كفاية الاصول ::: 76 ـ 90
(76)
أمرا كان مما يغفل عنه غالبا العامة (1) ، كان على الآمر بيانه ، ونصب قرينة على دخله واقعا ، وإلا لاخل بما هو همه وغرضه ، أما إذا لم ينصب دلالة على دخله ، كشف عن عدم دخله ، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة ، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الاخبار والآثار ، وكانا مما يغفل عنه العامة ، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة ، فتدبر جيدا.
    ثم إنه لا أظنك أن تتوهم وتقول : إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار ، وإن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار ، لوضوح أنه لابد في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعا ، وليس ها هنا ، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي ، بل واقعي. ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك ، إلا أنهما قابلان للوضع والرفع شرعا ، فبدليل الرفع ـ ولو كان أصلا ـ يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك ، يجب الخروج عن عهدته عقلا ، بخلاف المقام ، فإنه علم بثبوت الامر الفعلي ، كما عرفت ، فافهم.
    المبحث السادس : قضية إطلاق الصيغة ، كون الوجوب نفسيا تعينيا عينيا ، لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته ، فإذا كان في مقام البيان ، ولم ينصب قرينة عليه ، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا ، وجب هناك شيء آخر أو لا ، أتى بشيء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا ، كما هو واضح لا يخفى.
    المبحث السابع : إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الامر في الوجوب وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال :
1 ـ هذا ما أثبتناه من « أ و ب » ، وفي بعض النسخ المطبوعة هكذا ( إن كل ما يحتمل بدوا دخله في الامتثال وكان يغفل عنه غالبا العامة ).

(77)
نسب (1) إلى المشهور ظهورها في الاباحة. وإلى بعض العامة (2) ظهورها في الوجوب ، وإلى بعض (3) تبعيته لما قبل النهي ، إن علق الامر بزوال علة النهي ، إلى غير ذلك.
    والتحقيق : إنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب ، أو الاباحة ، أو التبعية ، ومع فرض التجريد عنها ، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه. غاية الامر يكون موجبا لاجمالها ، غير ظاهرة في واحد منها إلا بقرينة أخرى ، كما أشرنا.
    المبحث الثامن : الحق أن صيغة الامر مطلقا ، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار ، فإن المنصرف عنها ، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهيئتها ولا بمادتها ، والاكتفاء بالمرة ، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة ، كما لا يخفى.
    ثم لا يذهب عليك : أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين ، لا يدل إلا على الماهية ـ على ما حكاه السكاكي (4) ـ لا يوجب كون النزاع ها هنا في الهيئة ـ كما في الفصول (5) ـ فإنه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك ، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على
1 ـ راجع الفصول / 70 ، وبدائع الافكار في النسخة الثانية من نسختي الاوامر / 294.
2 ـ البصري في المعتمد / 75 ، باب في صيغة الامر الواردة بعد حظر ، والبيضاوي وغيره راجع الابهاج في شرح المنهاج للسبكي : 2 / 43.
3 ـ كالعضدي ، شرح مختصر الاصول / 205 ، في مسألة وقوع صيغة الامر بعد الحظر.
4 ـ مفتاح العلوم / 93.
5 ـ الفصول / 71 ، فصل : الحق أن هيئة ... الخ.


(78)
الماهية ، ضرورة أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات ، بل هو صيغة مثلها ، كيف ؟ وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها ، كما لا يخفى.
    إن قلت : فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام.
    قلت : مع أنه محل الخلاف ، معناه أن الذي وضع أولا بالوضع الشخصي ، ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا سائر الصيغ التي تناسبه ، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه ، بصورة ومعنى كذلك ، هو المصدر أو الفعل ، فافهم.
    ثم المراد بالمرة والتكرار ، هل هو الدفعة والدفعات ؟ أو الفرد والافراد ؟
    والتحقيق : أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع ، وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول ، وتوهم (1) أنه لو أريد بالمرة الفرد ، لكان الانسب ، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتي ، من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد ، هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد ؟ أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه ، وأما لو أريد بها الدفعة ، فلا علقة بين المسألتين ، كما لا يخفى ، فاسد ، لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا ، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ، ضرورة أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين ، فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها.
1 ـ المتوهم هو صاحب الفصول ، الفصول / 71.

