كفاية الاصول ::: 376 ـ 390
(376)
التبعة والاحكام.
    أما التبعة ، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤديا إليها ، فإنها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار ، إلا أنها منتهية إلى الاختيار ، وهو كاف في صحة العقوبة ، بل مجرد تركهما كاف في صحتها ، وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة ، مع احتماله ، لاجل التجري وعدم المبالاة بها.
    نعم يشكل في الواجب المشروط والمؤقت ، لو أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما ، فضلا عما إذا لم يؤد إليها ، حيث لا يكون حينئذ تكليف فعلي أصلا ، لا قبلهما وهو واضح ، ولا بعدهما وهو كذلك ، لعدم التمكن (1) منه بسبب الغفلة ، ولذا التجأ المحقق الاردبيلي (2) وصاحب المدارك (3) ( قدس سرهما ) إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسيا تهيئيا ، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه لا على ما أدى إليه من المخالفة. فلا إشكال حينئذ في المشروط والمؤقت ، ويسهل بذلك الامر في غيرهما لو صعب على أحد ، ولم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار ، ولا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الاشكال إلا بذلك ، أو الالتزام بكون المشروط أو المؤقت مطلقا معلقا ، لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم ،
1 ـ إلا أن يقال بصحة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقت عند العقلاء إذا تمكن منهما في الجملة ، ولو بأن تعلم وتفحص إذا التفت ، وعدم لزوم التمكن منهما بعد حصول الشرط ودخول الوقت مطلقا ، كما يظهر ذلك من مراجعة العقلاء ومؤاخذتهم العبيد على ترك الواجبات المشروطة أو المؤقتة ، بترك تعلمها قبل الشرط أو الوقت المؤدي إلى تركها بعد حصوله أو دخوله ، فتأمل ( منه قدس سره ).
2 ـ راجع كلامه ( قدس سره ) في مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الاذهان 2 / 110 ، عند قوله : واعلم أيضا أن سبب بطلان الصلاة ... الخ.
3 ـ راجع مدارك الاحكام / 123 ، في مسألة إخلال المصلي بإزالة النجاسة عن بدنه أو ثوبه.


(377)
فيكون الايجاب حاليا ، وإن كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه ، ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.
    وأما لو قيل بعدم الايجاب إلا بعد الشرط والوقت ، كما هو ظاهر الادلة وفتاوى المشهور ، فلا محيص عن الالتزام يكون وجوب التعلم نفسيا ، لتكون العقوبة ـ لو قيل بها ـ على تركه لا على ما أدى إليه من المخالفة ، ولا بأس به كما لا يخفى ، ولا ينافيه ما يظهر من الاخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره لا لنفسه ، حيث أن وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدميا ، بل للتهيؤ لايجابه ، فافهم.
    وأما الاحكام ، فلا إشكال في وجوب الاعادة في صورة المخالفة ، بل في صورة الموافقة أيضا في العبادة ، فيما لا يتأتى منه قصد القربة وذلك لعدم الاتيان بالمأمور به مع عدم دليل على الصحة والاجزاء ، إلا في الاتمام في موضع القصر أو الاجهار أو الاخفات في موضع الآخر ، فورد في الصحيح (1) ـ وقد أفتى به المشهور ـ صحة الصلاة وتماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا ، ولو كان عن تقصير موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها ، لان ما أتى بها وإن صحت وتمت إلا أنها ليست بمأمور بها.
    إن قلت : كيف يحكم بصحتها مع عدم الامر بها ؟ وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها ، حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها ؟ كما هو ظاهر إطلاقاتهم ، بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الاتمام والاخفات وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا ، ضرورة أنه لا تقصير هاهنا يوجب
1 ـ التهذيب 3 / 226 ، الباب 23 الصلاة في السفر ، الحديث / 80 ، وسائل الشيعة 5 / 531 الباب : 17 من أبواب صلاة المسافر الحديث 4.
التهذيب 2 / 162 الباب 9 تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون ، الحديث 93.
ووسائل الشيعة 4 / 766 الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث 1.


