كفاية الاصول ::: 361 ـ 375
(361)
عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.
    فإنه يقال : حيث أن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ، كان التكليف المتعلق به مطلقا ، فإذا اشتغلت الذمة به ، كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه ، فإنه من حدود التكليف به وقيوده ، ولا يكون الاشتغال به من الاول إلا مقيدا بعدم عروضه ، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعايته فيما بعده ، ولا يكون إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية ، فافهم وتأمل فإنه دقيق جدا.
    الثاني : إنه لما كان النهي عن الشيء (1) إنما هو لاجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه ، لو لم يكن له داع آخر ـ ولا يكاد يكون ذلك إلا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به ، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها ، فليس للنهي عنه موقع أصلا ، ضرورة أنه بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل ـ كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لابد منه في تأثير العلم ، فإنه بدونه لا علم بتكليف فعلي ، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.
    ومنه قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا ، هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطلاعه على ما هو عليه من الحال ، ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة ، لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب (2) ، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلا فيما إذا شك في التقييد بشيء (3) بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه ، لا فيما شك في اعتباره في صحته ، تأمل (4) لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.
1 ـ كما أنه إذا كان فعل الشيء الذي كان متعلقا لغرض المولى مما لا يكاد عادة أن يتركه العبد ، وأن لا يكون له داع إليه ، لم يكن للامر به والبعث إليه موقع أصلا ، كما لا يخفى ( منه قدس سره ).
2 ـ تعريض بما قد يظهر من الشيخ ، فرائد الاصول / 252.
3 ـ هكذا صححه المصنف في « ب » ، وفي « أ » : به.
4 ـ نعم لو كان الاطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء ـ لو لم يكن هناك ابتلاء مصحح للتكليف ـ


(362)
    الثالث : إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم ، لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة.
    نعم ربما تكون كثرة الاطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها أو ارتكابه ، أو ضرر فيها أو غيرهما مما لا يكون معه التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا ، وليس بموجبة لذلك في غيره ، كما أن نفسها ربما يكون موجبة لذلك ولو كانت قليلة في مورد آخر ، فلابد من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالاجمال أنه يكون أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون مع كثرة أطرافه وملاحظة أنه مع أية مرتبة من كثرتها كما لا يخفى.
    ولو شك في عروض الموجب ، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان ، وإلا فالبراءة لاجل الشك في التكليف الفعلي ، هذا هو حق القول في المقام ، وما قيل (1) في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف.
    الرابع : إنه إنما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الاطراف ، مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها ، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوما بحكمه واقعا.
    ومنه ينقدح الحال في المسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالاجمال ، وأنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه ، فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها ، فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس في البين قطعا ، ولو لم يجتنب عما يلاقيه ، فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فردا آخر من النجس ، قد شك في وجوده ، كشيء آخر شك في نجاسته بسبب آخر.
كان الاطلاق وعدم بيان التقييد دالا على فعليته ، ووجود الابتلاء المصحح لهما ، كما لا يخفى ، فافهم ( منه قدس سره ).
1 ـ راجع فرائد الاصول / 260 ـ 262.


(363)
    ومنه ظهر أنه لا مجال لتوهم (1) أن قضية الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا ، ضرورة أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه ، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وإن احتمل.
    وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه ، فيما لو علم إجمالا نجاسته أو نجاسة شيء آخر ثم حدث ( العلم ب‍ ) (2) الملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشيء أيضا ، فإن حال (3) الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي ، وأنه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا ، لا إجمالا ولا تفصيلا ، وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الاجمالي ، ولكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده.
    وثالثة يجب الاجتناب عنهما ، فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة ، ضرورة أنه حينئذ نعلم إجمالا : إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى ، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين ، وهو الواحد أو الاثنان (4).
    المقام الثاني : ( في دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ).
    والحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف بينهما ـ أيضا ـ يوجب الاحتياط عقلا بإتيان الاكثر ، لتنجزه به حيث تعلق بثبوته فعلا.
1 ـ جعل الشيخ هذا التوهم أحد الاحتمالين في المسألة ، مستشهدا له بكلام السيد أبي المكارم في الغنية ولم نعثر عليه في الغنية ، نعم استدل أبو المكارم بايتي تحريم الخبائت وتحريم الميتة ، ولكن يظهر ما ذكره الشيخ من كلام السيد المرتضى في الناصريات ، للمزيد راجع فرائد الاصول 252 والغنية ( الجوامع الفقهية 489 ) والناصريات ( الجوامع الفقهية 214 ).
2 ـ أثبتناها من « ب ».
3 ـ وإن لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه إلا من ملاقاته ، ( منه قدس سره ).
4 ـ في نسختي « أ و ب » الاثنين.


