كفاية الاصول ::: 136 ـ 150
(136)
صورة مخالفة الامرين لعقوبتين ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا كان سيدنا الاستاذ ( قدس سره ) (1) لا يلتزم به ـ على ما هو ببالي ـ وكنا نورد به على الترتب ، وكان بصدد تصحيحه.
    فقد ظهر أنه لا وجه لصحة العبادة ، مع مضادتها لما هو أهم منها ، إلا ملاك الامر.
    نعم فيما إذا كانت موسعة ، وكانت مزاحمة بالاهم ببعض الوقت ، لا في تمامه ، يمكن أن يقال : إنه حيث كان الامر بها على حاله ، وإن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الاهم من أفرادها من تحتها ، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الامر ، فإنه وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ، إلا أنه لما كان وافيا بغرضها كالباقي تحتها ، كان عقلا مثله في الاتيان به في مقام الامتثال ، والاتيان به بداعي ذاك الامر ، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا.
    ودعوى أن الامر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالاهم ، وإن كان من أفراد الطبيعة ، لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها ، فاسدة ، فإنه إنما يوجب ذلك ، إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة ، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها ، إلا أنه ليس لقصور فيه ، بل لعدم إمكان تعلق الامر بما تعمه عقلا ، وعلى كل حال ، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وإطاعة الامر بها ، بين هذا الفرد وسائر الافراد أصلا.
1 ـ هو آية الله مجدد المذهب الحاج ميرزا محمد حسن بن السيد ميرزا محمود الحسيني الشيرازي ولد في 15 ج 1230 1 ، حضر درس المحقق السيد حسن المدرس والمحقق الكلباسي قصد العراق عام 1259 ، حضر الاندية العلمية ، اختص في التلمذة والحضور بأبحاث المحقق الانصاري ، عين مرجعا بعده ، حج سنة 1288 ، وهاجر إلى سامراء شعبان سنة 1291 ثم تبعه تلاميذه ، أخذ منه كثير من فحول العلماء ، منهم : آقا رضا الهمداني والشيخ فضل الله النوري والآخوند الخراساني ، توفي ليلة الاربعاء 24 شعبان 1312 ه‍. ( الكنى والالقاب 3 / 184 )

(137)
    هذا على القول بكون الاوامر متعلقة بالطبائع.
    وأما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك ، وإن كان جريانه عليه أخفى ، كما لا يخفى ، فتأمل.
    ثم لا يخفى أنه بناء على إمكان الترتب وصحته ، لابد من الالتزام بوقوعه ، من دون انتطار دليل آخر عليه ، وذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلا امتنع الاجتماع في عرض واحد ، لا كذلك ، فلو قيل بلزوم الامر في صحة العبادة : ولم يكن في الملاك كفاية ، كانت العبادة مع ترك الاهم صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال ، كما إذا لم تكن هناك مضادة.
فصل
    لا يجوز أمر الآمر ، مع علمه بانتفاء شرطه ، خلافا لما نسب (1) إلى أكثر مخالفينا (2) ، ضرورة أنه لا يكاد يكون الشيء مع عدم علته ، كما هو المفروض ها هنا ، فإن الشرط من أجزائها ، وانحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى ، وكون الجواز في العنوان بمعنى الامكان الذاتي بعيد عن محل الخلاف بين الاعلام.
    نعم لو كان المراد من لفظ الامر ، الامر ببعض مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الاخر ، بأن يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشاء مع علمه بانتفاء شرطه ، بمرتبة فعلية.
    وبعبارة أخرى : كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية لعدم شرطه ، لكان جائزا ، وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات
1 ـ كما في معالم الاصول / 85 ، وقوانين الاصول / 125.
2 ـ راجع شرح مختصر الاصول للعضدي / 107 ، وتيسير التحرير 2 / 240.