(378)
استحقاق العقوبة ، وبالجملة كيف يحكم بالصحة بدون الامر ؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة ؟ لولا الحكم شرعا بسقوطها وصحة ما أتى بها ?
    قلت : إنما حكم بالصحة لاجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها ، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنما لم يؤمر بها لاجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الاكمل والاتم.
    وأما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة فإنها بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها ، ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلا ـ مع تمكنه من التعلم ـ فقد قصر ، ولو علم بعده وقد وسع الوقت.
    فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام ، ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الاخفات ، وإن كان الوقت باقيا.
    إن قلت : على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا ، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.
    قلت : ليس سببا لذلك ، غايته أنه يكون مضادا له ، وقد حققنا في محله (1) أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا.
    لا يقال : على هذا فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا ـ في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما ـ لكانت صلاته صحيحة ، وإن عوقب على مخالفة الامر بالقصر أو الجهر.
    فإنه يقال : لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة
1 ـ مبحث الضد ، في الامر الثاني ، عند دفع توهم المقدمية بين الضدين ص 130.

(379)
ولو مع العلم ، لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل ، ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به ، كما لا يخفى. وقد صار بعض الفحول (1) بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب ، وقد حققناه في محبث الضد امتناع الامر بالضدين مطلقا ، ولو بنحو الترتب ، بما لا مزيد عليه فلا نعيد.
    ثم إنه ذكر (2) لاصل البراءة شرطان آخران :
    أحدهما : أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.
    ثانيهما : أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.
    ولا يخفى أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا محالة تكون جارية ، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية والاباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية ، لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه ، فإن لم يكن مترتبا عليه بل على نفي التكليف واقعا ، فهي وإن كانت جارية إلا أن ذاك الحكم لا يترتب ، لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها ، وهذا ليس بالاشتراط.
    وأما اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر ، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وإن لم يكن مجال فيه لاصالة البراءة ، كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالادلة الاجتهادية ، إلا أنه حقيقة لا يبقى لها مورد ، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا ، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك ، فلابد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي ، لا خصوص قاعدة الضرر ، فتدبر ، والحمد لله على كل حال.
1 ـ وهو كاشف الغطاء ( قدس سره ) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء / 27 في البحث الثامن عشر.
2 ـ ذكرهما الفاضل التوني ( قده ) في الوافية / 79 ، في شروط التمسك بأصالة البراءة.


(380)
    ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار ، وتوضيح مدركها وشرح مفادها ، وإيضاح نسبتها مع الادلة المثبتة للاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية أو الثانوية ، وإن كانت اجنبية عن مقاصد الرسالة ، إجابة لالتماس بعض الاحبة ، فأقول وبه أستعين :
    إنه قد استدل عليها بأخبار كثيرة :
    منها : موثقة زرارة (1) ، عن أبي جعفر عليه السلام : ( إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الانصار ، وكان منزل الانصاري بباب البستان ، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلمه الانصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة ، فجاء الانصاري إلى النبي صلى الله عليه وآله فشكى إليه ، فأخبر بالخبر ، فأرسل رسول الله وأخبره بقول الانصاري وما شكاه ، فقال : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه ، فقال : لك بها عذق في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للانصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنه لا ضرر ولا ضرار ).
    وفي رواية الحذاء (2) عن أبي جعفر عليه السلام مثل ذلك ، ألا أنه فيها بعد الاباء ( ما أراك يا سمرة إلا مضارا ، إذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه ) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة وغيرها (3). وهي كثيرة وقد ادعي (4) تواترها ، مع اختلافها لفظا وموردا ، فليكن المراد به تواترها إجمالا ، بمعنى
1 ـ التهذيب 7 : 146 ، الحديث 36 من باب بيع الماء ، مع اختلاف لا يخل بالمقصود.
الكافي 5 : 292 ، الحديث 2 من باب الضرار.
الفقيه 3 : 147 الحديث 18 من باب المضاربة.
2 ـ الفقيه 3 : 59 الحديث 9 الباب 44 حكم الحريم.
3 ـ الفقيه 3 : 45 الحديث 2 الباب 36 الشفعة.
الكافي 5 : 280 الحديث 4 باب الشفعة.
التهذيب 7 : 164 ، 727.
4 ـ إيضاح الفوائد : فخر المحققين 2 : 48 كتاب الدين ، فصل التنازع.


