كفاية الاصول ::: 151 ـ 165
(151)
من الامر والنهي إلى متعلق الآخر ، لاتحاد متعلقيهما وجودا ، وعدم سرايته لتعددهما وجها ، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الاخرى ، فإن البحث فيها في أن النهي في العبادة [ أو المعاملة ] (1) يوجب فسادها ، بعد الفراغ عن التوجه إليها.
    نعم لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع ، يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.
    فانقدح أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح.
    وأما ما أفاده في الفصول (2) ، من الفرق بما هذه عبارته :
    ( ثم اعلم أن الفرق بين المقام والمقام المتقدم ، وهو أن الامر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا ؟ أما في المعاملات فظاهر ، وأما في العبادات ، فهو أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الامر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة ، وإن كان بينهما عموم مطلق ، وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الاطلاق والتقييد ، بأن تعلق الامر بالمطلق ، والنهي بالمقيد ) انتهى موضع الحاجة ، فاسد ، فإن مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات ، لا يوجب التمايز بين المسائل ، ما لم يكن هناك اختلاف الجهات ، ومعه لا حاجة أصلا إلى تعددها ، بل لابد من عقد مسألتين ، مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها ، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس ، كما لا يخفى.
    ومن هنا انقدح أيضا فساد الفرق ، بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا ، وهناك في دلالة النهي لفظا ، فإن مجرد ذلك لو لم يكن تعدد الجهة في البين ، لا يوجب إلا تفصيلا في المسألة الواحدة ، لا عقد مسألتين ، هذا مع
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ الفصول / 140 ، فصل في دلالة النهي على فساد المنهي عنه.


(152)
عدم اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ ، كما سيظهر.
    الثالث : إنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق الاستنباط ، كانت المسألة من المسائل الاصولية ، لا من مبادئها الاحكامية ، ولا التصديقية ، ولا من المسائل الكلامية ، ولا من المسائل الفرعية ، وإن كانت فيها جهاتها ، كما لا يخفى ، ضرورة أن مجرد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أخرى ، يمكن عقدها معها من المسائل ، إذ لا مجال حينئذ لتوهم عقدها من غيرها في الاصول ، وإن عقدت كلامية في الكلام ، وصح عقدها فرعية أو غيرها بلا كلام ، وقد عرفت في أول الكتاب (1) أنه لا ضير في كون مسألة واحدة ، يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين ، لانطباق جهتين عامتين على تلك الجهة ، كانت بإحداهما من مسائل علم ، وبالاخرى من آخر ، فتذكر.
    الرابع : إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه ، أن المسألة عقلية ، ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الايجاب والتحريم باللفظ ، كما ربما يوهمه التعبير بالامر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول ، إلا أنه لكون الدلالة عليهما غالبا بهما ، كما هو أوضح من أن يخفى ، وذهاب البعض (2) إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ، ليس بمعنى دلالة اللفظ ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنين ، وأنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين ، وإلا فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي ، غاية الامر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع ، فتدبر جيدا.
    الخامس : لا يخفى أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعم جميع أقسام الايجاب والتحريم ، كما هو قضية إطلاق لفظ الامر والنهي ،
1 ـ في الامر الاول من مقدمة الكتاب / 7.
2 ـ الاردبيلي في شرح الارشاد 2 / 110.


