كفاية الاصول ::: 106 ـ 120
(106)
    أحدهما : إن إطلاق الهيئة يكون شموليا ، كما في شمول العام لافراده ، فإن وجوب الاكرام على تقدير الاطلاق ، يشمل جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له ، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة.
    ثانيهما : إن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة ويرتفع به مورده ، بخلاف العكس ، وكلما دار الامر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.
    أما الصغرى ، فلاجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان لاطلاق المادة ، لانها لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة ، بخلاف تقييد المادة ، فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله ، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.
    وأما الكبرى ، فلان التقييد وإن لم يكن مجازا إلا أنه خلاف الاصل ، ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق ، وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الاثر ، وبطلان العمل به.
    وما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الاستاذ العلامة أعلى الله مقامه ، و أنت خبير بما فيهما :
    أما في الاول : فلان مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة ، إلا أنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها ، لانه أيضا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، غاية الامر أنه تارة يقتضي العموم الشمولي ، وأخرى البدلي ، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا ، كما لا يخفى.
    وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لاجل كون دلالته بالوضع ، لا لكونه شموليا ، بخلاف المطلق فإنه بالحكمة ، فيكون العام أظهر منه ، فيقدم عليه ، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس ، فكان عام بالوضع دل على العموم البدلي ، ومطلق بإطلاقه دل على الشمول ، لكان العام


(107)
يقدم بلا كلام.
    وأما في الثاني : فلان التقييد وإن كان خلاف الاصل ، إلا أن العمل الي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة ، وانتفاء بعض مقدماته ، لا يكون على خلاف الاصل أصلا ، إذ معه لا يكون هناك إطلاق ، كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل.
    وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الاصل ، إلا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة ، ومع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور ، كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الاثر ، وبطلان العمل بإطلاق المطلق ، مشاركا معه في خلاف الاصل أيضا.
    وكأنه توهم : أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت ، ورفع اليد عن العمل به ، تارة لاجل التقييد ، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به.
    وهو فاسد ، لانه لا يكون إطلاق إلا فيما جرت هناك المقدمات.
    نعم إذا كان التقييد بمنفصل ، ودار الامر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهم مجال ، حيث انعقد للمطلق إطلاق ، وقد استقر له ظهور ولو بقرينة الحكمة ، فتأمل.
    ومنها : تقسيمه إلى النفسي والغيري.
    وحيث كان طلب شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داع ، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب ، لا يكاد التوصل بدونه إليه ، لتوقفه عليه ، فالواجب غيري ، وإلا فهو نفسي ، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه ، كالمعرفة بالله ، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه ، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات.
    هذا ، لكنه لا يخفى أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك ـ أي بما له من الفائدة المترتبة عليه ـ كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا ، فإنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما ، لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة.


(108)
    فإن قلت : نعم وإن كان وجودها محبوبا لزوما ، إلا أنه حيث كانت من الخواص المترتبة على الافعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف ، لما كاد يتعلق بها الايجاب.
    قلت : بل هي داخلة تحت القدرة ، لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبب ، وهو واضح ، وإلا لما صح وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق .. إلى غير ذلك من المسببات ، موردا لحكم من الاحكام التكليفية.
    فالاولى أن يقال : إن الاثر المترتب عليه وإن كان لازما ، إلا أن ذا الاثر لما كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله ، بل ويذم تاركه ، صار متعلقا للايجاب بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدمة لامر مطلوب واقعا ، بخلاف الواجب الغيري ، لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي ، وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه ، إلا أنه لا دخل له في إيجابه الغيري ، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه ، وما أمر به لاجل غيره ، فلا يتوجه عليه بأن جل الواجبات ـ لو لا الكل ـ يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية ، فإن المطلوب النفسي قلما يوجد في الاوامر ، فإن جلها مطلوبات لاجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها ، فتأمل.
    ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين ، وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري ، فالتحقيق أن الهيئة ، وإن كانت موضوعة لما يعمهما ، إلا أن إطلاقها يقتضي كونه نفسيا ، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم.
    وأما ما قيل (1) من أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة ، لدفع الشك
1 ـ مطارح الانظار / 67 في الهداية 11 من القول بوجوب المقدمة.