(364)
    وتوهم (1) انحلاله إلى العلم بوجوب الاقل تفصيلا والشك في وجوب الاكثر بدوا ـ ضرورة لزوم الاتيان بالاقل لنفسه شرعا ، أو لغيره كذلك أو عقلا ، ومعه لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالاكثر ـ فاسد قطعا ، لاستلزام الانحلال المحال ، بداهة توقف لزوم الاقل فعلا إما لنفسه أو لغيره على تنجزه إلا إذا كان متعلقا بالاقل كان خلفا ، مع أنه يلزم من وجوده عدمه ، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزم لعدم لزوم الاقل مطلقا ، المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.
    نعم إنما ينحل إذا كان الاقل ذا مصلحة ملزمة ، فإن وجوبه حينئذ يكون معلوما له ، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الاكثر ذا مصلحتين ، أو مصلحة أقوى من مصلحة الاقل ، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام ، إلا أنه خارج عما هو محل النقض والابرام في المقام. هذا.
    مع أن الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز إلا بالاكثر ، بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الاوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، وكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية ، وقد مر (2) اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في إطاعة الامر وسقوطه ، فلابد من إحرازه في إحرازها ، كما لا يخفى.
    ولا وجه للتفصي عنه (3) : تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية ، وجريانها على ما ذهب إليه الاشاعرة المنكرين (4) لذلك ، أو
1 ـ تعريض بالشيخ ( قدس سره ) ، راجع فرائد الاصول / 274.
2 ـ في المبحث الخامس من الفصل الثاني من المقصد الاول في الاوامر حيث قال : وإن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد له وجه إلا عدم حصول غرضه .. إلخ.
3 ـ رد على الشيخ ، أنظر فرائد الاصول / 273.
4 ـ في نسخ « أ » و « ب ». المنكرين ... المكتفين ، والصحيح ما اثبتناه.


(365)
بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به.
    وأخرى بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها على وجه الامتثال ، وحينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا ـ ليؤتى بها مع قصد الوجه ـ مجال ، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الامر ، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به ، فإنه واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا ، لتنجزه بالعلم به إجمالا. وأما الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته ، فإن العقوبة عليه بلا بيان.
    وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة ـ على مذهب الاشعري ـ لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية ، بل من ذهب إلى ما عليه غير المشهور ، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر ومصلحته ـ على هذا المذهب أيضا ـ هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا ، فافهم.
    وحصول اللطف والمصلحة في العبادة ، وإن كان يتوقف على الاتيان بها على وجه الامتثال ، إلا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء وإتيانها على وجهها ، كيف ؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا كما في المتباينين ، ولا يكاد يمكن مع اعتباره. هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك ، والمراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به ، هو وجه نفسه من وجوبه النفسي ، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيري أو وجوبها العرضي ، وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان الاكثر بمكان من الامكان ، لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الاقل ، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه.
    واحتمال اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر ، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله ، بلا تمييز ماله دخل في الواجب من أجزائه ، لاسيما إذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيته وجزءا لفرده ، حيث ينطبق الواجب على المأتي


(366)
حينئذ بتمامه وكماله ، لان الطبيعي يصدق على الفرد بمشخصاته.
    نعم ، لو دار بين كونه جزءا أو مقارنا لما كان منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن جزءا ، لكنه غير ضائر لانطباقه عليه أيضا فيما لم يكن ذاك الزائد جزء غايته ، لا بتمامه بل بسائر أجزائه هذا.
    مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس مما يقطع بخلافه ، مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لابد أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات ، مع أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد والاحتمال ، فلا وجه معه للزوم مراعاة الامر المعلوم أصلا ، ولو بإتيان الاقل لو لم يحصل الغرض ، وللزم الاحتياط بإتيان الاكثر مع حصوله ، ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ، لاحتمال بقائه مع الاقل بسبب بقاء غرضه ، فافهم.
    هذا بحسب حكم العقل.
    وأما النقل (1) فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته ، فبمثله يرتفع الاجمال والتردد عما تردد أمره بين الاقل والاكثر ، ويعينه في الاول.
    لا يقال (2) : إن جزئية السورة المجهولة (3) ـ مثلا ـ ليست بمجعولة وليس لها أثر مجعول ، والمرفوع بحديث رافع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره ، ووجوب الاعادة
1 ـ لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط ، وهو ما إذا علم إجمالا بالتكليف الفعلي ، ضرورة أنه ينافيه دفع الجزئية المجهولة ، وإنما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك ، بل علم مجرد ثبوته واقعا ، وبالجملة الشك في الجزئية والشرطية وإن كان جامعا بين الموردين ، إلا أن مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية ، ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالايجاب ، فافهم ( منه قدس سره ).
2 ـ القائل هو الشيخ الانصاري ( قدس سره ) ، فرائد الاصول / 278.
3 ـ هكذا صححه في « ب » وفي « أ » : المنسية.


