كفاية الاصول ::: 346 ـ 360
(346)
    ويؤيده أنه لو لم يكن للارشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا ، مع أنه آب عن التخصيص قطعا ، كيف لا يكون قوله : ( قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ) للارشاد ؟ مع أن المهلكة ظاهرة في العقوبة ، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط ، فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة ؟
    لا يقال : نعم ، ولكنه يستكشف منه (1) على نحو الان إيجاب الاحتياط من قبل ، ليصح به العقوبة على المخالفة.
    فإنه يقال : إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة ، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان ، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، فتأمل جيدا.
    وأما العقل : فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ، حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته ، مما لم يكن هناك حجة على حكمه ، تفريغا للذمة بعد اشتغالها ، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الاصحاب.
    والجواب : إن العقل وإن استقل بذلك ، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، وقد انحل هاهنا ، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالا ، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد ، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والاصول العملية.
1 ـ في « ب » : عنه.

(347)
    إن قلت : نعم ، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالتكاليف (1).
    قلت : إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا ، وأما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولا ، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.
    إن قلت : إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا ، وأما بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا ، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه ، فلا انحلال لما علم بالاجمال أولا ، كما لا يخفى.
    قلت : قضية الاعتبار شرعا ـ على اختلاف ألسنة أدلته ـ وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث ، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الاطراف يكون عقلا بحكم الانحلال ، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الاطراف ، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الاناءين وقامت البينة على أن هذا إناؤه ، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر ، ولولا ذلك لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية ، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث ، وهو كونها مؤديات الامارات الشرعية.
    هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال ، وإلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال. كما لا يخفى.
    وربما استدل بما قيل (2) : من استقلال العقل بالحظر في الافعال الغير الضرورية قبل الشرع ، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله ، لا به ولا بالاباحة ،
1 ـ في « أ » : بالواجبات.
2 ـ قرر الشيخ ( قده ) هذا الوجه العقلي بقوله : « الوجه الثاني » ، فرائد الاصول / 214.


(348)
ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته ، فإن ما دل على الاباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.
    وفيه أولا : إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال ، وإلا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الافعال على الاباحة.
    وثانيا : إنه ثبت الاباحة شرعا ، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط ، للمعارضة لما دل عليها.
    وثالثا : أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة ، للقول بالاحتياط في هذه المسألة ، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وما قيل (1) ـ من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة ـ ممنوع ، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا ، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر ، والمفسدة فيما فيه المنفعة ، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا ، مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا ، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره ، مع القطع به فضلا عن احتماله.
    بقي أمور مهمة لا بأس بالاشارة إليها :
    الاول : إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقا ولو كان موافقا لها ، فإنه معه لا مجال لها أصلا ، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه (2) فلا تجري ـ مثلا ـ أصالة الاباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في
1 ـ القائل هو شيخ الطائفة ، عدة الاصول / 117.
2 ـ يأتي تحقيق الورود في خاتمة الاستصحاب ـ حقائق ـ 2 / 256.


(349)
قبوله التذكية ، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية ، فأصالة عدم التذكية تدرجه (1) فيما لم يذك وهو حرام إجماعا ، كما إذا مات حتف أنفه ، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا ، ضرورة كفاية كونه مثله حكما ، وذلك بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الاوداج [ الاربعة ] (2) مع سائر شرائطها ، عن خصوصية في الحيوان التي بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية ، ومع الشك في تلك الخصوصية فالاصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها ، كما لا يخفى.
    نعم لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية ، فأصالة الاباحة فيه محكمة ، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام ، ولا أصل فيه إلا أصالة الاباحة ، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام.
    هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية ، كما إذا شك ـ مثلا ـ في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها ، أم لا ؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة ، ومعها لا مجال لاصالة عدم تحققها ، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها ، فالاصل أنه كذلك بعده.
    ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان ، وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لاجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا ، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه ، فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.
    الثاني : إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو (3) التحريمية في العبادات وغيرها ، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما
1 ـ في « أ » : تدرجها.
2 ـ أثبتناها من « ب ».
3 ـ في « أ » : و.