(109)
المذكور ، بعد كون مفادها الافراد التي لا يعقل فيها التقييد ، نعم لو كان مفاد الامر هو مفهوم الطلب ، صح القول بالاطلاق ، لكنه بمراحل من الواقع ، إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الامر ، ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب ، فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الارادة وحقيقتها ، لا بواسطة مفهومها ، وذلك واضح لا يعتريه ريب.
    ففيه : إن مفاد الهيئة ـ كما مرت الاشارة إليه ـ ليس الافراد ، بل هو مفهوم الطلب ، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف (1) ، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي ، والذي يكون بالحمل الشائع طلبا ، وإلا لما صح إنشاؤه بها ، ضرورة أنه من الصفات الخارجية الناشئة من الاسباب الخاصة.
    نعم ربما يكون هو السبب لانشائه ، كما يكون غيره أحيانا.
    واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية والارادة الحقيقية ـ الداعية إلى إيقاع طلبه ، وإنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكا إلى مراده الواقعي ـ لا ينافي اتصافه بالطلب الانشائي أيضا ، والوجود الانشائي لكل شيء ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظه ، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن ، بل كان إنشاؤه بسبب آخر.
    ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق ، فتوهم منه أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا ، يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع ، ولعمري إنه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق ، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له ، وإن تعارف تسميته بالطلب أيضا ، وعدم تقييده بالانشائي لوضوح إرادة
1 ـ باعتبار أن الهيئة ملحقة بالحروف ، راجع صفحة 11 من هذا الكتاب.

(110)
خصوصه ، وإن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها ، كما لا يخفى.
    فانقدح بذلك صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط ، كما مر هاهنا بعض الكلام ، وقد تقدم (1) في مسألة اتحاد الطلب والارادة ما يجدي [ في ] المقام.
    هذا إذا كان هناك إطلاق ، وأما إذا لم يكن ، فلابد من الاتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا ، للعلم بوجوبه فعلا ، وإن لم يعلم جهة وجوبه ، وإلا فلا ، لصيرورة الشك فيه بدويا ، كما لا يخفى.
تذنيبان
    الاول : لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا ، وأما استحقاقهما على امتثال الغيري ومخالفته ، ففيه إشكال ، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته ، بما هو موافقة ومخالفة ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد ، أو لثواب كذلك ، فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها ، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات.
    نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة ، وبزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له ، من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الاعمال ، حيث صار أشقها ، وعليه ينزل ما ورد في الاخبار (2) من الثواب على المقدمات ، أو على التفضل فتأمل جيدا ، وذلك لبداهة أن موافقة الامر الغيري ـ بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الامر النفسي ـ لا توجب قربا ، ولا مخالفته ـ بما هو كذلك ـ بعدا ، والمثوبة والعقوبة إنما تكونان من تبعات القرب والبعد.
1 ـ راجع صفحة 64 من الكتاب ، الجهة الرابعة ( في بحث الطلب والارادة ).
2 ـ كامل الزيارات / 133 ، فيما ورد في زيارة أبي عبدالله ، من أنه لكل قدم ثواب كذا.


(111)
    إشكال ودفع :
    أما الاول : فهو أنه إذا كان الامر الغيري بما هو لا إطاعة له ، ولا قرب في موافقته ، ولا مثوبة على امتثاله ، فكيف حال بعض المقدمات ؟ كالطهارات ، حيث لا شبهة في حصول الاطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها ، هذا مضافا إلى أن الامر الغيري لا شبهة في كونه توصليا ، وقد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة.
    وأما الثاني : فالتحقيق أن يقال : إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة ، وغاياتها إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات ، فلا بد أن يؤتى بها عبادة ، وإلا فلم يؤت بما هو مقدمة لها ، فقصد القربة فيها إنما هو لاجل كونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفيسة ، لا لكونها مطلوبات غيرية والاكتفاء بقصد أمرها الغيري ، فإنما هو لاجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث أنه لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة ، فافهم.
    وقد تفصي عن الاشكال بوجهين آخرين (1) :
    أحدهما ما ملخصه : إن الحركات الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها ، من العنوان الذي يكون بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها ، لكونه لا يدعو إلا إلى ما هو الموقوف عليه ، فيكون عنوانا إجماليا ومرآة لها ، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لامرها ليس لاجل أن أمرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك ، بل إنما كان لاجل إحراز نفس العنوان ، الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها.
    وفيه : مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الاتيان بها كذلك ، لا مكان الاشارة إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر ، ولو
1 ـ مطارح الانظار / 71 في تنبيهات الهداية 12 من القول في وجوب مقدمة الواجب.