(153)
ودعوى الانصراف إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما ، غير خالية عن الاعتساف ، وإن سلم في صيغتهما ، مع أنه فيها ممنوع (1).
    نعم لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الاطلاق ، بمقدمات الحكمة الغير الجارية في المقام ، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الاقسام ، وكذا ما وقع في البين من النقض والابرام ، مثلا إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا بينهما ، وكذلك نهى عن التصرف في الدار والمجالسة مع الاغيار ، فصلى فيها مع مجالستهم ، كان حال الصلاة فيها حالها ، كما إذا أمر بها تعيينا (2) ، ونهى عن التصرف فيها كذلك في جريان النزاع في الجواز والامتناع ، ومجيء أدلة الطرفين ، وما وقع من النقض والابرام في البين ، فتفطن.
    السادس : إنه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال ، بل ربما قيل : بأن الاطلاق إنما هو للاتكال على الوضوح ، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال.
    ولكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها في ما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال ، وهو اجتماع الحكمين المتضادين ، وعدم الجدوى في كون موردهما موجها بوجهين في رفع غائلة اجتماع الضدين ، أو عدم لزومه ، وأن تعدد الوجه يجدي في رفعها ، ولا يتفاوت في ذلك أصلا وجود المندوحة وعدمها ، ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.
    نعم لابد من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا ، لمن يرى التكليف بالمحال محذورا ومحالا ، كما ربما لابد من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضا.
    وبالجملة لا وجه لاعتبارها ، إلا لاجل اعتبار القدرة على الامتثال ، وعدم
1 ـ في « ب » : ممنوعة.
2 ـ في « ب » : تعينا.


(154)
لزوم التكليف بالمحال ، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال ، فافهم واغتنم.
    السابع : إنه ربما يتوهم تارة أن النزاع في الجواز والامتناع ، يبتني على القول بتعلق الاحكام بالطبائع ، وأما الامتناع على القول بتعلقها بالافراد فلا يكاد يخفى ، ضرورة لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصي ، ولو كان ذا وجهين على هذا القول.
    وأخرى أن القول بالجواز مبني على القول بالطبائع ، لتعدد متعلق الامر والنهي ذاتا عليه ، وإن اتحد وجودا ، والقول بالامتناع على القول بالافراد ، لاتحاد متعلقهما شخصا خارجا ، وكونه فردا واحدا.
    وأنت خبير بفساد كلا التوهمين ، فإن تعدد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود والايجاد ، لكان يجدي ولو على القول بالافراد ، فإن الموجود الخارجي الموجه بوجهين ، يكون فردا لكل من الطبيعتين ، فيكون مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد ، فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين ، لا يضر بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكل من الطبيعتين ، وإلا لما كان يجدي أصلا ، حتى على القول بالطبائع ، كما لا يخفى ، لوحدة الطبيعتين وجودا واتحادهما خارجا ، فكما أن وحدة الصلاتية والغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجودا غير ضائر بتعددهما وكونها طبيعتين ، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها وجودا غير ضائر بكونه فردا للصلاة ، فيكون مأمورا به ، وفردا للغصب فيكون منهيا عنه ، فهو على وحدته وجودا يكون اثنين ، لكونه مصداقا للطبيعتين ، فلا تغفل.
    الثامن : إنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع ، إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا ، حتى في مورد


(155)
التصادق والاجتماع ، كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين ، أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى ، كما يأتي تفصيله (1).
    وأما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك ، فلا يكون من هذا الباب ، ولا يكون مورد الاجتماع محكوما إلا بحكم واحد منها ، إذا كان له مناطه ، أو حكم آخر غيرهما ، فيما لم يكن لواحد منهما ، قيل بالجواز والامتناع ، هذا بحسب مقام الثبوت.
    وأما بحسب مقام الدلالة والاثبات ، فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان ، إذا احرز أن المناط من قبيل الثاني ، فلابد من حمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح والتخيير ، وإلا فلا تعارض في البين ، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين ، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا ، لكونه أقوى مناطا ، فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلا ، بل لابد من مرجحات المقتضيات المتزاحمات ، كما يأتي الاشارة (2) إليها.
    نعم لو كان كل منها متكفلا للحكم الفعلي ، لوقع بينهما التعارض ، فلا بد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة ، لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة ، فتفطن.
    التاسع : إنه قد عرفت أن المعتبر في هذا الباب ، أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها ، مشتملة على مناط الحكم مطلقا ، حتى في حال الاجتماع ، فلو كان هناك ما دل على ذلك من اجماع أو غيره فلا إشكال ، ولو لم يكن إلا اطلاق دليلي الحكمين ، ففيه تفصيل وهو :
    إن الاطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي ، لكان دليلا على ثبوت
1 و 2 ـ راجع التنبيه الثاني من تنبيهات اجتماع الامر والنهي ، ص 174.