(79)
    أما بالمعنى الاول فواضح ، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات ، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد ، غاية الامر خصوصيته وتشخصه على القول بتعلق الامر بالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه ، بخلاف القول بتعلقه بالافراد ، فإنه مما يقومه.
    تنبيه : لا إشكال بناء على القول بالمرة في الامتثال ، وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا ، على أن يكون أيضا به الامتثال ، فإنه من الامتثال بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار ، فلا يخلو الحال : إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان ، بل في مقام الاهمال أو الاجمال ، فالمرجع هو الاصل. وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام ، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال ، وإنما الاشكال في جواز أن لا يقتصر عليها ، فإن لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها ، هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا ، لزوم الاقتصار على المرة ، كما لا يخفى.
    والتحقيق : إن قضية الاطلاق إنما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد ، فيكون إيجادها في ضمنها نحوا من الامتثال ، كإيجادها في ضمن الواحد ، لا جواز الاتيان بها مرة ومرات ، فإنه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر ، فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى ، بحيث يحصل بمجرده ، فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر ، أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا ، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها ، وسقوط الغرض معها ، وسقوط الامر بسقوطه ، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا ، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض ، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتي به ، ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا ، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه ، بل


(80)
مطلقا ، كما كان له ذلك قبله ، على ما يأتي بيانه في الاجزاء.
    المبحث التاسع : الحق أنه لا دلالة للصيغة ، لا على الفور ولا على التراخي ، نعم قضية إطلاقها جواز التراخي ، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها ، بلا دلالة على تقييدها بأحدها ، فلا بد في التقييد من دلالة أخرى ، كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية.
    وفيه منع ، ضرورة أن سياق آية « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم » (1) وكذا آية « فاستبقوا الخيرات » (2) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير ، من دون استتباع تركهما للغضب والشر ، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر ، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب ، كما لا يخفى ، فافهم.
    مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات ، وكثير من الواجبات بل أكثرها ، فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق ، وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك ، كالآيات والروايات الواردة في الحث على أصل الاطاعة ، فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ، ولو لم يكن هناك أمر بها ، كما هو الشأن في الاوامر الارشادية ، فافهم.
    تتمة : بناء على القول بالفور ، فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا أيضا ، في الزمان الثاني ، أو لا ؟ وجهان : مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول ، هو وحدة المطلوب أو تعدده ، ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية ، لما كان لها دلالة على نحو
1 ـ آل عمران : 133.
2 ـ البقرة : 148 ، المائدة : 48.


(81)
المطلوب من وحدته أو تعدده ، فتدبر جيدا.

    الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء في الجملة بلا شبهة ، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ، ينبغي تقديم أمور :
    أحدها : الظاهر أن المراد من ( وجهه ) ـ في العنوان ـ هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا ، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة ، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا ، فإنه عليه يكون ( على وجهه ) قيدا توضيحيا ، وهو بعيد ، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع ، بناء على المختار ، كما تقدم من أن قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا ، لا من قيود المأمور به شرعا ، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب (1) ، فإنه ـ مع عدم اعتباره عند المعظم ، وعدم اعتباره عند من اعتبره ، إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ـ لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار ، فلا بد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى ، وهو ما ذكرناه ، كما لا يخفى.
    ثانيها : الظاهر أن المراد من الاقتضاء ـ ها هنا ـ الاقتضاء بنحو العلية والتأثير ، لا بنحو الكشف والدلالة ، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الطبيعة.
    إن قلت : هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره ، وأما بالنسبة إلى أمر آخر ، كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي ، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره ، بنحو يفيد الاجزاء ، أو بنحو آخر لا يفيده.
1 ـ من المتكلمين ، وأشار إليه في مطارح الانظار / 19.

