كفاية الاصول ::: 91 ـ 105
(91)
    فانقدح بذلك فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري ، باعتبارين ، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي ، وباعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري ، اللهم إلا أن يريد أن فيه ملاك الوجوبين ، وإن كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه ، فتأمل (1). هذا كله في المقدمة الداخلية.
    وأما المقدمة الخارجية ، فهي ما كان خارجا عن المأمور به ، وكان له دخل في تحققه ، لا يكاد يتحقق بدونه ، وقد ذكر لها أقسام ، وأطيل الكلام في تحديدها بالنقض والابرام ، إلا أنه غير مهم في المقام.
    ومنها : تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية :
    فالعقلية هي (2) ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه.
    والشرعية على ما قيل : ما استحيل وجوده بدونه شرعا ، ولكنه لا يخفى رجوع الشرعية إلى العقلية ، ضرورة أنه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا ، إلا إذا أخذ فيه شرطا وقيدا ، واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده ، يكون عقليا.
    وأما العادية ، فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة ، بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها ، إلا أن العادة جرت على الاتيان به بواسطتها ، فهي وإن كانت غير راجعة إلى العقلية ، إلا أنه لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع.
1 ـ وجهه : إنه لا يكون فيه أيضا ملاك الوجوب الغيري ، حيث أنه لا وجود له غير وجوده في ضمن الكل يتوقف على وجوده ، وبدونه لا وجه لكونه مقدمة ، كي يجب بوجوبه أصلا ، كما لا يخفى. وبالجملة : لا يكاد يجدي تعدد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الاجزاء والكل في هذا الباب ، وحصول ملاك وجوب الغيري المترشح من وجوب ذي المقدمة عليها ، لو قيل بوجوبها ، فافهم ( منه قدس سره ).
2 ـ في « أ و ب » فهي.


(92)
    وإن كانت بمعنى أن التوقف عليها وإن كان فعلا واقعيا ، كنصب السلم ونحوه للصعود على السطح ، إلا أنه لاجل عدم التمكن من الطيران الممكن عقلا فهي أيضا راجعة إلى العقلية ، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لغير الطائر فعلا ، وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا ، فافهم.
    ومنها : تقسيمها إلى مقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم.
    لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود ، ولو على القول بكون الاسامي موضوعة للاعم ، ضرورة أن الكلام في مقدمة الواجب ، لا في مقدمة المسمى بأحدها ، كما لا يخفى.
    ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع ، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها ، وكذلك المقدمة العلمية ، وإن استقل العقل بوجوبها ، إلا أنه من باب وجوب الاطاعة إرشادا ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجز ، لا مولويا من باب الملازمة ، وترشح الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة.
    ومنها : تقسيمها إلى المتقدم ، والمقارن ، والمتأخر ، بحسب الوجود بالاضافة إلى ذي المقدمة.
    وحيث أنها كانت من أجزاء العلة ، ولا بد من تقدمها بجميع أجزائها على المعلول أشكل الامر في المقدمة المتأخرة ، كالاغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض ، والاجازة في صحة العقد على الكشف كذلك ، بل في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرم حينه ، كالعقد في الوصية والصرف والسلم ، بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه ، لتصرمها حين تأثيره ، مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه زمانا ، فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في


(93)
الشرعيات ـ كما اشتهر في الالسنة ـ بل يعم الشرط والمقتضي المتقدمين المتصرمين حين الاثر.
    والتحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال : إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها ، لا يخلو إما يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف ، أو الوضع ، أو المأمور به.
    أما الاول : فكون أحدهما شرطا له ، ليس إلا أن للحاظه دخل في تكليف الامر ، كالشرط المقارن بعينه ، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلا أن لتصوره دخلا في أمره ، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الامر ، كذلك المتقدم أو المتأخر.
    وبالجملة : حيث كان الامر من الافعال الاختيارية ، كان من مبادئه بما هو كذلك تصور الشيء بأطرافه ، ليرغب في طلبه والامر به ، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره ، فيسمى كل واحد من هذه الاطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطا ، لاجل دخل لحاظه في حصوله ، كان مقارنا له أو لم يكن كذلك ، متقدما أو متأخرا ، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطا ، كان فيهما كذلك ، فلا إشكال ، وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقا ولو كان مقارنا ، فإن دخل شيء في الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به ، ليس إلا ما كان بلحاظه يصح انتزاعه ، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده ، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوره ولحاظه وهو مقارن ، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن ؟ فتأمل تعرف.
    وأما الثاني : فكون شيء شرطا للمأمور به ليس إلا ما يحصل لذات المأمور به بالاضافة إليه وجه وعنوان ، به يكون حسنا أو متعلقا للغرض ، بحيث لولاها لما كان كذلك ، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الاضافات ، مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه ، والاضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلا ، كما لا يخفى على المتأمل ، فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له موجبا لكونه


