كفاية الاصول ::: 166 ـ 180
(166)
الارشاد إلى أفضل الافراد مطلقا على نحو الحقيقة ، ومولويا اقتضائيا كذلك ، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب ، أو متحدا (1) معه على القول بالجواز.
    ولا يخفى أنه لا يكاد يأتي القسم الاول هاهنا ، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد إيجابه ، لا أنه يوجب استحبابه أصلا ، ولو بالعرض والمجاز ، إلا على القول بالجواز ، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان ، فإنه لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب إلا اقتضائيا بالعرض والمجاز ، فتفطن.
    ومنها : إن أهل العرف يعدون من اتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم ، مطيعا وعاصيا من وجهين (2) ، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص ، كما مثل به الحاجبي (3) والعضدي (4) ، فلو خاطه في ذاك المكان ، عد مطيعا لامر الخياطة وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان.
    وفيه ـ مضافا إلى المناقشة في المثال ، بأنه ليس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجودا أصلا ، كما لا يخفى ـ
1 ـ في « ب » : متحدة.
2 ـ دليل آخر للمجوزين ، قوانين الاصول 1 / 148.
3 و 4 ـ انظر شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب / 92 ، 93. مسألة استحالة كون الشيء واجبا حراما من جهة واحدة.
ابن الحاجب ابو عمرو عثمان بن عمر بن ابي بكر المالكي ، تولد سنة 570 ه‍ باسناد كان ابوه جنديا ، اشتغل ابنه في صغره بالقاهرة ، وحفظ القرآن المجيد ، واخذ بعض القراءات عن الشاطبي وسمع من البوصيري وجماعة ، لزم الاشتغال حتى برع في الاصول والعربية ، ثم قدم دمشق ودرس بجامعها ، كان الاغلب عليه النحو ، وصنف في عدة علوم ، له كتاب « الكافية » في النحو و « الشافية » في الصرف و « مختصر الاصول » ثم انتقل إلى الاسكندرية ، مات بها سنة 646 ه‍. ( الكنى والالقاب 1 / 244 ).


(167)
المنع إلا عن صدق أحدهما ، إما الاطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الامر ، أو العصيان فيما غلب جانب النهي ، لما عرفت من البرهان على الامتناع.
    نعم لا بأس بصدق الاطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات ، وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها ، إلا فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه ، كما تقدم (1).
    بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الاعلام (2) ، والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا.
    وفيه : إنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع ، إلا طريق العقل ، فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما أشرنا إليه من النظر المسامحي الغير المبتني على التدقيق والتحقيق ، وأنت خبير بعدم العبرة به ، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق ، وقد عرفت فيما تقدم (3) أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الامر والنهي ، بل في الاعم ، فلا مجال لان يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل ، ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه (4) تناف ، لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين ، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين ، فتدبر.
    وينبغي التنبيه على أمور :
    الاول : إن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام ، وإن كان يوجب ارتفاع حرمته ، والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه ـ لو كان ـ مؤثرا له ، كما إذا لم يكن
1 ـ في الامر العاشر / 156.
2 ـ المحقق الاردبيلي في شرح الارشاد 2 : 110 ، وقد ينسب ذلك إلى صاحب الرياض ( قده ) أيضا وكأنه مسموع منه شفاها ، على حد تعبير صاحب مطارح الانظار / 129.
3 ـ في الامر الرابع / 152.
4 ـ في « ب » تعينه.