(112)
بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا ، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها ، غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها ، كما لا يخفى.
    ثانيهما : ما محصله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة ، إنما يكون لاجل أن الغرض من الامر النفسي بغاياتها ، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته ، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك ، لا باقتضاء أمرها الغيري.
    وبالجملة وجه لزوم إتيانها عبادة ، إنما هو لاجل أن الغرض في الغايات ، لا يحصل إلا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا ، بقصد الاطاعة.
    وفيه أيضا : إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها.
    وأما ما ربما قيل (1) في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات ، من الالتزام بأمرين : أحدهما كان متعلقا بذات العمل ، والثاني بإتيانه بداعي امتثال الاول ، لا يكاد يجزي في تصحيح اعتبارها في الطهارات ، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها ، لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل الامر بالغايات ، فمن أين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها ، ليتمكن به من المقدمة في الخارج. هذا مع أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلا سابقا ، فتذكر.
    الثاني : إنه قد انقدح مما هو التحقيق ، في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات صحتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها ، نعم لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها امرها الغيري ، لكان قصد الغاية مما لابد منه في وقوعها صحيحة ، فان الامر الغيري لا يكاد يمتثل إلا إذا قصد
1 ـ مطارح الانظار / 71 ، في تنبيهات الهداية 12.

(113)
التوصل إلى الغير ، حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا القصد ، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة ، ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا.
    وهذا هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة ، لا ما توهم (1) من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية ، فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان ، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها ، فإنه فاسد جدا ، ضرورة أن عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب ، ولا بالحمل الشائع مقدمة له ، وإنما كان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الاولية ، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها.
    الامر الرابع : لا شبهة في أن وجوب المقدمة بناء على الملازمة ، يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة ، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا (2) ، ولا يكون مشروطا بإرادته ، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم (3) ( رحمه الله ) في بحث الضد ، قال : وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما تنهض دليلا على الوجوب ، في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر.
    وأنت خبير بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى ، وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة ، كما لا يخفى.
1 ـ مطارح الانظار / 72.
2 ـ راجع ص 99.
3 ـ معالم الدين / 74 ، في آخر مبحث الضد.
هو الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن الشيخ زين الدين ، ولد سنة 959 ه‍ ، كان عالما فاضلا عاملا جامعا للفنون ، اعرف أهل زمانه بالفقه والحديث والرجال ، يروي عن جماعة من تلامذة أبيه ، منهم الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي ، له كتب ورسائل منها « منتقى الجمان في الاحاديث الصحاح والحسان » و « معالم الدين وملاذ المجتهدين » توفي سنة 1011 ه‍. ( أمل الآمل 1 / 57 رقم 45 ).


(114)
    وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة ؟ كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ بعض أفاضل (1) مقرري بحثه ، أو ترتب ذي المقدمة عليها ؟ بحيث لو لم يترتب عليها لكشف (2) عن عدم وقوعها على صفة الوجوب ، كما زعمه صاحب الفصول (3) ( قدس سره ) أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شيء منهما ?
    الظاهر عدم الاعتبار : أما عدم اعتبار قصد التوصل ، فلاجل أن الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لاجل المقدمية والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح ، ولذا اعترف (4) بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية ، لحصول ذات الواجب ، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص ، فافهم.
    نعم انما اعتبر ذلك في الامتثال ، لما عرفت (5) من انه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لامرها ، وآخذا في امتثال الامر بذيها ، فيثاب بثواب أشق الاعمال ، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب ، ولو لم يقصد به التوصل ، كسائر الواجبات التوصلية ، لا على حكمه السابق الثابث له ، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه ، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لانقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي لا حراما ، وإن لم يلتفت إلى التوقف والمقدمية ، غاية الامر يكون حينئذ متجرئا فيه ، كما أنه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة ، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا.
1 ـ مطارح الانظار / 72.
2 ـ في « ب » : يكشف.
3 ـ الفصول / 86 ، في مقدمة الواجب.
4 ـ مطارح الانظار / 72.
5 ـ راجع صفحة 112.