(94)
معنونا بعنوان ، يكون بذلك العنوان حسناو متعلقا للغرض ، كذلك إضافته إلى متأخر أو متقدم ، بداهة أن الاضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا ، فلو لا حدوث المتأخر في محله ، لما كانت للمتقدم تلك الاضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والامر به ، كما هو الحال في المقارن أيضا ، ولذلك أطلق عليه الشرط مثله ، بلا انخرام للقاعدة أصلا ، لان المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلا طرف الاضافة الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن ، وقد حقق في محله أنه بالوجوه والاعتبارات ، ومن الواضح أنها تكون بالاضافات.
    فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر ، وقد عرفت أن إطلاقه عليه فيه ، كإطلاقه على المقارن ، إنما يكون لاجل كونه طرفا للاضافة الموجبة للوجه ، الذي يكون بذاك الوجه مرغوبا ومطلوبا ، كما كان في الحكم لاجل دخل تصوره فيه ، كدخل تصور سائر الاطراف والحدود ، التي لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة في التكليف ، أو لما صح عنده الوضع.
    وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الاشكال ، في بعض فوائدنا (1) ، ولم يسبقني إليه أحد فيما أعلم ، فافهم واغتنم.
    ولا يخفى أنها بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع ، وبناء على الملازمة يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق ، إذ بدونه لا تكاد تحصل الموافقة ، ويكون سقوط الامر بإتيان المشروط به مراعى بإتيانه ، فلولا اغتسالها في الليل ـ على القول بالاشتراط ـ لما صح الصوم في اليوم.
    الامر الثالث : في تقسيمات الواجب
    منها : تقسيمه إلى المطلق والمشروط.
1 ـ تعليقة المصنف على فرائد الاصول ، كتاب الفوائد / 302 ، فائدة في تقدم الشرط على المشروط.

(95)
    وقد ذكر لكل منهما تعريفات وحدود ، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود.
    وربما أطيل الكلام بالنقض والابرام (1) في النقض على الطرد والعكس ، مع أنها ـ كما لا يخفى ـ تعريفات لفظية لشرح الاسم ، وليست بالحد ولا بالرسم.
    والظاهر أنه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط ، بل يطلق كل منهما بما له من معناه العرفي ، كما أن الظاهر أن وصفي الاطلاق والاشتراط ، وصفان إضافيان لا حقيقيان ، وإلا لم يكد يوجد واجب مطلق ، ضرورة اشتراط وجوب كل واجب ببعض الامور ، لا أقل من الشرائط العامة ، كالبلوغ والعقل.
    فالحري أن يقال : إن الواجب مع كل شيء يلاحظ معه ، إن كان وجوبه غير مشروط به ، فهو مطلق بالاضافة إليه ، وإلا فمشروط كذلك ، وإن كانا بالقياس إلى شيء آخر كانا بالعكس.
    ثم الظاهر أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه ، أن نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط ، بحيث لا وجوب حقيقة ، ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط ، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي ، ضرورة أن ظاهر خطاب ( إن جاءك زيد فأكرمه ) كون الشرط من قيود الهيئة ، وأن طلب الاكرام وإيجابه معلق على المجيء ، لا أن الواجب فيه يكون مقيدا به ، بحيث يكون الطلب والايجاب في الخطاب فعليا ومطلقا ، وإنما الواجب يكون خاصا ومقيدا ، وهو الاكرام على تقدير المجيء ، فيكون الشرط من قيود المادة لا الهيئة ، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة (2) أعلى الله مقامه ، مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة
1 ـ مطارح الانظار / 43 ، الفصول / 79 ، هداية المسترشدين / 192 ، قوانين الاصول 1 / 100 ، البدائع / 304.
2 ـ مطارح الانظار / 45 ـ 46 و 52 ، في مقدمة الواجب. هو الشيخ مرتضى بن محمد امين الدزفولي الانصاري النجفي ، ولد في دزفول 1214 ، قرأ أوائل أمره على عمه الشيخ حسين ثم خرج مع والده إلى زيارة مشاهد العراق وهو في العشرين من عمره ، بقي في كربلاء آخذا عن الاستاذين السيد محمد مجاهد وشريف العلماء أربع