(138)
غنى وكفاية ، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مؤونة برهان.
    وقد عرفت سابقا (1) أن داعي إنشاء الطلب ، لا ينحصر بالبعث و التحريك جدا حقيقة ، بل قد يكون صوريا امتحانا ، وربما يكون غير ذلك.
    ومنع كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدا واقعا ، وإن كان في محله ، إلا أن إطلاق الامر عليه ، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث توسعا ، مما لا بأس به أصلا ، كما لا يخفى.
    وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الاعلام في المقام من النقض والابرام ، وربما يقع به التصالح بين الجانبين ويرتفع النزاع من البين ، فتأمل جدا.
فصل
    الحق أن الاوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد ، ولا يخفى أن المراد أن متعلق الطلب في الاوامر هو صرف الايجاد ، كما أن متعلقه في النواهي هو محض الترك ، ومتعلقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيدة بقيود ، تكون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات ، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنا ، لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا ، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الاحكام ، بل في المحصورة ، على ما حقق في غير المقام.
    وفي مراجعة الوجدان للانسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك ، حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية ، وعوارضها العينية ، وإن نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام المطلوب ، وإن كان ذاك الوجود
1 ـ في المقصد الاول ، الفصل الثاني ، المبحث الاول صفحة / 69.

(139)
لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية.
    فانقدح بذلك أن المراد بتعلق الاوامر بالطبائع دون الافراد ، انها بوجودها السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود ، متعلقة للطلب ، لا أنها بما هي هي كانت متعلقة له ، كما ربما يتوهم ، فإنها كذلك ليست إلا هي ، نعم هي كذلك تكون متعلقة للامر ، فإنه طلب الوجود ، فافهم.
    دفع وهم : لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب ، إنما يكون بمعنى أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد ، وجعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة ، وإفاضته ، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل ، كما توهم ، ولا جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة ، وقد جعل وجودها غاية لطلبها.
    وقد عرفت أن الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي ، لا يعقل أن يتعلق بها طلب لتوجد أو تترك ، وأنه لابد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها ، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه ، كي يكون ويصدر منه ، هذا بناء على أصالة الوجود.
    وأما بناء على أصالة الماهية ، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا ، بل بما هي بنفسها في الخارج ، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات والاعيان الثابتات ، لا بوجودها كما كان الامر بالعكس على أصالة الوجود.
    وكيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجية أو الوجود ، فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر منه ويكون ما لم يكن ، فافهم وتأمل جيدا.
فصل
    إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ ، على بقاء الجواز


(140)
بالمعنى الاعم ، ولا بالمعنى الاخص ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الاحكام ، ضرورة أن ثبوت كل واحد من الاحكام الاربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن ، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ ـ بإحدى الدلالات ـ على تعيين واحد منها ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلابد للتعيين من دليل آخر ، ولا مجال لاستصحاب الجواز ، إلا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، وقد حققنا في محله (1) ، أنه لا يجري الاستصحاب فيه ، ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع ، بحيث عد عرفا ـ لو كان ـ أنه باق ، لا أنه أمر حادث غيره.
    ومن المعلوم أن كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا وعرفا ، من المباينات والمتضادات ، غير الوجوب والاستحباب ، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلا إلا أنهما متباينان عرفا ، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر ، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعا في هذا الباب.
فصل
    إذا تعلق الامر بأحد (2) الشيئين أو الاشياء ، ففي وجوب كل واحد على التخيير ، بمعنى عدم جواز تركه إلا إلى بدل ، أو وجوب الواحد بعينه ، أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعين عند الله ، أقوال.
    والتحقيق أن يقال : إنه إن كان الامر بأحد الشيئين ، بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما ، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام
1 ـ في التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب / 406.
2 ـ في « ب » باحدى.


(141)
الغرض ، ولذا يسقط به الامر ، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا ، وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ، ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول.
    وعليه : فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي ، لبيان أن الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.
    وإن كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض ، لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه ، كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب ، يستكشف عنه تبعاته ، من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما ، والعقاب على تركهما ، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو (1) أحدهما لا بعينه مصداقا ولا مفهوما ، كما هو واضح ، إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الامر بأحدهما بالملاك الاول ، من أن الواجب هو الواحد الجامع بينهما ، ولا أحدهما معينا ، مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض [ ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما ، بداهة عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما في كل منهما من الغرض ، وعدم جواز الايجاب كذلك مع عدم إمكانه ] (2) فتدبر.
    بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الاقل والاكثر ، أولا ؟
1 ـ فإنه وإن كان مما يصح أن يتعلق به بعض الصفات الحقيقية ذات الاضافة كالعلم ، فضلا عن الصفات الاعتبارية المحضة كالوجوب والحرمة وغيرهما ، مما كان من خارج المحمول الذي ليس بحذائه في الخارج شيء غير ما هو منشأ انتزاعه ، إلا أنه لا يكاد يصح البعث حقيقة إليه ، والتحريك نحوه ، كما لا يكاد يتحقق الداعي لارادته ، والعزم عليه ، ما لم يكن مائلا إلى إرادة الجامع ، والتحرك نحوه ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره ).
2 ـ أثبتناها من « ب ».