(350)
إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي.
    وربما يشكل (1) في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر بين الوجوب وغير الاستحباب ، من جهة أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا.
    وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال ، ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الامر به شرعا ، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه ، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته ؟
    وانقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الامر به من جهة ترتب الثواب عليه ، ضرورة أنه فرع إمكانه ، فكيف يكون من مبادئ جريانه ؟
    هذا مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الامر به بنحو اللم ، ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الان ، بل يكون حاله في ذلك حال الاطاعة ، بإنه نحو من الانقياد والطاعة.
    وما قيل (2) في دفعه : من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة.
    فيه : مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها ، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة ، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا ، والعقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط ، والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه.
    نعم ، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة ، لما
1 ـ ذكر الشيخ هذا الاشكال في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة من جهة عدم النص ، فرائد الاصول / 228.
2 ـ ذكره الشيخ في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة ، فرائد الاصول / 229.


(351)
كان محيص عن دلالته اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى ، بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة ، كما لا يخفى أنه التزام بالاشكال وعدم جريانه فيها ، وهو كما ترى.
    قلت : لا يخفى أن منشأ الاشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها ، مما يتعلق بها الامر المتعلق بها ، فيشكل جريانه حينئذ ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها (1) ، وقد عرفت أنه فاسد (2) ، وإنما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لاجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه.
    وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الامكان ، ضرورة التمكن من الاتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله ، غاية الامر أنه لابد أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقربا ، بأن يؤتى به بداعي احتمال الامر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى ، فيقع حينئذ على تقدير الامر به امتثالا لامره تعالى ، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى ، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد.
    وقد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها (3) ،
1 ـ هكذا صححه في « ب » ، وفي « أ » : لعدم التمكن من إتيان جميع ما اعتبر فيها ... إلخ.
2 ـ راجع ص 72 في المقدّمة الثانية من مبحث التعبدي والتوصلي.
3 ـ هذا مع أنه لو أغمض عن فساده ، لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الاشكال فيها ، فكما يلتزم في دفعه بتعدد الامر فيها ، ليتعلق أحدهما بنفس الفعل والآخر بإتيانه بداعي أمره ، كذلك فيما احتمل وجوبه منها ، كان على هذا احتمال أمرين كذلك ، أي أحدهما كان متعلقا بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذاك الامر ، فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله ، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجبا ، وانقيادا لو لم يكن كذلك.
نعم كان بين الاحتياط ها هنا وفي التوصليات فرق ، وهو أن المأتي به فيها قطعا كان موافقا لما احتمل وجوبه مطلقا ، بخلافه هاهنا ، فإنه لا يوافق إلا على تقدير وجوبه واقعا ، لما عرفت من عدم كونه عبادة إلا على هذا التقدير ، ولكنه ليس بفارق لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه ، وكونه واجبا. ودعوى عدم كفاية الاتيان برجاء الامر في صيرورته عبادة أصلا ـ ولو على هذا التقدير ـ مجازفة ، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالا لامره على نحو العبادة لو كان ، وهو الحاكم في باب الاطاعة والعصيان ، فتأمل جيدا ( منه قدس سره ).
4 ـ خلافا لما يظهر من الشيخ في بداية كلامه ، فرائد الاصول / 228.


(352)
بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء ، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها ، كما لا يخفى.
    فظهر أنه لو قيل (1) بدلالة أخبار (2) ( من بلغه ثواب ) على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف ، لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف ، بل كان عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه.
    لا يقال : هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه ، وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان ، بل بعنوان أنه محتمل الثواب ، لكانت دالة على استحباب الاتيان به بعنوان الاحتياط ، كأوامر الاحتياط ، لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الارشادي.
    فإنه يقال : إن الامر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا ، مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط ، ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه آنفا.
    ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الاخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب ، فإن صحيحة (3) هشام بن سالم المحكية عن المحاسن ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : ( من بلغه عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ شيء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يقله ) ظاهرة في أن الاجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه ذو ثواب.
1 ـ هذا رد للشيخ في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغيره ، فرائد الاصول / 229.
2 ـ الوسائل : 1 / 59 ب 18 من أبواب مقدمة العبادات ، أحاديث الباب.
3 ـ المحاسن / 25 ، وكتاب ثواب الاعمال الباب 1 ، الحديث 2.