(96)
واقعا ، ولزوم كونه من قيود المادة لبا ، مع الاعتراف بأن قضية القواعد العربية أنه من قيود الهيئة ظاهرا.
    أما امتناع كونه من قيود الهيئة ، فلانه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة ، حتى يصح القول بتقييده بشرط ونحوه ، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة ، فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة.
    وأما لزوم كونه من قيود المادة لبا ، فلان العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت إليه ، فإما أن يتعلق طلبه به ، أو لا يتعلق به طلبه أصلا ، لا كلام على الثاني.
    وعلى الاول : فإما أن يكون ذاك الشيء موردا لطلبه وأمره مطلقا على اختلاف طوارئه ، أو على تقدير خاص ، وذلك التقدير ، تارة يكون من الامور الاختيارية ، وأخرى لا يكون كذلك ، وما كان من الامور الاختيارية ، قد يكون مأخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف ، وقد لا يكون كذلك ، على اختلاف الاغراض الداعية إلى طلبه والامر به ، من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، والقول بعدم التبعية ، كما لا يخفى ، هذا موافق لما أفاده بعض الافاضل (1) المقرر لبحثه بأدنى تفاوت.
سنوات ، ثم عاد إلى وطنه ، ثم رجع إلى العراق واخذ من الشيخ موسى الجعفري سنتين ، عزم زيارة مشهد خراسان مارا في طريقه على كاشان ، فاز بلقاء استاذه النراقي مما دعاه إلى الاقامة فيها نحو ثلاث سنين ، ورد دزفول سنة 1214 ثم عاد إلى النجف الاشرف سنة 1249 فاختلف إلى مدرسة الشيخ علي بن الشيخ جعفر ، ثم انتقل بالتدريس والتاليف ، ووضع اساس علم الاصول الحديث ، تخرج عليه الميرزا الشيرازي والميرزا حبيب الله الرشتي وغيرهما له مؤلفات منها « الرسائل » في الاصول و « المكاسب » انتهت إليه رئاسة الامامية. توفي في 18 جمادي الاخرة سنة 1281 ودفن في المشهد الغروي ( اعيان الشيعة 10 / 117 ).
1 ـ هو العلامة الميرزا أبو القاسم النوري ( ره ) ، على ما في مطارح الانظار ، كما تقدم آنفا.


(97)
    ولا يخفى ما فيه. أما حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة ، فقد حققناه سابقا (1) ، إن كل واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عاما كوضعها ، وإنما الخصوصية من قبل الاستعمال كالاسماء ، وإنما الفرق بينهما أنها وضعت لتستعمل وقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلقات ، فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى ، بل من مشخصات الاستعمال ، كما لا يخفى على أولي الدراية والنهى. فالطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق ، قابل لان يقيد.
    مع أنه لو سلم أنه فرد ، فانما يمنع عن التقيد لو أنشئ أولا غير مقيد ، لا ما إذا أنشئ من الاول مقيدا ، غاية الامر قد دل عليه بدالين ، وهو غير إنشائه أولا ثم تقييده ثانيا ، فافهم.
    فإن قلت : على ذلك ، يلزم تفكيك الانشاء من المنشأ ، حيث لا طلب قبل حصول الشرط.
    قلت : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله ، فلابد أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث ، وإلا لتخلف عن إنشائه ، وإنشاء أمر على تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان ، كما يشهد به الوجدان ، فتأمل جيدا.
    وأما حديث (2) لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبا ففيه : إن الشيء إذا توجه إليه ، وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها ، كما يمكن أن يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا ، لعدم مانع عن طلبه كذلك ، يمكن أن يبعث إليه معلقا ، ويطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول لاجل مانع عن الطلب
1 ـ راجع صفحة 11 و 12 من هذا الكتاب ، الامر الثاني في تعريف الوضع.
2 ـ هذه هي الدعوى الايجابية التي ادعاها الشيخ ( قده ) ، من رجوع الشرط إلى المادة لبا. مطارح الانظار / 52 ، في مقدمة الواجب.