(142)
    ربما يقال ، بأنه محال ، فإن الاقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة ، ولو كان في ضمن الاكثر ، لحصول الغرض به ، وكان الزائد عليه من أجزاء الاكثر زائدا على الواجب ، لكنه ليس كذلك ، فإنه إذا فرض أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الاكثر ، هو الاكثر لا الاقل الذي في ضمنه ، بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله ، وإن كان الاقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا ، فلا محيص عن التخيير بينهما ، إذ تخصيص الاقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص ، فإن الاكثر بحده يكون مثله على الفرض ، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بماله من الحد ، لا على القصير في ضمنه ، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه ؟ ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الامكان.
    إن قلت : هبه في مثل ما إذا كان للاكثر وجود واحد ، لم يكن للاقل في ضمنه وجود على حدة ، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين ، لكنه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود ، كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث ، أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه ، فإن الاقل قد وجد بحده ، وبه يحصل الغرض على الفرض ، ومعه لا محالة يكون الزائة عليه مما لا دخل له في حصوله ، فيكون زائدا على الواجب ، لا من أجزائه.
    قلت : لا يكاد يختلف الحال بذاك ، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الاقل في ضمن الاكثر ، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ، ومعه كان مترتبا على الاكثر بالتمام.
    وبالجملة إذا كان كل واحد من الاقل والاكثر بحده مما يترتب عليه الغرض ، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد ، وتخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان ، على ما عرفت.


(143)
    نعم لو كان الغرض مترتبا على الاقل ، من دون دخل للزائد ، لما كان الاكثر مثل الاقل وعدلا له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره ، مستحبا كان أو غيره ، حسب اختلاف الموارد ، فتدبر جيدا.
فصل
    في الوجوب (1) الكفائي :
    والتحقيق أنه سنخ من الوجوب ، وله تعلق بكل واحد ، بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا ، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم ، وذلك لانه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد ، حصل بفعل واحد ، صادر عن الكل أو البعض.
    كما أن الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة ، واستحقاقهم للمثوبة ، وسقوط الغرض بفعل الكل ، كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد.
فصل
    لا يخفى أنه وإن كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب ، إلا أنه تارة مما له دخل فيه شرعا فيكون موقتا ، وأخرى لا دخل له فيه أصلا فهو غير موقت ، والموقت إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيق ، وإما أن يكون أوسع منه فموسع.
    ولا يذهب عليك أن الموسع كلي ، كما كان له أفراد دفعية ، كان له أفراد تدريجية ، يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها الدفعية عقليا.
    ولا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعيا ، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها ، كما لا يخفى.
1 ـ في « ب » : في الوجوب الواجب الكفائي.

(144)
    ووقوع الموسع فضلا عن إمكانه ، مما لا ريب فيه ، ولا شبهة تعتريه ، ولا اعتناء ببعض التسويلات كما يظهر من المطولات.
    ثم إنه لا دلالة للامر بالموقت بوجه على الامر به في خارج الوقت ، بعد فوته في الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الامر به.
    نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل ، لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
    وبالجملة : التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ، كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب ، بحيث كان أصل الفعل ، ولو في خارج الوقت مطلوبا في الجملة ، وإن لم يكن بتمام المطلوب ، إلا أنه لابد في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة ، ولا يكفي الدليل على الوقت إلا فيما عرفت ، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت ، فتدبر جيدا.
فصل
    الامر بالامر بشيء ، أمر به لو كان الغرض حصوله ، ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلا تبليغ (1) أمره به ، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالامر أو النهي. وأما لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشيء ، من دون تعلق غرضه به ، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا ، بل بعد تعلق أمره به ، فلا يكون أمرا بذاك الشيء ، كما لا يخفى.
    وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الامر بالامر ، على كونه أمرا به ، ولا بد في الدلالة
1 ـ في « ب » : بتبليغ.