(381)
القطع بصدور بعضها ، والانصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف ، وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها ، مع أن بعضها موثقة ، فلا مجال للاشكال فيها من جهة سندها ، كما لا يخفى.
    وأما دلالتها ، فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع ، من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال ، تقابل العدم والملكة ، كما أن الاظهر أن يكون الضرار معنى الضرر جيء به تأكيدا ، كما يشهد به إطلاق المضار على سمرة ، وحكي عن النهاية (1) لا فعل الاثنين ، وإن كان هو الاصل في باب المفاعلة ، ولا الجزاء على الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة ، وبالجملة لم يثبت له معنى آخر غير الضرر.
    كما أن الظاهر أن يكون ( لا ) لنفي الحقيقة ، كما هو الاصل في هذا التركيب حقيقة أو ادعاء ، كناية عن نفي الآثار ، كما هو الظاهر من مثل : ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) (2) و ( يا أشباه الرجال ولا رجال ) (3) فإن قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء ، لا نفي الحكم أو الصفة ، كما لا يخفى.
    ونفي الحقيقة ادعاء بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة ، مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.
    وقد انقدح بذلك بعد إرادة نفي الحكم الضرري (4) ، أو الضرر الغير المتدارك (5) ، أو إرادة النهي من النفي جدا (6) ، ضرورة بشاعة استعمال الضرر
1 ـ النهاية لابن الاثير 3 : 81 مادة ضرر. وفيها « الضرار : فعل الاثنين .... وقيل هما بمعنى ، وتكرارهما للتأكيد ».
2 ـ دعائم الاسلام 1 : 148 في ذكر المساجد.
3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 27.
4 ـ التزم به الشيخ في فرائد الاصول / 314 في الشرط الثاني المحكي عن الفاضل التوني من شروط اصالة البراءة ، وكذا في رسالة قاعدة لا ضرر المطبوعة في المكاسب 373.
5 ـ ذهب إليه الفاضل التوني ( ره ) ، الوافية / 79 ، في شروط التمسك بأصالة البراءة.
6 ـ اختاره السيد مير فتاح ، العناوين / 198 ، العنوان العاشر. ومال إليه شيخ الشريعة الاصفهاني ،


(382)
وإرادة خصوص سبب من أسبابه ، أو خصوص الغير المتدارك منه ، ومثله لو أريد ذاك بنحو التقييد ، فإنه وإن لم يكن ببعيد ، إلا أنه بلا دلالة عليه غير سديد ، وإرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز ، إلا أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب ، وعدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد منها ، بعد إمكان حمله على نفيها إدعاء ، بل كان هو الغالب في موارد استعماله.
    ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للافعال بعناوينها ، أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر لا الثابت له بعنوانه ، لوضوح أنه العلة للنفي ، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه.
    ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه وأدلة الاحكام ، وتقدم أدلته على أدلتها ـ مع أنها عموم من وجه ـ حيث أنه يوفق بينهما عرفا ، بأن الثابت للعناوين الاولية إقتضائي ، يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلته ، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الادلة المثبتة أو النافية لحكم الافعال بعناوينها الثانوية ، والادلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الاولية.
    نعم ربما يعكس الامر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء ، بل بنحو العلية التامة.
    وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أولي :
    تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا ، أو بالاضافة إلى عارض دون عارض ، بدلالة لا يجوز الاغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له ، فيقدم دليل ذاك العنوان على دليله.
    وأخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الاغماض عنها بسببه عرفا ، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي ، وأن العارض مانع فعلي ، هذا
قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، 44.