(367)
إنما هو أثر بقاء الامر الاول بعد العلم (1) مع أنه عقلي ، وليس إلا من باب وجوب الاطاعة عقلا.
    لانه يقال : إن الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها ، إلا أنها مجعولة بمنشأ انتزاعها ، وهذا كاف في صحة رفعها.
    لا يقال : إنما يكون ارتفاع الامر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه ، إلا أن نسبة حديث الرفع ـ الناظر إلى الادلة الدالة على بيان الاجزاء ـ إليها نسبة الاستثناء ، وهو معها يكون دالة على جزئيتها إلا مع الجهل بها ، كما لا يخفى ، فتدبر جيدا.
    وينبغي التنبيه على أمور :
    الاول : إنه ظهر مما مر حال دوران الامر بين المشروط بشيء ومطلقه ، وبين الخاص كالانسان وعامه كالحيوان ، وأنه لا مجال ها هنا للبراءة عقلا ، بل كان الامر فيهما أظهر ، فإن الانحلال المتوهم في الاقل والاكثر لا يكاد يتوهم هاهنا ، بداهة أن الاجزاء التحليلية لا يكاد يتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا ، فالصلاة ـ مثلا ـ في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها ، وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها ، كما لا يخفى.
    نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الامر بين المشروط وغيره ، دون دوران الامر (3) بين الخاص وغيره ، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته ، وليس كذلك خصوصية الخاص ، فإنها إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص ، فيكون الدوران بينه و ( بين ) (4) غيره من قبيل الدوران بين
1 ـ في « أ » : التذكر.
2 ـ في « أ » : مع نسيانها.
3 ـ في « أ » : دون الدوران بين ... إلخ.
4 ـ اثبتناها من « ب ».


(368)
المتباينين ، فتأمل جيدا.
    الثاني : إنه لا يخفى أن الاصل فيما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في حال نسيانه عقلا ونقلا ، ما ذكر في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية ، فلولا مثل حديث الرفع (1) مطلقا ولا تعاد (2) في الصلاة لحكم (3) عقلا بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسيانا ، كما هو الحال فيما ثبت شرعا جزئيته أو شرطيته مطلقا نصا أو إجماعا.
    ثم لا يذهب عليك أنه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل حديث الرفع ، كذلك يمكن تخصيصهما (4) بهذا الحال بحسب الادلة الاجتهادية ، كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقا ، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر ، أو وجه إلى الناسي خطاب يخصه بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص ، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان ، لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة ، كما توهم (5) لذلك استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر وإيجاب العمل الخالي عن المنسي على الناسي ، فلا تغفل.
    الثالث : إنه ظهر ـ مما مر ـ حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا أو شطرا في الواجب ـ مع عدم اعتباره في جزئيته ، وإلا لم يكن من زيادته بل من نقصانه ـ وذلك لاندراجه في الشك في دخل شيء فيه جزءا أو شرطا ، فيصح لو أتى به مع الزيادة عمدا تشريعا أو جهلا قصورا أو تقصيرا أو سهوا ، وإن استقل العقل
1 ـ الخصال 2 / 417 ، الحديث 9 والفقيه 1 / 36 الحديث 4.
2 ـ الفقيه 1 / 225 ، أحكام السهو الحديث 8 ، الفقيه 1 / 181 ، في القبلة / الحديث 17 ، والتهذيب 2 / 52 ، ب 9 / الحديث 55.
3 ـ في « ب » : يحكم.
4 ـ في « ب » : تخصيصها.
5 ـ المتوهم هو الشيخ ( قدس سره ) ، فرائد الاصول / 286.