(145)
عليه من قرينة عليه.
فصل
    إذا ورد أمر بشيء بعد الامر به قبل امتثاله ، فهل يوجب تكرار ذاك الشيء ، أو تأكيد الامر الاول ، والبعث الحاصل به ؟ قضية إطلاق المادة هو التأكيد ، فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين ، من دون أن يجيء تقييد لها في البين ، ولو كان بمثل ( مرة اخرى ) كي يكون متعلق كل منهما غير متعلق الاخر ، كما لا يخفى ، والمنساق من إطلاق الهيئة ، وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده ، إلا أن الظاهر هو انسباق التأكيد عنها ، فيما كانت مسبوقة بمثلها ، ولم يذكر هناك سبب ، أو ذكر سبب واحد.


(146)

(147)
المقصد الثاني
النواهي


(148)

(149)
    الظاهر أن النهي بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب ، مثل الامر بمادته وصيغته ، غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود ، وفي الآخر العدم ، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلا ، نعم يختص النهي بخلاف ، وهو : إن متعلق الطلب فيه ، هل هو الكف ، أو مجرد الترك وأن لا يفعل ؟ والظاهر هو الثاني.
    وتوهم أن الترك ومجرد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار ، فلا يصح أن يتعلق به البعث والطلب ، فاسد ، فإن الترك أيضا يكون مقدورا ، وإلا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالارادة والاختيار ، وكون العدم الازلي لا بالاختيار ، لا يوجب أن يكون بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلا للتكليف.
    ثم إنه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار ، كما لا دلالة لصيغة الامر وإن كان قضيتهما عقلا تختلف ولو مع وحدة متعلقهما ، بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلق بها الامر مرة والنهي أخرى ، ضرورة أن وجودها يكون بوجود فرد واحد ، وعدمها لا يكاد يكون إلا بعدم الجميع ، كما لا يخفى.
    ومن ذلك يظهر أن الدوام والاستمرار ، إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال ، فإنه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة ، إلا بعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.


(150)
    وبالجملة قضية النهي ، ليس إلا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له ، كانت مقيدة أو مطلقة ، وقضية تركها عقلا ، إنما هو ترك جميع أفرادها.
    ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف ، أو عدم إرادته ، بل لابد في تعيين ذلك من دلالة ، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة ، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات ، فتدبر جيدا.
فصل
    اختلفوا في جواز اجتماع الامر والنهي في واحد ، وامتناعه ، على أقوال : (1) ثالثها (2) : جوازه عقلا وامتناعه عرفا ، وقبل الخوض في المقصود يقدم أمور :
    الاول : المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين ، ومندرجا تحت عنوانين ، بأحدهما كان موردا للامر ، وبالآخر للنهي ، وإن كان كليا مقولا على كثيرين ، كالصلاة في المغصوب ، وإنما ذكر لاخراج ما إذا تعدد متعلق الامر والنهي ولم يجتمعا وجودا ، ولو جمعهما واحد مفهوما ، كالسجود لله تعالى ، والسجود للصنم مثلا ، لا لاخراج الواحد الجنسي أو النوعي كالحركة والسكون الكليين المعنونين بالصلاتية والغصبية.
    الثاني : الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة (3) ، هو أن الجهة المبحوث عنها فيها التي بها تمتاز المسائل ، هي أن تعدد الوجه والعنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق الامر والنهي ، بحيث يرتفع به غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد ، أو لا يوجبه ، بل يكون حاله حاله ، فالنزاع في سراية كل
1 ـ راجع مطارح الانظار / 129. في اجتماع الامر والنهي.
2 ـ مجمع الفائدة والبرهان للاردبيلي 2 : 110.
3 ـ في « ب » العبادات.
كفاية الاصول ::: فهرس