخفى. وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية ، والجمل الخبرية ، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس ، من الترجي والتمني والعلم إلى غيرذلك ، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس ، وقد دل اللفظ عليها ، كما قيل :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
    وقد انقدح بما حققناه ، ما في استدلال الاشاعرة على المغايرة بالامر مع عدم الارادة ، كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل ، فإنه كما لا إرادة
1 ـ في « ب » : الحقيقة.
2 ـ في النسختين فلا محيص إلا ، والظاهر « إلا » هنا مقحمة في السياق.


(66)
حقيقة في الصورتين ، لا طلب كذلك فيهما ، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب الانشائي الايقاعي ، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة ، ولم يكن بينا ولا مبينا في الاستدلال مغايرته مع الارادة الانشائية.
    وبالجملة : الذي يتكفله الدليل ، ليس إلا الانفكاك بين الارادة الحقيقية ، والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما. وهو مما لا محيص عن الالتزام به ، كما عرفت ، ولكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا ، لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والانشائي ، كما لا يخفي.
    ثم إنه يمكن ـ مما حققناه ـ أن يقع الصلح بين الطرفين ، ولم يكن نزاع في البين ، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا ، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الانشائي من الطلب ، كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه ، وا لحقيقي من الارادة ، كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها ، فيرجع النزاع لفظيا ، فافهم.
    دفع ووهم (1) : لا يخفى أنه ليس غرض الاصحاب والمعتزلة ، من نفي غير الصفات المشهورة ، وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي ، كما يقول به الاشاعرة ، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام.
    إن قلت : فماذا يكون مدلولا عليه عند الاصحاب والمعتزلة ؟
    قلت : أما الجمل الخبرية ، فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها ، أو نفيها في نفس الامر من ذهن أو خارج ، كالانسان نوع أو كاتب.
    وأما الصيغ الانشائية ، فهي ـ على ما حققناه في بعض فوائدنا (2) ـ موجدة
1 ـ المتوهم هو القوشجي ، راجع شرح تجريد العقائد للقوشجي / 246 ، عند البحث عن المسموعات.
2 ـ تعليقة المصنف على الفرائد ، كتاب الفرائد / 285.


(67)
لمعانيها في نفس الامر ، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها ، وهذا نحو من الوجود ، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار ، كما هو الحال في صيغ العقود والايقاعات.
    نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني ـ بالدلالة الالتزامية ـ على ثبوت هذه الصفات حقيقة ، إما لاجل وضعها لايقاعها ، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة ، فلو لم تكن هناك قرينة ، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها ، لاجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس ، وضعا أو إطلاقا.
    إشكال ودفع : أما الاشكال ، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والارادة ، في تكليف الكفار بالايمان ، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالاركان ، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي ، إن لم يكن هناك إرادة ، حيث أنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي ، وإعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي ، وإن كان هناك إرادة ، فكيف تتخلف عن المراد ؟ ولا تكاد تتخلف ، إذا أراد الله شيئا يقول له : كن فيكون.
    وأما الدفع ، فهو إن إستحاله التخلف إنما تكون في الارادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الارادة التشريعية ، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف. وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الارادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا توافقتا فلابد من الاطاعة والايمان ، وإذا تخالفتا ، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان.
    إن قلت : إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان ، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد ، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.


(68)
    قلت : إنما يخرج بذلك عن الاختيار ، لو لم يكن تعلق الارادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية ، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار ، وإلا لزم تخلف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
    إن قلت : إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما ، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار ، كيف ؟ وقد سبقهما الارادة الازلية والمشية الالهية ، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار ؟
    قلت : العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإن ( السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه ) (1) و ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) (2) ، كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ، فانقطع سؤال : إنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا ؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وإنما أوجدهما الله تعالى ( قلم اينجا رسيد سر بشكست ) (3) ، قد إنتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام ، ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام.
    وهم ودفع : لعلك تقول : إذا كانت الارادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل ، لزم ـ بناء على أن تكون عين الطلب ـ كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الالهية هو العلم ، وهو بمكان من البطلان.
1 ـ ورد بهذا المضمون في توحيد الصدوق / 356 الباب 58 الحديث 3.
2 ـ الروضة من الكافي 8 / 177 ، الحديث 197. مسند أحمد بن حنبل 2 / 539 وفيه تقديم الفضة على الذهب. وقريب منه في هذا المصدر صفحة 257 ، 260 ، 391 ، 438 ، 485 ، 498 ، 525 والبخاري 4 / 216.
3 ـ يريد المؤلف ( ره ) : وهنا يقف القلم ، لان الكلام انتهى إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام ، وما بين القوسين ، تعبير فارسي ترجمته : لما وصل القلم إلى هنا انكسر رأسه.