(168)
بحرام بلا كلام ، إلا أنه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة ، فإن الخطاب بالزجر عنه حينئذ ، وإن كان ساقطا ، إلا أنه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقا عليه العقاب ، لا يصلح لان يتعلق بها الايجاب ، وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب.
    وإنما الاشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره ، مما ينحصر به التخلص عن محذور الحرام ، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها بالاختيار في كونه منهيا عنه ، أو مأمورا به ، مع جريان حكم المعصية عليه ، أو بدونه ، فيه أقوال ، هذا على الامتناع.
    وأما على القول بالجواز ، فعن أبي هاشم (1) أنه مأمور به ومنهي عنه ، واختاره الفاضل القمي (2) ، ناسبا له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء.
    والحق أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيان له بسوء الاختيار ، ولا يكاد يكون مأمورا به ، كما إذا لم يكن هناك توقف (3) عليه ، أو بلا انحصار به ، وذلك ضرورة أنه حيث كان قادرا على ترك
1 ـ راجع شرح مختصر الاصول / 94.
هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، ولد عام 247 ه‍ من أبناء ابان مولى عثمان ، عالم بالكلام ، من كبار المعتزلة ، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت « البهشمية » نسبة إلى كنيته أبي هاشم وله مصنفات منها : « الشامل » في الفقه و « تذكرة العالم » و « العدة » في الاصول مات سنة 321 ه‍. « الاعلام للزركلي 4 / 7 ».
2 ـ قوانين الاصول 1 / 153 ، في التنبيه الثاني ، من قانون دلالة النهي على الفساد.
3 ـ لا يخفى إنه لا توقف ها هنا حقيقة ، بداهة أن الخروج إنما هو مقدمة للكون في خارج الدار ، لا مقدمة لترك الكون فيها الواجب ، لكونه ترك الحرام ، نعم بينهما ملازمة لاجل التضاد بين الكونين ، ووضوح الملازمة بين وجود الشيء وعدم ضده ، فيجب الكون في خارج الدار عرضا ، لوجوب ملازمه حقيقة ، فيجب مقدمته كذلك ، وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أن مثل الخروج يكون مقدمة لما هو الواجب من ترك الحرام ، فافهم. ( منه قدس سره ).


(169)
الحرام رأسا ، لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره ، ويكون معاقبا عليه ، كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه ، أو مع عدم الانحصار به ، ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به ، لكونه بسوء الاختيار.
    إن قلت : كيف لا يجديه ، ومقدمة الواجب واجبة ؟
    قلت : إنما يجب المقدمة لو لم تكن محرمة ، ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في المقدمية.
    وإطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها ، إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة ، والمفروض هاهنا وإن كان ذلك إلا أنه كان بسوء الاختيار ، ومعه لا يتغير عما هو علهى من الحرمة والمبغوضية ، وإلا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره ، وعدم حرمته مع اختياره له ، وهو كما ترى ، مع أنه خلاف الفرض ، وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار.
    إن قلت (1) : إن التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام ، بلا إشكال ولا كلام ، وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم ، ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام ، فهو ليس بحرام في حال من الحالات ، بل حاله حال مثل شرب الخمر ، المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الاوقات.
1 ـ إشارة إلى مختار الشيخ ( قده ) مطارح الانظار / 155 ، الهداية 6 من القول في جواز اجتماع الامر والنهي.

(170)
    ومنه ظهر المنع عن كون جميع انحاء التصرف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول ، وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج ، وذلك لانه لو لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه ، وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة إلا ترك الدخول ، فمن لم يشرب الخمر ، لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به مثلا ، لم يصدق عليه إلا أنه لم يقع في المهلكة ، لا أنه ما شرب الخمر فيها ، إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، كما لا يخفى.
    وبالجملة لا يكون الخروج ـ بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام أو سببا له ـ إلا مطلوبا ، ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية ، ويحكم عليه بغير المطلوبية.
    قلت : هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأمورا به ، وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، على ما في تقريرات بعض الاجلة (1) ، لكنه لا يخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترك الواجب ، إنما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل ، وإن كان قبيحا ذاتا إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه ، ولم يقع بسوء اختياره ، إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام ، وإما في الاقدام على ما هو قبيح وحرام ، لولا [ أن ] (2) به التخلص بلا كلام كما هو المفروض في المقام ، ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.
    وبالجملة كان قبل ذلك متمكنا من التصرف خروجا ، كما يتمكن منه دخولا ، غاية الامر يتمكن منه بلا واسطة ، ومنه بالواسطة ، ومجرد عدم التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا ، كما هو الحال في البقاء ، فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الاوقات ، فكذلك الخروج ، مع أنه مثله في
1 ـ مطارح الانظار 155. الهداية 6 ، من القول في جواز اجتماع الامر والنهي.
2 ـ اثبتناها من بعض النسخ المطبوعة.