(353)
    وكون العمل متفرعا على البلوغ ، وكونه الداعي إلى العمل غير موجب (1) لان يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه ، فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط ، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان. وإتيان (2) العمل بداعي طلب قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما قيد به في بعض الاخبار (3) ، وإن كان انقيادا ، إلا أن الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل ، ولا موجب لتقييدها به ، لعدم المنافاة بينهما ، بل لو أتى به كذلك أو إلتماسا للثواب الموعود ، كما قيد به في بعضها الآخر (4) ، لاوتي الاجر والثواب على نفس العمل ، لا بما هو احتياط وانقياد ، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة ، فيكون وزانه وزان ( من سرح لحيته ) (5) أو ( من صلى أو صام فله كذا ) ولعله لذلك أفتى المشهور بالاستحباب ، فافهم وتأمل.
    الثالث : إنه لا يخفى أن النهي عن شيء ، إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان ، بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا ، كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالاصل ، فلا يجوز الاتيان بشيء يشك معه في تركه ، إلا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الاتيان به.
    نعم ، لو كان بمعنى طلب تركه كل فرد منه على حدة ، لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد ، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه ، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة.
    فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة ، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة ، أو كان
1 و 2 ـ تعريض بالشيخ في أخبار من بلغ ، فرائد الاصول / 230.
3 ـ الوسائل : 1 / 60 ، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 4.
4 ـ المصدر السابق ، الحديث 7.
5 ـ الوسائل : 1 / 429 ، الباب 76 من أبواب آداب الحمام.


(354)
الشئ مسبوقا بالترك ، وإلا لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا ، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لامره ، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه. غاية الامر كما يحرز وجود الواجب بالاصل ، كذلك يحرز ترك الحرام به ، والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه ، إلا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه ، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا ، فتفطن.
    الرابع : إنه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا ، ولا يخفى أنه مطلقا كذلك ، حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة ، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فردا للواجب أو الحرام ، ما لم يخل بالنظام فعلا ، فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا ، كان في الامور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها ، وكان احتمال التكليف قويا أو ضعيفا ، كانت الحجة على خلافه أو لا ، كما أن الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسنا كذلك ، وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الامر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا ، فافهم.


(355)
فصل
    إذا دار الامر بين وجوب شيء وحرمته ، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا ، ففيه وجوه :
    الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به ، ووجوب الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا ، والتخيير بين الترك والفعل عقلا ، مع التوقف عن الحكم به رأسا ، أو مع الحكم عليه بالاباحة شرعا.
    أوجهها الاخير ، لعدم الترجيح بين الفعل والترك ، وشمول مثل ( كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام ) له ، ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا.
    وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الاحكام إلتزاما ، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا ، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا ، وقياسه بتعارض الخبرين ـ الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب ـ باطل ، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة ، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وعلى تقدير أنها من باب الطريقية فإنه وإن كان على خلاف القاعدة ، إلا أن أحدهما ـ تعيينا أو تخييرا ـ حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الاصابة مع