(115)
    وأما إذا قصده ، ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي ، بل بداع آخر أكده بقصد التوصل ، فلا يكون متجرئا أصلا.
    وبالجملة : يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة ، لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب ، لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا ، وإلا لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به ، كما لا يخفى.
    ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها ، حيث يسقط به الوجوب ، مع أنه ليس بواجب ، وذلك لان الفرد المحرم إنما يسقط به الوجوب ، لكونه كغيره في حصول الغرض به ، بلا تفاوت أصلا ، إلا أنه لاجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب ، وهذا بخلاف [ ما ] ها هنا ، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض ، فلابد أن يقع على صفة الوجوب مثله ، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع ، وإلا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة ، والتالي باطل بداهة ، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا ، وانتظر لذلك تتمة (1) توضيح.
    والعجب أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة ، واعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب ، على ما حرره بعض مقرري (2) بحثه ( قدس سره ) بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك ، فراجع تمام كلامه زيد في علو مقامه ، وتأمل في نقضه وإبرامه.
    وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب ، فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب إلا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه
1 ـ في « ب » : جهة.
2 ـ راجع مطارح الانظار / 74 و 75 في المقدمة الموصلة.


(116)
والباعث على طلبه ، وليس الغرض من المقدمة إلا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، ضرورة أنه لا يكاد يكون الغرض إلا ما يترتب عليه من فائدته وأثره ، ولا يترتب على المقدمة إلا ذلك ، ولا تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب ، وما لا يترتب عليه أصلا ، وأنه لا محالة يترتب عليهما ، كما لا يخفى.
    وأما ترتب الواجب ، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها ، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات ، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات ، فإن الواجب إلا ما قل في الشرعيات والعرفيات فعل اختياري ، يختار المكلف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدماته ، وأخرى عدم إتيانه ، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته ، مع عدم ترتبه على تمامها (1) ، فضلا عن كل واحدة منها ؟
    نعم فيما كان الواجب من الافعال التسبيبية والتوليدية ، كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته ، لعدم تخلف المعلول عن علته.
    ومن هنا [ قد ] انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة ، يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية.
    فإن قلت : ما من واجب إلا وله علة تامة ، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها ، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.
    قلت : نعم وإن استحال صدور الممكن بلا علة ، إلا أن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته ، وهي لا تكاد تتصف بالوجوب ، لعدم كونها
1 ـ في « ب » : عامها.
2 ـ أثبتناها من « ب ».


(117)
بالاختيار ، وإلا لتسلسل ، كما هو واضح لمن تأمل ، ولانه لو كان معتبرا فيه الترتب ، لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها ، من دون انتظار لترتب الواجب عليها ، بحيث لا يبقى في البين إلا طلبه وإيجابه ، كما إذا لم تكن هذه بمقدمته (1) ، أو كانت حاصلة من الاول قبل إيجابه ، مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة ، أو بالعصيان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التكليف ، كما في سقوط الامر بالكفن أو الدفن ، بسبب غرق الميت احيانا أو حرقه ، ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة.
    إن قلت : كما يسقط الامر في تلك الامور ، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به فيما يحصل به الغرض منه ، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير ، أو المحرمات.
    قلت : نعم ، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض ، من الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع ، وهو كونه بالفعل محرما ، ضرورة أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا ، فيكف يكون أحدهما متعلقا له فعلا دون الآخر ؟
    وقد استدل صاحب الفصول (2) على ما ذهب إليه بوجوه ، حيث قال بعد بيان أن التوصل بها إلى الواجب ، من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، ما هذا لفظه :
    ( والذي يدلك على هذا ـ يعني الاشتراط بالتوصل ـ أن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية ، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور ، وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : أريد الحج ، وأريد المسير الذي
1 ـ في « ب » : بمقدمة.
2 ـ الفصول / 86. في التنبيه الاول من تنبيهات مقدمة الواجب.