(82)
    قلت : نعم ، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما ، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم ، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما ، إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما ، هل أنه على نحو يستقل العقل بأن الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه ، وعدم دلالته ؟ ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا ، بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره ، فإنه لا يكون إلا كبرويا ، لو كان هناك نزاع ، كما نقل عن بعض (1). فافهم.
    ثالثها : الظاهر أن الاجزاء ـ ها هنا ـ بمعناه لغة ، وهو الكفاية (2) ، وإن كان يختلف ما يكفي عنه ، فإن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفي ، فيسقط به التعبد به ثانيا ، وبالامر الاضطراري أو الظاهري الجعلي ، فيسقط به القضاء ، لا أنه يكون ـ ها هنا ـ اصطلاحا ، بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء ، فإنه بعيد جدا.
    رابعها : الفرق (3) بين هذه المسألة ، ومسألة المرة والتكرار ، لا يكاد يخفى ، فإن البحث ـ ها هنا ـ في أن الاتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا ، بخلافه في تلك المسألة ، فإنه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها ، أو بدلالة أخرى.
    نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه.
    وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء ، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها ، بخلاف هذه المسألة ، فإنه ـ كما عرفت ـ في
1 ـ وهو القاضي عبد الجبار ، راجع المعتمد 1 / 90.
2 ـ اجزأ الشيء إياي : كفاني. القاموس المحيط 1 / 10 مادة الجزء.
أجزأني الشيء : كفاني. مجمع البحرين 1 / 85 مادة جزأ.
3 ـ راجع مطارح الانظار / 19.


(83)
أن الاتيان بالمأمور به بجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداء أو قضاء ، أو لا يجزي ، فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا.
    إذا عرفت هذه الامور ، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين :
    الاول : إن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ـ بل (1) بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا ـ يجزي عن التعبد به ثانيا ، لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع موافقة الامر بإتيان المأمور به على وجهه ، لاقتضائه التعبد به ثانيا.
    نعم لا يبعد أن يقال : بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا ، بدلا عن التعبد به أولا ، لا منضما إليه ، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة (2) ، وذلك فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض ، وإن كان وافيا به لو اكتفى به ، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه ، فلم يشربه بعد ، فإن الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو أهريق (3) الماء واطلع عليه العبد ، وجب عليه إتيانه ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا ، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه ، وإلا لما أوجب حدوثه ، فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر ، كما كان له قبل إتيانه الاول بدلا عنه.
    نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض ، فلا يبقى موضع للتبديل ، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه ، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل ، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة ، فله إليه سبيل ، ويؤيد ذلك ـ بل يدل عليه ـ ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى
1 ـ في نسختي « أ و ب » بل أو ..
2 ـ راجع تنبيه المبحث الثامن من هذا الكتاب / 79.
3 ـ في « ب » : أهرق.


(84)
جماعة (1) ، وأن الله تعالى يختار أحبهما إليه.
    الموضع الثاني : وفيه مقامان :
    المقام الاول : في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري ، هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا ، بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة ، وفي خارجه قضاء ، أو لا يجزي ؟
    تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء ، وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه ، وأخرى في تعيين ما وقع عليه.
    فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار ، كالتكليف الاختياري في حال الاختيار ، وافيا بتمام المصلحة ، وكافيا فيما هو المهم والغرض ، ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك ، بل يبقى منه شيء أمكن استيقاؤه أو لا يمكن. وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه ، أو يكون بمقدار يستحب ، ولا يخفى أنه إن كان وافيا به يجزي ، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك ، لا قضاء ولا إعادة ، وكذا لو لم يكن وافيا ، ولكن لا يمكن تداركه ، ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلا لمصلحة كانت فيه ، لما فيه من نقض الغرض ، وتفويت مقدار من المصلحة ، لو لا مراعاة ما هو فيه من الاهم ، فافهم.
    لا يقال : عليه ، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار ، لا مكان استيفاء الغرض بالقضاء.
1 ـ الكافي : 3 / 379 ، باب الرجل يصلي وحده من كتاب الصلاة. التهذيب : 3 / 269 الحديث 94 ، وصفحة 270 الحديث 95 إلى 98 الباب 25. الفقيه : 1 / 251. الحديث 41 إلى 43 من باب الجماعة وفضلها.
2 ـ في « ب » يجزئ.