(383)
ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله ، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله ، كما قيل (1).
    ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلا ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين ، وإلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى ، ولا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب ، بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما ، لا من باب التعارض ، لعدم ثبوته إلا في أحدهما ، كما لا يخفى ، هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر.
    وأما لو تعارض مع ضرر آخر ، فمجمل القول فيه أن الدوران إن كان بين ضرري شخص واحد أو إثنين ، فلا مسرح إلا لاختيار أقلهما لو كان ، وإلا فهو مختار.
    وأما لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره ، فالاظهر عدم لزوم تحمله الضرر ، ولو كان ضرر الآخر أكثر ، فإن نفيه يكون للمنة على الامة ، ولا منة على تحمل الضرر ، لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.
    نعم لو كان الضرر متوجها إليه ، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر ، اللهم إلا أن يقال : إن نفي الضرر وإن كان للمنة ، إلا أنه بلحاظ نوع الامة ، واختيار الاقل بلحاظ النوع منة ، فتأمل.
1 ـ التزم الشيخ ( قده ) بحكومة دليل لا ضرر على أدلة العناوين الاولية ، فرائد الاصول 315 ، في الشرط الثاني مما ذكره عن الفاضل التوني من شروط البراءة.

(384)
فصل
    في الاستصحاب : وفي حجيته إثباتا ونفيا أقوال للاصحاب.
    ولا يخفى أن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى ، إلا أنه تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه :
    إما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية مطلقا ، أو في الجملة تعبدا ، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.
    وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الاجماع عليه كذلك ، حسبما تأتي الاشارة إلى ذلك مفصلا.
    ولا يخفى أن هذا المعنى هو القابل لان يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته مطلقا أو في الجملة ، وفي وجه ثبوته ، على أقوال.
    ضرورة أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به الناشئ مع العلم بثبوته ، لما تقابل فيه الاقوال ، ولما كان النفي والاثبات واردين على مورد واحد بل موردين ، وتعريفه بما ينطبق على بعضها ، وإن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه ، إلا أنه حيث لم يكن بحد ولا برسم بل من قبيل شرح الاسم ، كما هو الحال في التعريفات غالبا ، لم يكن له دلالة على أنه نفس


(385)
الوجه ، بل للاشارة إليه من هذا الوجه ، ولذا لا وقع للاشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس ، فإنه لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس.
    فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له ، وما ذكر فيها من الاشكال ، بلا حاصل وطول بلا طائل.
    ثم لا يخفى أن البحث في حجيته (1) مسألة أصولية ، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعية ، وليس مفادها حكم العقل بلا واسطة ، وإن كان ينتهي إليه ، كيف ؟ وربما لا يكون مجرى الاستصحاب إلا حكما أصوليا كالحجية مثلا ، هذا لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا.
    وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ، أو الظن به الناشئ من ملاحظة ثبوته ، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية.
    وكيف كان ، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريف اعتبار أمرين في مورده : القطع بثبوت شيء ، والشك في بقائه ، ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلا مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول ، وهذا مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة.
    وأما الاحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل أم النقل ، فيشكل حصوله فيها ، لانه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء موضوعه ، بسبب تغير بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا أو بقاء ، وإلا لما تخلف (2) الحكم عن موضوعه إلا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى ، ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا.
1 ـ في « ب » : حجية.
2 ـ في « ب » : لا يتخلف.