(118)
يتوصل به إلى فعل الواجب ، دون ما لم يتوصل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الامر بمثل ذلك ، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا ، أو على تقدير التوصل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه ، وأيضا حيث أن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلاجرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه ، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا بمجرد حصول شيء آخر ، لا يريده إذا وقع مجردا عنه ، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله ). انتهى موضع الحاجة من كلامه ، زيد في علو مقامه.
    وقد عرفت بما لا مزيد عليه ، أن العقل الحاكم بالملازمة دل على وجوب مطلق المقدمة ، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب ، فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه ، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة ، لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها ، وعدم اختصاصه بالمقيد بذلك منها.
    وقد انقدح منه ، أنه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح ، وأن دعوى أن الضرورة قاضية بجوازه (1) مجازفة ، كيف يكون ذا مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلا ؟ كما عرفت.
    نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما ، وعدم حصوله في الاخرى ، من دون دخل لها في ذلك أصلا ، بل كان بحسن اختيار المكلف وسوء اختياره ، وجاز للآمر أن يصرح بحصول هذا المطلوب في إحداهما ، وعدم حصوله في الاخرى ، [ بل من ] (2) حيث أن الملحوظ بالذات هو
1 ـ ادعاه صاحب الفصول ، حيث قال : ولا يأبى أن يقول الآمر الحكيم .. الخ ... / الفصول / 86.
2 ـ أثبتناها من « أ ».


(119)
هذا المطلوب ، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه ، كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعي ، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا ، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة ، فضلا عن كونها مطلوبة ، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها ، كما لا يخفى ، فافهم.
    إن قلت : لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية دون الاخرى ، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها ، وجواز التصريح بهما ، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الاثر ، كما مر.
    قلت : إنما يوجب ذلك تفاوتا فيهما ، لو كان ذلك لاجل تفاوت في ناحية المقدمة ، لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا ـ كما هاهنا ـ ضرورة أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب ، وترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها ، وكونه في كلا الصورتين على نحو واحد وخصوصية واحدة ، ضرورة أن الاتيان بالواجب بعد الاتيان بها بالاختيار تارة ، وعدم الاتيان به كذلك أخرى ، لا يوجب تفاوتا فيها ، كما لا يخفى.
    وأما ما أفاده (1) ( قدس سره ) من أن مطلوبية المقدمة حيث كانت بمجرد التوصل بها ، فلا جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبرا فيها.
    ففيه : إنه إنما كانت مطلوبيتها لاجل عدم التمكن من التوصل بدونها ، لا لاجل التوصل بها ، لما عرفت من أنه ليس من آثارها ، بل مما يترتب عليها أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى ، وهي مبادئ اختياره ، ولا يكاد يكون مثل ذا غاية لمطلوبيتها وداعيا إلى إيجابها ، وصريح الوجدان إنما يقتضي بأن ما أريد لاجل غاية ، وتجرد عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ماله دخل في حصولها ،
1 ـ الفصول / 86 ، في تنبيهات مقدمة الواجب.

(120)
يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية ، كيف ؟ وإلا يلزم أن يكون وجودها من قيوده ، ومقدمة لوقوعه على نحو يكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها.
    وهو كما ترى ، ضرورة أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية ، بحيث كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية ، وإلا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده ، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها ، كما أفاده.
    ولعل منشأ توهمه ، خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية ، هذا مع ما عرفت من عدم التخلف ها هنا ، وأن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي ، فافهم واغتنم.
    ثم إنه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها ، إلا فيما إذا رتب عليه الواجب لو سلم أصلا ، ضرورة أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة ، إلا أنه ليس لاجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدمة ، بل لاجل المنع عن غيرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا ، كما لا يخفى.
    مع أن في صحة المنع عنه كذلك نظر ، وجهه أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا ، لعدم التمكن شرعا منه ، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الاتيان به.
    وبالجملة يلزم أن يكون الايجاب مختصا بصورة الاتيان ، لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال (1) فإنه يكون من طلب الحاصل المحال ، فتدبر جيدا.
1 ـ حيث كان الايجاب فعلا متوقفا على جواز المقدمة شرعا ، وجوازها كذلك كان متوقفا على إيصالها المتوقف على الاتيان بذي المقدمة بداهة ، فلا محيص إلا عن كون إيجابه على تقدير الاتيان به ، وهو من طلب الحاصل الباطل « منه قدس سره ».
كفاية الاصول ::: فهرس