(369)
لولا النقل بلزوم الاحتياط ، لقاعدة الاشتغال.
    نعم لو كان عبادة وأتى به كذلك ، على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه ، لكان باطلا مطلقا أو في صورة عدم دخله فيه ، لعدم قصد الامتثال في هذه الصورة ، مع استقلال العقل بلزوم الاعادة مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال.
    وأما لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أي حال كان صحيحا ، ولو كان مشرعا في دخله الزائد فيه بنحو ، مع عدم علمه بدخله ، فإن تشريعه في تطبيق المأتي مع المأمور به ، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرب به على كل حال.
    ثم إنه ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة ، وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عما هو المهم في المقام ، ويأتي (1) تحقيقه في مبحث الاستصحاب ، إن شاء الله تعالى.
    الرابع : إنه لو علم بجزئية شيء أو شرطيته في الجملة ، ودار ( الامر ) (2) بين أن يكون جزءا أو شرطا مطلقا ولو في حال العجز عنه ، وبين أن يكون جزءا أو شرطا في خصوص حال التمكن منه ، فيسقط الامر بالعجز عنه على الاول ، لعدم القدرة حينئذ على المأمور به ، لا على الثاني فيبقى متعلقا بالباقي ، ولم يكن هناك ما يعين أحد الامرين ، من إطلاق دليل اعتباره جزءا أو شرطا ، أو إطلاق دليل المأمور به مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله ، لاستقل العقل بالبراءة عن الباقي ، فإن العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان.
    لا يقال : نعم ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكن منه.
    فإنه يقال : إنه لا مجال ها هنا لمثله ، بداهة أنه ورد في مقام الامتنان ،
1 ـ الظاهر انه ( قدس سره ) لم يف بوعده ، وللمزيد راجع نهاية الدراية 2 / 288.
2 ـ اثبتناها من « ب ».


(370)
فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته.
    نعم ربما يقال (1) : بأن قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي في حال التعذر أيضا.
    ولكنه لا يكاد يصح إلا بناء على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي ، أو على المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب ، وكان ما تعذر مما يسامح به عرفا ، بحيث يصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي ، وارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه ، ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام (2).
    كما أن وجوب الباقي في الجملة ربما قيل (3) بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) (4) وقوله : ( الميسور لا يسقط بالمعسور ) (5) وقوله : ( ما لا يدرك كله لا يترك كله ) (6) ودلالة الاول مبنية على كون كلمة ( من ) تبعيضية ، لا بيانية ، ولا بمعنى الباء ، وظهورها في التبعيض وإن كان مما لا يكاد يخفى ، إلا أن كونه بحسب الاجزاء غير واضح ، لاحتمال أن يكون بلحاظ الافراد ، ولو سلم فلا محيص عن أنه ـ هاهنا ـ بهذا اللحاظ يراد ، حديث ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أمره به ، فقد روي أنه خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (7) ، فقال : ( إن الله كتب
1 ـ راجع فرائد الاصول / 294.
2 ـ سيأتي في مبحث الاستصحاب / 425.
3 ـ راجع فرائد الاصول / 294.
4 ـ عوالي اللآلي 4 / 58 ، مع اختلاف يسير.
5 ـ عوالي اللآلي 4 / 58 ، باختلاف يسير.
6 ـ عوالي اللآلي 4 / 58 ، باختلاف يسير.
7 ـ راجع مجمع البيان 2 : 250 ، في ذيل الآية 101 من سورة المائدة والتفسير الكبير للفخر الرازي 12 : 106 وأنوار التنزيل للبيضاوي 1 : 294 ، وفي الاخير فقام سراقة بن مالك.


(371)
عليكم الحج ، فقام عكاشة (1) ـ ويروى سراقة بن مالك (2) ـ فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك ، وما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم ، لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم ، وإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ).
    ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضاً ، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها ، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها. هذا.
    مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما ، لعدم اختصاصه بالواجب ، ولا مجال لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم ، إلا أن يكون المراد عدم سقوطه بماله من الحكم وجوبا كان أو ندبا ، بسبب سقوطه عن المعسور ، بأن يكون قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه ، حيث إن الظاهر من مثله هو ذلك ، كما أن الظاهر من مثل ( لا ضرر ولا ضرار ) (3) هو نفي ماله من تكليف أو وضع ، لا أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف كي لا يكون له دلالة
1 ـ عكاشة بن محصن بن حرثان ، شهد بدرا مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم لم يزل عنده يشهد المشاهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى قتل في قتال أهل الردة ، كان عمره عند وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أربعا وأربعين سنة. ( تهذيب الاسماء 1 : 338. رقم 418 )
2 ـ سراقة بن مالك بن جعشم الكناني المدلجي ، كنيته أبو سفيان ، له صحبة ، كان يسكن قديد ، مات بعد عثمان ، روى عنه سعيد بن المسيب وأبو رشدين وعبد الرحمن بن مالك. ( الجرح والتعديل 4 : 308 رقم 1342 ).
3 ـ الكافي 5 / 293 ، كتاب المعيشة باب الضرار ، الحديث 6.
و : الكافي 5 / 280 ، كتاب المعيشة باب الشفعة ، الحديث 4.
و : التهذيب 7 / 164 ، باب الشفعة ، الحديث 4.