(156)
المقتضي والمناط في مورد الاجتماع ، فيكون من هذا الباب ، ولو كان بصدد الحكم الفعلي ، فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز ، إلا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين. وأما على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان ، من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا ، فإن انتفاء أحد المتنافيين ، كما يمكن أن يكون لاجل المانع مع ثبوت المقتضي له ، يمكن أن يكون لاجل انتفائه ، إلا أن يقال : إن قضية التوفيق بينهما ، هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي ، لو لم يكن أحدهما أظهر ، وإلا فخصوص الظاهر منهما.
    فتلخص أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين ، كان من مسألة الاجتماع ، وكلما لم تكن هناك دلالة عليه ، فهو من باب التعارض مطلقا ، إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز ، وإلا فعلى الامتناع.
    العاشر (1) : إنه لا إشكال في سقوط الامر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الامر على الجواز مطلقا ، ولو في العبادات ، وإن كان معصية للنهي أيضا ، وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الامر ، إلا أنه لا معصية عليه ، وأما عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الامر به مطلقا في غير العبادات ، لحصول الغرض الموجب له ، وأما فيها فلا ، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيرا ، فإنه وإن كان متمكنا ـ مع عدم الالتفات ـ من قصد القربة ، وقد قصدها ، إلا أنه مع التقصير لا يصلح لان يتقرب به أصلا ، فلا يقع مقربا ، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للامر به عبادة ، كما لا يخفى. وأما إذا لم يلتفت إليها قصورا ، وقد قصد القربة بإتيانه ، فالامر
1 ـ من هنا إلى ص 184 عند قوله « ضرورة أنه لو لا جلعه » سقط من نسخة ( أ ) المعتمدة عندنا.

(157)
يسقط ، لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به ، لاشتماله على المصلحة ، مع صدوره حسنا لاجل الجهل بحرمته قصورا ، فيحصل به الغرض من الامر ، فيسقط به قطعا ، وإن لم يكن امتثالا له بناء على تبعية الاحكام لما هو الاقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعا ، لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح ، لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محله.
    مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك ، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه وبين سائر الافراد في الوفاء بغرض (1) الطبيعة المأمور بها ، وإن لم تعمه بما هي مأمور بها ، لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.
    ومن هنا انقدح أنه يجزي ، ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة ، وعدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية ، كما يكون كذلك في ضد الواجب ، حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا.
    وبالجملة مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا أو حكما ، يكون الاتيان بالمجمع امتثالا ، وبداعي الامر بالطبيعة لا محالة ، غاية الامر أنه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها ، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للاحكام الواقعية ، وأما لو قيل بعدم التزاحم إلا في مقام فعلية الاحكام ، لكان مما تسعه وامتثالا لامرها بلا كلام.
    وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين ، وقدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا ، حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا ، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع. وقيل بالامتناع ، وتقديم جانب الحرمة ، حيث يقع صحيحا في غير مورد من موارد الجهل والنسيان ، لموافقته للغرض بل للامر ، ومن هنا علم أن
1 ـ في « ب » : لغرض ، وما أثبتناه من النسخ المطبوعة هو الاصح.

(158)
الثواب عليه من قبيل الثواب على الاطاعة ، لا الانقياد ومجرد اعتقاد الموافقة.
    وقد ظهر بما ذكرناه ، وجه حكم الاصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة ، مع النسيان أو الجهل بالموضوع ، بل أو الحكم إذا كان عن قصور ، مع أن الجل لو لا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة ، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر ، فلتكن من ذلك على ذكر.
    إذا عرفت هذه الامور ، فالحق هو القول بالامتناع ، كما ذهب إليه المشهور ، وتحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل ، أو يمكن أن يقال ، من وجوه الاستدلال لسائر الاقوال ، يتوقف على تمهيد مقدمات :
    إحداها : إنه لاريب في أن الاحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها ، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان ، وإن لم يكن بينها مضادة ما لم يبلغ إلى تلك المرتبة ، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الانشائية قبل البلوغ إليها ، كما لا يخفى ، فاستحالة اجتماع الامر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال ، بل من جهة أنه بنفسه محال ، فلا يجوز عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضا.
    ثانيتها : إنه لا شبهة في أن متعلق الاحكام ، هو فعل المكلف وما هو في الخارج يصدر عنه ، وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه ، وهو واضح ، ولا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه ، بحيث لو لا انتزاعه تصورا واختراعه ذهنا ، لا كان بحذائه شيء خارجا ويكون خارج المحمول ، كالملكية والزوجية والرقية والحرية والمغصوبية (1) ، إلى غير ذلك من الاعتبارات والاضافات ، ضرورة أن البعث ليس نحوه ، والزجر لا يكون عنه ، وإنما يؤخذ في متعلق الاحكام آلة للحاظ
1 ـ في « ب » : الغصبية.