(171)
الفرعية على الدخول ، فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده ، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته ، وإن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين.
    ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة ، وأنه إنما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة ، وإن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه ، لكون الغرض فيه أعظم ، [ ف ] (1) من ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى هلاك النفس ، أو شرب الخمر ، لئلا يقع في أشد المحذورين منهما ، فيصدق أنه تركهما ، ولو بتركه ما لو فعله لادي لا محالة إلى أحدهما ، كسائر الافعال التوليدية ، حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى اسبابها ، واختيار تركها بعدم العمد إلى الاسباب ، وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج ، وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو أكثر عقوبة.
    ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك ، ولو على نحو هذه السالبة ، ومن الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة ، فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة ، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ويتخلص بالخروج ، أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما (2) ، لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج.
    إن قلت : كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا ؟ مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه ، و [ وضوح ] (3) سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة ، ولو كان بسوء الاختيار ، والعقل قد استقل بان
1 ـ أثبتناه من بعض النسخ المطبوعة.
2 ـ في « ب » : فيها.
3 ـ أثبتناها من هامش « ب » المصححة.


(172)
الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا.
    قلت : أولا : إنما كان الممنوع كالممتنع ، إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشادا إلى ما هو أقل المحذورين ، وقد عرفت لزومه بحكمه ، فإنه مع لزوم الاتيان بالمقدمة عقلا ، لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه ، فإنه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع ، كما إذا كانت المقدمة ممتنعة.
    وثانيا : لو سلم ، فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والايجاب لا لزوم إتيانه عقلا ، خروجا عن عهدة ما تنجز عليه سابقا ، ضرورة أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الاشد ونقض الغرض الاهم ، حيث أنه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية ، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا ، وإنما كان سقوط الخطاب لاجل المانع ، وإلزام العقل به لذلك إرشادا كاف ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والايجاب له فعلا ، فتدبر جيدا.
    وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به ، مع إجراء حكم المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق ، مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة ، ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والايجاب ، قبل الدخول وبعده ، كما في الفصول (1) ، مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما ، وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما ، وهذا أوضح من أن يخفى ، كيف ؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول ، عصيانا للنهي السابق ، وإطاعة للامر اللاحق فعلا ، ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد ، وهذا مما لا يرضى به القائل بالجواز ، فضلا عن القائل بالامتناع.
    كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة ، كون النهي مطلقا وعلى كل حال ، وكون الامر مشروطا بالدخول ، ضرورة منافاة حرمة شيء كذلك ، مع وجوبه
1 ـ الفصول / 138 ، الفصل الرابع من فصول النهي.

(173)
في بعض الاحوال.
    وأما القول (1) بكونه مأمورا به ومنهيا عنه ، ففيه ـ مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين ، فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام ، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلص ، وكان بغير إذن المالك ، وليس التخلص إلا منتزعا عن ترك الحرام المسبب (2) عن الخروج ، لا عنوانا له ـ أن الاجتماع ها هنا لو سلم أنه لا يكون بمحال ، لتعدد العنوان ، وكونه مجديا في رفع غائلة التضاد ، كان محالا لاجل كونه طلب المحال ، حيث لا مندوحة هنا ، وذلك لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع ، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار ، وما قيل أن الامتناع أو الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، إنما هو في قبال استدلال الاشاعرة للقول بأن الافعال غير اختيارية ، بقضية أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.
    فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول ، بأن الامر بالتخلص والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ، ولا موجب للتقييد عقلا ، لعدم استحالة كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين ، إذ منشأ الاستحالة : إما لزوم اجتماع الضدين وهو غير لازم ، مع تعدد الجهة ، وإما لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسببا عن سوء الاختيار ، وذلك لما عرفت من
1 ـ راجع قوانين الاصول 1 / 140 ، قانون اجتماع الامر والنهي.
2 ـ قد عرفت ـ مما علقت على الهامش ـ أن ترك الحرام غير مسبب عن الخروج حقيقة ، وإنما المسبب عنه إنما هو الملازم له ، وهو الكون في خارج الدار ، نعم يكون مسببا عنه مسامحة وعرضا ، وقد انقدح بذلك أنه لا دليل في البين الا على حرمة الغصب المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج ، من باب أنه أقل المحذورين وأنه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر ، فحينئذ يجب إعماله أيضا ، بناء على القول بجواز الاجتماع كاحتمال [ كإعمال ] النهي عن الغصب ، ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، فافهم ( منه قدس سره ).