(372)
على جريان القاعدة في المستحبات على وجه ، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر ، فافهم.
    وأما الثالث ، فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الافرادي ، لا دلالة له إلا على رجحان الاتيان بباقي الفعل المأمور به ـ واجبا كان أو مستحبا ـ عند تعذر بعض أجزائه ، لظهور الموصول فيما يعمهما ، وليس ظهور ( لا يترك ) في الوجوب ـ لو سلم ـ موجبا لتخصيصه بالواجب ، لو لم يكن ظهوره في الاعم قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي ، وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا ، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام.
    ثم إنه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا ، كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط أيضا ، لصدقه حقيقة عليه مع تعذره عرفا ، كصدقه عليه كذلك مع تعذر الجزء في الجملة ، وإن كان فاقد الشرط مباينا للواجد عقلا ، ولاجل ذلك ربما لا يكون الباقي ـ الفاقد لمعظم الاجزاء أو لركنها ـ موردا لها فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا ، وإن كان غير مباين للواجد عقلا.
    نعم ربما يلحق به شرعا مالا يعد بميسور عرفا بتخطئة للعرف ، وإن عدم العد كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد ، من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد ، أو بمعظمه في غير الحال ، وإلا عد أنه ميسوره ، كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك ـ أي للتخطئة ـ وأنه لا يقوم بشيء من ذلك.
    وبالجملة : ما لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الاطلاق ، ويستكشف منه أن الباقي قائم بما يكون الامور به قائما بتمامه ، أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب واستحبابه في المستحب ، وإذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الاول ، وتشريكا في الحكم ، من دون الاندراج في


(373)
الموضوع في الثاني ، فافهم.
    تذنيب : لا يخفى أنه إذا دار الامر بين جزئية شيء أو شرطيته ، وبين مانعيته أو قاطعيته ، لكان من قبيل المتباينين ، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين ، لامكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين ، مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى ، كما هو أوضح من أن يخفى.


(374)
خاتمة : في شرائط الاصول
    أما الاحتياط : فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ، بل يحسن على كل حال ، إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام ، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقا ولو كان موجبا للتكرار فيها ، وتوهم (1) كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى ـ وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة ـ فاسد ، لوضوح أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي ، مع أنه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال ، وإن كان لاغيا في كيفية امتثاله ، فافهم.
    بل يحسن أيضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف لئلا يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته ، من المفسدة وفوت المصلحة. وأما البراءة العقلية : فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف ، لما مرت (2) الاشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلا بعدهما.
    وأما البراءة النقلية : فقضية إطلاق أدلتها وإن كان هو عدم اعتبار
1 ـ المتوهم هو الشيخ ( قده ) راجع فرائد الاصول ، ص 299.
2 ـ في الاستدلال على البراءة بالدليل القطعي ، ص 343.


(375)
الفحص في جريانها ، كما هو حالها في الشبهات الموضوعية ، إلا أنه استدل (1) على اعتباره بالاجماع وبالعقل ، فإنه لا مجال لها بدونه ، حيث يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به.
    ولا يخفى أن الاجماع هاهنا غير حاصل ، ونقله لوهنه بلا طائل ، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل ، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل ـ لولا الكل ـ هو ما ذكر من حكم العقل ، وأن الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز ، إما لانحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، أو لعدم الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ، ولو لعدم الالتفات إليها.
    فالاولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات (2) والاخبار (3) على وجوب التفقة والتعلم ، والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم ، بقوله تعالى كما في الخبر (4) : ( هلا تعلمت ) فيقيد بها أخبار البراءة ، لقوة ظهورها في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا ، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الاخبار على ما إذا علم إجمالا ، فافهم.
    ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة ، فلا تغفل.
    ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من
1 ـ راجع فرائد الاصول / 300 و 301.
2 ـ التوبة : 122 والنحل : 43.
3 ـ الفقيه 6 / 277 ، الباب 176 ذيل الحديث 10 ـ الكافي 1 / كتاب 2 / احاديث الباب 1.
4 ـ الامالي للشيخ / 9 ـ الصافي / 555.
كفاية الاصول ::: فهرس