(386)
    ويندفع هذا الاشكال ، بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما ، وإن كان مما لا محيص عنه في جريانه ، إلا أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه ، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له ، مما يعد بالنظر العرفي من حالاته ـ وإن كان واقعا من قيوده ومقوماته ـ كان جريان الاستصحاب في الاحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها ـ لاجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها ، مما عد من حالاتها لا من مقوماتها ، بمكان من الامكان ، ضرورة [ صحة ] (1) إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبدا ، أو لكونه مظنونا ولو نوعا ، أو دعوى دلالة النص أو قيام الاجماع عليه قطعا ، بلا تفاوت (2) في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا.
    أما الاول فواضح ، وأما الثاني ، فلان الحكم الشرعي المستكشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه ، مما لا يرى مقوما له ، كان مشكوك البقاء عرفا ، لاحتمال عدم دخله فيه واقعا ، وإن كان لا حكم للعقل بدونه قطعا.
    إن قلت : كيف هذا ؟ مع الملازمة بين الحكمين.
    قلت : ذلك لان الملازمة إنما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف لا في مقام الثبوت ، فعدم استقلال العقل إلا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال ، وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل ، كان على حاله في كلتا الحالتين ، وإن لم يدركه إلا في إحداهما ، لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه ، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا ، وإن كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك.
    وبالجملة : حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا ، لا ما هو
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ إشارة إلى تضعيف تفصيل الشيخ ( قده ) ، فرائد الاصول / 325.


(387)
مناط حكمه فعلا ، وموضوع حكمه كذلك مما لا يكاد يتطرق إليه الاهمال والاجمال ، مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا ، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعا ، فرب خصوصية لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله ، فبدونها لا استقلال له بشيء قطعا ، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا. ومعه يحتمل بقاء حكم الشرع جدا لدورانه معه وجودا وعدما ، فافهم وتأمل جيدا.
    ثم إنه لا يخفى اختلاف آراء الاصحاب في حجية الاستصحاب مطلقا ، وعدم حجيته كذلك ، والتفصيل بين الموضوعات والاحكام ، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي ، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة ، على أقوال شتى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها ، وإنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها ، وهو الحجية مطلقا ، على نحو يظهر بطلان سائرها ، فقد استدل عليه بوجوه :
    الوجه الاول : استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا.
    وفيه : أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا ، بل إما رجاء واحتياطا ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا ولو نوعا ، أو غفلة كما هو الحال في سائر الحيوانات دائما وفي الانسان أحيانا.
    وثاينا : سلمنا ذلك ، لكنه لم يعلم أن الشارع به راض وهو عنده ماض ، ويكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم ، وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات ، فلا وجه لاتباع هذا البناء فيما لابد في اتباعه من الدلالة على إمضائه ، فتأمل جيدا.


(388)
    الوجه الثاني (1) : إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق. وفيه : منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلا ولا نوعا ، فإنه لا وجه له أصلا إلا كون الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم ، وهو غير معلوم ، ولو سلم ، فلا دليل على اعتباره بالخصوص ، مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم.

    الوجه الثالث : دعوى الاجماع عليه ، كما عن المبادئ (2) حيث قال :
    ( الاستصحاب حجة ، لاجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم ، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا ؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا ، ولو لا القول بأن الاستصحاب حجة ، لكان ترجيحا لاحد طرفي الممكن من غير ) مرجح ، انتهى. وقد نقل عن غيره (3) أيضا.
    وفيه : إن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة في غاية الاشكال ، ولو مع الاتفاق ، فضلا عما إذا لم يكن وكان مع الخلاف من المعظم ، حيث ذهبوا إلى عدم حجيته مطلقا أو في الجملة ، ونقله موهون جدا لذلك ، ولو قيل بحجيته لولا ذلك.

    الوجه الرابع : وهو العمدة في الباب ، الاخبار المستفيضة.
    منها : صحيحة زرارة (4) ( قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ،
1 ـ راجع شرح مختصر الاصول / 453.
2 ـ مبادئ الاصول / 250 ، ونظير هذا ما عن النهاية على ما حكاه الشيخ ـ قدس سره ـ فرائد الاصول / 329.
3 ـ راجع معالم الاصول / 231 ، الدليل الرابع.
4 ـ التهذيب 1 / 8 الباب 1 ح 11 ، باختلاف يسير في اللفظ.