(85)
    فإنه يقال : هذا كذلك ، لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت.
    وأما تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الاولى ، فيدور مدار كون العمل ـ بمجرد الاضطرار مطلقا ، أو بشرط الانتظار ، أو مع اليأس عن طرو الاختيار ـ ذا مصلحة ووافيا بالغرض.
    وإن لم يكن وافيا ، وقد أمكن تدارك الباقي (1) في الوقت ، أو مطلقا ولو بالقضاء خارج الوقت ، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي ، بل لابد (2) من إيجاب الاعادة أو القضاء ، وإلا فيجزي ، ولا مانع عن البدار في الصورتين ، غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين : العمل الاضطراري في هذا الحال ، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار ، والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار ، وفي الصورة الثانية يجزي البدار ويستحب الاعادة بعد طرو الاختيار.
    هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء ، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله ، مثل قوله تعالى « فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا » (3) وقوله ( عليه السلام ) : ( التراب أحد الطهورين ) (4) و : ( يكفيك عشر سنين ) (5) هو الاجزاء ، وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ، ولا بد في إيجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص.
    وبالجملة : فالمتبع هو الاطلاق لو كان ، وإلا فالاصل ، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الاعادة ، لكونه شكا في أصل التكليف ، وكذا عن إيجاب
1 ـ في « ب » : ما بقي منه.
2 ـ في « أ » : ولابد.
3 ـ النساء : 43 ، المائدة : 6.
4 ـ التهذيب : 1 / 196 ـ 197 ، 200 باب التيمم وأحكامه. الكافي : 3 / 64. باب الوقت الذي يوجب التيمم ، مع اختلاف في الالفاظ.
5 ـ التهذيب : 1 / 194 ، الحديث 35 ، التيمم وأحكامه ، وصفحة 199 ، الحديث 52.


(86)
القضاء بطريق أولى ، نعم لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع ، ولو لم يكن هو فريضة ، كان القضاء واجبا عليه ، لتحقق سببه ، وإن أتى بالفرض لكنه مجرد الفرض.
    المقام الثاني : في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري وعدمه.
    والتحقيق : إن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه ، وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره ، كقاعدة الطهارة أو الحلية ، بل واستصحابهما في وجه قوي ، ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجري ، فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط ، ومبينا لدائرة الشرط ، وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا ، كما هو لسان الامارات ، فلا يجزي ، فإن دليل حجيته حيث كان بلسان أنه واجد لما هو شرطه الواقعي ، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك ، بل كان لشرطه فاقدا (1). هذا على ما هو الاظهر الاقوى في الطرق والامارات ، من أن حجيتها ليست بنحو السببية.
    وأما بناء عليها ، وأن العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره ، يصير حقيقة صحيحا كأنه واجد له ، مع كونه فاقده ، فيجزي لو كان الفاقد معه ـ في هذا الحال ـ كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض ، ولا يجزي لو لم يكن كذلك ، ويجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقي ـ إن وجب ـ وإلا لاستحب. هذا مع إمكان استيفائه ، وإلا فلا مجال لاتيانه ، كما عرفت في الامر الاضطراري.
1 ـ في « أ و ب » : فاقد.

(87)
    ولا يخفى أن قضية إطلاق دليل الحجية ـ على هذا ـ هو الاجتزاء بموافقته أيضا ، هذا فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية ، أي بنحو الموضوعية والسببية.
    وأما إذا شك [ فيها ] (1) ولم يحرز أنها على أي الوجهين ، فأصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للاعادة في الوقت ، واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي ، ولا يثبت كون ما أتى به مسقطا ، إلا على القول بالاصل المثبت ، وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي.
    وهذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا ، وشك في أنه يجزي عما هو المأمور به الواقعي الاولي ، كما في الاوامر الاضطرارية أو الظاهرية ، بناء على أن يكون الحجية على نحو السببية ، فقضية الاصل فيها ـ كما أشرنا إليه ـ عدم وجوب الاعادة ، للاتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا ، وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.
    وأما القضاء فلا يجب بناء على أنه فرض جديد ، وكان الفوت المعلق عليه وجوب لا يثبت بأصالة عدم الاتيان ، إلا على القول بالاصل المثبت ، وإلا فهو واجب ، كما لا يخفى على المتأمل ، فتأمل جيدا.
    ثم إن هذا كله فيما يجري في متعلق التكاليف ، من الامارات الشرعية والاصول العملية.
    وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف ، كما إذا قام الطريق أو الاصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة ، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها ، فلا وجه لاجزائها مطلقا ، غاية الامر أن تصير صلاة الجمعة فيها ـ أيضا ـ ذات مصلحة لذلك ، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة ، كما لا يخفى ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.
1 ـ أثبتناها من « أ ».