(174)
ثبوت الموجب للتقييد عقلا ولو كانا بعنوانين ، وأن اجتماع الضدين لازم ولو مع تعدد الجهة ، مع عدم تعددها هاهنا ، والتكليف بما لا يطاق محال على كل حال ، نعم لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الايجاب.
    ثم لا يخفى أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع ، وأما على القول بالامتناع ، فكذلك ، مع الاضطرار إلى الغصب ، لا بسوء الاختيار أو معه ولكنها وقعت في حال الخروج ، على القول بكونه مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية (1) عليه ، أو مع غلبة ملاك الامر على النهي مع ضيق الوقت ، أما مع السعة فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن الضد واقتضائه ، فإن الصلاة في الدار المغصوبة ، وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة ، إلا أنه لا شبهة في أن الصلاة في غيرها تضادها ، بناء على أنه لا يبقي مجال مع إحداهما للاخرى ، مع كونها أهم منها ، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب ، لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه ، فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة ، وإن لم تكن مأمورا بها.
    الامر الثاني : قد مر (2) ـ في بعض المقدمات ـ أنه لا تعارض بين مثل خطاب ( صل ) وخطاب ( لا تغصب ) على الامتناع ، تعارض الدليلين بما هما دليلان حاكيان ، كي يقدم الاقوى منهما دلالة أو سندا ، بل إنما هو من باب
1 ـ اختاره الشيخ ( قده ) ، مطارح الانظار / 153 ، وابن الحاجب ، راجع شرح مختصر الاصول 94.
2 ـ في الامر التاسع من المقصد الثاني في النواهي / 155.


(175)
تزاحم المؤثرين والمقتضيين ، فيقدم الغالب منهما ، وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه ، هذا فيما إذا أحرز الغالب منهما ، وإلا كان بين الخطابين تعارض ، فيقدم الاقوى منهما دلالة أو سندا ، وبطريق الان يحرز به أن مدلوله أقوى مقتضيا ، هذا لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي ، وإلا فلا بد من الاخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان ، وإلا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الاصول العملية.
    ثم لا يخفى (1) أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا ، كما هو قضية التقييد والتخصيص في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين ، بل قضيته ليس إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا ، وذلك لثبوت المقتضي في كل واحد من الحكمين فيها ، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها ، لاضطرار أو جهل أو نسيان ، كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا ، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى ، أو لم يكن واحد من الدليلين دالا على الفعلية أصلا.
    فانقدح بذلك فساد الاشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان ونحوهما ، فيما إذا قدم خطاب ( لا تغصب ) كما هو الحال فيما إذا كان الخطابان من أول الامر متعارضين ، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلا ، وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب كما إذا لم يقع بينهما تعارض ، ولم يكونا متكلفين للحكم الفعلي ، فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلا المختص بما إذا لم يمنع عن
1 ـ هذا رد على الشيخ ( قدس سره ) ، مطارح الانظار / 152.