(69)
    لكنك غفلت عن أن اتحاد الارادة مع العلم بالصلاح ، إنما يكون خارجا لا مفهوما ، وقد عرفت (1) أن المنشأ ليس إلا المفهوم ، لا الطلب الخارجي ، ولا غرو أصلا في اتحاد الارادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى ، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة ، قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : ( وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ). (2)

    فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث :
    الاول : إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها ، وقد عد منها : الترجي ، والتمني ، والتهديد ، والانذار ، والاهانة ، والاحتقار ، والتعجيز ، والتسخير ، إلى غير ذلك ، وهذا كما ترى ، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها ، بل لم يستعمل إلا في إنشاء الطلب ، إلا أن الداعي إلى ذلك ، كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي ، يكون أخرى أحد هذه الامور ، كما لا يخفى.
    قصارى ما يمكن أن يدعى ، أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب ، فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداع آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة ، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا ، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره ، فلا تغفل.
    إيقاظ : لا يخفى أن ما ذكروه في صيغة الامر ، جار في سائر الصيغ الانشائية ، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام
1 ـ مر في صفحة 66 من هذا الكتاب عند قوله : وأما الصيغ الانشائية .. الخ.
2 ـ نهج البلاغة / 39 الخطبة الاولى.


(70)
بصيغها ، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة ، يكون الداعي غيرها أخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها ، واستعمالها في غيرها ، إذا وقعت في كلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى ، مما لازمه العجز أو الجهل ، وأنه لا وجه له ، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي ، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة ، كما عرفت ، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضا ، لا لاظهار ثبوتها حقيقة ، بل لامر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك ، ومنه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا.
    المبحث الثاني : في أن الصيغة حقيقة في الوجوب ، أو في الندب ، أو فيهما ، أو في المشترك بينهما ، وجوه بل أقوال.
    لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة ، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال ، وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه (1) ، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا ، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه ، إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة ، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجب صيرورته مشهورا فيه ، ليرجح أو يتوقف ، على الخلاف في المجاز المشهور ، كيف ؟ وقد كثر إستعمال العام في الخاص ، حتى قيل : ( ما من عام إلا وقد خص ) ولم ينثلم به ظهوره في العموم ، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.
    المبحث الثالث : هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث ـ مثل : يغتسل ، ويتوضأ ، ويعيد ـ ظاهرة في الوجوب أو لا ؟ لتعدد
1 ـ هذا تعريض بصاحب المعالم ( قدس سره ) ، معالم الدين / 48 ، فصل في الاوامر : فائدة.

(71)
المجازات فيها ، وليس الوجوب بأقواها ، بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار ، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها.
    الظاهر الاول ، بل تكون أظهر من الصيغة ، ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب ـ مستعملة في غير معناها ، بل تكون مستعملة فيه ، إلا أنه ليس بداعي الاعلام ، بل بداعي البعث بنحو آكد ، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه ، إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه ، فيكون آكد في البعث من الصيغة ، كما هو الحال في الصيغ الانشائية ، على ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواعي أخر ، كما مر (1).
    لا يقال : كيف ؟ ويلزم الكذب كثيرا ، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.
    فإنه يقال : إنما يلزم الكذب ، إذا أتي بها بداعي الاخبار والاعلام ، لا لداعي البعث ، كيف ؟ وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل ( زيد كثير الرماد ) أو ( مهزول الفصيل ) لا يكون كذبا ، إذا قيل كناية عن جوده ، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا ، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد ، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ ، فإنه مقال بمقتضى الحال. هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان ، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب ، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه ، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده ، فإن شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب ، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان ، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره ، فافهم.
1 ـ في المبحث الاول من هذا الفصل ، عند قوله ( قدس سره ) : إيقاظ / 69.

(72)
    المبحث الرابع : إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب ، هذ لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون ؟ قيل بظهورها فيه ، إما لغبة الاستعمال فيه ، أو لغلبة وجوده أو أكمليته.
    والكل كما ترى ، ضرورة أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده ، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر. وأما الاكملية فغير موجبة للظهور ، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة أنس اللفظ بالمعنى ، بحيث يصير وجها له ، ومجرد الاكملية لا يوجبه ، كما لا يخفى ، نعم فيما كان الامر بصدد البيان ، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب ، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب ، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد ، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان ، كاف في بيانه ، فافهم.
    المبحث الخامس : إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا ، فيجزي إتيانه مطلقا ، ولو بدون قصد القربة ، أو لا ؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الاصل.
    لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات :
    إحداها : الوجوب التوصلي ، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ، ويسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدي ، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لابد ـ في سقوطه وحصول غرضه ـ من الاتيان به متقربا به منه تعالى.
    ثانيها : إن التقرب المعتبر في التعبدي ، إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره ، كان مما يعتبر في الطاعة عقلا ، لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا ، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الامر بشيء في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا ، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للامر ، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.