(159)
متعلقاتها ، والاشارة إليها ، بمقدار الغرض منها والحاجة إليها ، لا بما هو هو وبنفسه ، وعلى استقلاله وحياله.
    ثالثتها : إنه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون ، ولا ينثلم به وحدته ، فإن المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد ، وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة ، بل بسيط من جمبع الجهات ، ليس فيه حيث غير حيث ، وجهة مغايرة لجهة أصلا ، كالواجب تبارك وتعالى ، فهو على بساطته ووحدته وأحديته ، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية والجمالية ، له الاسماء الحسنى والامثال العليا ، لكنها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الاحد.
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
    رابعتها : إنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد ، إلا ماهية واحدة وحقيقة فاردة ، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلا تلك الماهية ، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة ، وكانت عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي وفرده ، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية وذاتا لا محالة ، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الامر والنهي ، إلا أنه كما يكون واحدا وجودا ، يكون واحدا ماهية وذاتا ، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.
    ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة ، على القولين في تلك المسألة ، كما توهم في الفصول (1) ، كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج ، وعدم تعدده ، ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له ، وإن مثل الحركة في دار من أي
1 ـ راجع الفصول / 125.

(160)
مقولة كانت ، لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها ، وقعت جزءا للصلاة أو لا ، كانت تلك الدار مغصوبة أو لا (1).
    إذا عرفت ما مهدناه ، عرفت أن المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا ، كان تعلق الامر والنهي به محالا ، ولو كان تعلقهما به بعنوانين ، لما عرفت من كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه ، متعلقا للاحكام لا بعناوينه الطارئة عليه ، وأن غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الاحكام تتعلق بالطبائع لا الافراد (2) ، فإن غاية تقريبه أن يقال : إن الطبائع من حيث هي هي ، وإن كانت ليست إلا هي ، ولا تتعلق بها الاحكام الشرعية ، كالآثار العادية والعقلية ، إلا أنها مقيدة بالوجود ، بحيث كان القيد خارجا والتقيد داخلا ، صالحة لتعلق الاحكام بها ، ومتعلقا الامر والنهي على هذا لا يكونان متحدين أصلا ، لا في مقام تعلق البعث والزجر ، ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الامر بإتيان المجمع بسوء الاختيار.
    أما في المقام الاول ، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن كانا متحدين فيما هو خارج عنهما ، بما هما كذلك.
    وأما في المقام الثاني ، فلسقوط أحدهما بالاطاعة ، والآخر بالعصيان بمجرد الاتيان ، ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد ؟
    وأنت خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت ، من أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا ولا ماهية ، ولا تنثلم به وحدته أصلا ، وأن المتعلق للاحكام هو المعنونات لا العنوانات ، وأنها إنما تؤخذ في المتعلقات بما
1 ـ وقد عرفت أن صدق العناوين المتعددة ، لا تكاد تنثلم به وحدة المعنون ـ لا ذاتا ولا وجودا ـ غايته أن تكون له خصوصية بها يستحق الاتصاف بها ، ومحدودا بحدود موجبة لانطباقها عليه ، كما لا يخفى ، وحدوده ومخصصاته لا توجب تعدده بوجه أصلا ، فتدبر جدا ( منه قدس سره ).
2 ـ كما في قوانين الاصول 1 / 140.