(176)
تأثيره مانع المقتضي ، لصحة مورد الاجتماع مع الامر ، أو بدونه فيما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له ، أو عن فعليته ، كما مر تفصيله.
    وكيف كان ، فلا بد في ترجيح أحد الحكمين من مرجح ، وقد ذكروا لترجيح النهي وجوها :
    منها : إنه أقوى دلالة ، لاستلزامه انتفاء جميع الافراد ، بخلاف الامر.
    وقد أورد عليه بأن ذلك فيه من جهة إطلاق متعلقه بقرينة الحكمة ، كدلالة الامر على الاجتزاء بأي فرد كان.
    وقد أورد عليه بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالاطلاق بمقدمات الحكمة ، وغير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام ، لكان استعمال مثل ( لا تغصب ) في بعض أفراد الغصب حقيقة ، وهذا واضح الفساد ، فتكون دلالته على العموم من جهة أن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي ، يقتضي عقلا سريان الحكم إلى جميع الافراد ، ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها ، إلا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه.
    قلت : دلالتها على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر ، لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك ، إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما ، فيختلف سعة وضيقا ، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الافراد ، إلا إذا أريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد ، ولا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته (1) عليه بالخصوص ، إلا بالاطلاق وقرينة الحكمة ، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الاطلاق في غير مقام البيان ، لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة ، وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق ، إذ الفرض عدم الدلالة على أنه المقيد أو المطلق.
1 ـ الظاهر أن أصل العبارة : عدم دلالة ، ( حقائق الاصول 1 / 412 ).

(177)
    اللهم إلا أن يقال : إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق ، كما ربما يدعى ذلك في مثل ( كل رجل ) ، وإن مثل لفظة ( كل ) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة ، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب وإن كان لا يلزم مجاز أصلا ، لو أريد منه خاص بالقرينة ، لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول ، ولا فيه إذا كان بنحو تعدد الدال والمدلول ، لعدم استعماله إلا فيما وضع له ، والخصوصية مستفادة من دال آخر ، فتدبر.
    ومنها : إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
    وقد أورد عليه في القوانين (1) ، بأنه مطلقا ممنوع ، لان في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين.
    ولا يخفى ما فيه ، فإن الواجب ولو كان معينا ، ليس إلا لاجل أن في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة ، كما أن الحرام ليس إلا لاجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.
    ولكن يرد عليه أن الاولوية مطلقا ممنوعة ، بل ربما يكون العكس أولى ، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات ، خصوصا مثل الصلاة وما يتلو تلوها.
    ولو سلم فهو أجنبي عن المقام (2) ، فإنه فيما إذا دار بين الواجب والحرام.
1 ـ قوانين الاصول 1 / 153 ، في قانون اجتماع الامر والنهي.
2 ـ فإن الترجيح به إنما يناسب ترجيح المكلف واختياره للفعل أو الترك ، بما هو أوفق بغرضه ، لا المقام وهو مقام جعل الاحكام ، فإن المرجح هناك ليس إلا حسنها أو قبحها العقليان ، لا موافقة الاغراض ومخالفتها ، كما لا يخفى ، تأمل تعرف ( منه قدس سره ).


(178)
    ولو سلم فإنما يجدي فيما لو حصل به القطع.
    ولو سلم أنه يجدي ولو لم يحصل ، فإنما يجري فيما لا يكون هناك مجال لاصالة البراءة أو الاشتغال ، كما في دوران الامر بين الوجوب والحرمة التعيينيين ، لا فيما تجري ، كما في محل الاجتماع ، لاصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته ، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الاجزاء والشرائط فإنه لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلا ونقلا.
    نعم لو قيل (1) بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن الغلبة بمحرزة ، فأصالة البراءة غير جارية ، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة ، ولو قيل بأصالة البراءة في الاجزاء والشرائط ، لعدم تأتي قصد القربة مع الشك في المبغوضية ، فتأمل.
    ومنها : الاستقراء ، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار ، وعدم جواز الوضوء من الاناءين المشتبهين.
1 ـ كما هو غير بعيد كله بتقريب أن إحراز المفسدة والعلم بالحرمة الذاتية كاف في تأثيرها بما لها من المرتبة ، ولا يتوقف تأثيرها كذلك على إحرازها بمرتبتها ، ولذا كان العلم بمجرد حرمة شيء موجبا لتنجز حرمته ، على ما هي عليه من المرتبة ولو كانت في أقوى مراتبها ، ولاستحقاق العقوبة الشديدة على مخالفتها حسب شدتها ، كما لا يخفى. هذا ، لكنه إنما يكون إذا لم يحرز أيضا ما يحتمل أن يزاحمها ويمنع عن تأثيرها المبغوضية ، وأما معه فيكون الفعل كما إذا لم يحرز أنه ذو مصلحة أو مفسدة مما لا يستقل العقل بحسنه أو قبحه ، وحينئذ يمكن أن يقال بصحته عبادة لو أتى به بداعي الامر المتعلق بما يصدق عليه من الطبيعة ، بناء على عدم اعتبار أزيد من إتيان العمل قربيا في العبادة ، وامتثالا للامر بالطبيعة ، وعدم اعتبار كونه ذاتا راجحا ، كيف ويمكن أن لا يكون جل العبادات ذاتا راجحا ، بل إنما يكون كذلك فيما إذا أتى بها على نحو قربي ، نعم المعتبر في صحته عبادة ، إنما هو أن لا يقع منه مبغوضا عليه ، كما لا يخفى ، وقولنا : ( فتأمل ) إشارة إلى ذلك ( منه قدس سره ).