(98)
والبعث فعلا قبل حصوله ، فلا يصح منه إلا الطلب والبعث معلقا بحصوله ، لا مطلقا ولو متعلقا بذاك على التقدير ، فيصح منه طلب الاكرام بعد مجيء زيد ، ولا يصح منه الطلب المطلق الحالي للاكرام المقيد بالمجيء ، هذا بناء على تبعية الاحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.
    وأما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور به ، والمنهي عنه فكذلك ، ضرورة أن التبعية كذلك ، إنما تكون في الاحكام الواقعية بما هي واقعية ، لا بما هي فعلية ، فإن المنع عن فعلية تلك الاحكام غير عزيز ، كما في موارد الاصول والامارات على خلافها ، وفي بعض الاحكام في أول البعثة ، بل إلى يوم قيام القائم عجل الله فرجه ، مع أن حلال محمد ( صلى الله عليه وآله ) حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، ومع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الاحكام باقيا مر الليالي والايام ، إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع (1) الظلام ، كما يظهر من الاخبار المروية (2) عن الائمة ( عليهم السلام ).
    فان قلت : فما فائدة الانشاء ؟ إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا ، وبعثا حاليا.
    قلت : كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط ، بلا حاجة إلى خطاب آخر ، بحيث لولاه لما كان فعلا متمكنا من الخطاب ، هذا مع شمول الخطاب كذلك للايجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط ، فيكون بعثا فعليا بالاضافة إليه ، وتقديريا بالنسبة إلى الفاقد له ، فافهم وتأمل جيدا.
1 ـ في « ب » : ( وارتفع الظلام ).
2 ـ الكافي : 1 ، كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقاييس الحديث 19. الكافي : 2 كتاب الايمان والكفر ، باب الشرائع ، الحديث 2 مع اختلاف يسير.


(99)
    ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط ، في محل النزاع (1) أيضا ، فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق ، غاية الامر تكون في الاطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل الوجوب بناء على وجوبها من باب الملازمة.
    وأما الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر الخطاب ، فخروجه مما لا شبهة فيه ، ولا ارتياب :
    أما على ما هو ظاهر المشهور والمتصور ، لكونه مقدمة وجوبية.
    وأما على المختار لشيخنا العلامة (2) ـ أعلى الله مقامه ـ فلانه وإن كان من المقدمات الوجودية للواجب ، إلا أنه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه ، فانه جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط ، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب ويتعلق به الطلب ؟ وهل هو إلا طلب الحاصل ؟ نعم على مختاره ـ قدس سره ـ لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه ، لتعلق بها الطلب في الحال على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال ، وذلك لان إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي ، والواجب إنما هو استقبالي ، كما يأتي في الواجب المعلق (3) ، فإن الواجب المشروط على مختاره ، هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول (4) من المعلق ، فلا تغفل. هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات.
    وأما المعرفة ، فلا يبعد القول بوجوبها ، حتى في الواجب المشروط ـ بالمعنى المختار ـ قبل حصول شرطه ، لكنه لا بالملازمة ، بل من باب استقلال
1 ـ كما في مطارح الانظار / 44.
2 ـ من رجوع الشرط إلى المادة لبا ، مطارح الانظار / 45 ـ 46 و 52 ، في مقدمة الواجب.
3 ـ سيأتي في الصفحة 103 من هذا الكتاب ، عند قوله : وربما أشكل ... الخ.
4 ـ الفصول / 79 في آخر الصفحة.