(73)
    وتوهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر ، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي ، ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة ، والتمكن من إتيانها كذلك ، بعد تعلق الامر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر ، واضح الفساد ، ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان ، إلا أنه لا سكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها ، لعدم الامر بها ، فإن الامر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الامر ، ولا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به ، لا إلى غيره.
    إن قلت : نعم ، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالامر بها مقيدة.
    قلت : كلا ، لان ذات المقيد لا يكون مأمورا بها ، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا ، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي ، كما ربما يأتي في باب المقدمة.
    إن قلت : نعم ، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا ، وأما إذا أخذ شطرا ، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد ، يكون متعلقا للوجوب ، إذ المركب ليس إلا نفس الاجزاء بالاسر ، ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل ، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب ، ضرورة صحة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.
    قلت : مع امتناع اعتباره كذلك ، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري ، فإن الفعل وإن كان بالارادة اختياريا ، إلا أن إرادته ـ حيث لا تكون بإرادة أخرى ، وإلا لتسلسلت ـ ليست باختيارية ، كما لا يخفى. إنما يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي ، ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب عن قصد الامتثال ، بداعي امتثال أمره.


(74)
    إن قلت : نعم (1) ، لكن هذا كله إذا كان إعتباره في المأمور به بأمر واحد ، وأما إذا كان بأمرين : تعلق أحدهما بذات الفعل ، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره ، فلا محذور أصلا ، كما لا يخفى. فللآمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده ، بلا منعة.
    قلت : ـ مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد ، كغيرها من الواجبات والمستحبات ، غاية الامر يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها المثوبات والعقوبات ، بخلاف ما عداها ، فيدور فيه خصوص المثوبات ، وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة ـ أن الامر الاول إن كان يسقط بمجرد موافقته ، ولو لم يقصد به الامتثال ، كما هو قضية الامر الثاني ، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الاول بدون قصد امتثاله ، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة ، وإن لم يكد يسقط بذلك ، فلا يكاد يكون له وجه ، إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره ، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، وإلا لما كان موجبا لحدوثه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الامر ، لاستقلال العقل ، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه ، فيسقط أمره.
    هذا كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.
    وأما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه ، أو كونه ذا مصلحة [ أو له تعالى ] (2) ، فاعتباره في متعلق الامر وإن كان بمكان من الامكان ، إلا أنه غير معتبر فيه قطعا ، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال ، الذي عرفت
1 ـ إشارة إلى ما أفاده صاحب التقريرات في مطارح الانظار / 60 ، السطر الاخير ، في التعبدي والتوصلي.
2 ـ سقطت من « أ ».


(75)
عدم إمكان أخذه فيه بديهة.
    تأمل فيما ذكرناه في المقام ، تعرف حقيقة المرام ، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الاعلام.
    ثالثتها : إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه ، عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا ، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ـ ولو كان مسوقا في مقام البيان ـ على عدم اعتباره ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا يكاد يصح التمسك به إلا فيما يمكن اعتباره فيه.
    فانقدح بذلك أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها ، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الآمر ، من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها ، نعم إذا كان الامر في مقام بصددبيان تمام ماله دخل في حصول غرضه ، وإن لم يكن له دخل في متعلق أمره ، ومعه سكت في المقام ، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله ، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه ، وإلا لكان سكوته نقصا له وخلاف الحكمة ، فلا بد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام ، من الرجوع إلى ما يقتضيه الاصل ويستقل به العقل.
    فاعلم : أنه لا مجال ـ ها هنا ـ إلا لاصالة الاشتغال ، ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، وذلك لان الشك ها هنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا يكون العقاب ـ مع الشك وعدم إحراز الخروج ـ عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة عليه بلا برهان ، ضرورة أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة ، وهكذا الحال في كل ما شك دخله في الطاعة ، والخروج به عن العهدة ، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز.
    نعم : يمكن أن يقال : إن كل ما ربما يحتمل بدوا دخله في الامتثال ،
كفاية الاصول ::: فهرس