(161)
هي حاكيات كالعبارات ، لا بما هي على حيالها واستقلالها.
    كما ظهر مما حققناه : أنه لا يكاد يجدي أيضا كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه ، وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار ، وذلك ـ مضافا إلى وضوح فساده ، وأن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج ، كيف ؟ والمقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود ، ولا تعدد كما هو واضح ـ أنه إنما يجدي لو لم يكن المجمع واحدا ماهية ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضا واحد.
    ثم إنه قد استدل (1) على الجواز بأمور :
    منها (2) : إنه لو لم يجز اجتماع الامر والنهي ، لما وقع نظيره وقد وقع ، كما في العبادات المكروهة ، كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمام والصيام في السفر وفي بعض الايام.
    بيان الملازمة : إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددهما ، لعدم اختصاصهما من بين الاحكام بما يوجب الامتناع من التضاد ، بداهة تضادها بأسرها ، والتالي باطل ، لوقوع اجتماع الكراهة والايجاب أو الاستحباب ، في مثل الصلاة في الحمام ، والصيام في السفر ، وفي عاشوراء ولو في الحضر ، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الاباحة أو الاستحباب ، في مثل الصلاة في المسجد أو الدار.
    والجواب عنه أما إجمالا : فبأنه لا بد من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع ، بعد قيام الدليل على الامتناع ، ضرورة أن
1 ـ انظر قوانين الاصول 1 / 140.
2 ـ هذا هو الوجه الثاني الذي استدل له ، قوانين الاصول 1 / 142.


(162)
الظهور لا يصادم البرهان ، مع أن قضية ظهور تلك الموارد ، اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد ، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك ، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين ، فهو أيضا لابد [ له ] من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة ، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا ، كما لا يخفى.
    وأما تفصيلا : فقد أجيب عنه بوجوه (1) ، يوجب ذكرها بما فيها من النقض والابرام طول الكلام بما لا يسعه المقام ، فالاولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الاشكال ، فيقال وعلى الله الاتكال : إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام :
    أحدها : ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ، ولا بدل له ، كصوم يوم عاشوراء (2) ، والنوافل المبتدئة في بعض الاوقات (3).
    ثانيها : ما تعلق به النهي كذلك ، ويكون له البدل ، كالنهي عن الصلاة في الحمام (4).
    ثالثها : ما تعلق النهي به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجودا ،
1 ـ راجع مطارح الانظار / 130 وما بعده.
2 ـ الكافي 4 / 146 ، باب صوم عرفة وعاشوراء ، الاحاديث 3 إلى 7 ـ وللمزيد راجع وسائل الشيعة ، 7 / 339 الباب 21 من أبواب الصوم المندوب.
3 ـ الكافي 3 / 288 باب التطوع في وقت الفريضة والساعات التي لا يصلى فيها ـ الاستبصار 1 / 277 باب وقت نوافل النهار ـ وللمزيد راجع وسائل الشيعة 3 / 170 ، الباب 38 من أبواب المواقيت.
4 ـ الكافي 3 / 390 الحديث 12 من باب الصلاة في الكعبة ... الخ.