(356)
اجتماع سائر الشرائط ، صار (1) حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعيينا ، أو التخيير تخييرا ، وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب إلا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا ؟ وهو حاصل ، والاخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل.
    نعم ، لو كان التخيير بين الخبرين لاجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة ، وإحداثهما الترديد بينهما ، لكان القياس في محله ، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير ها هنا ، فتأمل جيدا.
    ولا مجال ـ ها هنا ـ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنه لا قصور فيه ـ ها هنا ـ وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها ، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة ، كما لا يخفى.
    ثم إن مورد هذه الوجوه ، وإن كان ما [ إذا ] (2) لم يكن واحدا من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا ، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك ، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الاباحة ، لانها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الاستاذ (3) ( قدس سره ) ، إلا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربي ، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه ، وتركه كذلك ، لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح.
    فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام ، وإن اختص بعض الوجوه بهما ، كما لا يخفى.
    ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه (4) كما هو الحال
1 ـ كذا صححه في « ب » ، وفي « أ » : جعل.
2 ـ أثبتناها من « ب ».
3 ـ راجع فرائد الاصول / 236.
4 ـ في « ب » : بتبعيته.


(357)
في دوران الامر بين التخيير والتعيين في غير المقام ، ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما ، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الاخلال بها في صورة المزاحمة ، ووجب الترجيح بها ، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.
    ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا ، لاجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة ، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام ، فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما ؟ فافهم.


(358)
فصل
    لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم ، فتارة لتردده بين المتابينين ، وأخرى بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، فيقع الكلام في مقامين :
    المقام الاول : في دوران الامر بين المتابينين.
    لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا ـ ولو كانا فعل أمر وترك آخر ـ إن كان فعليا من جميع الجهات ، بأن يكون واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي ، مع ما هو [ عليه ] (1) من الاجمال والتردد والاحتمال ، فلا محيص عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته ، وحينئذ لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الاباحة مما يعم أطراف العلم مخصصا عقلا ، لاجل مناقضتها معه.
    وإن لم يكن فعليا كذلك ، ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته ، لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعا عن شمول أدلة البراءة الشرعية للاطراف.
    ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي ، إلا أنه لا مجال
1 ـ زيادة يقتضيها السياق.

(359)
للحكم الظاهري مع التفصيلي ، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات ، لا محالة يصير فعليا معه من جميع الجهات ، وله مجال مع الاجمالي ، فيمكن أن لا يصير فعليا معه ، لامكان جعل الظاهري في أطرافه ، وإن كان فعليا من غير هذه الجهة ، فافهم.
    ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت أطرافه غير محصورة ، وإنما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم ، مع كونه فعليا لولاه من سائر الجهات.
    وبالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها ، في التنجز وعدمه ، فيما كان المعلوم إجمالا فعليا ، يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.
    والحاصل أن اختلاف الاطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم ، ولو أوجب تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر ، وعدمها مع عدمه ، فلا يكاد يختلف العلم الاجمالي باختلاف الاطراف قلة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك ، وقد عرفت آنفا أنه لا تفاوت بين التفصيلي والاجمالي في ذلك ، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضا ، فتأمل تعرف.
    وقد انقدح أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها ، ضرروة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجب موافقته قطعا ، وإلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضا.
    ومنه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا ، إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه ، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا ، أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر ، كأيام حيض المستحاضة


(360)
مثلا ، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته ، وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية ، لكان منجزا ووجب موافقته. فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية ، ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي ، كالحج في الموسم للمستطيع ، فافهم.
تنبيهات
    الاول : إن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين ، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين ، ضرورة أنه مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الاطراف أو تركه ، تعيينا أو تخييرا ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا ، وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا ، وذلك لان (1) التكليف المعلوم بينها من أول الامر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة ، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما ، لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين ، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الاطراف بلا تعيين.
    لا يقال : الاضطرار إلى بعض الاطراف ليس إلا كفقد بعضها ، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان ، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار ، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن
1 ـ لا يخفى أن ذلك إنما يتم فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، وأما لو كان إلى أحدهما المعين ، فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجز ، لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالا ، المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر ، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلا ، وعروض الاضطرار إنما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه ، لا عن فعلية المعلوم بالاجمال المردد بين التكليف المحدود في طرف المعروض ، والمطلق في الآخر بعد العروض ، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه ، فإنه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقا ، فافهم وتأمل ( منه قدس سره ).
كفاية الاصول ::: فهرس