(389)
أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ قال : يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، وإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء ، قلت : فإن حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، قال : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، ولكنه ينقضه بيقين آخر ).
    وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أن إضمارها لا يضر باعتبارها ، حيث كان مضمرها مثل زرارة ، وهو ممن لا يكاد يستفتي من غير الامام ـ عليه السلام ـ لا سيما مع هذا الاهتمام.
    وتقريب الاستدلال بها أنه لا ريب في ظهور قوله عليه السلام : ( وإلا فإنه على يقين .. إلى آخره ) عرفا في النهي عن نقض اليقين بشيء بالشك فيه ، وأنه عليه السلام بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله عليه السلام : ( لا ) في جواب : ( فإن حرك في جنبه ... إلى آخره ) ، وهو اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية الغير المختصة بباب دون باب ، واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله : ( فإنه على يقين ... إلى آخره ) غير سديد ، فإنه لا يصح إلا بارادة لزوم العمل على طبق يقينه ، وهو إلى الغاية بعيد ، وأبعد منه كون الجزاء قوله : ( لا ينقض .. إلى آخره ) وقد ذكر : ( فإنه على يقين ) للتمهيد.
    وقد انقدح بما ذكرنا ضعف احتمال اختصاص قضية : ( لا تنقض ... إلى آخره ) باليقين والشك بباب الوضوء جدا ، فإنه ينافيه ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي قطعا ، ويؤيده تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في غير هذه الرواية بهذه القضية أو ما يرادفها ، فتأمل جيدا. هذا.
    مع أنه لا موجب لاحتماله إلا احتمال كون اللام في اليقين للعهد ، إشارة إلى اليقين في ( فإنه على يقين من وضوئه ) مع أن الظاهر أنه للجنس ، كما هو


(390)
الاصل فيه ، وسبق : ( فإنه على يقين ... إلى آخره ) لا يكون قرينة عليه ، مع كمال الملاءمة مع الجنس أيضا ، فافهم.
    مع أنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء ، لقوة احتمال أن يكون ( من وضوئه ) متعلقا بالظرف لا ب‍ ( يقين ) ، وكان المعنى : فإنه كان من طرف وضوئه على يقين ، وعليه لا يكون الاوسط (1) إلا اليقين ، لا اليقين بالوضوء ، كما لا يخفى على المتأمل.
    وبالجملة : لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين والشك ، خصوصا بعد ملاحظة تطبيقها في الاخبار على غير الوضوء أيضا.
    ثم لا يخفى حسن اسناد النقض ـ وهو ضد الابرام ـ إلى اليقين ، ولو كان متعلقا بما ليس فيه اقتضاء للبقاء والاستمرار ، لما يتخيل فيه من الاستحكام بخلاف الظن ، فإنه يظن أنه ليس فيه إبرام واستحكام وإن كان متعلقا بما فيه اقتضاء ذلك ، وإلا لصح أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له ، مع ركاكة مثل ( نقضت الحجر من مكانه ) ولما صح أن يقال : ( انتقض اليقين باشتعال السراج ) فيما إذا شك في بقائه للشك في استعداده ، مع بداهة صحته وحسنه.
    وبالجملة : لا يكاد يشك في أن اليقين كالبيعة والعهد إنما يكون حسن إسناد النقض إليه بملاحظته لا بملاحظة متعلقة ، فلا موجب لارادة ما هو أقرب إلى الامر المبرم ، أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء لقاعدة ( إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات ) بعد تعذر إرادة مثل ذاك الامر مما يصح إسناد النقض إليه حقيقة.
    فإن قلت : نعم ، ولكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة ، فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما صح إسناد الانتقاض إليه بوجه
1 ـ كذا صححه في « ب » وفي « أ » : الاصغر.
كفاية الاصول ::: فهرس