(179)
    وفيه : أنه لا دليل على اعتبار الاستقراء ، ما لم يفد القطع.
    ولو سلم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار.
    ولو سلم فليس حرمة الصلاة في تلك الايام ، ولا عدم جواز الوضوء منهما مربوطا بالمقام ، لان حرمة الصلاة فيها إنما تكون لقاعدة الامكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا ، فيحكم بجميع أحكامه ، ومنها حرمة الصلاة عليها لا لاجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى ، هذا لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض ، وإلا فهو خارج عن محل الكلام.
    ومن هنا انقدح أنه ليس منه ترك الوضوء من الاناءين ، فإن حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلا تشريعيا ، ولا تشريع فيما لو توضأ منهما احتياطا ، فلا حرمة في البين غلب جانبها ، فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك ، بل إراقتهما كما في النص (1) ، ليس إلا من باب التعبد ، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحم الاستصحاب ، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الاناء الثانية ، إما بملاقاتها ، أو بملاقاة الاولى ، وعدم استعمال مطهر بعده ، ولو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالاولى.
    نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرد ملاقاتها ، بلا حاجة إلى التعدد وانفصال الغسالة لا يعلم تفصيلا بنجاستها ، وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الاولى أو الثانية إجمالا ، فلا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكمة.
    الامر الثالث : الظاهر لحوق تعدد الاضافات ، بتعدد العنوانات والجهات ، في أنه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا ، في جواز الاجتماع ، كان تعدد الاضافات مجديا ، ضرورة أنه يوجب أيضا
1 ـ التهذيب 1 / الباب 11 ، باب تطهير المياه من النجاسات ، الحديث 43 ـ 44..

(180)
اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلا ، وبحسب الوجوب والحرمة شرعا ، فيكون مثل ( اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ) من باب الاجتماع ( كصل ولا تغصب ) لا من باب التعارض ، إلا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض ، كما هو الحال أيضا في تعدد العنوانين ، فما يتراءى منهم من المعاملة مع مثل ( اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ) معاملة تعارض العموم من وجه ، إنما يكون بناء على الامتناع ، أو عدم المقتضي لاحد الحكمين في مورد الاجتماع.
فصل
    في أن النهي عن الشيء ، هل يقتضي فساده أم لا ؟
    وليقدم أمور :
    الاول : إنه قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة ، وإنه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما ، بما هو جهة البحث في الاخرى ، وإن البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على الفساد بخلاف تلك المسألة ، فإن البحث فيها في أن تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الامر والنهي في مورد الاجتماع أم لا ؟
    الثاني : إنه لا يخفى أن عد هذه المسألة من مباحث الالفاظ ، إنما هو لاجل أنه في الاقوال قول بدلالته على الفاسد في المعاملات ، مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها ، ولا ينافي ذلك أن الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنما تكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة ، وعلى تقدير عدمها تكون منتفية بينهما ، لامكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة ، بما تعم دلالتها بالالتزام ، فلا تقاس بتلك المسألة التي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس ، فتأمل جيدا.
كفاية الاصول ::: فهرس