(100)
العقل بتنجز الاحكام على الانام بمجرد قيام احتمالها ، إلا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف ، فيستقل بعده بالبراءة ، وإن العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان ، والمؤاخذة عليها بلا برهان ، فافهم.
    تذنيب : لا يخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط ، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا ، وأما بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك على الحقيقة على مختاره (1) ـ قدس سره ـ في الواجب المشروط ، لان الواجب وإن كان أمرا استقباليا عليه ، إلا أن تلبسه بالوجوب في الحال ، ومجاز على المختار ، حيث لا تلبس بالوجوب عليه قبله ، كما عن البهائي (2) ( رحمه الله ) تصريحه بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط ، بعلاقة الاول أو المشارفة.
    وأما الصيغة مع الشرط ، فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها على مختاره (3) ـ قدس سره ـ في الطلب المطلق ، وعلى المختار في الطلب المقيد ، على نحو تعدد الدال والمدلول ، كما هو الحال فيما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد ، لا المبهم المقسم ، فافهم.
    ومنها : تقسيمه إلى المعلق والمنجز ، قال في الفصول (4) : إنه ينقسم
1 ـ مطارح الانظار / 45 ـ 46 و 52 في مقدمة الواجب.
2 ـ زبدة الاصول / 46 مخطوط.
هو بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي ، ولد في بعلبك عام 953 ه‍ ، انتقل به والده وهو صغير إلى الديار العجمية ، أخذ عن والده وغيره من الجهابذة ، ولي بها شيخ الاسلام ، ثم أخذ في السياحة ثلاثين سنة ، واجتمع في أثناء ذلك بكثير من أرباب الفضل ، ثم عاد وقطن بأرض العجم ، له كتب كثيرة منها « الحبل المتين » و « الزبدة » في الاصول و « حاشية الشرح العضدي على مختصر الاصول » وغيرها ، له شعر كثير بالعربية والفارسية. قال تلميذه العلامة المولى محمد تقي المجلسي : ما رأيت بكثرة علومه ووفور فضله وعلو مرتبته أحدا ، توفي سنة 1031. ( أمل الآمل 1 / 155 رقم 158 )
3 ـ راجع المصدر المتقدم في هامش رقم ( 1 ).
4 ـ الفصول / 79 آخر الصفحة.


(101)
باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له ، كالمعرفة ، وليسم منجزا ، وإلى ما يتعلق وجوبه به ، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له ، وليسم معلقا كالحج ، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة ، أو خروج الرفقة ، ويتوقف فعله على مجيء وقته ، وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب ، وهنا للفعل. انتهى كلامه رفع مقامه.
    لا يخفى أن شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى ، وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا وإثباتا ، حيث ادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك ، أي إثباتا وثبوتا ، على خلاف القواعد العربية وظاهر المشهور ، كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي ، أنكر (1) على الفصول هذا التقسيم ، ضرورة أن المعلق بما فسره ، يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك ، كما هو واضح ، حيث لا يكون حينئذ هناك معنى آخر معقول ، كان هو المعلق المقابل للمشروط.
    ومن هنا انقدح أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط ، بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور ، والقواعد العربية ، لا الواجب المعلق بالتفسير المذكور.
    وحيث قد عرفت ـ بما لا مزيد عليه ـ امكان رجوع الشرط إلى الهيئة ، كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد ، فلا يكون مجال لانكاره عليه.
    نعم يمكن أن يقال : إنه لا وقع لهذا التقسيم ، لانه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط وخصوصية (2) كونه حاليا أو استقباليا لا توجبه ما لم
1 ـ مطارح الانظار 51 ـ 52. في الهداية 6 من القول في وجوب مقدمة الواجب.
2 ـ وفي « ب » : خصوصيته.


(102)
توجب الاختلاف في المهم ، وإلا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات ، ولا اختلاف فيه ، فإن ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا ـ كما يأتي ـ إنما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته ، لا من استقبالية الواجب ، فافهم.
    ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر (1) من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق ، وهو أن الطلب والايجاب ، إنما يكون بأزاء الارادة المحركة للعضلات نحو المراد ، فكما لا تكاد تكون الارادة منفكة عن المراد ، فليكن الايجاب غير منفك عما يتعلق به ، فكيف يتعلق بأمر استقبالي ؟ فلا يكاد يصح الطلب والبعث فعلا نحو أمر متأخر.
    قلت : فيه أن الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي ، كما تتعلق بأمر حالي ، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل ، ضرورة أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات ـ فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المؤونة ـ ليس إلا لاجل تعلق إرادته به ، وكونه مريدا له قاصدا إياه ، لا يكاد يحمله على التحمل إلا ذلك.
    ولعل الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد ، وتوهم أن تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد ، وقد غفل عن أن كونه (2) محركا نحوه يختلف حسب اختلافه ، في كونه مما لا مؤونة له كحركة نفس العضلات ، أو مما له مؤونة ومقدمات قليلة أو كثيرة ، فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له ، والجامع أن يكون نحو المقصود ، بل مرادهم من هذا الوصف ـ في تعريف الارادة ـ بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الارادة ، وإن لم يكن هناك فعلا تحريك ، لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدمة ، ضرورة أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق
1 ـ هو المحقق النهاوندي ، تشريح الاصول.
2 ـ والصحيح « كونها ».