(88)
    تذنيبان :
    الاول : لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطأ ، فإنه لا يكون موافقة للامر فيها ، وبقي الامر بلا موافقة أصلا ، وهو أوضح من أن يخفى ، نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال ، أو على مقدار منها ، ولو في غير الحال ، غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منها ، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الامر الواقعي ، وهكذا الحال في الطرق ، فالاجزاء ليس لاجل اقتضاء امتثال الامر القطعي أو الطريقي للاجزاء ـ بل إنما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما ، كما في الاتمام والقصر ، والاخفات والجهر.
    الثاني : لا يذهب عليك أن الاجزاء في بعض موارد الاصول والطرق والامارات ، على ما عرفت تفصيله ، لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك الموارد ، فإن الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها ، فإن الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، ليس إلا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الاحكام للموضوعات بعناوينها الاولية ، بحسب ما يكون فيها من المقتضيات ، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الامارات ، وإنما المنفي فيها ليس إلا الحكم الفعلي البعثي ، وهو منفي في غير موارد الاصابة ، وإن لم نقل بالاجزاء ، فلا فرق بين الاجزاء وعدمه ، إلا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الامر الظاهري ، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الاصابة ، وسقوط التكليف بحصول غرضه ، أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه ، وهو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الامارة ، كيف ؟ وكان الجهل بها ـ بخصوصيتها أو بحكمها ـ مأخوذا في موضوعها ، فلابد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها ، كما لا يخفى.


(89)
    وقبل الخوض في المقصود ، ينبغي رسم أمور :
    الاول : الظاهر أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة ، البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فتكون مسألة أصولية ، لا عن نفس وجوبها ، كما هو المتوهم من بعض العناوين (1) ، كي تكون فرعية ، وذلك لوضوح أن البحث كذلك لا يناسب الاصولي ، والاستطراد لا وجه له ، بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الاصولية.
    ثم الظاهر أيضا أن المسألة عقلية ، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه ، لا لفظية كما ربما يظهر من صاحب المعالم (2) ، حيث استدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث ، مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الالفاظ ، ضرورة (3) أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ثبوتا محل الاشكال ، فلا مجال لتحرير النزاع في الاثبات والدلالة عليها بأحدى الدلالات الثلاث ، كما لا يخفى.
    الامر الثاني : إنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات :
    منها : تقسيمها إلى داخلية وهي الاجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها ، والخارجية وهي الامور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد يوجد بدونه.
1 ـ كما في حاشية القزويني ( ره ) على القوانين. وربما يتوهم من عنوان البدائع ، البدائع / 296 عند قوله أحدهما ... في آخر الصفحة.
2 ـ معالم الدين في الاصول / 61 ، في مقدمة الواجب.
3 ـ اشارة إلى ما اورده صاحب التقريرات على صاحب المعالم مطارح الانظار / 37 ، في مقدمة الواجب.


(90)
    وربما يشكل (1) في كون الاجزاء مقدمة له وسابقة عليه ، بأن المركب ليس إلا نفس الاجزاء بأسرها.
    والحل : إن المقدمة هي نفس الاجزاء بالاسر ، وذو المقدمة هو الاجزاء بشرط الاجتماع ، فيحصل المغايرة بينهما.
    وبذلك ظهر أنه لابد في اعتبار الجزئية أخذ الشيء بلا شرط ، كما لابد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.
    وكون الاجزاء الخارجية كالهيولى والصورة ، هي الماهية المأخوذة بشرط لا ينافي ذلك ، فإنه إنما يكون في مقام الفرق بين نفس الاجزاء الخارجية والتحليلية ، من الجنس والفصل ، وأن الماهية إذا أخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة ، وإذا أخذت لا بشرط تكون جنسا أو فصلا ، لا بالاضافة إلى المركب ، فافهم.
    ثم لا يخفى أنه ينبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع ، كما صرح به بعض (2) وذلك لما عرفت من كون الاجزاء بالاسر عين المأمور به ذاتا ، وإنما كانت المغايرة بينهما اعتبارا ، فتكون واجبة بعين وجوبه ، ومبعوثا إليها بنفس الامر الباعث إليه ، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر ، لامتناع اجتماع المثلين ، ولو قيل بكفاية تعدد الجهة ، وجواز اجتماع الامر والنهي معه ، لعدم تعددها ها هنا ، لان الواجب بالوجوب الغيري ، لو كان إنما هو نفس الاجزاء ، لا عنوان مقدميتها والتوسل بها إلى المركب المأمور به ، ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمة ، لانه المتوقف عليه ، لا عنوانها ، نعم يكون هذا العنوان علة لترشح الوجوب على المعنون.
1 ـ هو المحقق صاحب حاشية المعالم.
2 ـ وهو سلطان العلماء كما في بدائع الافكار / 299.
كفاية الاصول ::: فهرس