(163)
أو ملازم له خارجا ، كالصلاة في مواضع التهمة (1) ، بناء على كون النهي عنها لاجل اتحادها مع الكون في مواضعها.
    أما القسم الاول : فالنهي تنزيها عنه بعد الاجتماع على أنه يقع صحيحا ، ومع ذلك يكون تركه أرجح ، كما يظهر من مداومة الائمة عليهم السلام على الترك ، إما لاجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك ، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وإن كان مصلحة الترك أكثر ، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين ، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين ، وإلا فيتعين الاهم وإن كان الآخر يقع صحيحا ، حيث أنه كان راجحا وموافقا للغرض ، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات ، وارجحية الترك من الفعل لا توجب (2) حزازة ومنقصة فيه أصلا ، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته ، ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع ، فإن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به ، بخلاف المقام ، فإنه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض ،
1 ـ التهذيب 2 / 219 الحديث 71 من باب 11 ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان ... الخ. وللمزيد راجع وسائل الشيعة 3 / 466 الباب 34 من أبواب مكان المصلي.
2 ـ ربما يقال : إن أرجحية الترك ، وإن لم توجب منقصة وحزازة في الفعل أصلا ، إلا أنه توجب المنع منه فعلا ، والبعث إلى الترك قطعا ، كما لا يخفى ، ولذا كان ضد الواجب ـ بناء على كونه مقدمة له ـ حراما ، ويفسد لو كان عبادة ، مع أنه لا حزازة في فعله ، وإنما كان النهي عنه وطلب تركه لما فيه من المقدمية له ، وهو على ما هو عليه من المصلحة ، فالمنع عنه لذلك كاف في فساده لو كان عبادة. قلت : يمكن أن يقال : إن لنهي التحريمي لذلك وإن كان كافيا في ذلك بلا إشكال ، إلا أن التنزيهي غير كاف ، إلا إذا كان عن حزازة فيه ، وذلك لبداهة عدم قابلية الفعل للتقرب به منه تعالى مع المنع عنه وعدم ترخيصه في ارتكابه ، بخلاف التنزيهي عنه إذا كان لا لحزازة فيه ، بل لما في الترك من المصلحة الراجحة ، حيث أنه معه مرخوص فيه ، وهو على ما هو عليه من الرجحان والمحبوبية له تعالى ، ولذلك لم تفسد العبادة إذا كانت ضد المستحبة أهم اتفاقا ، فتأمل ( منه قدس سره ).


(164)
كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا.
    وإما لاجل ملازمة الترك لعنوان كذلك ، من دون انطباقه عليه ، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت ، إلا في أن الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي ، بل بالعرض والمجاز ، فإنما يكون في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان ، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة ، كما في سائر المكروهات من غير فرق ، إلا أن منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل ، وفيه رجحان في الترك ، من دون حزازة في الفعل أصلا ، غاية الامر كون الترك أرجح.
    نعم يمكن أن يحمل النهي ـ في كلا القسمين ـ على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل ، أو ملازم لما هو الارجح وأكثر ثوابا لذلك ، وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة ، لا بالعرض والمجاز ، فلا تغفل.
    وأما القسم الثاني : فالنهي فيه يمكن أن يكون لاجل ما ذكر في القسم الاول ، طابق النعل بالنعل ، كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها ، لاجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها ، كما في الصلاة في الحمام ، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فيه ، لا يناسب كونها معراجا ، وإن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه ولا حزازة فيه أصلا ، بل كان راجحا ، كما لا يخفى.
    وربما يحصل لها لاجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والامكنة الشريفة ، وذلك لان الطبيعة المأمور بها في حد نفسها ، إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة ، ولا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة والمزية ، كالصلاة في الدار مثلا ، وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بماله شدة الملاءمة ، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة ، ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى ، ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد ، ويكون أكثر ثوابا منه ، وليكن


(165)
هذا مراد من قال : إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا ، ولا يرد عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الاخرى بالكراهة ، ولزوم اتصاف ما لا مزيد فيه ولا منقصة بالاستحباب ، لانه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة ، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا ، إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها ، ولا منقصة من المشخصات ، وكذا كونه أكثر ثوابا.
    ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح إلا للارشاد ، بخلاف القسم الاول ، فإنه يكون فيه مولويا ، وإن كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان.
    وأما القسم الثالث : فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز ، وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان ، ويمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى غيرها من سائر الافراد ، مما لا يكون متحدا معه أو ملازما له ، إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة ، بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلا ، هذا على القول بجواز الاجتماع.
    وأما على الامتناع ، فكذلك في صورة الملازمة ، وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الامر ـ كما هو المفروض ، حيث أنه صحة العبادة ـ فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني ، فيحمل على ما حمل عليه فيه ، طابق النعل بالنعل ، حيث أنه بالدقة يرجع إليه ، إذا على الامتناع ، ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملاءمة كما عرفت.
    وقد انقدح بما ذكرناه ، أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الاول مطلقا ، وفي هذا القسم على القول بالجواز ، كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها ، وأن الامر الاستحبابي يكون على نحو
كفاية الاصول ::: فهرس