(103)
المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي ، محتاج إلى ذلك. هذا.
    مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة أن البعث إنما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به ، بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة ، وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلا بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره ، فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب ، ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه ، والاطناب إنما هو لاجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب.
    وربما أشكل على المعلق أيضا ، بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث ، مع أنها من الشرائط العامة.
    وفيه : إن الشرط إنما هو القدرة على الواجب في زمانه ، لا في زمان الايجاب والتكليف ، غاية الامر يكون من باب الشرط المتأخر ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه كالمقارن ، من غير انخرام للقاعدة العقلية أصلا ، فراجع.
    ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور ، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر ، أخذ على نحو يكون موردا للتكليف ، ويترشح عليه الوجوب من الواجب ، أو لا ، لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلق ، دون المشروط ، لثبوت الوجوب الحالي فيه ، فيترشح منه الوجوب على المقدمة ، بناء على الملازمة ، دونه لعدم ثبوته فيه إلا بعد الشرط.
    نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر ، وفرض وجوده ، كان الوجوب المشروط به حاليا أيضا ، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضا حاليا ، وليس الفرق بينه وبين المعلق حينئذ إلا كونه مرتبطا


(104)
بالشرط ، بخلافه ، وإن ارتبط به الواجب.
    تنبيه : قد انقدح ـ من مطاوي ما ذكرناه ـ أن المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية ، وكونه في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها ، هو فعلية وجوب ذيها ، ولو كان أمرا استقباليا ، كالصوم في الغد والمناسك في الموسم ، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخرا ، أو مطلقا ، منجزا كان أو معلقا ، فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا ، أو مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف ، كما إذا أخذ عنوانا للمكلف ، كالمسافر والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك ، أو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله ، وتقدير وجوده ـ بلا اختيار أو باختياره ـ موردا للتكليف ، ضرورة أنه لو كان مقدمة الوجوب أيضا ، لا يكاد يكون هناك وجوب إلا بعد حصوله ، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل ، كما أنه إذا أخذ على أحد النحوين يكون كذلك ، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف ، ومع حصوله لا يكاد يصح تعلقه به ، فافهم.
    إذا عرفت ذلك ، فقد عرفت أنه لا إشكال أصلا في لزوم الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه ، فيما كان وجوبه حاليا مطلقا ، ولو كان مشروطا بشرط متأخر ، كان معلوم الوجود فيما بعد ، كما لا يخفى ، ضرورة فعلية وجوبه وتنجزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته ، فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة ، ولا يلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وإنما اللازم الاتيان بها قبل الاتيان به ، بل لزوم الاتيان بها عقلا ، ولو لم نقل بالملازمة ، لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان ، كالاتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه.
    فانقدح بذلك : أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق ، أو بما يرجع إليه ، من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط.


(105)
    فانقدح بذلك : أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره مما وجب عليه الصوم في الغد ، إذ يكشف به بطريق الان عن سبق وجوب الواجب ، و إنما المتأخر هو زمان إتيانه ، ولا محذور فيه أصلا ، ولو فرض العلم بعدم سبقه ، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري ، فلو نهض دليل على وجوبها ، فلا محالة يكون وجوبها نفسيا [ ولو ] (1) تهيؤا ، ليتهيأ بإتيانها ، ويستعد لايجاب ذي المقدمة عليه ، فلا محذور أيضا.
    إن قلت : لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي المقدمة لزم وجوب جميع مقدماته ولو موسعا ، وليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر.
    قلت : لا محيص عنه ، إلا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة ، وهي القدرة عليه بعد مجيء زمانه ، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه ، فتدبر جيداً.
    تتمة : قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل ، وكونه موردا للتكليف وعدمه ، فإن علم حال قيد فلا إشكال ، وإن دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة ، نحو الشرط المتأخر أو المقارن ، وأن يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أولا يجب ، فإن كان في مقام الاثبات ما يعين حاله ، وأنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية فهو ، وإلا فالمرجع هو الاصول العملية.
    وربما قيل (2) في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة ، بترجيح الاطلاق في طرف الهيئة ، وتقييد المادة ، بوجهين :
1 ـ أثبتناها من « أ ».
2 ـ راجع مطارح الانظار / 49 الهداية 5 من القول بوجوب المقدمة ، في الوجه الخامس.
كفاية الاصول ::: فهرس